وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0755 - قل إن كان آباؤكم .. - ثلاث من كن - وصية السلطان محمد الفاتح لولده أورخان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، مَن يهده الله فلا مضل له ، ومَن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدَاً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .

من آثر دنياه على آخرته فالطريق إلى الله مسدود :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ كما أنه ورد أن آية الكرسي أعظم آيةٍ في القرآن الكريم ، ورد أيضاً أن هذه الآية التي سأجعلها محور هذه الخطبة إن شاء الله أشدّ آيةٍ في القرآن الكريم ، فالله عز وجل يقول :

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾

[ سورة التوبة : 24]

 هذه هي الانتماءات الاجتماعية . .

﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[ سورة التوبة : 24]

 قد يتبادر إلى الذهن أن كل مسلمٍ على وجه الأرض لو سألته : أتحب أباك ؟ أو أبناءك ؟ أو إخوانك ؟ أو زوجتك ؟ أو عشيرتك ؟ أو أموالاً طائلةٍ تجمعها ؟ أو تجارة رائجة؟ أو مسكناً رائعاً ؟ أتحب هذه أكثر من الله عز وجل ؟ لأجاب على الفور ، ومن دون تردد : لا ، أنا أحب الله إلى درجة لا حدَّ لها ، أحبه فضلاً عن كل هذا .
 ولكن الآية لها معنىً آخر ، معنى هذه الآية أيها الأخوة أنه إذا تعارض النص الشرعي - ما في القرآن من أحكام ، وما في السنة من أحكام- إذا تعارض النصُّ الشرعي في الكتاب والسنة مع مصالحك المتعلِّقة بهؤلاء ، أي إن أرضيت أباك وخالفت نصاً شرعياً ، إن أرضيت أبناءك وخالفت نصاً شرعياً ، إن أرضيت إخوانك وخالفت نصاً شرعياً ، إن أرضيت زوجتك محاباةً لها وخالفت نصاً شرعياً ، إن آثرت أموالاً تأتيك من طريق غير مشروع ولم تعبأ بحرمة هذا المال ، إن آثرت مسكناً تسكنه اغتصاباً والمواد القانونية الوضعية كلها إلى جانبك ، ولا يستطيع صاحب البيت أن يتكلَّم كلمةً واحدة مطالباً بحقه في هذا المسكن ، إن آثرت تجارةً رائجة فيها مواد محرمة ، أو طريقة التعامل محرَّمة ، أو أن هذه التجارة جملةً وتفصيلاً لا ترضي الله عز وجل ، إن آثرت مصالحك مع هذه البنود التي بعضها بَشَري ، وبعضها مالي، وبعضها اجتماعي ، إن آثرت هذا على النص الشرعي ، أو على مصالح الدين ، أو على حُرْمة دينك ، وسلامة دينك ، فالطريق إلى الله ليس سالكاً ، بل الطريق إلى الله مسدود .

 

من آثر إرضاء الناس على إرضاء خالق الأكوان فهو لا يعرف الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أول معنىً استنبطه علماء التفسير من هذه الآية أنه يحرم موالاة الكفار ولو كانوا أقرباء ، هناك تعاملٌ مسموحٌ به شرعاً ، وهناك علاقات حميمة مع الكفار ممنوعة شرعاً ، فالولاء أن تحبَّهم ، والولاء أن تستضيء بنارهم ، والولاء أن تتبع إرشاداتهم ، والولاء أن تعتز بهم ، والولاء أن تمحضهم محبتك ، هذا كله محرمٌ في الإسلام ، ولاؤك للمؤمنين ، ولاؤك أولاً لرب العالمين ، ولسيد المرسلين ، ولأصحابه الغُر الميامين ، وللتابعين ، وللعلماء العاملين ، ولاؤك لهؤلاء . كم مِن مسلمٍ يحرص على رضاء والده ، ووالده ليس على حق ، أو يطمع بما عند والده ، ويرتكب مخالفةً شرعية ويعصي الله ، هذا الذي آثر إرضاء والده على إرضاء خالق الكون هذا لا يعرف الله .
 أيها الأخوة ؛ قلت لكم مرةً في إحدى خطب العيد ، إن المسلم حينما يكبِّر في أيام العيد ويقول : الله أكبر ، إذا أرضى زوجته وعصى خالقه ، أو إذا طمع بمالٍ حرام ولم يعبأ بالتحريم الشرعي ، أو إذا غشّ المسلمين ولم يعبأ بحرمة هذا العمل ، وقال : الله أكبر ألف مرة ، فهو عند الله لم يقلها ولا مرة ، ليس الدين شكلاً ، ولا صورةً ، ولا حركةً ، ولا تمتمةً ، ولا كلاماً يلقى بلا معنى ، الدين إيمانٌ؛ ما وقر في القلب وصدقه العمل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الآية حقيقيةٌ بأَنْ يقال عنها أشدّ آيةٍ في القرآن الكريم ، لأنك إن أحببت أباك على معصيةٍ ، وعلى مخالفةٍ للشرع ، أو أحببت أبناءك ؛ وأردت أن يكونوا أعلاماً في المجتمع على حساب دينهم ، أو إن أحببت إخوانك وأرضيتهم ولم ترض الله عز وجل ، فقد أغضبت الله وعصيته ، دخل أحد العارفين بالله على إخوانه في المسجد ، فدعا بهذا الدعاء قال : " يا رب لا تحجبني عنك بهم ، ولا تحجبهم عنك بي" .

 

الحب نوعان؛ حب في الله و حب مع الله :

 الأصل أن تحب الله ، ومِن فروع هذه المحبة تأتي محبة الأنبياء والمرسلين ، ومحبة الأولياء الصالحين ، ومحبة كل المؤمنين ، قال العلماء : " الحب نوعان ؛ حبٌ في الله وهو عين التوحيد ، وحبٌ مع الله وهو عين الشرك .
 إن أحببت الله حباً صادقاً أحببت كل المؤمنين ، وإن أحببت الله وفي القلب مَرَض، أحببت مع الله جهاتٍ لا ترضي الله عز وجل ، بل إن مِن علامات محبَّة المؤمن لله عز وجل أنه يبقى مُحِبَّاً للمؤمنين ولو أصابه منهم بعض الأذى ، ويبغض الكفار والمشركين ولو أعطوه كل شيء ، الإيمان في النهاية ولاء وبراء ، ولاءٌ لله ورسوله وللمؤمنين ، وبراءٌ من الكفر والشرك والمنحرفين .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ما الذي يمنع أن تكون هذه الآية شعاراً لكل مؤمن ؟ ما الذي يمنع أن تكون هذه الآية في قلب كل مسلم ؟ ما الذي يمنع أن تعلق هذه الآية في مكانٍ من البيت واضح ؟ !!

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾

[ سورة التوبة : 24]

 قال بعض علماء التفسير : العشيرة بنو الأب الأدْنَوْن ، أو قبيلة المرء . .

﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾

[ سورة التوبة : 24]

 فيها شبهات؛ فيها شبهات في كسبها ، أو فيها شبهات في إنفاقها ، أو فيها شبهات في طريقة التعامل بها :

﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾

[ سورة التوبة : 24]

 قد تكون البضاعة محرَّمة ، أو قد تكون البضاعة ليست محرمة ، ولكن التعامل معها بطريقةٍ محرمة ، كالاحتكار ، والاستغلال ، والكذب ، والغش ، والتدليس . .

﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾

[ سورة التوبة : 24]

 إن كانت هذه الجهات أحب إليكم فالأمر جدّ وبيل وخطير .

 

الحبّ حبّان ؛ حبّ عقلي و حبّ حسي :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لابد من وقفة متأنية عند كلمة : أحبّ ، فالحب ميل النفس إلى ما هو مُمْتِع ، قد تميل النفس إلى طعامٍ طيِّب ، وقد تميل إلى منظرٍ جميل ، وقد تميل إلى رائحةٍ عطرة ، وقد تميل إلى نغمٍ رائع ، وقد تميل إلى ملمس ناعم ، هذه الحواس الخمس ، هذه محبة حسية ، هذه محبة أساسها حسِّي ، هذه محبة تدغدغ مشاعر الجسد ، ولكن الحب العقلي هو المعنيُّ . . انظروا إلى هذا المثل : إنسان مريض يوصف له دواء مر، عقله يأمره أن يتناول الدواء مع أنه مر ، إنه يحب الدواء لا حباً حسياً ذوقياً ، ولكنه يحب الدواء حباً عقلياً ، لأنه يرى في استعمال الدواء شفاء له من هذا المرض الصعب ، في استعمال الدواء تمتع بالصحة ، في استعمال الدواء انطلاقةٌ في الحياة ، فمع أن الدواء مر يقتضي العقل أن يستعمله .
 الشيء الثابت أيها الأخوة أنك إن أرضيت اللذائذ الحسيَّة أتعبت نفسك ، واكتأبت، وضاقت ، وإنك إن أرضيت الميل العقلي ارتاحت نفسك وتعب جسمك ، انظر : لو أنك صليت الفجر في وقته ، مع أن هذا متعبٌ للجسد ، ولو كنت قضيت سهرةً طويلة فإن نفسك ترتاح ، أما إذا أهملت هذه الصلاة في وقتها ، فقد يرتاح الجسم ولكن النفس تتعب ، هنا معنى : أحب إليكم ، المقصود به الحب العقلي ، العقل السليم الصريح ، كما أراد الله أن يكون ، يبحث عن شيءٍ يدوم ، وعن شيءٍ يتنامى ، وعن شيءٍ لا يزول ، فالشيء الذي يدوم ويتنامى ولا يزول هو أن تصل إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض ، هذه الجنة تقتضي أن تصلي ، وتقتضي أن تكف عن كل شهوةٍ محرمة ، وتقتضي أن تلزم مجالس العلم ، وتقتضي أن تُنفق مالَك ، وتقتضي أن تضبط شهواتك ، فالحب هنا ليس الحب الحسي ولكنه الحب العقلي .
 مثلٌ آخر : هذا التاجر الذي لا يبيع ولا يشتري ، جسمه مستريح تماماً ، جالس على كرسيٍ وثير في متجره ، يتناول المشروبات من القهوة والشاي ، ولكن نفسه متعبةٌ جداً لأنه لا يبيع ولا يشتري ولا يربح ، مِن أين يعيش ؟ ! لكن لو أنه باع بيعاً كثيراً ونسي أن يأكل، وتعب تعباً مرهقاً فهو في راحة نفسية ، فالشيء الذي يتعب الجسم يريح النفس ، والشيء الذي يريح الجسم يتعب النفس ، فالحب حبَّان؛ حبٌ عقلي ، يتعلق بالعاقبة ، بالمصير ، بالمآل ، بالديمومة ، بالاستمرار ، بالتنامي ، وحب حسيٌ محدود ، يستوي فيه الإنسان مع الحيوان .

تعلق الحب و البغض بالعقل :

 يا أيها الأخوة الكرام :

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ﴾

[ سورة التوبة : 24]

 دققوا وأمعنوا النظر " أحب إليكم " عند التعارض ، حينما تتعارض هذه الأشياء مع نص شرعي ، تجارةٌ رابحة ولكن البضاعة محرَّمة ، تجارة رابحة ولكن طريق التعامل معها محرم ، لابد من علاقةٍ بالربا ، مسكنٌ فخم جداً ولكنه مغتصَب ، إذا كانت هذه الأشياء عن طريقٍ غير مشروع ، يجب أن يكرهها العقل وأن يَمُجَّها ، فهنا الحب والبغض متعلقان بالعقل:

﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا﴾

[ سورة التوبة : 24]

 مكانك تحمدي أو تستريحي ، لا تقدُّم ، يغدو الدين ثقافةً ، والعبادات طقوساً ، والانتماء اعتزازاً ، يقال : فلان له خلفيةٌ إسلاميةٌ ، أو نزعة إسلامية ، أو أرضية إسلامية ، أو اتجاه إسلامي ، أو انتماء إسلامي ، أو عاطفته إسلامية ، ويُعْنى بشؤون الفكر الإسلامي، وله مقالات إسلامية ، وهو بعيد عن الإسلام بُعْد الأرض عن السماء .
 ولقد قال علماء التفسير : في هذه الآية أيضاً وعيدٌ وتشديد ، فهي أشدّ آيةٍ على الناس ، لأنه قلَّما ينجو من مضمونها أحد .

 

من آثر هوى نفسه على طاعة ربه فالطريق إلى الله ليس سالكاً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أما قوله تعالى :

﴿فَتَرَبَّصُوا﴾

[ سورة التوبة : 24]

 أي أن الطريق إلى الله ليس سالكاً . . أما قوله تعالى :

﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[ سورة التوبة : 24]

 أي أن هذه المحبة الحسية لا العقلية ، حملتكم على الفسق ، أي آثرتم هوى أنفسكم على طاعة ربكم ، إذاً الطريق إلى الله ليس سالكاً بالمعنى الصحيح ، فالإنسان قد يصلي ، والصلاة فرض ، ولا يجوز أن يفكر في تركها ، لأنها عماد الدين ، وعصام اليقين، وغُرَّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات ، ولكن حينما يعصي الله ويصلي، لا يقطف ثمار الصلاة ، لا يشعر بما ينبغي أن يشعر به المصلي ، لا تكونُ : أرحنا بها ، تكون : أرحنا منها ، لأن أعماله السيئة ، ومحبته لهذه الأشياء غير المشروعة أودت به إلى هذا المصير .

 

الفرق بين حقائق الإيمان و حلاوة الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ورَدَ في الحديث الصحيح :

(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حلاوَةَ الإيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 ولابدَّ من وقفة عند كلمة ( حلاوة الإيمان ) الإيمان له حقائق ، وله حلاوة ، أنا أؤكِّد لكم أيها الأخوة أن الذي يشدُّكم إلى الدين ليست حقائق الإيمان فحسب ، مع أن الإيمان قدَّم تفسيراً رائعاً للكون والحياة والإنسان ، أعطاك فهماً للآخرة؛ فيها تسوّى الحسابات ، لا تحل مشكلات الأرض إلا بالإيمان باليوم الآخر ، أعطاك منظومة من العقائد متناسقة ، فالمؤمن عنده تفكيرٌ وتفسير رائعٌ لكل ما حوله ، الذي يشدُّك إلى الدين ليست حقائق الإيمان الناصعة المتناسقة ، ولكن الذي يشدُّك إلى الدين حلاوة الإيمان ، هذه الحياة التي يحياها المؤمن ، الحياة الطيبة هي التي عبَّر عنها النبي عليه الصلاة والسلام بحلاوة الإيمان ، الشيء الذي لا يختلف فيه اثنان هو الطعم الحلو ، أعط مئة إنسانٍ قطعة من السكر ، لا يختلف اثنان على وجه الأرض أن طعم هذه القطعة حلوٌ محببٌ مقبول ممتع ، أبداً ، هذه الحلويات خصائصها في روعة مذاقها .
 النبي عليه الصلاة والسلام استعار الحلاوة للإيمان ، فالإيمان حلو المذاق ، الذي يشدك إلى الدين حلاوة الإيمان ، كلُّ كيانك منتشٍ بالصلة بالله عز وجل ، كل كيانك سعيدٌ بمعرفة الله عز وجل ، كل كيانك راضٍ عن الله عز وجل ، هذه حلاوة الإيمان ، فالإنسان إذا فقد حلاوة الإيمان تغدو صلاته شكلاً ، وعباداته شكلاً ، وعندئذٍ يقوم إلى الصلاة كسلان . .

﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾

[ سورة النساء : 142]

 فالنبي عليه الصلاة والسلام يفرِّق بين حقائق الإيمان وبين حلاوة الإيمان ، لو عندك صورة لمركبةٍ رائعة ، هذه حقيقة؛ فيها شكلها ، ولونها ، وميزاتها ، وخصائصها ، وثمنها ، وهناك صورةٌ لما في داخلها ، وصورةٌ لمحركها ، ولمنظرها الخارجي ، لكنها من ورق ، وهي صورة لا تقدم ولا تؤخر ، أما حلاوة الإيمان فأن تمتلك هذه المركبة .
 قد تكون أمام صورة قصر منيف ، هذه حقيقة؛ عدة طوابق ، وحجر منقوش ، وحدائق ، هذه كلها حقائق ثابتة ، ولكنك لا تنتفع بهذه الحقائق بل إن حلاوة الإيمان أن تمتلك هذا القصر ، وفرقٌ كبير بين أن تملك مخططاً لبيت ، وبين أن تملك البيت نفسه ، هي نفس المسافة بين حقائق الإيمان وبين حلاوة الإيمان . .

ما مِن إنسان يعصي الله إلا لضعف محبته لله :

(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 أي أن تكون طاعة الله من خلال قرآنه ، وطاعة النبي من خلال سنته :

(( أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ . . ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 المحبة العقلية هي كما في الآية تماماً ، أحب إليه لم يقل : ممن سواهما . قال :

(( مِمَّا سِوَاهُمَا ))

 دَخَلَ فيه البيتُ والمركبة والمال والأثاث ، ودَخَلَ الأهلُ والأولادُ والزوجة والآباء والأمهات والأخوة والعشيرة ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأعيد وأكرر: عند التعارض .
 الإنسان قد يدَّعي محبة الله عز وجل ويحب ابنه ، وليس هناك تعارضٌ بين محبة الله ومحبة ابنه ، أنا أقول : عند التعارض ، حينما تتعارض مصلحتك في الدنيا مع النص الشرعي اليقيني في ثبوته وفي مدلوله ، عندئذٍ إذا انحزت إلى جانب الدنيا فأنت لا تحب الله المحبة التي أرادها لك . لذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول : " يا نفس ، لو أن طبيباً حذركِ من أكلةٍ تحبينها لا شك أنكِ تمتنعين ، يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ إذاً ما أكفرك ، أيكون وعيد الطبيب أشدّ عندك من وعيد الله ؟ إذاً ما أجهلكِ .
 لذلك بعض العلماء يقول : ما مِن إنسان يعصي الله إلا لضعف محبته لله ، لأنه أحب الدنيا وأحبها على حساب محبته لله ، عقله من خلال الشرع ينهاه ونفسه من خلال الشهوة تأمره ، لمَن استجاب في النهاية ؟ عقله من خلال الشرع ينهاه ، ونفسه من خلال الشهوة تأمره ، فإذا انحاز إلى نفسه فهو لا يحب الله ، وإذا انحاز إلى عقله من خلال النص الشرعي فهو يحب الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال بعض العلماء : الحلاوة هنا سبب ، والتشبيه بالحلاوة أن الكلمة الطيِّبة كالشجرة الطيبة ، فالكلمة هي كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ، والشجرة هي أصل الإيمان ، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي ، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير ، وثمرها عمل الطاعات ، وحلاوة الثمر جني الثمرة ، وغاية كماله نضج هذه الثمرة ، وبه تظهر حلاوتها .

 

محبة الله محبتان ؛ محبةٌ واجبة ومحبة مندوبة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ كلكم يعلم أن للإنسان طبعاً ومعه تكليف ، وقد ذكرت هذه الحقيقة مراتٍ كثيرة ، طبعه يتناقض مع التكليف ، من هذا التناقض ينشأ ثمن الجنة . .

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

[ سورة النازعات : 40-41]

 ولقد قال العلماء : محبة الله محبتان؛ محبةٌ واجبة ، ومحبة مندوبة . . ـ فالمحبة الواجبة : هي المحبة التي تبعث على امتثال أمره ، والانتهاء عن معصيته ، والرضا بقدره ، فمَن وقع في معصيةٍ من فعلٍ محرم أو ترك واجبٍ ، فلتقصيره في محبة الله ، حيث قدم هوى نفسه على طاعة الله . أما المحبة التي يندب إليها فأن يواظب على النوافل ، ويتجنب الوقوع في الشبهات كلياً ، هذه محبة مندوبٌ إليها ، يستطيعها البعض ولا يستطيعها الكل ، هؤلاء هم السابقون السابقون . أما المحبة التي هي فرض عين ، المحبة الواجبة فهي المحبة التي تحملك على طاعة الله ، وترك نواهيه ، والرضا بقضائه وقدره ، فإذا لم تكن المحبة كذلك فهي محبة منقوصة لا تغني ولا تسمن من جوع .

 

محبة رسول الله قسمان :

 كذلك محبة رسول الله على قسمين؛ محبةٌ تعني أن تأتمر بما أمر وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر . .

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[ سورة الحشر : 7 ]

 ثم إن الإنسان أيها الأخوة ، حينما ينطلق إلى الله عز وجل ، وحينما يعكف على طاعته ، وحينما يثبت على طريق الإيمان ، هنا ينتقل إلى درجة أخرى رائعة ، وصفها النبي عليه الصلاة والسلام فيقول :

(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))

[البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عمرو]

 فكأنّ الجهد يختفي ، ويصبح هواك وفق سنة النبي ، الإنسان الذي له باعٌ طويلٌ في الإيمان لا يجد مشقة في ضبط نفسه ، لأن نفسه أصبحت في مستوى الشرع ، هي تحب ما يحب الشرع ، وتكره ما يكره الشرع ، هذه إذاً ميزةٌ يمتاز بها المؤمن الصادق مع الله عز وجل :

(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))

[البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عمرو]

الولاء و البراء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الحديث ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 فأدق ما في الفكرة : لو جاءك ضرر من مؤمن ، إن كنت صادقاً في محبة الله تبقى على محبته ، وإن جاءك خيرٌ عميمٌ من كافر ، إن كنت صادقاً في محبة الله تبغضه على عطائه ، تبغض كفره وانحرافه ، وعطاؤه لا قيمة له عندك ، هذه علامة الإيمان ، أما هذا الذي لأتفه الأسباب ينكص على عقبيه ، فلو جاءه أذى من أخ لتَركَ الجامع كله ، وترك الدروس كلها ، وترك إخوانه جميعاً لأن أخاً أساء إليه ، أهكذا الإيمان ؟ !! لو أن أخاك عن اجتهادٍ ، أو عن تقصيرٍ ، أو عن سوء فهمٍ وصلك منه أذى ، وأنت مؤمن تحب الله ورسوله ينبغي أن تبقى على محبته ، ولو أن كافراً حلَّ لك أكبر مشكلة ، أعطاك بيتاً ، وأنت في أمس الحاجة للبيت ، وهو منحرفٌ ، شارب خمرٍ ، تارك صلاةٍ ، تبقى على بغضه ، فهكذا الحب في الله ، أما هذا الذي يحب مَن أعطاه عطاءً بوزن قشة يلهج بحمده ، والذي نصحه برفقٍ قاطعه ، فهذا بعيد بُعْدَ الأرض عن السماء عن أن يكون مؤمناً .

 

المؤمن الصادق ثابتٌ على محبة الله ورسوله و صابر لحكم الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الشيء الأخير . .

(( . . . وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 هذا الذي يعبد الله على حرف ، لأتفه الأسباب ينغمس في الدنيا ، لأتفه الأسباب ينحاز إلى أهل الباطل ، لأتفه الأسباب يدع الصلاة ، فهو ينطبق عليه قول الله تعالى :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾

[ سورة الحج : 11]

 أعرف رجلاً كان ملتزماً بمسجد ، له ابنٌ في الصف التاسع ، توفي بحادث ، فترك الصلاة فوراً ، لأنه يعبد الله على حرف ، أما المؤمن . .

والله إن فتتوا في حبهم كبدي  باقٍ على حبهم راضٍ بما فعلوا
* * *

 المؤمن الصادق ثابتٌ على محبة الله ورسوله ، وهو صابر لحكم الله عز وجل ، هذه علامة المحبة .

 

الحديث التالي أصلٌ من أصول الدين :

 أيها الأخوة ؛ قال علماء الحديث : هذا الحديث أصلٌ من أصول الدين . .
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْء لا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ - الولاء و البراء - وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 هذه الآية وهذا الحديث واضحان وضوح الشمس ، فالآية واضحة والحديث واضح، فإذا أردتم أن تنفِّذوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يقول :

(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ))

[البخاري عن عبد الله بن عمرو]

 ففي كل أسبوع لا بد لكم من لقاءٍ ، من سهرةٍ ، من نزهةٍ ، من دعوةٍ ، من ندوة، لابد من لقاء ، من صلة رحمٍ ، من اجتماعٍ في شركةٍ ، ما الذي يمنعك أن تلقي على إخوانك وأصدقائك وجيرانك وأحبابك هذه المعاني التي سمعتها في خطبة الجمعة ؟ ! آيةٌ وحديث . .

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[ سورة التوبة : 24 ]

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 وأوصيكم : هذه الآية تحفظ ، وهذا الحديث يحفظ ، كما أوصيكم بالعمل بهما .

 

الدعوة إلى الله فرض عين على كل إنسان :

 أخواننا الكرام ؛ حقيقةٌ خطيرة : هل تصدقون أن كل واحدٍ منكم مكلَّفٌ تكليفاً دقيقاً صحيحاً ثابتاً أن يدعو إلى الله عز وجل!! الدليل :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1-3]

 التواصي بالحق رُبْع النجاة ، لن تنجو إلا إذا تواصيت بالحق ، والدليل الثاني :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف : 108 ]

 هذا الذي لا يحب الله لا يتبع رسول الله ، والدليل :

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾

[ سورة آل عمران : 31 ]

 فهذا الذي لا يفكِّر أن ينقل معنى آية ، أو معنى حديث لمَن حوله ، هذا ليس متبعاً لرسول الله ، وهو بالتالي ليس محباً لله ، دقق النظر في هذه الآية :

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾

[ سورة آل عمران : 31 ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ آيةٌ وحديث زادُنا لهذا الأسبوع ، أتمنى عليكم أن تُعيدوا معاني هذه الآية وذاك الحديث عشرات المرات في هذا الأسبوع لمَن حولكم ، إن فعلت هذا أيُّها المسلم فقد نفّذت وصية رسول الله :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

 

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وصية السلطان محمد الفاتح لولده أورخان :

 في الخطبة الماضية قرأت لكم نصاً تاريخياً ، وهأنذا أقرأ لكم نصاً آخر ، أوصى السلطان محمد الفاتح ، هذا الذي فتح القسطنطينية ، وكان شاباً نشأ في طاعة الله ، وأجرى الله على يده الخير الكثير ، ونحن مع الشباب ، إذا عرفوا الله واتبعوا منهجه ، أوصى السلطان محمد الفاتح ولده أورخان ، قائلاً : "هأنذا أموت ، ولكني غير آسف لأني تاركٌ خَلَفاً مثلك ، كن عادلاً ، صالحاً ، رحيماً بالناس جميعاً ، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز ، واعمل على نشر الدين الإسلامي ، فإن هذه هي واجبات الملوك على الأرض ، قدِّم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء ، لا تفتُر في المواظبة عليه ، لا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمّون بأمر الدين ، ولا يجتنبون الكبائر ، وينغمسون في الفحش ، جانب البدع المُضِرَّة ، باعد الذين يحرضونك على الحقد والظُلم ، وسِّع رُقعة البلاد بالجهاد ، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد ، واضمن للمعوزين قوتَهم ، ولا تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك ، وابذل عطفك وإكرامك للمستحقين ، وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة فاعطف عليهم ، وشجعهم ، ووقرهم ، حذَارِ حذارِ فلا يغرنك المال ولا الجُند ، ولا تبعد أهل الشريعة عن بابك ، ولا تَمِل إلى عملٍ يخالف أحكام الشريعة ، فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا . . خذ مني هذه العبرة : حضرتُ إلى هذه البلاد كنملة ضعيفة ، فأعطاني الله هذه النِعَم الجليلة، الزم مسلكي ، واحذُ حذوي ، واعمل على تعزيز هذا الدين المحمدي وتوقير أهله مع سائر رعيتك المطيعة ، ولا تصرف أموال الدولة أكثر من اللزوم ولا تضن على أخلافك بنصائحك ".
 هذه نصيحة السلطان محمد الفاتح الذي فتح مدينة استعصت على الفاتحين قروناً طويلة ، وكان شاباً ؛ وريح الجنة في الشباب ، قبل أن يموت نصح ابنه أورخان هذه النصيحة، قال له : " . . . حضرت إلى هذه البلاد كنملة ضعيفة . . . " لكن بطاعة الله ، والثقة به ، والاعتماد عليه ، والتوكل عليه ، أعطاني الله هذه النعم الجليلة . الشيء الذي يؤسف له أن قلعة السلطان محمد الفاتح الآن هي صالة غناء ، وما أشدّ بُعد الغناء عن الفتوح والجهاد:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم : 59 ]

 وهذه الآية تنطبق على كل مجتمع كان قوياً بطاعة الله ، فلما ترك طاعة الله لقي الغَيّ والذل والهوان . .

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم : 59 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تُهنّا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، صُن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد مَن أعطى وذم مَن منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم ، فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم أعطنا سؤلنا يا أكرم الأكرمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور