وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 34 - سورة البقرة - تفسير الآية 87، الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الرابع والثلاثين من سورة البقرة.

كثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل لا تعني أنهم مفضَّلون بل مشاكسون:

 مع الآية السابعة والثمانين وهي قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء حينما يسأل سائل: لماذا أرسل الله أنبياءً كُثُرَاً لبني إسرائيل ؟ هذه الظاهرة عليهم لا لهم، من باب التمثيل والتقريب، الطالب الكسول قد يأتيه أبوه بعشرات الأساتذة، والذي معه مرضٌ عُضال قد يأتي له أقرباؤه بعشرات الأطبَّاء، فكثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل لا تعني أنهم مفضَّلون ؛ بل تعني أنهم مشاكسون، هذه حقيقة أولى، هذه ليست لهم بل هي عليهم، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (87) ﴾

 الكتاب هو التوراة، وهو كتاب بني إسرائيل الأول.

 

الفرق بين النبي والرسول:

 قال تعالى:

﴿ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ (87) ﴾

 النبوَّة شيء والرسالة شيءٌ آخر، الرسول معه كتابٌ من عند الله، معه رسالة، معه رسالةٌ جديدة تنسخ الرسالة السابقة، أما النبي يرسله الله عزَّ وجل كما يرسل الرسول ؛ ولكن النبي يُرْسَل ليشرح رسالةً سابقة، فسيدنا لوط، وسيدنا زكريَّا، وسيدنا يحيى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78) ﴾

( سورة غافر: من آية " 78 " )

 هؤلاء جاؤوا ليشرحوا لأقوامهم كتاب الله عزَّ وجل، ليشرحوا التوراة، فسيدنا موسى نبيُّهم الأول، أنزل الله عليه التوراة، والأنبياء الذين جاؤوا من بعده شرحوا لأقوامهم مضمون هذا الكتاب، فالرسول معه كتابٌ من السماء، أما النبي فقد أرسله الله للمؤمنين ليشرح لهم كتاباً سابقاً، كل رسولٍ نبي وليس كل نبيٍ رسول.
 لكن الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنيَّة هو: أن كمال الله عزَّ وجل يقتضي إرسال الرسل، حينما يخلق الله خلقه دون أن يعلمهم بسرِّ خلقهم، دون أن يعلمهم بمنهجه الذي يؤدي إلى سلامتهم وسعادتهم فهذا يتناقض مع كماله، فحينما تُعَطِّلُ مفهوم الرسالة فقد وصفت الله بما لا يليق به، وأوضح مثل ؛ أب جالس في بيته وابنه الصغير اقترب من المدفأة، هل يبقى ساكتاً ؟ هل يبقى جالساً ؟ أم ينطلق لينصحه ويبعده ؟ وقد يقوم من مكانه ليأخذه، فمن مستلزمات كمال الله عزَّ وجل ألا يترك عباده معطَّلين عن الأمر والنهي.

 

إرسال الأنبياء والرُسُل من لوازم كمال الله:


 النقطة الدقيقة أن هذا الكون المادي الذي هو تحت سمعنا وبصرنا ينطق بعظمة الله، ينطق بوجوده، وينطق بوحدانيَّته، وينطق بكماله، هذا الكون ينطق بكمال الله، ومن مستلزمات كمال الله ألا يدع عباده معطَّلين عن الأمر والنهي والمعرفة، لا بد من أن يبلِّغهم، خلقهم في الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً هو ثمن سعادتهم الأبديَّة في الآخرة، خلقهم في الدنيا ليتعرَّفوا إلى الله، ليتعرَّفوا إلى منهجه، ليتعرَّفوا إلى سرِّ وجودهم وغاية وجودهم، ما من قومٍ إلا وأرسل الله لهم نبياً لقوله تعالى:

﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) ﴾

( سورة الرعد )

 إرسال الأنبياء والرُسُل من لوازم كمال الله، كما أن من بديهيَّات الأبوَّة أن ينصح الأب ابنه، وأن يأمره، وأن ينهاه، فإذا بقي ساكتاً والأخطار محدقة بالابن هذا ليس أباً، المثل مُبَسَّط وواضح، فالله عزَّ وجل ما كان ليخلق الخلق ثمَّ يدعهم هكذا في جهالةٍ جهلاء:

﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾

( سورة البقرة: من آية " 213 " )

 فاختلفوا:

﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾

( سورة البقرة: من آية " 213 " )

 على كلٍ فالله عزَّ وجل قال:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

( سورة الليل )

 حيثما جاءت (على) مقترنةً بلفظ الجلالة تعني أن الله جلَّ جلاله ألزم ذاته إلزاماً، فالله عزَّ وجل عليه أن يهدي خلقه.

الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى ومظهرٌ لصفاته الفُضلى:

 كيف يهدي الله تعالى خلقه ؟ أول شيء هداهم بالكون :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) ﴾

( سورة آل عمران )

 وقال:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

( سورة الليل )

 هداهم بالكون، والكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى ومظهرٌ لصفاته الفُضلى، فإذا أردت أن تعرف الله فتفكَّر في خلق السماوات والأرض، كل شيءٍ خلقه الله له وظيفتان ؛ وظيفةٌ كبيرةٌ جداً أن تعرف الله من خلاله، ووظيفةٌ صغيرة أن تنتفع به في الدنيا، الوظيفة الصغيرة تنتهي عند الموت ؛ لكن الوظيفة الكبيرة ـ وظيفة الإرشاد ـ هذه تستمرُّ معك إلى أبد الآبدين، هذا الكلام ينطلق من قول النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا رأى هلالاً قال:

(( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))

[ أبو داود عن قتادةٍٍ]

 هلال خيرٍ أنتفع به في الدنيا، ورَشَدٍ يُرشدني إلى الله عزَّ وجل، هذا الذي يأكل، ويشرب، ويتزوَّج، ويتنعَّم، ويرى الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف، ويأكل من الفواكه أنواعاً كثيرة، ولا يفكِّر في هذا الخلق، عطَّل أكبر وظيفةٍ لهذا الخلق، وكان انتفاعه بما خلق الله له انتفاعاً محدوداً جُزئياً ينتهي عند الموت.

 

الإنسان دائماً تحت التوجيه وتحت التبيين والتبليغ:

 أيها الأخوة الكرام عرَّفنا الله عزَّ وجل بذاته من خلال خَلْقِهِ، ثمَّ عرَّفنا بذاته من خلال كلامه، أرسل الكُتُب، كل رسولٍ جاء بكتاب، وكل نبيِّ شرح هذا الكتاب، إذاً كلامه يدلُّنا عليه، وخلقه يدلُّنا عليه، ثمَّ عرَّفنا بفعله، قال:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ﴾

( سورة الأنعام)

 ثمَّ عرَّفنا من خلال الفطرة، فطرك فطرةً خاصَّة بحيث لو انحرفت عن منهج الله تضيقُ نفسك، الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، والبر ما اطمأنَّت إليه النفس، إذاً عرَّفك بذاته من خلال خلقه، وعرَّفك بذاته من خلال أفعاله، وعرَّفك بذاته من خلال كلامه، وعرَّفك بذاته من خلال الفطرة التي فُطِرْت عليها، وعرَّفك بذاته من خلال الملائكة الذين يُلْهمونك الصواب دائماً، وعرَّفك بذاته من خلال الأنبياء والرسل والدُعاة الصادقين، فالإنسان دائماً تحت التوجيه وتحت التبيين والتبليغ:

﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) ﴾

( سورة الرعد )

 هناك رسل، ونبيُّنا سيِّد الرسل، وهناك رسل من أولي العَزم، وهناك رسل آخرون، وهناك أنبياء، وهناك صِدِّيقون، وهناك علماء عاملون، وهناك دعاةٌ طيِّبون، هؤلاء كلُّهم مسخَّرون لتعريف الناس بالحق، أما أن تُخْلَق وأن تُتْرَك من دون تعليم، من دون توجيه، من دون تبليغ، من دون بيان، فهذا يتناقض مع وجود الله ؛ بل إن الله عزَّ وجل يقول :

﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا(15) ﴾

( سورة الإسراء )

ما دام الله قد أسمعك الحق فهذه بِشارةٌ لك أن الله عَلِمَ فيك الخير:


 قال بعض العلماء وليس كلُّ العلماء: الرسول هو العقل ـ من بعض التفسيرات ـ على كلٍ هناك آيةٌ حاسمة:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾

( سورة الأنفال: من آية " 23 " )

 إذا وجِد إنسان بأقصى الدنيا وفيه ذرَّةٌ من خير لا بد من أن يسمعه الله الحق بطريقةٍ أو بأخرى، فأنت حينما ساقك الله إلى مكانٍ تستمع فيه إلى الحق هذه نعمةٌ كبيرة

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾

 فما دام الله قد أسمعك الحق فهذه بِشارةٌ لك أن الله عَلِمَ فيك الخير، لأن هناك ضلالاتٌ في الأرض لا تُحْتَمَل.
 هناك من يعبد النار، هناك من يعبد الأصنام، هناك من يعبد الحيوانات القميئة، هناك من يعبد موج البحر، إلى ما هُنالك، هناك من يعبد الشمس، هناك من يعبد البقر، هناك من يعبد الحَجَرَ، وإذا شرَّفنا الله بعبادته فهذه نعمةٌ كُبرى لا توصف:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ (87) ﴾

 هناك شيء ثان مهمٌ جداً في هذا الموضوع وهو أن المتكلِّم يحاسب على كلامه، والمستمع يحاسب على سماعه، ماذا فعلت فيما سمعت ؟ المتكلِّم يحاسب: هل طبَّقت الذي تكلَّمت به ؟ أما المستمع يحاسب من نوع آخر: ماذا فعلت بالذي استمعت إليه ؟ وكأن الله عزَّ وجل لا يعدُّ السماع سماعاً إلا إذا تبعه تطبيق.

الإدراك الصحيح يقتضي انفعالاً صحيحاً والانفعال الصحيح يقتضي سلوكاً معيَّناً:

 قال تعالى:

﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(22) ﴾

( سورة الأنفال )

 يقول: سمعت وهو لا يسمع، لأن السماع الحقيقي يقتضي الاستجابة، ودائماً وأبداً هناك قانون يربط علاقتك بالمُحيط، أنت حينما يصحُّ إدراكك تنفعل، وحينما تنفعل تتحرَّك، إدراك، انفعال، حركة، أبداً.
 أنت في بستان رأيت أفعى كبيرة، وبحسب مفاهيمك العلميَّة والحياتيَّة الأفعى قد تقتل ـ لدغتها قاتلة ـ فأنت حينما أدركت أنها أفعى حقيقيَّة لا بد من أن تضطرب، واضطرابك لا بد من أن يدفعك إلى عملٍ ما ؛ إما أن تقتلها، وإما أن تولي هارباً منها، فعلامة صحَّة الإدراك عمق الانفعال، وعلامة عمق الانفعال الحركة السريعة، فهذا الذي يرى أفعى كبيرة مخيفة ولا يضطرب، إما أنها ليست بأفعى، أو أن إدراكه غير صحيح.
 الذي لا يتأثَّر بالحقائق المخيفة هذا إنسان عنده خلل في إدراكه، فأنت حاسب نفسك، الإدراك الصحيح يقتضي انفعالاً صحيحاً، والانفعال الصحيح يقتضي سلوكاً معيَّناً، طبعاً نحن حياتنا بضعة أيام، الإنسان بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بعضٌ منه، وأيامنا معدودة، والأسابيع معدودة، والأشهر، والسنوات، فإذا جاء يوم القيامة مُفْلِسَاً يقال له: ماذا كنت تعمل ؟

﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84) ﴾

( سورة النمل )

 طبعاً الجواب:

﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)﴾

( سورة المدثر )

لا يوجد عمل يسمو في الحياة عن أن تعرف منهج الله:

 أيها الأخوة، هذا كلامٌ مصيري، هذا كلامٌ له أبعاده، هذا كلامٌ متعلِّقٌ بالحياة الأبديَّة، هذا كلامٌ متعلِّقٌ بما بعد الموت، والموت حق، ولا يستطيع أحدٌ أن ينكر حدث الموت، وأنت في لحظةٍ واحدة تصبح خبراً بعد أن كنت شيئاً:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1) ﴾

( سورة الإنسان )

 ثمَّ يأتي العدم فيجعله منسياً، هذه الأيام المعدودة، والأسابيع المعدودة، والشهور المعدودة، والسنوات المعدودة، أساس سعادتك الأبديَّة أو الشقاء الأبدي لا سمح الله ولا قدَّر، فهل من الممكن لإنسان أن تأتيه رسالة ولا يفتحها ؟ هل من الممكن لإنسان أن يمزِّق الرسالة قبل أن يفتحها ؟ قد تسأل إنساناً: هل اطلعت على القرآن ؟ يقول لك: والله لا يوجد عندي وقت، القرآن وحي السماء إلى الأرض هل اطلعت عليه ؟ هل فهمت معانيه ؟ هل وقفت على مضمونه ؟ وعرفت أحكامه ؟ هل عرفت حلاله وحرامه ؟ هل عرفت وعده ووعيده ؟ هل عرفت سرَّ خلق الإنسان في الأرض ؟ هل عرفت غاية وجود الإنسان في الأرض ؟

﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84) ﴾

( سورة النمل )

 كنَّا نخوض ونلعب، ليس هناك من عمل يعلو في الحياة على أن تعرف الله، لا يوجد عمل يسمو في الحياة عن أن تعرف منهج الله، عن أن تعرف المنهج الدقيق افعل ولا تفعل، لأن كل واحد منا يحرص على سلامته وعلى سعادته حرصاً لا حدود له.

الله عزَّ وجل يمتحن المؤمنين امتحاناتٍ عديدة:


 قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (87) ﴾

 أنت عندما يأتيك كتاب هذا الكتاب لكل المسلمين، فيه أمر، فما هو موقفك من الأمر ؟ فيه نهي، فيه وعد، فيه وعيد، فيه تشريع، فيه حلال، فيه حرام، فيه مواعظ، فيه قصص الأقوام السابقة، فيه المستقبل البعيد، ما موقفك من هذا القرآن ؟ الموقف العامِّي يقول لك: تباركنا ويقبِّله، وهذا غير كافٍ بل إن هذا القرآن منهج، هل أحللت حلاله ؟ هل حرَّمت حرامه ؟ هل صدَّقت وعده ووعيده ؟ والله الذي لا إله إلا هو إن صدَّقت إنساناً قوياً من بني جلدتك يفعل ما يقول فإنك لا يمكن أن تخالفه أبداً، فهل تصدِّق أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء ؟

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾

( سورة هود: من آية " 123 " )

 الله عزَّ وجل يمتحن المؤمنين، يمتحنهم امتحاناتٍ عديدة، قد يمتحنهم بأنه يقوي الكفَّار عليهم، هل ينسون ربَّهم ؟ هل يؤلِّهون غيره ؟

هناك أسلوب في البلاغة يذكر الكل ويقصد البعض ورد في الآيات التالية:


 ذكرت مرة قوله تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ﴾

 وصفٌ دقيق:

﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾

( سورة يونس: من آية " 24 " )

 توهَّم بعض أهلها، قد تقول لي: الله قال في الآية: أهلها، وأنت تقول بعض أهلها، والجواب: هذا أسلوب في البلاغة يذكر الكل ويقصد البعض، أوضح دليلٍ عليه:

﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ﴾

( سورة البقرة: من آية " 19 " )

 هل يمكن ذلك ؟ بل يضع واحدة فقط، فذكر الكل وأراد البعض:

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾

 كل بقعةٍ في الأرض تحت استطلاع أقمارهم، وكل بقعةٍ في الأرض في القارَّات الخمس تحت مرمى طائراتهم:

﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾

آيات من الذكر الحكيم تطمئننا أن الأمر كله بيد الله وحده:

 نحن في هذه الأيَّام في أشدِّ الحاجة إلى القرآن ليطمئننا أن الأمر بيد الله وحده:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

( سورة هود: من آية " 123 " )

 ليطمئننا أن:

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل﴾

( سورة الزمر )

 ليطمئننا أن:

﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾

( سورة الأعراف: من آية " 54 " )

 ليطمئننا أنه:

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

( سورة الكهف )

 ليطمئننا أنه:

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

( سورة الزخرف: من آية " 84 " )

 ليطمئننا أن:

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

( سورة الفتح: من آية " 10 ")

 ليطمئننا أن يدَ الله تعمل وحدها، وكل ما تقع العين عليه من قِوى الشر إنما هي عصيٌ بيد الله عزَّ وجل، يؤكِّد هذا المعنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾

( سورة هود)

آيات أخرى من الذكر الحكيم نحن في أمس الحاجة إليها لتطمئننا:

 نحن في أمسِّ الحاجة إلى هذه الآيات:

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾

( سورة إبراهيم )

 وقال:

﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ ﴾

( سورة آل عمران )

 وقال:

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾

 

( سورة الأنعام: من آية " 44 " )

 هذه حقائق مريحة، قد ترى قِوى الشر متمكِّنة، قِوى الشر تفعل ما تريد، قِوى الشر تُنْزِل أشدَّ العقاب في إنسانٍ يبدو لك بريئاً، لئلا يختلَّ التوازن ينبغي أن تعرف الحقيقة: وهي أن الأمر بيد الله.

 

الحق عند الشاردين عن الله هو القوة:

 قال تعالى:

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا (59) ﴾

( سورة الأنعام)

 إذا وقع صاروخ !! أيهما أقرب إلى الفهم ورقة من أوراق الخريف أم صاروخ ؟ كم ورقة تسقط في الخريف ؟ الأشجار كلُّها تتساقط أوراقها في الخريف وهو سبحانه يعلمها جميعها، فالصاروخ أولى وأقرب للفهم:

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا (59) ﴾

( سورة الأنعام)

 إذا وقعت شَظِيَّةٌ أو وقعت قنبلةٌ يعلمها، والأمر بيده، لكن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (4) ﴾

( سورة محمد: من آية " 4 " )

 قلت اليوم: الحق عند الشاردين عن الله هو القوة فقط فأنت على حقٍ لأنك قويّ، هذا الحق عند الشاردين عن الله، والحقُّ عند المؤمنين هو ما جاء به القرآن الكريم وما جاءت به السُنَّة الصحيحة، هذا هو الحق، ماذا فعل سيدنا صلاح الدين رحمه الله تعالى بأهل القدس حينما فتحها ؟ هل ذبحهم ؟ إنه لا يستطيع لأن لديه منهجاً، بل بالعكس شكت امرأةٌ له فقد ولدها فوقف ولم يجلس حتى أُعيد لها ولدُها، أما حينما فتح الفرنجة القدس ذبحوا سبعين ألفاً في ليلةٍ واحدة، المؤمن مقيَّد بالحق، والحق ما جاء به الكتاب.

 

الحق في الإسلام هو ما جاء به القرآن والسُنَّة:

 أخواننا الكرام، بعدما فتحت بلاد سَمرقَنْد وصل إلى أهلها أن فتحها لم يكن شرعيَّاً، لأن فتح البلاد وفق المنهج الإلهي يجب أن تعرض عليهم الإسلام، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فإن لم يسلموا تَعْرِضُ عليهم الجزيَّة ؛ إن دفعوها فهم في أمان، فإن أبوا دفع الجزية يقاتَلون، فيبدو أن الجيش الإسلامي الذي فتح سمرقند بدأ بالقتال، لم يعرض الإسلام على أهلها ولم يعرض عليهم الجزية، فبعض أهل سمرقند عرفوا هذه الحقيقة، فأرسلوا خلسةً وفداً إلى عمر بن عبد العزيز يشكون إليه أن فتح بلادهم لم يكن وفق الشرع، الشيء الذي لا يصدَّق أن هذا الخليفة الراشد أرسل قصاصة صغيرة، ورد فيها هكذا: إلى قائد جيش المسلمين في سمرقند، اخرج من سمرقند، انتهى الأمر، بلد فُتِحَت بالحديد والنار، هكذا، هذا الوفد ما صدَّق، فهل يعقل أن تنسحب دولة محتلَّة لأرض بمجرد كتاب يصل للقائد، وتخرج منها ؟ فأخذوا هذا الكتاب وهم بين مصدِّقٍ ومكذِّب، ثمَّ تجرَّؤوا وأعطوا هذا الكتاب لأمير المسلمين في سمرقند، فقبَّل الكتاب، وأمر بإخراج الجند من سمرقند، فلمَّا رأوا هذا، قالوا: نحن قبلنا بكم وأسلمنا.
 الحق في الإسلام هو ما جاء به القرآن والسُنَّة، قوي أو ضعيف هذا موضوع آخر، أما الحق عند الشاردين: إذا كنت قوياً فأنت على حق، فهل من الممكن أن تطرد إنساناً ليس له ذنب، وتأخذ هويَّته، وتجعله بلا هويَّة، تأخذ مركبته، وتجعله في العراء وهو يبلغ من العمر ثمانين أو تسعين سنة، وأطفال صغار ما ذنبهم ؟

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ﴾

( سورة التكوير)

الحق يحتاج إلى قوة كي تدعمه وأن نكون أقوياء هذا أمرٌ تكليفيّ وليس أمراً تكوينياً:

 الحق ما جاء به الكتاب والسُنَّة، أما الحق يحتاج إلى قوة كي تدعمه، وأن نكون أقوياء هذا أمرٌ تكليفيّ وليس أمراً تكوينياً، من قال: كل هذا ترتيبه، هذا كلام ساذج:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال: من آية " 60 " )

 الآن العلم قوَّة، الآن المعركة معركة علم فقط، فأمام قائد الطائرة شاشة يظهر عليها إشارة ضرب، تظهر المنشأة الضخمة، أو المعمل الضخم على الشاشة، ومهمة قائد الطائرة أن يضع هذه الإشارة فوق المنشأة فقط، ثم يضغط زراً فتدمر، أين الشجاعة ؟ أين الإقدام ؟ أُلغي كله، الأسلحة الحديثة ألغت كل قيم الفروسيَّة والبطولة، قد يكون إنسان من أجبن الناس، وينتصر بأزرار، فلذلك الأرض:

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾

 

( سورة يونس: من آية " 23 " )

 أيها الأخوة الكرام، لا بد من أن يُظهر الله آياته في العالمين، الله هو القوي، هو المتصرِّف، هو الفعَّال، لا يقع شيءٌ في كونه إلا بإذنه وأمره دقِّقوا:

 

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا (59) ﴾

( سورة الأنعام)

قصة أم سيدنا موسى وقصة سيدنا يوسف دلائل من القرآن على أنه ما من إلهٍ إلا الله:

 قال تعالى يتحدث عن أم سيدنا موسى:

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾

( سورة القصص: من آية " 7 " )

 هذا أول أمر:

﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾

( سورة القصص: من آية " 7 " )

 هل قال: إذا خفت عليه ضميه إلى صدركِ، ضعيه في سريركِ، لا، لم يقل هذا، بل قال:

﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ(7) ﴾

 أمران، ونهيان، وبشارتان، لأن الصندوق بيد الله عزَّ وجل.
 إخوة سيدنا يوسف عندما وضعوه في الجُب:

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(15) ﴾

( سورة يوسف )

 وقال:

﴿ قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90) ﴾

( سورة يوسف )

الشرق والغرب وقعا في الخطأ لأنهم توهموا أن الأسباب تخلق النتائج:

 كل هذه القصَّة من أجل آيةٍ واحدة:

﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة يوسف )

 هذا هو الإيمان، التوحيد، ليس إلا الله، ما من إلهٍ إلا الله، مهما رأيت قِوى الشر تتغطرس، مهما رأيت قِوى الشر تتعالى، مهما رأيت قِوى الشر تبطش:

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

( سورة الفتح: من آية " 10 ")

 هذا الإيمان، ومن دون هذا الإيمان يُسْحَق الإنسان، من دون هذا الإيمان يختل توازنه:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (87) ﴾

 ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل لكل شيءٍ سبباً، فكل شيء له سبب، لكن أيها الأخوة الحقيقة الدقيقة هي: أن هذا السبب لا يخلق النتيجة، النتيجة من خلق الله تعالى ولكنها اقترنت بهذا السبب، وكل إنسان يتوهَّم أن الأسباب تخلق النتائج فقد أشرك، لذلك الشرق والغرب وقعا في الخطأ، الشرق عصى، والغرب أشرك، كيف ؟ الغرب أخذ بالأسباب واعتمد عليها وألَّهها وعبدها من دون الله فأشرك، والشرق لم يأخذ بها فعصى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

[ أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك]

أمثلة من الواقع عن أناس أخذوا بالأسباب واعتمدوا عليها فأشركوا وخسروا :

 يجب علي أن أتحرَّك وآخذ بالأسباب وبعدها أتوكَّل على الله عزَّ وجل، فالطريق المثالي طريق ضيِّق، هناك وادٍ على اليمين وهناك وادٍ على اليسار ؛ وادٍ آخر، عن اليمين وادي الشرك، وعن اليسار وادي المعصية، أنت إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، هناك قصص كثيرة جداً:
 الباخرة تيتانيك، وهي أضخم باخرة صُنِعَت في القرن التاسع عشر، بُنِيت هذه الباخرة في عام 1912، وقالوا في نشرتها أو كتيبها: هذه الباخرة لا يستطيع القَدَرِ أن يغرقها، لأنها صُنِعَت من جدارين، وبين الجدارين أبوابٌ كثيرة، فأي مكان خُرِقَت فيه أُغْلِقَت الأبواب الجانبيَّة، فمنعت تسرُّب الماء إليها، لذلك لم يعتنِ صانعوها بقوارب النجاة فيها، وفي أول رحلة لها من أوروبا إلى أمريكا، وعليها أثرياء العالَم، وحِلِيِّ النساء ببضعة عشرات الملايين ارتطمت بجبلٍ ثلجي فشطرها شطرين، ولم يستطع أحدٌ أن يُنجدها لأنهم ظنوا أن إشارات الاستغاثة هي أصوات الاحتفالات، فما أنجدها أحد، ومات معظم ركَّابها، قال بعض القساوسة: إنَّ غرق هذه الباخرة درسٌ من السماء إلى الأرض.
 أُرْسِلت مركبة فضائيَّة سميت المتحدي ـ challengerـ وطبعاً كل شيء على الكمبيوتر، وجرى عدٌّ تنازلي، وضبط إلى أقصى الحدود، فيها سبعة رواد فضائيين مع امرأة، وبعد إطلاقها بسبعين ثانية كانت كتلةً من اللَّهب، وانتهى الأمر.
 أرسل اليهود قبل عامين طائرتين لاعتقال بعض المسلمين ليلة القدر في لبنان، كان على الطائرتين ـ فيما علمت من الأخبار الموثوقة ـ مئةٌ وخمسةٌ وعشرون ضابطاً من نُخبة ضبَّاطهم ؛ كلهم من الكوماندوس، حيث كلف تدريب كل ضابط مئات الألوف بل الملايين، يتقنون اللغات، والمصارعة اليابانية، والقتال بالسلاح الأبيض وما إلى ذلك، الطائرة العلويَّة وقعت فوق السفليَّة، والطائرتان وقعتا فوق مستعمرة، وما مُنِيَ اليهود منذ أن أنشؤوا دولتهم حتَّى الآن بخسارةٍ أبلغ من هذه الخسارة، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً من نخبة ضبَّاطهم، استمعوا إلى الصندوق الأسود فإذا فيه آخر ما قاله الطيار في الطائرة العلويَّة قال: " أنا أسقط ولا أدري لِمَ أسقط "، أما أهل الإيمان فبعضهم قال: ألم يقل الله عزَّ وجل:

﴿ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5) ﴾

( سورة القدر )

 أنت في بيت الله أنت في سلام، فلمَّا أرادوا أن يأخذوا الناس من المساجد، وأن يستغلوا ليلة القدر، بطش الله عزَّ وجل بهم، قصص كثيرة، طبعاً هذه بعض القصص، وأحياناً يُمكّن الله عزَّ وجل الكافر من خططه، يمكِّنه لحكمةٍ يُريدها، وقد لا يمكنه.

 

كل شيءٍ وقع أراده الله وكل شيءٍ أراده الله لابدّ واقع:

 الشيء الدقيق جداً في هذا الدرس: أن كل شيءٍ وقع أراده الله، ما دام وقع فإن الله أراد وقوعه، لو دخل لص إلى بيتك، لا تقل: هكذا يريد الله، لا، يجب أن تقاومه، ليس معنى إذا سمح الله له بالدخول أن تبقى ساكتاً، وأن ترحِّب به، وأن تعطيه ما يريد، لا يجب أن تقاومه، أن تقبض عليه، أن تبلغ عنه الجهات المسؤولة، لكن اطمئن أن كل شيءٍ وقع فقد أراده الله وكل شيءٍ أراده الله لا بد واقع، وإرادة الله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، والحكمة المُطلقة متعلِّقة بالخير المُطلق، إن أخذت بالأسباب لا تعتمد عليها بل اعتمد على الله، لو كان عندك مركبة وأردت أن تسافر فهل ستقول: أنا فحصت كل أجزاء المركبة، والجاهزيَّة عالية، ولن يحدث معي شيء ؟ هذا شِرك، لو كنت تركب أحدث مركبة قد يُصيبها الخلل، أما إذا قلت: أنا أخذت بالأسباب وتوكَّلت على الله، هذا هو الموقف المِثالي.
 دقِّقوا أيها الأخوة، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنَّها كل شيء، ويجب أن تعتمد على الله وحده وكأنها ليست بشيء، هكذا فعل النبيُّ في الهجرة، سيدنا عيسى جاء من دون أب فقد ألغى الله السبب، وكذلك العقيم فقد عطَّل الله السبب، زوجةٌ شابَّة وزوجٌ شاب لا يُنجبان، وامرأةٌ تنجب بلا زوج، فالسبب ملغي في حالة سيدنا عيسى، أما في حالة المرأة العقيم السبب معطَّل، هناك سبب ولكن ليس هناك إنجاب، وقد لا يكون هناك سبب لكن هناك إنجاباً، وهذا من أجل أن لا نؤلِّه الأسباب، فالله عزَّ وجل يخرق العادات، لماذا يخرقها ؟ ليلفتنا إليه، فالأمر بيده، إرادة الله طليقة لا يحدُّها شيء.

ما أخَّر المسلمين إلا موقف التواكل :

 أيها الأخوة الكرام، أريد أن أنهي الدرس بهذه الحقيقة المهمَّة جداً قضية الأسباب والنتائج، مرَّةً ثانية: الغرب ألَّه الأسباب واعتمد عليها، والشرقيون لم يأخذوا بالأسباب فعصوا الله، هؤلاء اعتمدوا عليها فأشركوا ونحن لم نأخذ بها فعصينا، الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثمَّ تتوكَّل على الله وكأنّها ليست بشيء هذا الموقف الصحيح، لذلك ما الذي جعل المسلمين متخلِّفين ؟ لأنهم ما أخذوا بالأسباب، أوضح مثل: تفَّاحة غير مغسولة يقول لك: كل وسمِّ الله، لا يضر مع اسمه شيء، سمِّ الله ولا تخف، هذا كلام غير شرعي، خذ بالأسباب، اغسلها وتوكَّل على الله، قد تغسلها بالصابون ويكون فيها دواء جهازي مسرطن ضمن التفَّاحة، أنت اغسلها وتوكَّل على الله:

(( قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ))

[الترمذي عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ]

 اجمع بينهما، ففي دراستك، في عملك، في تجارتك، في سفرك اضبط المركبة وقل: توكَّلت على الله، أما أنك لم تراجعها ولم تفحصها منذ اثنتي عشرة سنة وتسير بسرعة مئة وعشرين، فيمكن أن يفلت الميزان، ويقضى على كل من فيها !! يقول لك: ترتيب الله وقضاؤه وقدره، لا، هذا جزاء التقصير، سمح الله بهذا ؛ ولكن هذا جزاء التقصير.
 الابن مريض ويقـول لك: سلَّمته لله، هذا موقف غير إسلامي أبداً، هذا موقف فيه جهل، خذه إلى أحسن طبيب وأعطه العلاج، وبعدها قل: يا ربي سلَّمته لك، وادفع صدقة، ما أخَّر المسلمين إلا هذا الموقف موقف التواكل:
" من أنتم ؟ "، قـالوا: " نحن المتوكِّلون " كان سيدنا عمر صريحاً فقال لهم: "كذبتم، المتوكِّل من ألقى حبَّةً في الأرض ثمَّ توكَّل على الله ".
 لم يدرس طيلة العام أما نجحت ؟ لا والله ما في نصيب أنجح هذه السنة، هذا الكلام لا معنى له، لا، أنت مقصِّر، بالتجارة، بالدراسة، بكل حركاتك، بصحَّتك، بعلاقاتك، خذ كل الأسباب وكأنَّها كل شيء، وتوكَّل على الله وكأنَّها ليست بشيء، هذا الموقف الكامل.

 

يحتاج النصر بالمعركة إلى إيمان وإلى إعداد:

 العرب في ماضيهم المتألِّق أخذوا بالأسباب، أنشؤوا أسطولاً بحرياً فحاربوا، وفتحوا جزراً ضخمة، معنى هذا أنه كان عندهم علم، الآن خصومنا وأعداؤنا اعتمدوا العلم وألَّهوه، نحن رفضناه، اعتمدنا على إيماننا، ولكن ما نجح إيماننا من دون إعداد، يحتاج النصر بالمعركة إلى إيمان وإلى إعداد، قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال: من آية " 60 " )

 وسّع كلمة معركة كثيراً، صار الاقتصاد الآن معركة، العالَم يسير بطريق البقاء للأقوى ؛ الأٌقوى علماً، والأقوى تطبيقاً، فأنت الآن كمسلم يجب أن تكون متألِّقاً، والتألُّق يحتاج إلى علم، الإمام الشافعي يقول: " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم "، " العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً " .
 إنني أتمنَّى أن يكون المسلم متألِّقاً، الأول في الدراسة، والأول في التجارة، لأن لك في الحياة رسالة، أنت سفير المسلمين، تمثِّل المسلمين بدءاً من مظهرك، بدءاً من اختصاصك، من دراستك، من عملك، أنت قدوة ومثل:

(( أنت على ثغرةٍ من ثُغَر الإسلام فلا يؤتينَّ من قِبَلِك ))

[ ورد في الأثر ]

الإسلام منهج أخلاقي:

 والله أنا أفتخر كثيراً بمسلم صناعي، مسلم متفوِّق، ولكن أحترم الكل والله، لأن النبي قال:

(( وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ))

[مسلم عن أبي هريرة ]

 أحترم أي مؤمن:

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ))

[الترمذي عن أنس بن مالك ]

 والله لقلامة ظفر مؤمن فقير ضعيف أفضل عند الله من ملء الأرض من الكفَّار، قلامة ظفره، قد يكون ضعيفاً، قد يكون مستخدماً، حاجباً، ولكنني أتمنى أن يكون المؤمن متألِّقاً، ادرس، خذ شهادة، كن الأول بتجارتك، بعملك، بعلاقاتك، لأنك تمثِّل الدين، لو أرسلت الدولة سفيراً فمن تبعث ؟ هل تبعث إنساناً جاهلاً باللغة ؟ لا يحمل شهادة، أمياً ؟ هل من الممكن هذا ؟ مستحيل، بعض الدول ترسل سفيراً يحمل ثلاث شهادات ليسانس، هناك مدرسة خاصَّة للسفراء ليدرسوا العلوم، والآداب، والحقوق، وينتقون من أذكى الناس، لأنه يمثِّل أمَّة، فأنت تمثِّل الإسلام، كل مسلم يمثِّل الإسلام، أنت سفير المسلمين، فإذا كانت مواعيدك غير دقيقة، هندامك غير حسن، علاقاتك غير منضبطة، حساباتك غير صحيحة، أهذا هو المسلم ؟ ألا يستحي أحدنا أن يكون الإنسان البعيد عن الدين منضبطاً وذو الديِّن غير منضبط ؟ حاسبته: أين دفاتر وسجلات الحساب ؟ لا يوجد سجلات فالحساب تمام، لا ليس كذلك، بيِّن، ما دمت أنت نظيفاً فبيِّن الوثائق والفواتير والأسعار، تجد غير ذي الدين منضبطاً وهذا شيء مؤلم جداً والمؤمن فيه تسيُّب، أنا أريد مؤمناً منضبطاً، مؤمناً واضحاً.
 أدق شيء أقوله في هذا الدرس: الإسلام منهج أخلاقي، هكذا قال سيدنا جعفر للنجاشي: " كنَّا قوماً أهل جاهليَّة ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجِوار، ونقطع الرحم، حتَّى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته ـ انظر إلى نعرف أمانته ـ وصدقه وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء ". هذا هو الإسلام.

 

أجمل ساعة هي سَاعة الصُلح مع الله:

 الإسلام أن تكون صادقاً، الإسلام أن تكون أميناً، الإسلام أن تكون عفيفاً، الإسلام أن تربي أولادك، الإسلام ألا تستخدم معيارين بل معيار واحد، هذا هو الإسلام، أما الصلاة فهي عبادة شعائريَّة، وقد تكون فارغة، فالصلاة فرض ولكنك إذا أديتها ولم تنهك هذه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم تقطف ثمارها، إذا صُمت رمضان ولم يقرِّبك إلى الله عزَّ وجل فأنت خائب خاسر:

 

((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 إذا أنفقت مالك ولم تبغِ به وجه الله فلا خير منه، والله قال:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) ﴾

( سورة التوبة)

 إذا أديت العبادات التعامليَّة كما أرادها الله في الأصل انعكست في العبادات الشعائريَّة، فالصلاة صلة، وقد أعجبتني عبارة إنسان حين قال لي: صار لديّ خط ساخن مع الله، الإنسان أحياناً يفتح الهاتف فلا يجد خطاً بل الخط مقطوع، أما إذا سمعت صوت طنين معنى هذا الخط ساخن، فقال لي: صار لي خط ساخن مع الله، صرت أناجيه لأنني تبت له، واستقمت على أمره، أجمل ساعة هي سَاعة الصُلح مع الله، والإنابة إليه، والتوبة إليه، والإقبال عليه، وأنت حينما تتعرَّف إلى الله تجده، قال عليه الصلاة والسلام:

(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحبّ إليك من كل شيء ))

[مختصر تفسير ابن كثير]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور