وضع داكن
29-03-2024
Logo
ومضات قرآنية - الدرس : 06 - الشهوة
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

الإنسان هو المخلوق الأول و المكرم و المكلف :

 أيها الأخوة الكرام ، نحن في رمضان ، ونحن في العشر الأخير منه ، وهذا الشهر في أساسه امتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات ، وعن اللقاء الزوجي ، من طلوع الشمس الصادق على غروب الشمس ، إذاً هناك شهوات أودعها الله في الإنسان ما دور هذه الشهوة ؟
 بادئ ذي بدء أن الله سبحانه وتعالى ما أودع فينا الشهوات إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، ولكن الإنسان إذا قرأ القرآن يجد أن الإنسان أي هو المخلوق الأول لقوله تعالى :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

( سورة الأحزاب )

 والإنسان هو المخلوق المكرم :

 

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

( سورة الإسراء )

 والإنسان هو المخلوق المكلف ، مكلف أن يعبد الله :

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

( سورة الذاريات )

السعادة الأبدية هي الهدف الكبير من خلق الإنسان :

 العبادة في أدق تعاريفها : طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية .
 في هذا التعريف جانب معرفي يؤكده القوة الإدراكية التي أودعها الله فينا ، ومهمة الإنسان أن يبحث عن الحقيقة ، أن يطلب العلم ليؤكد إنسانيته ، وفي هذا التعريف جانب سلوكي الاستقامة والعمل الصالح ، وما لم يستقم الإنسان على أمر الله لن يقطف من ثمار الدين شيئاً ، وما لم يتقرب إلى الله بالعمل الصالح لن يسعد .
 والعبادة : طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية . والسعادة الأبدية هي الهدف الكبير من خلق الإنسان ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

( سورة هود الآية : 119 )

 خلقهم ليرحمهم ، لكن كما أن السيارة صنعت من أجل أن تسير وفيها مكابح ، والمكابح بشكل أو بآخر تتناقض مع علة صنعها ، المكابح توقفها ولكن المكابح تعد ضماناً لسلامتها ، لذلك المصائب تأتي لحكمة بالغة بالغة هي ضمانة لسلامة الإنسان ، أو إبعاد له عن أن يسلك مسلكاً يؤدي به إلى الشقاء الأبدي :

 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

( سورة السجدة )

المؤمنون يعبدون الله بدافع الحب والرجاء و الخوف :

 إذاً العبادة طاعة طوعية ، سلوك ، التزام ، انضباط ، عمل ، استقامة ، طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه ، بل ما عبد الله من يحبه ولم يطعه ، لأن الله عز وجل ما أراد أن تكون العلاقة به علاقة قهر ، أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب ، فقال :

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 256 )

 قال تعالى :

 

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

( سورة المائدة الآية : 54 )

 قال تعالى :

 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 165 )

 العبادة : طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية ، الأقوياء يطاعون قسراً ، لكن المؤمنين يعبدون الله بدافع الحب ، بدافع الرجاء ، بدافع الخوف ، يعبدونه رغباً ورهباً ، كما قال الله عز وجل ، إذاً هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية :

(( ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه ))

[من كشف الخفاء]

 إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل .
 تعريف العبادة : طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية .

 

الله عز وجل حينما كلف الإنسان أن يعبده أعطاه مقومات هذه العبادة :

 إذاً الله عز وجل كلف الإنسان أن يعبده ، وحينما كلفه أن يعبده أعطاه مقومات هذه العبادة ، من هذه المقومات أعطاه الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى :

 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (180)﴾

( سورة الأعراف)

 أسماؤه الحسنى ، الحكيم ، العليم ، القدير ، الغني ، الرحيم ، كل هذه الأسماء ظاهرة بشكل واضح في الكون ، إلا أن اسم العدل محقق جزئياً في الدنيا ، وسوف يحقق كلياً يوم القيامة ، لأن الله سبحانه وتعالى يؤكد هذا المعنى بآيات كثيرة :

 

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾

( سورة الروم الآية : 27 )

﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾

( سورة طه )

الله عز وجل في كل شيء له آية تدل على أنه واحد :

 أيها الأخوة الكرام ، فالعبادة جانب منها معرفي هو السبب ، وجانب منها سلوكي هو الأصل ، وجانب منها جمالي هو النتيجة ، لكن حينما كلفنا الله أن نعبده ، وأراد أن تكون هذه العبادة عن حبٍّ ومبادرة واختيار أعطانا مقومات هذه العبادة ، أعطانا كوناً لا نهائياً ينطق في كل آياته بعظمة الله عز وجل ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد .
 مثلاً : البعوضة في رأسها مئة عين ، وفي فمها ثمانية وأربعون سناً ، وفي صدرها ثلاثة قلوب ، قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، وزن البعوضة واحد على ألف من الغرام ، تملك البعوضة جهازاً لا تملكه الطائرات ، تملك جهاز استقبال حراري ، إنها ترى الأشياء لا بأشكالها ، ولا بأحجامها ، ولا بألوانها ، حساسية هذا الجهاز الحراري واحد على ألف من الدرجة المئوية ، تملك جهاز تحليل دم ، وجهاز تخدير ، تملك جهاز تمييع ، خرطوم البعوضة فيه ست سكاكين ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع ، وسكينان يلتئمان على شكل أنبوب لامتصاص الدم .

الله عز وجل أعطى الإنسان عقلاً و فطرة و شهوة و حرية :

 الله عز وجل جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾

( سورة البقرة الآية : 26 )

 أعطاه العقل أداة معرفة الله عز وجل ، مبادئه الثلاثة ، مبدأ السببية ، الغائية ، وعدم التناقض ، هذه مبادئ الكون أيضاً ، تطابق مبادئ العقل مع مبادئ الكون شيء رائع جداً ، فكأن العقل أصبح أداة لمعرفة الله عز وجل .
 شيء آخر : أعطاه فطرة متوافقة مع الشرع توافقاً دقيقاً جداً ، لأن الله عز وجل ولف الإنسان ، وبرمجه ، وفطره ، على المنهج الإلهي :

 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾

( سورة الروم الآية : 30)

 تطابق الفطرة مع منهج الله عز وجل تطابقاً تاماً ، إذاً أعطاه كوناً ، أعطاه عقلاً، أعطاه فطرة ، الآن أعطاه شهوة ، أعطاه قوة محركة :

 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

( سورة آل عمران الآية : 14 )

 بكلمة مختصرة لولا الشهوات لا نرتقي إلى رب الأرض والسماوات ، الشهوة هي القوة المحركة ، كأنها المحرك في السيارة ، في السيارة مقود هو العقل ، وفي السيارة محرك هي الشهوة ، وفي الحركة طريق هو الشرع ، مهمة العقل أن يقود المركبة بقوة المحرك ليبقيها على الطريق المعبد ، هذا مثل دقيق للإنسان وشهوته وعقله وحرية اختياره .

 

الشهوات ما أودعت في الإنسان إلا ليرتقي بها صابراً وشاكراً :

 أيها الأخوة الكرام ، الشهوات ما أودعت في الإنسان إلا لنرتقي بها صابرين وشاكرين ، إذا امتنعت عن شهوة لا ترضي الله ، عن شهوة محرمة ترقى إلى الله صابراً ، وإذا فعلت شيئاً بدافع من شهوتك وفق منهج الله ترقى إلى الله شاكراً ، لذلك قال تعالى :

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

( سورة القصص الآية : 50 )

 عند علماء الأصول هناك المعنى العكسي ، المعنى المخالف ، أي أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه ، إذاً أودع الله فينا الشهوات قوة محركة ، الإنسان كائن متحرك عنده حاجة إلى الطعام والشراب ، هذه الحاجة من أجل بقاء الفرد ، وعنده حاجة إلى الزواج ، حاجة الشاب إلى شابة ، والشابة إلى شاب ، هذه الحاجة من أجل بقاء النوع ، ولولا هذه الحاجة لانقرض الجنس البشري ، وعنده حاجة ثالثة إلى تأكيد الذكر ، أي هذه الحاجة تسمى في الإنسان حب التفوق ، هذه الحاجات الثلاثة حيادية هي سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها ، بإمكان الإنسان أن يرقى إلى الله بشهوة تحرك من خلالها وفق منهج الله ، الآية التي ذكرتها قبل قليل :

 

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

 

( سورة القصص الآية : 50 )

 المعنى المخالف ، أي أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه.

 

سلامة وجود الإنسان لا تكون إلا بتطبيق تعليمات الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام ، كما ذكرت كثيراً الإنسان جُبل على حبّ سلامة وجوده ، وعلى حبّ كمال وجوده ، وعلى حبّ استمرار وجوده ، سلامة وجوده بتطبيق تعليمات الصانع ، لأن الإنسان أعقد آلة في الكون ، ولهذه الآلة المعقدة بالغة التعقيد صانع حكيم ، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة ، فطاعة الله عز وجل هي التي ينبغي أن تكون ، لأن الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها .
 أيها الأخوة الكرام ، الإنسان كائن متحرك ، وهذه الشهوات تماماً إن صحّ التعبير كالوقود السائل في المركبة ، إن وضع في المستودع المحكم ، وسار في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ، ولّد حركة نافعة ، أقلتك أنت وأهلك إلى مكان جميل ، ما الذي يجري في الطريق وأنت تستمتع بالمناظر الطبيعية ؟ عملية انفجارات لكن منضبطة تتم في وقت محدد وفي مكان محدد ، هذه الانفجارات تولد هذه الحركة ، صفيحة البنزين نفسها إذا صبّ هذا الوقود على المركبة ، وأصابته شرارة ، أحرق المركبة ومن فيها .
 أنا أقول دائماً : الإنسان إذا تزوج وكان مؤمناً ، وتزوج مؤمنة ، وأنجب أولاداً أطهاراً ، رباهم تربية إيمانية ، وعلمية ، واجتماعية ، وخلقية ، ونفسية ، من هذا الزواج يكون كم كبير من الأولاد الذين جلبوا الكنائن ، ومن البنات اللواتي جلبن الأصهار ، ومن الأحفاد هذا الكم الكبير ، هذا بسبب هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان .
 لذلك أيها الأخوة الكرام ، ما أودع الله فينا الشهوات إلا لنرقى بها مرة شاكرين ومرة صابرين إلى رب الأرض والسماوات .

 

الشهوة سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها :

 شيء آخر : ليس في الإسلام حرمان إطلاقاً ، بمعنى أنه :

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

( سورة آل عمران الآية : 14 )

 ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل قناة نظيفة تسري خلالها ، ليس في الإسلام حرمان ، في الإسلام تنظيم ، هذه الشهوات من أجل أن نرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، إذاً سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها .

 

الحاجة إلى تأكيد الذات و التفوق حاجة أودعها الله عز وجل في الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام ، الإنسان أودع الله فيه حاجة إلى تأكيد الذات ، أن يكون متفوقاً ، حينما يخدم أمته ، حينما يعلم العلم ، حينما ينفق ماله ، يرقى بهذا الإنفاق وبهذا التعليم إلى رب الأرض والسماوات ، الحاجة إلى تأكيد الذات ، الحاجة إلى التفوق ، كانت محققة بعمل صالح ، بعمل خير ، لذلك العظماء نذكرهم كل يوم ، لأنهم قدموا للإنسانية شيئاً عظيماً ، فلماذا يكون الإنسان خمولاً ؟ أي ملايين مملينة ، مليارات ممليرة جاءت إلى الدنيا وكبرت وتزوجت وأنجبت وماتت ولم يعلم بها أحد ، لكن العلماء الكبار ، القواد العظام ، الفاتحين القواد العظام ، الذين هم أعلام الأمة ، هؤلاء تألقوا لأن الله عز وجل خلق في الإنسان حاجة إلى التفوق ، فلمَ لا تلبى هذه الحاجة وفق المنهج الإسلامي ؟ هناك من يلبي هذه الحاجة بالبذخ ، والإسراف ، والإنفاق غير المعقول ، أحياناً تكلف بعض الأعراس ملايين ومئات الشباب يتمنون غرفة يتزوجون بها ، فبذلك في الإنفاق هناك منهج ، قال تعالى :

﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (195)﴾

( سورة البقرة )

 إن لم تنفقوا فلابدّ من إنفاق خير ، إذاً هذه الشهوات التي أودعها الله فينا ما أودعنا فينا إلا لنرقى بها شاكرين وصابرين .

 

الحكمة من جعل الكسب الحلال صعباً و الكسب الحرام سهلاً :

 بالمناسبة هذه الشهوة ترقى بها مرتين ، لو امتنعت عن مال حرام لا يرضي الله ترقى إلى الله صابراً ، تقول : معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين ، مع أن الحرام سهل جداً والحلال صعب جداً ، ولحكمة بالغة بالغة جعل الكسب الحلال صعباً ، كي يمتحن الإنسان ، وجعل الكسب الحرام سهلاً ، لو أن الآية عكست لو الكسب الحلال سهل لأقبل الناس على الحلال جميعاً ، وهم لا يعبدون الله عز وجل ، لكن حكمته البالغة أن جعل الكسب الحلال صعباً ليكون امتحاناً للإنسان ، وجعل الكسب الحرام سهلاً ، إذاً أودع في الإنسان الشهوات ليمتحننا :

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

( سورة المؤمنين )

 هذه الشهوة في كل إنسان ، حتى الأنبياء هم بشر ، وتجري عليهم كل خصائص البشر ، لذلك كانوا سادة البشر ، رأى الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ سيدنا حنظلة يبكي في طرقات المدينة ، وقال له : " يا حنظلة مالك تبكي ؟ " فقال حنظلة : " نافق حنظلة " ، قال : " ولِمَ يا أخي ؟ " ، قال : " نكون مع رسول الله ، ونحن والجنة كهاتين . سيدنا الصديق لكماله الشديد ولذوقه الرفيع ، قال : " يا أخي أنا كذلك ـ أنا مثلك ـ انطلق بنا إلى رسول الله " وعند النبي عليه الصلاة والسلام حدَّثاه عن حال حنظلة ، فقال عليه الصلاة والسلام :

(( نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعةٌ وساعة ، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة ، ولزارتكم في بيوتكم ))

[ مسلم عن حنظلة ]

كلما ارتقى الإنسان عند الله أراد عملاً صالحاً يقربه من الله عز وجل :

 أي في النفس حاجة إلى القرب من الله ، في النفس حاجة إلى الاتصال به ، لأن في النفس فراغاً لا يملأه المال وحده ، ولا المنصب الرفيع ، ولا المتع الجمالية ، في النفس فراغ لا يملأه إلا الإيمان ، فإذا آمنت استقرت نفسك ، لأن الإنسان خلق لهدف كبير ، فإذا اختار هدفاً صغيراً محدوداً ووصل إليه بدأ شقاؤه ، لذلك أنا أتصور أن انحرافات أهل الغرب الأخلاقية بسبب الملل ، لا يوجد هدف كبير ، أي أعظم ما في حياة المسلم أن له هدفاً ، هدفه الدخول إلى الجنة ، في أقل مستويات هدفه أن يرضي الله ، هدفه أن يعم خيره أهل الأرض ، فكلما ارتقى الإنسان عند الله أراد عملاً صالحاً يقربه من الله عز وجل ، وقد قال تعالى :

 

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (10)﴾

(سورة فاطر)

علة وجود الإنسان بعد الإيمان بالله العمل الصالح :

 بل إن علة وجود الإنسان بعد الإيمان بالله العمل الصالح ، بالعمل الصالح ترقى إلى الله ، والشهوات أداة الحركة ، لولا الشهوات ما اندفعنا إلى العمل الصالح ، أنت بحاجة إلى الطعام ، تنطلق إلى العمل في العمل تمتحن إما أن تصدق أو لا تصدق ، إما أن تنصح أو لا تنصح ، بدافع الطعام والشراب اندفعت إلى عمل ، العمل هو الامتحان ، هو الذي أراد الله منه أن تمتحن وأن تفرز :

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 179 )

 هذا الوهم عند بعض الناس أن الشهوات هي سبب العذاب في الآخرة ، لا ، لولا الشهوات التي أودعها الله فينا لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات ، بالشهوات نندفع إلى الله عز وجل ، أي الشهوة دائماً يمكن أن تتحرك بها مئة وثمانين درجة تقريباً ، للتقريب سمح الله لك بمئة درجة ، إن كانت هذه الحركة وفق هذا الحيز المسموح به ، فأنت في أمن وسلام:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

( سورة فصلت الآية : 30 )

 استقام على أمر الله ، أي أوقع حركته في الحياة الدنيا وفق الحيز المسموح ، في المرأة في الزوجة والمحارم ، لا يوجد عشيقة في الإسلام ، في الجانب الجنسي هناك زوجة ومحارم ، في المال هناك الكسب المشروع من تجارة أو صناعة أو زراعة أو خدمة ، أما الاغتصاب والسرقة ومئات مئات الأساليب التي لا ترضي الله في كسب المال ، فأنت في المال مقيد بحيز مشروع ، مع المرأة مقيد بحيز مشروع ، فالإيمان أن توقع الحركة في الدنيا وفق هذا الحيز الذي سمح الله به ، فلذلك الشهوة يمكن أن تتحرك بها مئة وثمانين درجة لكن الشرع فرضاً سمح لك بمئة درجة ، من هو المؤمن ؟ هو الذي تحرك وفق هذا الحيز المسموح به .

 

زوال الكون أهون على الله من أن يعامل المؤمن كما يعامل غير المؤمن :

 لذلك :

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية )

 أي مستحيل وألف ألف مستحيل ، زوال الكون أهون على الله من أن يعامل المؤمن كما يعامل غير المؤمن ، أو أن يعامل غير المؤمن كما يعامل المؤمن :

 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية )

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

( سورة السجدة )

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

( سورة القلم )

 الله عز وجل يبين أن هناك حساباً دقيقاً في الدنيا والآخرة ، بل في قوله تعالى :

﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ﴾

 دعك من الآخرة مبدئياً في الدنيا حياة المؤمن غير حياة غير المؤمن ، هناك طمأنينة ، و هناك صلة بالله ، وهناك أمن ، واستقرار ، و شعور بالتفوق ، هذه كلها مشاعر مسعدة .
 فلذلك أيها الأخوة ، ما أودع فينا الشهوات إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، مرة شاكرين ومرة صابرين ، وما أودع فينا الشهوات إلا وجعل لها قنوات نظيفة تسري خلالها .
 أيها الأخوة الكرام ، إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .

 

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور