وضع داكن
25-04-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 39 - غار حراء وتعبد النبي فيه وتفكره
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

سيرة النبي منهج في الحياة:

 

 أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وأحب من حين لآخر أن أذكركم أن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا تعني سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن تعني منهجاً لكل مسلم على نهاية الدوران، وأن كل مشكلات المسلمين المعاصرة لو طبقنا منهج النبي، ومواقفه، وتوجيهاته، إن من خلال أقواله، أو من خلال أفعاله لحلت مشكلاتنا، لأن الله سبحانه وتعالى بعثه رحمة للعالمين.
 والنقطة الدقيقة جداً أنه بقدر ما ترى أن هذا الإنسان قدوتك فأنت مؤمن، وبقدر ما تتوهم أن حياته خاصة به، وأن منهجه لأمة في بدايات الحياة، لأمة الصحراء، أمة البساطة، ونحن نحتاج إلى قوانين وإلى أنظمة معقدة جداً بحكم حيتنا المعقدة، فأنت بعيد عن الإيمان، منهج النبي صلى الله عليه وسلم صالح لكل زمان ومكان، منهج النبي صلى الله عليه وسلم صالح لكل ظرف وبيئة، الدليل:

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾

 

( سورة الأحزاب الآية: 12 )

 دققوا: الإنسان الذي يرجو المال مَن يكون قدوته ؟ كبار التجار، حينما يستمع إليهم، وكيف يربحون الملايين المملينة تذوب نفسه شوقاً ليكون مثلهم، ومن كان يريد منصبا رفيعاً، وجلس إلى أصحاب المناصب، وأصحاب القرارات تذوب نفسه شوقاً ليكون مثلهم، ومن كان همه الأول الاستمتاع بالحياة، والتقى بأناس انغمسوا في الشهوات إلى قمة رؤوسهم، وحدثوه عن مغامراتهم، وعن انحرافاتهم تذوب نفسه شوقاً ليكون مثلهم، ومن كان

 

﴿ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾

إذا استمع إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تذوب نفسه شوقاً ليكون على منهجه وعلى طريقه، فقل لي من الذي تراه عظيماً أقل لك من أنت.
 إنّ المؤمن لا يرى أعظم من النبي، أما غير المؤمن فيرى الأقوياء، دون أن يشعر، في عقله الباطن يراهم قدوة، الذي أُغرم في جمع الدرهم والدينار يرى الأغنياء قدوة له، الذي أراد المناصب الرفيعة يرى أصحاب القرار قدوة له، الذي يرى أن الحياة متعة وكأس، وامرأة غانية يرى المنغمسين في الشهوات المنحطة قدوة له، فقل لي من تعظم أقل لك من أنت، قل لي من ترجو أن تكون على سيرته أقل لك من أنت، علامة إيمانك أنك لا ترى أعظم من النبي عليه الصلاة والسلام .

 

 

تحنُّث النبي في غار حراء وعلاقتنا بهذا التصرف:

 

 أيها الإخوة، ننتقل في هذا الدرس إلى موضوع مررنا عليه سريعاً، وهو تحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وما علاقتنا نحن بهذا التصرف ؟ إنسان يترك زوجته وأولاده، وبيته وأمنه، وفراشه، ويذهب ميلين ـ يعني 3 كم ـ في أوعر طريق، وفي أصعب مسلك، ليصل إلى غار طبيعي مترين بمتر، يجلس وحده، لا فيه تكييف، ولا هو بيت آمن، ولا فيه مطبخ، ولا فيه برّاد، ولا عصير، ولا قهوة، ولا شاي، ولا فضائية، ولا متعة بهذه الفضائيات، ولا فيه زوجة مزينة أمامه، ولا أولاد يملؤون البيت جمالاً، هو بين صخور، ماذا يفعل هناك ؟
 ما علاقتنا نحن بهذا، والله الذي لا إله إلا هو ما لم يكن لك غار حراء فلن تكون مؤمناً، لكن لا أطالبك أن تصعد إلى جبل قاسيون وأنت تبحث عن مغارة، أطالبك أن تخلو بنفسك كل يوم في زاوية من بيتك، وأن تفكر من أنت ؟ لماذا أنت في الدنيا ؟ أين كنت قبل أن تولد ؟ وماذا بعد الموت ؟ ولماذا خلقنا ؟ ومن الذي خلقنا ؟ ولماذا جعل العمر قصيراً ؟ ولماذا يموت الإنسان فجأة ؟ وماذا بعد الموت ؟ وما حقيقة النفس ؟ هذه أخطر موضوعات يجب أن تعرفها.
لذلك إذا قرأتم قوله تعالى:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)﴾

( سورة الكهف )

ألم تفكِّر في ساعة المغادرة ؟!!

 والله أعرف إنسانًا من بلد آخر في شمالي إفريقيا بلغ الثمانين، وعنده أموال لا تأكلها النيران، وفي الثمانين أراد أن ينشئ كازينو، كيف يفكر ؟

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾

إخوتنا الكرام، حينما تكتشف الحقائق يشعر الإنسان بفداحة الخسارة.
 عرضت في ندوة تلفزيونية صورة فرعون، فرعون موسى حقيقة، وقد أخذ إلى باريس، ورممت يده من الفطور والعفن الذي أصابها، وهي مغلفة بالشاش، وقلت: هذا الذي قال:

﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

( سورة النازعات )

وهذا الذي قال:

﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾

( سورة القصص الآية: 38 )

 حينما أدركه الغرق قال:

 

﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾

 

( سورة يونس الآية: 90 )

 كل ذكائك، وكل بطولتك، والنجاح كل النجاح، والفوز كل الفوز، والتوفيق كل التوفيق، في أن تفكر في ساعة مغادرة الدنيا، إلى أين ؟
لذلك ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء، كان يفكر في ملكوت السماوات والأرض، كان يفكر بالحقائق الكبرى.
 إخواننا الكرام، نحن أحياناً تستهلكنا الدنيا، تأخذنا، إنسان كل همه في تخفيف ضريبته، وكل همه في توسيع بيته، وكل همه في تزيين بيته، وكل همه في شراء مركبته وكل همه في الاستمتاع بالدنيا، وكل همه أن يسافر، وكل همه أن يلتقي، وكل همه أن يفتخر، وكل همه أن يستعلي على خلق الله، لكن هموم الأنبياء ما هي ؟

 

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

 

( سورة النجم )

﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)﴾

( سورة النجم )

 أنت في أي أفق أنت ؟ في أفق حاجاتك الدنيوية ؟ هناك إنسان صغير جداً عند الله ، همه الوحيد أن يزداد دخله فقط، وإنسان همه أن يعرف ربه، وإنسان همه أن يهدي الآخرين، وإنسان همه أن يكون في مرضاة رب العالمين، قل لي ما الذي يهمك أقل لك من أنت.

 

ماذا كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء ؟ وماذا فعلنا نحن ؟

 

ماذا فعل النبي في غار حراء ؟
 كان عليه الصلاة والسلام يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، وكان يعتكف في كل سنة شهراً بأكمله، والسيدة خديجة كانت تأتيه بالزاد والطعام والشراب، ألك مع الله خلوة ؟ ألك مع الله مناجاة ؟ ألك تفكر ؟

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)﴾

( سورة الطارق )

 ماذا بعد الموت ؟ ما مصيري بعد الموت ؟ حصلت على شهادة عُليا، ثم ماذا ؟ آخر شيء نعي، الدكتور فلان، أو المحامي فلان، أو المهندس فلان، أو الحاج فلان، أو عميد أسرتهم فلان، الطبيب فلان، مستشار سابقاً، السفير في بلد معين، بعد الموت لا سفارة، ولا منصب، ولا رتبة، ولا شيء.

 

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾

 

( سورة الأنعام الآية: 94)

 إخواننا الكرام، تعبد النبي في غار حراء، تفكر في كليات الحياة، في حقائق الحياة الكبرى، لذلك لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم من الأربعين، ومن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، الآية الكريمة:

 

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾

 

( سورة فاطر الآية: 37 )

يا أيها الناس احذروا، لقد جَاءَكُمُ النَّذيرُ، فما هو النذير ؟

1 – النذير هو القرآن:

 معنى النذير كما جاء في تفسير القرطبي، قال: النذير هو القرآن الكريم، أنت في طريق السفر ترى شاخصة كتب عليها: منعطف خطر، أو تقاطع خطر، أو منحدر شديد، أو طريق زلق، أو ضباب، هذه اللوحات هي نذير، توضع في مكان مبكر، طبعاً اللوحة تكون قبل المنعطف الخطر، لا بعده، بعده لا قيمة لها، قبله، قبل التقاطع الخطر، قبل المنحدر الشديد.
فالقرآن بيّن أن هناك موتاً.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)﴾

 

( سورة المنافقون )

 القرآن بين:

 

﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

 

( سورة التغابن الآية: 14 )

 الزوجة أحياناً تضغط على زوجها لإنفاق لا يملك أساسه، من شدة الضغط عليه يمد يده إلى الحرام، فيعاقب، ويفضح، وتكف يده فيرى أن أعدى أعداءه زوجته التي ضغطت عليه، القرآن يبين، فالقرآن نذير.

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

 

( سورة الشعراء )

ماذا يفعل الإنسان بالملايين المملينة ؟
 من أغرب القصص: أن أكبر غني يهودي في بريطانيا اسمه " رود تشلد " من كثرة ثروته كان يقرض الحكومة البريطانية أحياناً، خزانته غرفة بأكملها، دخل مرة إلى خزانته، وأغلق الباب عليه خطأ، وصاح بأعلى صوته، قصره كبير، ومن عادته أن يغيب عن القصر كثيراً، فلما غاب عن أهله ظنوا أنه سافر، بقي يصيح ويصيح إلى أن أدركه الموت جوعاً وعطشاً، فجرح إصبعه، وكتب على الجدار: أغنى إنسان في العالم يموت جوعاً وعطشاً.

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾

 أحد كبار أغنياء لبنان أنشأ له قبراً في أجمل منطقة مطلة على بيروت، وله طائرة خاصة، وقعت الطائرة في البحر، دُفعت الملايين لانتشال جثته، لم يعثر عليه، لكن عثروا على طياره، وما تمكن أن يُدفن في هذا القبر.
هكذا الحياة، القرآن نذير.

 

2 – النذير هو النبي:

 والنبي نذير:

 

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)﴾

 

( سورة الأحزاب )

(( ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا، طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم ـ النبي نذير ـ ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بسهوة ))

[أخرجه ابن سعد البيهقي في شعب الإيمان عن أبي البجير ]

(( الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ))

[ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن شداد بن أوس ]

القرآن نذير، والنبي نذير.

3 – النذير هو سن الأربعين:

 وسن الأربعين هو النذير، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، لو أردت أن تمضي عشرة أيام في مصيف جميل اليوم السابع تنعكس خطتك، تقطع بطاقات العودة، تشتري الهدايا، تجمع الأغراض، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة.

 

(( من أتت عليه أربعون سنة، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ))

 

[ أخرجه الأزدي، عن عبد الله بن مالك الهروي بسنده إلى ابن عباس ]

إلى متى أنت باللذات مشغول  وأنت عن كل ما قدمت مسؤول ؟
تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لــعمري في المقال شنيع ؟
لـو كان حبك صادقاً لأطعت ه إن الـــمحب لمن يحب يطيع
***

 سن الأربعين هو النذير، والذي بلغ الستين فإن معترك المنايا بين الستين والسبعين، فأيّة سنة تعيشها بعد الستين مكسب، إذا دخلنا في الأربعين دخلنا في أسواق الآخرة، فكيف إذا دخلنا في الستين ؟ فكيف إذا كان الإنسان في الستين مراهقاً ؟ همه امرأة لا تحل له، أين هو ؟

 

4 – النذير هو الشيب:

 الشيب نذير، وقد ورد في بعض الآثار القدسية:

 

 

(( أن يا عبدي، كبرت سنك، وضعف بصرك، وانحنى ظهرك، وشاب شعرك فاستحي مني فأنا استحي منك ))

 

(( أحب ثلاثة، وحبي لثلاثة أشد، أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد ))

[ ورد في الأثر]

 شاب في مقتبل الحياة، مرجل يغلي، وهو طائع لله، ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب.

 

(( إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، ترك شهوته من أجلي ))

 

[ أخرجه ابن السني الديلمي في مسند الفردوس عن طلحة ]

(( أحب ثلاثة، وحبي لثلاثة أشد، أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، وأحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد ))

 عنده تفاحتان يضعها في صحن، ويقول لك: تفضل، ما عنده غيرها، على فقره كريم.

 

(( وأحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد ))

 يأكل مع الخادم، يُدعى فيلبي، بمكان بعيد، متواضع، يرى فضل الله عليه.

 

 

(( وأبغض ثلاثاً، وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد ))

 بالتعبير العامي عند الكبرة جبة حمرة، ويجري عملية شدّ للوجه، وعملية نفخ ، وعملية ترميم، وتعديل أنف، وزرع شعر، حتى يغدو شاباً.

 

 

ألا ليت الشباب يعود يوماً
***

 كل سن له كماله في الإسلام.

 

 

(( وأبغض المتكبرين، وبغضي للفقير المتكبر أشد ))

على ماذا ؟

 

 

(( وأبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد ))

 معه أموال لا تأكلها النيران، ويحاسب على الدرهم والقيراط، كان من أربعين عامًا سيارات إلى منطقة المهاجرين الأجرة فرنك، خمسة قروش، إلى آخر خط فرنك ونصف، سبعة قروش ونصف، على ما أذكر ذلك، هناك أغنياء يركبون إلى منطقة شورى فقط، ويمشون إلى آخر الخط، يقول: يمشي الحال، يوفر قرشين ونصفًا، هكذا، الشح يا مرض خطير، تماما كالسرطان مرض خطير.

 

 

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

 

( سورة الحشر )

 لذلك القرآن نذير، والنبي نذير، والأربعون نذير، والستون نذير، والشيب نذير.

 

5 – المصائب نذير:

 والمصائب نذير، أول شيء يضعف بصره فيضع نظارات، تسوس أسنانه فيركب جسرًا وأسنانًا متحركة، تتعب مفاصله، ينحنى ظهره، معه أسيد أوريك، معه شحوم ثلاثية، سمعه ضعيف، يده ترجف، ما معنى هذه التطورات ؟ لها معنى، يعني يا عبدي، قد قرب اللقاء بيننا، فهل أنت مستعد لذلك ؟ اللقاء اقترب، هناك دلائل، لكن كان من الممكن أن يتمتع الإنسان بشبابه حتى يموت، كان من الممكن، لكن شاءت حكمة الله أن يتغير شكل الوجه، فما منا واحد ما عنده صورة حينما كان صغيراً، هناك فرق كبير، إنسان صورته في العشرة غير التي في السبعين وغير التي في الثمانين، هذا التطور في تجاعيد الوجه، في شيب الشعر، في ضعف البصر، في ضعف القوة، في أعراض في الهضم، وفي القلب.
قال لي مرة أستاذ لي رحمه الله مداعباً، قال لي: سبحان الله ! أنا من خمسين سنة أنشط من الآن.
هذا نذير، تقدم السن، والأعراض، هذه تؤكد أن اللقاء قد اقترب، هل أنت مستعد ؟ طيب، المصائب نذير.
 والله هذا الموضوع من أدق الموضوعات، نحن أحياناً بعض الدول تجري عرضًا عسكريًّا، يكون في دولة مجاورة عدوة، فهذا العرض العسكري سلاح المدرعات، سلاح الطيران، المشاة، الصواريخ، هذا العرض العسكري ما اسمه في الحقيقة ؟ اسمه رسالة إلى الدولة الفلانية، أحياناً تُجرى مناورات مشتركة بين دولتين، من أجل ماذا ؟ من أجل أن نرسل رسالة إلى دولة ثالثة، نحن متحالفون ضد هذه الدولة، الآن الأسلوب الجديد أسلوب رسائل عملية، الآن المصائب التي يسوقها الله لعباده نذيرًا، الدليل:

 

 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾

 

( سورة القصص الآية: 47 )

﴿ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)﴾

( سورة طه )

أنا سأوضح هذه الحقيقة بمثل، طبعاً هو مثل تركيبي:
 طالب في الصف الخامس قال لأبيه مرة: أحب ألا أدرس، قال له: كما تشاء، ما نصحه، كما تشاء، غداً لا تذهب إلى المدرسة، بدأ من الغد لا يذهب إلى المدرسة، استيقظ الساعة العاشرة، شيء مريح، ليس هناك استيقاظ مبكر، ولا كتابة وظيفة، ارتاح، الساعة 12 أكل عشر بيضات، نزل إلى السينما مساء مع رفاقه، والله شيء حلو، قضى سنوات ظن أنه أذكى طالب على وجه الأرض، ارتاح من المدرسة، هذا كبر في السن، لا معه شهادة، ولا معه حرفة، ولا له محل، ولا طبيب، ولا مهندس، ومتزوج، ولا عنده أولاد، حقد على أبيه، جاء إلى أبيه وقال: يا أبت، أنا يوم قلت لك: أحب ألا أدرس لمَ لم تصفعني على وجهي ؟! لمَ لم تركلني بقدميك ؟! لمَ لم تعنفني ؟! أنت سبب شقائي.
كثير من الطلاب يكون أبوهم قاسيًا جداً، لكن يتفوقون في الدراسة، ويصبحون شيئًا مرموق في الحياة، يقول: الله يرحم الوالد لولا عنايته، لولا شدته، لولا أن تابعني لما كنت في هذه الحال.
صدقوا أيها الإخوة، لولا أن الله يسوق لهؤلاء المسلمين هذه المصائب لقالوا يوم القيامة:

﴿ لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴾

إذاً ما هو النذير ؟ المصائب.
 ثمة رجل عنده بقالية، ويرتكب فيها الفاحشة، يضع لافتة: " نحن في الصلاة "، ويكون هو في الزنا، احترق المحل بأكمله، جدد المحل، وأعاد الكرة، احترق مرة ثانية، هنا في هذه البلدة، لولا أن الله يسوق المصائب للناس لم يرتدعوا.

الفهم التوحيدي للشدة والمصيبة:

 إذاً النذير المصائب، أتمنى على كل أخ كريم أن يفهم الشدة فهمًا توحيديًا، الشدة حينما تأتي، المصيبة، الابتلاء له فهم أرضي، وله فهم شركي، وله فهم توحيدي، بطولتك أن تفهم الشدة والضيق فهماً توحيدياً، لا فهماً أرضياً، في الزلزال يقال: اضطراب في القشرة الأرضية، هذا تفسيرعلمي، لكن لا يكفي، أين الله ؟ لماذا أصاب هذا البلد بهذا الزلزال ؟

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾

( سورة هود)

مستحيل، لا بد من أن تفهم المصائب فهماً توحيدياً.
 تروى قصة والقصة رمزية، أن طائرا التقى بسيدنا سليمان، قال له: يا سليمان الحكيم، ربك عجول أم مهول ؟ يعني أيمهل أم يعجل ؟ فسأل ربه، قال الله له: قل له: إنني مهول، على التراخي، فاطمأن، رأت أناساً يشوون لحمة فخطفتها، وطارت بها، لأن الله مهول، علقت باللحمة قطعة من اللحم المشتعل، لم ينتبه لها، وضع اللحمة في عشه، فاحترق العش كله، واحترق أولاده، فعاد إلى سليمان الحكيم، قال له: سألتك فقلت لي: مهول، هو عجول، فسأل ربه، قال له: قل له: هذا حساب قديم.
 المصيبة رسالة من الله، اسمعوا هذا الكلام: من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر، كيف استدرج الله نخبة من أغنياء العالم إلى سواحل الهند في أيام البرد، بكانون أول بـ25 ؟ وهناك الجو دافئ، جو استوائي، والبحر رائع، والغابات العملاقة، والغابات الاستوائية، والمنتجعات من فئة السبع نجوم، أناقة، وانحطاط، وشذوذ، ودعارة، بلاد جميلة جداً، والذين في هذه البلاد أغنياء جداً، وجلسوا في أماكن من فئة العشر نجوم، فجاء زلزال تسونامي فأراهم النجوم ظهراً، 25 ألف من نخبة أغنياء العالم لقوا حتفهم هناك، كيف استدرجهم الله ؟ هذه رسائل، 400 ألف طفل معد للدعارة هناك، يقول بعض رؤساء هذه الدول مفتخرًا: ليس عنده بنت واحدة عذارء، بلاد تعيش على الجنس والدعارة، 300 ألف قتيل، 5 ملايين مشرد، لا يمكن أن يعاد بناءها قبل عشر سنوات، دُمر كل شيء، زلزال تسونامي هذا لا يلغي أن هناك مسلمين توفاهم الله، لكن كل إنسان يموت على نيته، المسلم له موت خاص، أو له حساب خاص.
إذاً المصائب نذير.

6 – موت الأقارب نذير:

وموت الأقارب نذير، إنسان ملء السمع والبصر يموت.
 واللهِ لي قريب له مع بعض أصدقائه سهرة أسبوعية كل سبت، أحد هؤلاء الأصدقاء لطيف المعشر، مرح الروح، صاحب دعابة، صحته جيدة جداً، رشيق، يأكل بدقة بالغة الخضار، الفواكه السَّلطات، يمشي كل يوم، كل الوسائل طول العمر موفرة عنده، قال: أنا لا أموت، يطول عمري حتى أموت، هكذا قال، بالضبط، سُئل: لماذا ؟ قال: انظروا إلى صحتي، انظروا إلى نشاطي، رياضة يومية، أكل مدروس، راحة بال، ما عندي مشكلة، سمعتي طيبة، مرح بالبيت، كلام مقنع، السبت الثاني كان مدفونًا تحت الأرض.

﴿ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾

الذي هو موت الأقارب.
 هناك مجموعة من الشباب لهم سهرة أسبوعية، أحدهم شاب في مقتبل الحياة، بالثلاثينات، وقع في المعلب، ومات بخثرة بالدماغ، سكتة دماغية مع سكتة قلبية، اتعظ من حوله.
إذاً: النذير القرآن، والنبي، وسن الأربعين، وسن الستين، وشيب الشعر والمصائب، وموت الأقارب.

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾

 إذاً ماذا نفعل في غار حراء ؟ أو ماذا نفعل في غرفتنا الخاصة ؟ نفكر، أين كنا ؟ وماذا بعد الموت ؟ نفكر من أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ فكر.

 

فائدة الحوار الداخلي:

 

 أنا معجب إعجاب بلا حدود من سيدنا نعيم بن مسعود، لما فكر، هذا اسمه حوار نفسي، بالتعبير حوار داخلي، قال في نفسه: يا نعيم، ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ كان زعيم قبيلة جاء ليحارب النبي الكريم في معركة الخندق، ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ من أجل أن تقاتل هذا الرجلالصالح ؟ ماذا فعل ؟ سرق مالاً، انتهك عرضاً، سفك دماً ؟ أين عقلك يا نعيم ؟ في هذه اللحظة أشرق في قلبه نور الإيمان، وأسلم، وأجرى الله على يديه أن النصر في الخندق كان له سهم كبير فيه حيث شق التحالف، التحالف قديم، وليس جديدًا، دول التحالف، التحالف قديم، تحالف قريش مع اليهود، شقها بذكاء ما بعده ذكاء، وكتب الله للأمة الإسلامية النصر في هذه الموقعة على يد نعيم بن مسعود.

غار حراء من أجل التفكر:

 

 غار حراء من أجل أن تفكر، غار حراء من أجل أن تفكر في خلق السماوات والأرض، أن تتفكر أين كنت ؟ وماذا بعد الموت، ولماذا أنا في الحياة الدنيا ؟ لئلا تنطبق الآية الكريمة:

 

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾

 من أجل ألا تندم عند الموت، من أجل ألا تقول:

 

 

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾

 

( سورة الفجر )

 من أجل ألا تقول:

 

﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً (29)﴾

 

( سورة الفرقان )

لكل منا غار حراء يتفكر فيه:

 أيها الإخوة، غار حراء لرسول الله ولنا، لست مكلفًا الآن أن تصعد إلى قمة الجبل لا، في غرفتك الخاصة، في غرفة الضيوف، في غرفة فارغة، اجلس، وفكر بعد الصلاة من أنت ؟ لماذا أنت في الدنيا ؟ ماذا ينفعك ؟ بل لو رأيت نفسك شردت هنا وهناك في عندك قوة ردع، فكر بالموت، أنت تملك هذا البيت، حينما يأتي الأجل أين تُغسل ؟ بالحمام أم بالمطبخ ؟ أما بالصالون ؟ هذا كلام مزعج جداً، وبعدما يدفن الإنسان يباع البيت، أم يتركونه ؟ ماذا يفعلون بهذه السيارة ؟ يركبونها ؟ أم يبيعونها ؟هل يبقى الوئام لأولادك بعد موتك ؟ أم ماذا ؟ التفكر بالموت له آثار إيجابية جداً.

(( أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا كثره ))

[ رواه الترمذي، والبيهقي عن أبي سعيد، وأخرجه العسكري عن أنس ]

 ثمة غني كبير بمصر وافته المنية، أولاده خافوا عليه أول ليلة في القبر، هذه أصعب ليلة، وقد ورد أن الإنسان حينما يوضع في قبره أول ليلة ينادى: أن عبدي، رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت، فهم خافوا على أبيهم، أول ليلة فاستأجروا إنسانًا فقيرًا لدرجة غير معقولة، أعطوه عشر جنيهات على أن ينام الليلة الأولى في القبر مع أبيهم، هذا قبل، بل فرح بهذا المبلغ الكبير، من شدة فقره لبس كيس خيش، فتحه من أعلى من أجل رأسه، وفتحه من الطرفين، من أجل يديه، وربطه بحبل من عند خصره، لا يملك من حطام الدنيا إلا هذا الكيس، صنعه ثوبًا، فتحه من النصف، وأخرج رأسه منه، بفتحتين من الطرفين ليديه، وحبل عند خصره، فجاء منكر ونكير، فوجدا اثنين، هذا أمرٌ جديد علينا ؟! هذا خاف، فقام وتحرك، قال له: هذا ليس ميت، تعال نبدأ به، أجلسوه، هذا الحبل من أين أتيت به ؟ من البستان، كيف دخلت للبستان ؟ ارتبك، الآن كيف دخل، كيف أخذ الحبل، بعدها الكيس، عذبوه، كيف دخل للبستان، وما عرف كيف يجيب، كيف أخذ الحبل، استأذن، ما استأذن، اشتراها، بعدها الكيس، من أين أتى به ؟ ومن قصه له ؟ هذا صباحاً خرج من القبر، قال لهم: الله يعين أباكم.
 فلذلك أيها الإخوة، لما تفكر تفكيرًا صحيحًا، من أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ من خلقني ؟ لماذا خلقني ؟ ماذا يريد مني ؟ هل عملي صحيح ؟ تجارتي صحيحة ؟ كسب مالي صحيح ؟ إنفاقي صحيح ؟ هذا التفكر في خلق السماوات والأرض هو مضمون غار حراء ولابد لكل مؤمن من غار حراء يتفكر في خلق السماوات.
لذلك بعض العلماء قال: ماذا يفعل أعدائي بي، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة.
 أحيانا يعيش الإنسان خارج بلده في غرفة، الظاهر شيء موحش، أما الحقيقة إذا فكر في ملكوت السماوات والأرض كانت هذه الغرفة المتواضعة سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، فكر.
إخواننا الكرام، الإنسان من دون تفكير يهبط عن مستوى إنسانيته، لماذا أنا في الدنيا ؟ لذلك:

 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)﴾

 

( سورة المدثر )

 إذا فكر الإنسان من دون وحي قد يهديه تفكيره دون أن يهتدي بوحي السماء إلى الضلال، فا كل تفكير صائب.

 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾

 

( سورة المدثر )

 التفكير إلى أن تهتدي بنور الله .

 

لا بد لكل مسلم من خلوة:

 

 أنا أتمنى عليكم من هذا الدرس البليغ أن تكون لك خلوة مع الله، تقرأ قرآن، تتفكر بملكوت السماوات والأرض، تناجي ربك ، تدعو ربك، تذكر الله، تستغفره، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، سبحان الله العظيم وبحمده، لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، إما أن تذكر، وإما أن تقرأ القرآن، وإما أن تناجي الواحد الديان، وإما أن تدعو، وإما أن تصلي، هذه الجلسة تماماً كشحن الهاتف المحمول، إذا لم تشحنه ينتهي، ونحن بحاجة ماسة إلى شحن يومي، الشحن اليومي الصلوات الخمس، والشحن الأسبوعي بالصلاة الجمعة، والشحن الشهري بالثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، ثلاثة أيام، نصوم، والشحن السنوي برمضان، وشحن العمر مرة واحدة بالحج، عندك شحن في العمر مرة واحدة، وعندك شحن سنوي، وشحن شهري، وشحن أسبوعي، وشحن يومي، والله يكفر الخطايا من صلاة إلى صلاة، ومن جمعة إلى جمعة، ومن رمضان إلى رمضان، والحج.

((من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ))

[ أخرجه أحمد في مسنده وصحيح البخاري والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة ]

 الذي أتمناه من هذا الدرس كيف أن النبي كان قدوة لنا في غار حراء، تفكر في ملكوت السماوات والأرض، تعرف إلى الله، ناجى ربه، أقبل عليه، استغفره، دعاه لا بد لكل واحد منا من جلسة مع الله عزوجل.

 

(( أوحى الله تعالى إلى موسى، أتحب أن أسكن معك بيتك فخر لله ساجدا ثم قال: فكيف يا رب تسكن معي في بيتي، فقال: يا موسى أما علمت أني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني ))

 

[ رواه البيهقي عن أبي هريرة ]

لو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمــــــا وليت عنا لغيرنا
ولــــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولـــــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحينا
ولـــــو نسمت من قربنا لك نسمة لـــمت غريباً واشتياقاً لقربنا
ولــــــو لاح من أنوارنا لك لائح تــركت جميع الكائنات لأجلنا
فـــــــــما حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قـلنا له قد جهلتنا

 إخواننا الكرام، الواحد منا ذاق الطعام والشراب، وتزوج، وذاق طعم الزواج، وركب مركبة، وسكن بيتًا، وأنجب أولادًا، الدنيا لها سقف، لو معك مئة مليار هل تأكل خمسة كيلو لحم ؟ لا تستطيع، أوقية، حجمه 200 غ لحم، وبذلة واحدة، وتخت واحد ، الدنيا لها سقف، مهما كنت غنياً، لذلك فرق العلماء بين الكسب والرزق، الرزق ما انتفعت به فقط، الطعام الذي أكلته هو رزقك، والثياب التي ارتديتها هي رزقك، والبيت الذي تسكنه رزقك، والفراش الذي تنام عليه رزقك، وهذه التي أكرمك الله بها رزقك، وما سوى ذلك تحاسب من أين اكتسبته ؟ وفيما أنفقته ؟ لذلك:

 

((لا تَزُولُ قَدَمَ ابنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبّه حَتّى يُسْأَلَ عن خَمْسٍ: عن عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وعن شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِم ))

 

[ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عن أبي برزة ]

عن ماله سؤالان:

((مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ))

 نفكر، والشباب الصغار يحتاجون أكثر من غيرهم إلى التفكير، لأنه أمامهم خيارات واسعة جداً، أردت أن تكون طبيباً من أجل ماذا ـ دقق الآن ـ طبيب غني، عنده سيارة بي أم، سأصبح طبيبًا، الطبيب له مكانه بالمجتمع، دكتور، الطبيب ينتقي أجمل زوجة، مثلاً، إن كان التفكير هكذا فلا قيمة لهذا الاختصاص إطلاقاً، أما فكرت ـ أنا أكلم الشباب ـ الطبيب يستطيع أن يعالج المؤمنين، ويطمأنهم، وأن يدخل على قلبهم السرور.
والله مرة التقيت بطبيب ذكرني بحديث، والله اقشعر بدني، يقول هذا الطبيب:

 

((مَن نَفَّسَ عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس اللَّهُ عنه كربةً من كرب يوم القيامة ))

 

[ رواه البخاري ومسلم، عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه ]

 قال لي: أسأل الله أن أكون محسوباً على هذا الحديث، بين أن تجد طبيبًا دخله كبير، وبيته جميل، وزوجته جميلة، مركبته فارهة، ومحترم، وبين أن تمتهن الطب لتخدم المؤمنين، تتعلم لغة إنكليزية، بين أن تصبح مترجمًا فوريًا بالمؤتمرات، تعويضات مذهلة، وبين أن تترجم كتبًا إسلامية للعالم الغربي الذي يرانا إرهابيين، يختلف الوضع.

 

يا معشر الشباب اسمعوا وعوا:

 

 فأنتم أيها الشباب، إذا كان لكم غار حراء فاختاروا حرفة تبتغون بها وجه الله، الفرق كبير جداً، تختار حرفة تبتغي بها وجه الله، أردت أن تكون تاجراً، فقد كان التجار من السلف الصالح إذا فتحوا محلاتهم التجارية يقولون: يا رب، نويت خدمة المسلمين، أصبحت تجارته عبادة، إذا قال الطبيب: يا رب نويت خدمة المؤمنين، إذا قال المهندس: يا رب، ألهمني أن ابني بناء لهؤلاء الشباب كي تؤويهم، إذا قال المعلم: يا رب، ألهمني أن آخذ بيد طلابي إليك، أن أعرفهم بك يا رب، لما تدخل غار حراء تخطط لحرفة ترضي الله.
أنا أخاطب الشباب أمامكم خيارات واسعة جداً، بين أن تختار حرفة من أجل الدنيا، وبين أن تختار حرفة من أجل الآخرة، والضابط لذلك:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾

( سورة القصص الآية: 77 )

قد تشتهي أن تكون غنياً، لكن هذا الغنى يمكن أن ترقى به إلى أعلى درجات الآخرة، تنشئ مياتم، مستوصفات، معاهد شرعية، تزوج الشباب، تبني أبنية، الأغنياء أمامهم خيارات لا يعلمها إلا الله.
 أنا أقول لكم: فكر ليكون لك غار حراء في بيتك، من أجل أن تخطط لمستقبلك ولآخرتك إن لم تخطط يخطط لك، إن لم تخطط تكن رقماً لا معنى له في خطة عدوك، لذلك غار حراء يعني التفكر، لأن الدنيا تأخذنا جميعاً أحياناً، من موعد لموعد، للقاء، لمشروع، لاجتماع، لسهرة، لندوة، وإلى متى أنت باللذات مشغول ؟ غار حراء يجب أن تتأمل، أن تفكر، أن تناجي نفسك، أن تقيم حوارًا داخليًا، هذا غار حراء، فالنبي قدوتنا في غار حراء، ويجب أن يكون لكل واحد منا غار حراء يناجي فيه ربه، يسأله حاجاته كلها، يستغفره، يذكره، يتلو كتابه، يستسمح منه أحياناً، يناجيه، يدعوه، هذا غار حراء من أجل أن تصح حركتك في الحياة مخططًا لها.

حكمة الله في اختيار نبيه لغار حراء:

 وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً لتدبير الله له وليكون انقطاعه عن شواغر الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تتحول فيها طاقاته لاستقباله ما ينتظره من هذه البعثة العظيمة، فغار حراء نحن بحاجة إليه، ولكن مجزأ، وفي البيت، لابد من خلوة مع الله.

(( ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ))

[ أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ]

(( آية بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح، لا يستطيعونهما ))

[ أخرجه سعيد ابن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا ]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور