وضع داكن
19-04-2024
Logo
الندوة : 08 - تفسير سورة الليل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جمال شيخ بكري :
 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الكريم، وعلى آله و أصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إلى هذا اللقاء الطيب بمشيئة الله، لأن كلام الله عز وجل فيه كل الغنى، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً فيها الغنى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام وحي يوحى، الله عز وجل يقول في سورة الليل:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى*إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾

[ سورة الليل: 1-12 ]

 أيها الأعزاء: عندما نتحدث عن تفسير هذه الآية نتوجه مباشرة إلى صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، دكتور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الكون كله دلائل تشير إلى وجود الله ووحدانيته وكماله :

الدكتور راتب:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أستاذ جمال جزاكم الله خيراً، وقبل أن نبدأ في الإجابة، على هذا السؤال الرائع، نقول: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 أستاذ جمال، الله عز وجل لا تدركه الأبصار، كيف نعرفه؟ هذا الكون بسماواته وأرضه، بنجومه، بكازاراته، بمجراته، هذه الأرض بجبالها، بوديانها، بصحاريها، بسهولها، هذه الأنهار، هذه البحيرات، هذه البحار، هذه الأسماك، هذه الأطيار، كلها دلائل تشير إلى وجود الله، ووحدانيته، وكماله، لذلك في القرآن الكريم ما يزيد عن ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون، ونحن نعلم أنك إذا قرأت آية فيها أمر ينبغي أن تأتمر فيما أمرك الله، وإذا قرأت آية فيها نهي ينبغي أن تنتهي عما نهاك الله، وإذا قرأت آية فيها قصة قوم سابقين انحرفوا فأهلكهم الله ينبغي أن تتعظ، وإذا قرأت آية فيها وصف للجنة ينبغي أن تسعى لدخول الجنة، وإذا قرأت آية فيها وصف للنار ينبغي أن تجتنبها، هذا كله واضح، فإذا قرأت ألفاً وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون ما موقفنا منه؟ هنا السؤال، الموقف هو التفكر في خلق السماوات والأرض لأننا بالتفكر نعرف الله، الله عز وجل لا تدركه الأبصار، غابت عنا ذاته لكن هذا الكون من آثاره، فنحن بالتسيير نعرف المسير، وبالحكمة نعرف الحكيم، وبالخلق نعرف الخالق، وبالرحمة نعرف الرحيم.

الكون معرض لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى :

 إذاً هذا الكون معرض لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، لذلك في أكثر السور في جزء عم:

﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾

[ سورة الفجر: 1-2]

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾

[ سورة الشمس: 1-2]

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[سورة الليل: 1-2]

 هذه الآيات إشارة إلى الكون، وكأن الله يقول لنا: إذا أردتم أن تعرفوني فتفكروا في خلقي، والدليل القاطع قوله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

التفكر في خلق السماوات والأرض طريق إلى معرفة الله :

 أستاذ جمال، لو تساءل الإنسان لما المسلمون ليسوا كما ينبغي؟ لما تاريخ الصحابة يشع بالبطولات؟ لما وصل المسلمون إلى أطراف الدنيا ونحن نعاني ما نعاني من الأقوياء؟ أين الخلل؟ أقول لك: لأنهم عرفوا الآمر ثم عرفوا الأمر فتفانوا في طاعة الآمر، لكن المتأخرين من المسلمين عرفوا الأمر ولم يعرفوا الآمر فتفننوا في معصية الآمر، لذلك أنا أرى أن النبي عليه الصلاة والسلام بقي في مكة سنوات عديدة يُعرف أصحابه بالله، بل إن الأجزاء الأخيرة من القرآن طافحة بالآيات الكونية، وكأن الله عز وجل أراد أن يبين لنا أنه ما من طريق إلى معرفة الله إلا التفكر في خلق السماوات والأرض، والتفكر فريضة عبادية، بل هو من أرقى أنواع العبادة، وقد ورد في بعض الآثار: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، لذلك جاءت الآية:

﴿ وَاللَّيْلِ ﴾

[ سورة الليل: 1 ]

 ماذا يعني الليل؟ يعني الأرض كرة، هناك منبع ضوئي كبير هو الشمس، وبين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، هذه الأرض من دورتها حول نفسها يكون الليل والنهار، لكن لو كان المحور الذي تدور حوله الأرض متوازياً مع مستوي الدوران، لكان الليل سرمدياً والنهار سرمدياً، لكن الله لحكمة بالغة جعل محورها ليس في مستوي دورانها، لكن لو كان محورها قائماً على مستوي دورانها ما الذي يحصل؟ الفصول ألغيت، الشمس هنا والأرض تدور، في هذه المنطقة صيف أبدي، وهنا شتاء أبدي، لكن حكمة الله جعلت هذا المحور مائلاً، فيكون في الصيف في القسم الشمالي من الأرض، وفي الشتاء في القسم الجنوبي، إذاً هذه من آيات الله الدالة على عظمته:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[سورة الليل: 1-2]

الليل والنهار آيتان كبيرتان من آيات الله الدالة على عظمته :

 أستاذ جمال، الليل والنهار آيتان كبيرتان من آيات الله الدالة على عظمته، الليل والنهار:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ﴾

[سورة القصص: 71]

 معنى ذلك أن من أعظم الآيات الليل والنهار، من تعاقب الليل والنهار يكون الزمن، تصور ليس هناك ليل ولا نهار، فلم يعد هناك زمن، و لم يعد هناك عام ألفين وعشرة، التغى الزمن، التغت الأشهر، التغت الأسابيع، التغى الليل والنهار، إذاً:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[سورة الليل: 1-2]

 أراد الله عز وجل أن يلفت أنظارنا إلى آية من آيات الله الدالة على عظمته، بل إن طريق التفكر في خلق السماوات والأرض هو الطريق الموصل إلى معرفة الله:

﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة الجاثية:6 ]

من عرف الآمر ثم عرف الأمر تفانى في طاعة الآمر :

 بل إن النبي عليه الصلاة والسلام حينما ذكر آية التفكر:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

 يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "الويل ما لم يتفكر في هذه الآية".
 فهذا التعليق على قوله تعالى:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[سورة الليل: 1-2]

 أي طريق معرفة الله هو التفكر في خلق السماوات والأرض، لأن الله عز وجل لا تدركه الأبصار ولكن العقول تصل إليه، أما النتيجة أستاذ جمال، إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
 دكتور سورة الليل فيها التوجيه السليم، إلى أين وصلنا في محاور هذه الآية؟

 

كلما قوي الآمر كان أمره يقتضي الطاعة :

الدكتور راتب:
 الحقيقة أن الله عز وجل حينما قال:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[سورة الليل: 1-2]

 أراد أن يعلمنا أن طريقة معرفته هي التفكر في خلق السماوات والأرض، وأن المؤمنين إذا عرفوا الآمر ثم عرفوا الأمر تفانوا في طاعة الأمر، أما إذا عرفوا الأمر ولم يعرفوا الآمر تفننوا في معصيته، فكأن الله يريد أن يقول لنا: ينبغي أن تعرفوني بعدها تطيعوني، وقد قال بعض العلماء الكبار: من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه، ومن أعجب العجب أيضاً أن تحبه ثم لا تطيعه.
 لذلك طريق الطاعة أن نعرفه، نحن في حياتنا اليومية قد يأتي إنسان إلى دائرة البريد، يدعى إلى تسلم رسالة مسجلة، قد يذهب وقد لا يذهب، لكن أحياناً جهة قوية تستدعيه، لا ينام الليل، ما الفرق بين الدعوتين؟ الآمر، فكلما قوي الآمر كان أمره يقتضي الطاعة، فكأن الله يعرفنا بذاته العلية من خلال هذه الآيات الكونية:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ﴾

 أي كيف أن الله عز وجل اختار لعباده أن يكونوا ذكوراً وإناثاً، وكيف أن الله عز وجل اختار لعباده هذا النظام الزوجي، و نظام التوالد، وأن هذه الطريقة التي تستمر بها حياة البشر، ولولا التزاوج لانقرض البشر.

 

مساواة المرأة للرجل في التكليف و التشريف و المسؤولية :

 الله عز وجل أودع فينا حاجة إلى الطعام والشراب، حفاظاً على بقاء الفرد، وأودع فينا حاجة إلى الطرف الآخر، الذكور للإناث والإناث للذكور حفاظاً على بقاء النوع، وأودع فينا حاجة إلى التفوق حفاظاً على بقاء الذكر، فالإنسان ما الذي يحركه؟ حاجته إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده كفرد، ويحركه حاجته إلى زوجة، وحاجة المرأة إلى زوج حفاظاً على بقاء النوع عن طريق التوالد، ويدفعه أيضاً حاجته إلى تأكيد الذات حفاظاً على بقاء الذكر، إذاً حاجات ثلاث تجعل هذا الإنسان كائناً متحركاً.
 الآن إذا جاءت هذه الحركة وفق منهج الله سلم وسعد، فإن جاءت بخلاف منهج الله شقي وهلك، البطولة أن هذه الحركة بدافع الحفاظ على حياتنا كأفراد عن طريق الطعام والشراب، والحفاظ على نوعنا عن طريق التزاوج، والحفاظ على مكانتنا عن طريق التفوق، حاجات ثلاثة تدفعنا إلى الحركة.

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ﴾

 لكن المرأة في الإسلام مساوية للرجل تماماً في التشريف، والتكليف، والمسؤولية، مكرمة كما هو مكرم، مشرفة كما هو مشرف، مسؤولة كما هو مسؤول، في آيات كثيرة الله عز وجل يقول:

﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾

[ سورة الأحزاب: 35]

 إلى آخر الآيات.

 

البشر على كل اختلاف تقسيمات الأرض لا يزيدون عن نموذجين :

 إذاً:

﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ﴾

 أين جواب القسم؟

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾

 قسم،

﴿ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

 متابعة للقسم، أين جواب القسم؟ جواب القسم:

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

 سكان الأرض الذين يزيدون عن ستة آلاف مليون، ينطلقون صبيحة كل يوم إلى أعمالهم، كل إنسان بذهنه هدف:

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

 أستاذ جمال انظر إلى شارع مزدحم في دمشق الساعة الثامنة صباحاً، كل إنسان ينطلق إلى هدف، هذا إلى وظيفة، هذا إلى محل، هذا لزراعة أرضه، هذا ليقيم دعوى على إنسان، هذا إلى نزهة:

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

 لكن عظمة هذه السورة تكمن في هذا السعي المختلف المتنوع المتعدد الذي لا نهاية له، بل إذا كان على سطح الأرض ستة آلاف مليون، فهناك ستة آلاف سعي أليس كذلك؟ :

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

 لكن كيف أن الله ضغط كل هذه الحركات في حقلين، إن سعيكم المتنوع المتعدد، الخير الشرير، المادي المعنوي، الأدبي العلمي، التجاري الصناعي:

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

 لكن الله عز وجل جمع كل هذه الحركات في نموذجين، وكأن هذا التقسيم ضغط كل هذه الحركات لبني البشر في حقلين، في خانتين، في طريقين، فقال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 5-6 ]

 قال :

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 7-10 ]

تقسيمات أهل الأرض لا قيمة لها عند الله عز وجل :

 الآن مساعي ستة آلاف مليون، حركة ستة آلاف مليون، أهداف ستة آلاف مليون، منطلقات ستة آلاف مليون، ضغطت كلها في حقلين، في نموذجين، نحن في حياتنا الدنيا هناك تقسيمات للبشر لا تنتهي، يقول: العرق الآري، الأنكلو سكسوني، والعرق السامي، والبيض، والملونين، دول الشمال، دول الجنوب، والعالم الغربي، والدول المتقدمة والنامية، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والمُستغِلون والمستغَلون، هذه تقسيمات لا تنتهي، كل هذه التقسيمات ألغاها الله عز وجل، هذا عربي وهذا كردي، وهذا تركي وهذا أفريقي، وهذا مسلم وهذا غير مسلم، هذه التقسيمات بالمئات، بعشرات المئات، هذه التقسيمات ألغيت عند الله، وكأن البشر كما قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 13 ]

 فالناس على كثرتهم، وعلى تنوعهم، وعلى ثقافاتهم، وعلى أصولهم، وعلى أعراقهم، وعلى أنسابهم، وعلى طوائفهم، لا يزيدون عن نموذجين، هذا تقسيم القرآن الكريم هذا تقسيم خالق السماوات والأرض، أول نموذج، عرف الله فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، والثاني غفل عن الله وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، ولن تجد صنفاً ثالثاً، الآيات قال تعالى:

 

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 1-12 ]

 يجب أن ننتبه إلى الترتيب جاء معكوساً، صدق بالحسنى، والحسنى هي الجنة، أيقن أنه مخلوق للجنة، وأن هذه الدنيا مجال لدفع ثمن الجنة في الدنيا:

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 1-12 ]

 فأنت مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

المؤمن حينما يعرف حقيقة الحياة الدنيا تأتي حركته صحيحة :

 أنت مخلوق للأبد لا لسنوات معدودة، فهذه الدنيا ممر وليست مقراً، هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار جزاء، هذه الدنيا دار عمل وليست دار أمل، فلذلك حينما يعرف المؤمن حقيقة الحياة الدنيا تأتي حركته صحيحة، فلذلك هؤلاء الصنف الأول أيقنوا أنهم مخلوقون للجنة، ماذا يترتب على هذا الإيمان؟ اتقوا أن يعصوا ربهم، وبنوا حياتهم على العطاء إن صحّ التعبير، المؤمن إستراتيجيته العطاء، من هنا قدم أحدهم كتاباً عن رسول الله، وفي مقدمة الكتاب توجه إليه فقال: يا سيدي يا رسول الله، يا من جئت الحياة فأعطيت و لم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، و نهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
 هذا النبي العظيم أعطى ولم يأخذ، والبشر قسمان، المؤمنون أتباع للأنبياء، يتخلقون بأخلاقهم، فالأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الآن:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 لأنه صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله، الذي يؤمن بالله يستقيم على أمره.
 شيء ثان مهم جداً، بنى حياته، بنى منطلقاته، بنى أهدافه، بنى استراتيجيته على العطاء، والأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء ملكوا الرقاب، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء عاش الناس لهم.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
 عندما نتحدث عن آية الليل نتحدث عن معجزاتها، عما فيها من ألغاز وأسرار، دكتور أين وصلنا في المحور الأخير؟

 

البشر صنفان عند الله مؤمن وغير مؤمن :

الدكتور راتب:
 وصلنا أستاذ جمال،

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 هذا النموذج الأول، كيف أن الناس على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، الله عز وجل أفرغهم في حقلين، البشر صنفان عند الله مؤمن وغير مؤمن، المؤمن منضبط بمنهج الله، غير المؤمن غير منضبط، المؤمن له عمل صالح، غير المؤمن له عمل سيئ، المؤمن يسعد في الدنيا والآخرة، غير المؤمن يشقى في الدنيا والآخرة، هذا تقسيم رائع، تقسيم خالق السماوات والأرض:

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

من لم يستقم على أمر الله فلن يقطف من ثمار الدين شيئاً :

 أول شيء كل أسباب انضباطه، وعمله الصالح، وسعادته، أنه صدق أنه مخلوق للجنة، فلما صدق أنه مخلوق للجنة اتقى أن يعصي الله، استقام على أمره، أستاذ جمال، التجارة لها نشاطات لا تعد ولا تحصى، ولكن يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة ؟ الربح، فإن لم يربح التاجر فليس تاجراً.
 الآن نشاطات الدين لا تعد ولا تحصى ولكن يمكن أن تضغط بكلمة واحدة إنها الاستقامة، ما لم نستقم على أمر الله فلن نقطف من ثمار الدين شيئاً، هذا القسم الأول:

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 إيمانه أنه مخلوق للجنة حمله على أن يتقي أن يعصي الله، مستقيم لا يكذب، ولا يغش، لا يأخذ ما ليس له، لا يتعالى، لا يظلم، لا يحقد، استقام على أمر الله.

 

الاستقامة أساسها الامتناع لكن طابعها سلبي :

 هناك شيء ثان أهم، الاستقامة طابعها سلبي، الاستقامة تبدأ بما، ما غششت، ما كذبت، ما اغتبت، الاستقامة أساسها الامتناع، لكن الاستقامة طابعها سلبي، أما هناك عمل إيجابي كبير، وأعطى، استقام وعمل صالحاً، لذلك:

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 لأنه صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله، ولأنه اتقى أن يعصي الله بنى حياته على العطاء، فالمؤمن يعطي وغيره يأخذ، هناك من الناس من يعطي ويأخذ، أما إن صحّ التعبير منطلقات المؤمن، أهداف المؤمن، استراتيجية المؤمن، العطاء، يعطي، والأنبياء قمم في العطاء، والطغاة قمم في الأخذ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الطغاة أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء ملكوا الرقاب، فلذلك فرق كبير بين نبي كريم وبين طاغية مستبد ملأت جرائمه أطراف الأرض كما نرى ونسمع فيما يجري حولنا، هذا القسم الأول:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 7 ]

 اليسرى هي الجنة، هو في طريق الجنة، في طريق سعادة أبدية، في طريق جنة عرضها السماوات والأرض، في طريق جنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في طريق سعادة الدارين، في طريق حفظ الله،

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 كأن الله ضغط أعمال المؤمنين بجانب عقدي، صدق بالحسنى، وجانب انضباطي استقام على أمر الله، اتقى أن يعصيه، وجانب في عطاء هو العمل الصالح، جانب إيديولوجي، جانب عقدي، جانب فكري، جانب اعتقادي، وجانب انضباطي، منضبط بالشرع، وجانب خيري:

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 الرد الإلهي:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 7 ]

 في حياته، في زواجه، في بيته، في عمله:

﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 8-9]

 انطلق من تكذيبه بالجنة، آمن بالدنيا وكفر بالآخرة، فلما آمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله وبنى حياته على الأخذ لذلك:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 10]

 في عذاب الدنيا والآخرة.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال شيخ بكري :
 إذاً الحديث نستشف منه من خلال هذه الحلقة "فيه هدى للناس"، قال بإيجاز الدكتور محمد راتب النابلسي: الإنسان عليه أن يتفكر بآلاء الله، ثم انطلق إلى عطاء المؤمن والمثل الأعلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء إلى الحياة ليعطي لا ليأخذ، الشكر الجزيل لصاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، شكراً جزيلاً سيدي.
الدكتور راتب:
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
 شكراً فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أيها الأعزاء لقاؤنا في الأسبوع القادم بعون الله.
 و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور