وضع داكن
24-04-2024
Logo
ومضات قرآنية - الدرس : 10 - تفسير سورة التكاثر
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

الآية التالية تصف حال الذين شردوا عن الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام ، يقول الله عز وجل واصفاً حال الذين شردوا عن الله ، حال الذين انشغلوا بالدنيا ، حال الذين ألهتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، يصف حال الذين اشتغلوا بالخسيس ونسوا النفيس ، لذلك قال تعالى :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

( سورة التكاثر )

الشيء الذي يعطى لمن يحب الله ولمن لا يحبه لا يعد مقياساً للتفاضل بين الناس :

 أيها الأخوة الكرام ، الله عز وجل حينما قال :

﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾

( سورة الفجر )

 الإنسان أحياناً يتوهم أن الله إذا منحه المال الوفير ، منحه الصحة ، منحه الأهل والأولاد ، منحه القوة ، منحه الوسامة ، منحه الذكاء ، يتوهم أن هذا دليل على محبة الله له ، الله عز وجل يصحح لنا فهمنا ، قال تعالى :

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

  يقول هو ، هذه مقولته ، هذا وهمه ، هذا تفكيره ، هذا تصوره ،

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾

 جاء الجواب ردعاً ، والفرق كبير بين النفي والردع ، النفي تسأل إنساناً هل أنت جائع ؟ يقول لك : لا ، نفى عنه الجوع ، أما حينما تتهمه بالسرقة يقول لك : ما كان لي أن أسرق ، الله عز وجل أجاب إجابة ردعية فقال :

﴿ كَلَّا ﴾

  أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، أي الله عز وجل أعطى المال لمن يحب ولمن لا يحب ، أعطى القوة إلى فرعون وهو لا يحبه ، أعطى المال إلى قارون وهو لا يحبه ، وأعطى القوة إلى نبي كريم وهو سيدنا سليمان وهو يحبه ، وأعطى المال إلى سيدنا عبد الرحمن بن عوف وهو يحبه ، الشيء الذي يعطى لمن يحب ولمن لا يحب لا يعد مقياساً إطلاقاً .

 

الكسب و الرزق :

 فلذلك أيها الأخوة :

﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)كَلَّا (17)﴾

( سورة الفجر )

 الإنسان حينما يتجه إلى التكاثر في مرحلة من مراحل حياته يبحث عن رزقه ، يشتري بيتاً ليتزوج ، لكن بعد أن ينجح في حياته يدخل في متاهة التكاثر ، يريد أن يحقق أكبر ربح ليزهو به ، مع أن الإنسان لا يستهلك إلا الشيء المحدود ، المستهلكات الحقيقية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :

(( يا بن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ))

[مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الشَّخَّير]

 والباقي يسمى عند العلماء كسباً تحاسب عليه حساباً دقيقاً مع أنك لم تنتفع به هو رزقك ، المستهلكات حصراً هي الرزق .

 

فرص العمل الصالح أمام القوي المسلم لا تعد و لا تحصى :

 فيا أيها الأخوة الكرام ، حينما قال تعالى :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾

 هذا زلت قدمه ، ونسي سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، ودخل في متاهات تجميع أكبر أرباح ، ونسي أن الغني عبادته الأولى إنفاق المال ، وما جعل الله الغني غنياً إلا ليكون في أعلى درجات الفردوس بماله ، لأن العلم قوة ، ولأن المال قوة ، ولأن المنصب قوة ، وأنا أقول دائماً إذا كان طريق القوة في المال أو العلم أو المنصب وفق منهج الله ، فيجب أن تكون قوياً ، لأن فرص العمل الصالح المتاحة أمامك لا تعد ولا تحصى ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير))

[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

 القوة مطلوبة لأن القوي أمامه خيارات للعمل الصالح لا تعد ولا تحصى ، بل إن بعض العلماء يقولون : هناك عبادة الهوية ، أنت من ؟ أنت غني عبادتك الأولى إنفاق المال ، أنت قوي عبادتك الأولى إحقاق الحق وإنصاف المظلوم ، أنت عالم عبادتك الأولى تعليم العلم وألا تأخذك في الله لومة لائم ، قال تعالى :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

( سورة الأحزاب الآية : 39 )

 والآية فيها ملمح دقيق جداً أن هذا الذي يلقي العلم على الناس لو أنه خشي غير الله فامتنع عن إلقاء الحق خوفاً وتكلم بالباطل إرضاءً وتملقاً ، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهت دعوته :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

( سورة الأحزاب الآية : 39 )

 فالعالم عبادته الأولى إلقاء العلم دون أن يخشى في الله لومة لائم ، والغني عبادته الأولى إنفاق ماله ليرقى به إلى رب الأرض والسماوات ، والقوي عبادته الأولى إحقاق الحق وإنصاف المظلوم .

 

علة خلق السماوات والأرض أن نعلم أن الله على كل شيء قدير :

 لذلك :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾

 حينما ينسى الإنسان سرّ وجوده وغاية وجوده ، حينما ينسى الأمانة التي حمله الله إياها ، حينما ينسى التكليف الذي كلفه الله به ، حينما ينسى أن يعبد ربه التي هي علة وجوده ويلتهي بالتكاثر ، فكأن غواصاً غاص في أعماق البحر ، وعرض حياته للخطر فجمع الأصداف ولم يجمع اللآلئ ، فاشتغل عن النفيس بالخسيس ، وهذا معنى قول الله عز وجل :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2﴾ . ولكن كيف ينبغي للمؤمن أن يستقيم على أمر الله ؟ قال تعالى :

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ﴾

( سورة الطلاق الآية : 12 )

 وكأن علة خلق السماوات والأرض أن نعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً :

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

( سورة الطلاق )

استقامة الإنسان على أمر الله إذا علم أن علم الله يطوله وقدرته تطوله :

 هناك تساؤل لماذا الله اختار من أسمائه الحسنى اثنين فقط العليم والقدير ؟

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

 لا بدّ من مثل للتوضيح ، تركب مركبة والإشارة حمراء ، والشرطي واقف أو آلة التصوير جاهزة ، لماذا لا تتجاوز هذه الإشارة ؟ لأنك تعلم علم اليقين أن واضع قانون السير علمه يطولك من خلال هذا الشرطي ، أو من خلال هذه الآلة ، وأن قدرته تطولك من ثقب الشهادة ثقوباً بعد حين تمنع أن تقود مركبة ، لأنك تعلم علم اليقين أن واضع القانون قدرته تطولك وعلمه يطولك لا يمكن أن تعصيه ، وأي إنسان إذا علم عِلم اليقين أن الله عز وجل يطوله لا يمكن أن يعصيه ، فعلم الله يطول الإنسان العاصي ، و قدرة الله تطول الإنسان العاصي ، أي أن الله يعلم وسيحاسب وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه تماماً ، لكن الإنسان أحياناً في حياته الدنيا يعصي واضع القانون إذا كان علم واضع القانون لا يطوله ، أي إذا لم يكن هناك شرطي يمكن له أن يتجاوز الإشارة الحمراء بعد منتصف الليل ، أو إذا كان المتجاوز أقوى من واضع القانون ، مادام الإنسان علم الله يطوله وقدرته تطوله لا بد من أن يستقيم على أمره .

 

لا يليق بعطاء الله أن يكون في الدنيا لأن عطاء الله عظيم وأبدي :

 فلذلك :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾

 المصير :

﴿حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ﴾

 ماذا بعد الغنى ؟ القبر ، ماذا بعد القوة ؟ القبر ، ماذا بعد الاستمتاع بكل مباهج الحياة ؟ القبر ، ماذا بعد الانغماس بملذات الحياة ؟ القبر ، القبر ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، وذكاء الذكي ، ومحدودية المحدود ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، الموت ينهي كل شيء ، لذلك لا يليق بعطاء الله أن يكون في الدنيا لأن عطاء الله عظيم ، عطاء الله أبدي ، فأي عطاء ينقطع مع انتهاء الحياة لا يسمى عطاءً ، يقول الله عن ذلك المعنى :

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77)﴾

( سورة النساء )

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

( سورة التوبة )

الحقائق التي جاء بها الأنبياء تُكشف عند الموت ولكن تكشف بعد فوات الأوان :

 هذا الذي جمع الدرهم والدينار ونسي الواحد الديان ، هذا الذي جعل همه التكاثر:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾

 التهيتم بالخسيس عن النفيس ، سمعت عن جوهرة في متحف توبي كابي في استنبول ، قيمتها مئة وخمسون مليون دولار ، هي كالبيضة تماماً ، فالإنسان حينما يغوص في البحر ليلتقط الأصداف وينسى اللآلئ فقد انشغل بالخسيس عن النفيس :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)﴾

 والإنسان بالقبر إلى يوم القيامة ، إذاً هو البرزخ وقد جاءت الإشارة حتى زرتم والزائر يخرج ، الآن :

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾

 تعلمون عند الموت الحقيقة الصارخة :

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

( سورة ق )

 تعلمون أن الذي جاء به الأنبياء هو حق لاشك فيه ، كل الحقائق التي جاء بها الأنبياء تكشف عند الموت ولكن تكشف بعد فوات الأوان ، الآن وقد عصيت من قبل ، ما من إنسان على وجه الأرض ، والناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، عند الموت تكشف لهم الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان ، كما لو أن طالباً لم يكتب شيئاً في الامتحان ، عاد إلى البيت فعرف إجابة السؤال ، ما قيمة هذه المعرفة؟ عرفها بعد فوات الأوان ، فلذلك الآية الكريمة :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)﴾

 لو أن إنساناً ينطلق في سيارة في طريق منحدر شديد الانحدار ، وليس معه مكبح و هو لا يعلم ، وهذا الطريق الشديد الانحدار ينتهي بمنعطف حاد ، فإذا علم هذا السائق أن المكبح معطل يقول : انتهينا ، يستخدم الفعل الماضي يقول : متنا ، انتهينا ، لذلك :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾

أخطر الأيام اليوم المشهود و للإنسان الساعة التي هو فيها :

 العلم الثاني يوم القيامة ، فالإنسان بين يوم مفقود الماضي ، ويوم مشهود هو الحاضر ، ويوم مورود هو الموت ، ويوم موعود هو القيامة ، ويوم ممدود إلى أبد الآبدين ، وأخطر هذه الأيام اليوم المشهود ، ما مضى فات والمؤمل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)﴾

 لو علم الإنسان أن مركبته مع هذا الانحدار الشديد والسرعة العالية ، وهذا الانحدار ينتهي بمنعطف حاد وليس معه مكبح ، أيقن بالموت ، أيقن بحادث مروع يقضي عليه وعلى أسرته :

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

 هذا الوقت الفراغ المديد كيف أمضيته ؟ لمَ لم تطلب العلم ؟ لمَ لم تحضر دروس العلم ؟ لمَ لم تفتح القرآن الكريم ؟ لمَ لم تسأل العلماء عن معاني هذه الآية؟ لمَ لم توقع حركتك اليومية وفق منهج الله ؟ لمَ لم تفكر لماذا خلقت ؟  لماذا خلقك الله في الدنيا ؟ لمَ غفلت عن عبادته وعن طاعته ؟ لمَ جعلت همك التكاثر وجمع الأموال ؟ لمَ استعليت على الناس بمالك ؟ لمَ حرمت الناس من فضلك ؟ لماذا آثرت أن يبقى المال لك وأن تغرق في النعيم من خلال هذا المال وتنسى الفقراء والمساكين ؟

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾

 أما كلا فهي أداة ردع ، أنا ما خلقتكم لهذا :

(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))

[ الترمذي و ابن ماجه عن سهل بن سعد]

 كلا إياكم والتكاثر ، ابحثوا عن سرّ وجودكم ، وعن غاية وجودكم ، ولماذا أنتم في الدنيا ؟ أنتم من أجل العمل الصالح ، والدليل أن الإنسان حينما يوشك أن يغادر الدنيا يقول:

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾

(سورة المؤمنون)

الله عز وجل  خلق الإنسان ليسعده في الدنيا و الآخرة :

 والله أيها الأخوة ، لو كشف الغطاء كما قال سيدنا علي : " والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". أي أن يقينه قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء ، وله مقولة رائعة : " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي " .
 وقال هذا الإمام الجليل : "قوام الدين والدنيا أربعة رجال : عالم مستعمل علمَه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره ".
 فلذلك الآية الكريمة :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا ﴾

 أنا ما خلقتكم لهذا ، خلقتكم لمعرفتي ، خلقتكم للإيمان بي ، خلقتكم لعبادتي ، خلقتكم لأسعدكم في الآخرة ، في جنة عرضها السماوات والأرض ، أرسلت بكم إلى الدنيا كي تتهيؤوا للجنة ، كي يكون عملكم الصالح في الدنيا سبب دخول الجنة :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا ﴾

 لم تخلقون لهذا ، لم تخلقوا لهذا ، كلا سوف تعلمون عند الموت ، عند فوات الأوان ، كلا سوف تعلمون يوم القيامة ولكن بعد فوات الأوان :

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ ﴾

 لترون ما أنتم فيه جحيماً ، لو يعلم الإنسان أن أخطاءه كلها سوف ترديه يكره سلوكه ، يكره حياته :

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)﴾

على كل إنسان أن يستهلك وقت فراغه فيما خُلق من أجله :

 عندنا علم استنباطي تماماً كما لو رأيت دخاناً وراء جدار ، تستنبط بعقلك أنه لا دخان بلا نار ، هذا علم يقيني ، ولكن إذا انتقلت إلى ما وراء الجدار فرأيت النار بعينك :

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

 قال بعض المفسرين : قطرة الماء البارد تسأل عنها ، نعمة الأمن تسأل عنه ، نعمة الزوجة والأولاد لمَ لم تحمل أهلك على طاعة الله ؟ لمَ لم تربِ أولادك؟ نعمة المال أين أنفقته ؟ هل أنفقته على الفقراء والمساكين أم استعليت به على خلق الله عز وجل ؟

﴿ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

 تصور تحاسب عن نعمة الأمن ، تحاسب عن نعمة الصحة ، تحاسب عن أية نعمة على الإطلاق ، نعمة الفراغ لا تعدلها نعمة ، بإمكانك بالفراغ أن تطلب العلم ، بإمكانك بالفراغ أن تعرف الله ، أن تحضر مجالس العلم ، أن تقرأ القرآن الكريم ، أن تقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام بالفراغ تفعل كل شيء ، بل إن الإنسان الذي ليس عنده وقت فراغ لا يعد من بني البشر ، الإنسان بوقت الفراغ يؤكد ذاته ، فإذا كان عندك وقت فراغ هذا ينبغي أن تستهلكه فيما خلقت من أجله ، خلقت من أجل معرفة الله .

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)﴾

 لهوكم ، شرودكم عن الله، همكم الأول جمع الدرهم والدينار :

(( من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، و لم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له ))

[الترمذي عن أنس]

سورة التكاثر تنقلنا من حال إلى حال ومن معصية إلى طاعة ومن غفلة إلى يقظة :

 أيها الأخوة ، مرة ثانية :

(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

[ ورد في الأثر ]

 ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته ، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه .
 أيها الأخوة الكرام ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه السورة القصيرة سورة يمكن أن تنقلنا من حال إلى حال ، من مقام إلى مقام ، من شرود إلى وجود ، من معصية إلى طاعة ، من غفلة إلى يقظة ، هذه السورة من أدق السور :

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

 والحمد لله رب العالمين .
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور