وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0766 - الصلاة عماد الدين - النجم إذا هوى و النجم الثاقب .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا مما يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الصلاة معراج المؤمن إلى رب الأرض و السماء :

 أيها الأخوة الكرام، متابعةً لموضوع الخطبة السابقة، ماذا يعلمنا الإسراء والمعراج ؟ إن من أجلِّ دروس الإسراء والمعراج أن الله تعالى كرم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعروج إليه لينال به أعلى درجات القربات، وكرّم أمته بأن فرض عليها الصلوات، لتكون معراجهم إلى رب الأرض والسموات، لقد فرضت الصلاة التي هي من أجلّ القربات، في أعلى مستويات القرب، لقد فرضت الصلاة وحياً مباشراً، والنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، بعد أن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى.
 أيها الأخوة الكرام، كتعليق بين سياق الموضوع كيف أن التجارة وفيها آلاف الأنشطة لا معنى لها إطلاقاً دونَ تحقيق ربح في آخر العام، كذلك كل أنشطة الدين لا معنى لها من دون اتصال بالله، الاتصال بالله هو جوهر الدين، لذلك الصلاة هي الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال، يسقط الحج عن المريض والفقير، وتسقط الزكاة عن الفقير، ويسقط الصيام عن المريض والمسافر، والشهادة تؤدى مرة واحدة، أما الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال فهو الصلاة، والصلاة معراج المؤمن.

الصلاة عماد الدين :

 أيها الأخوة الكرام، إن من أجلّ دروس الإسراء والمعراج أن الصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومن تركها فقد هدم الدين.
 أيها الأخوة الكرام، لو أردنا أن نضغط الدين كله في كلمتين اتصال بالخالق، وإحسان إلى المخلوق.

﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾

[ سورة مريم: 31]

 حركة نحو السماء، وحركة نحو الأرض، اتصال بالخالق، وإحسان إلى المخلوق، هذا هو جوهر الدين.
 أيها الأخوة الكرام، الناس رجلان: شقي وسعيد، الشقي الذي غفل عن الله، وتفلت من منهجه، وأعرض عنه، فأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة، والسعيد من عرف الله، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة.
 يا أيها الأخوة الكرام، الصلاة يرقى بها المؤمن من حال إلى حال، ومن منزلة إلى منزلة، ومن مقام إلى مقام، ومن رؤية إلى رؤية، إنها ترقى بالمصلي من عالم المادة إلى عالم القيم، من عالم الأوهام إلى عالم الحقائق، من سفاسف الأمور إلى معاليها، من مرتبة مدافعة التدني إلى مرتبة متابعة الترقي، من التمرغ في وحول الشهوات إلى التقلب في جنات القربات.
 أيها الأخوة الكرام، هذه الصلاة التي نصليها كل يوم خمس مرات إنها جوهر الدين إنها قبل كل شيء ذكر لله عز وجل، بدليل الآية الكريمة:

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[ سورة طه: 14]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران: 102 ]

 قال السادة المفسرون في شرح حق تقاته: أن تذكره فلا تنساه، وأن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره:

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[ سورة طه: 14]

تعريفات الصلاة القرآنية :

 من تعريفات الصلاة القرآنية: إن الصلاة قرب من الله عز وجل.

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

[ سورة العلق: 19]

 أما هؤلاء الشاردون:

﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾

[ سورة فصلت: 44]

 أما المؤمنون فينادون من مكان قريب، المؤمن قريب باتصاله بالله، والكافر بعيد بشروده عن الله.
 يا أيها الأخوة الكرام، ومن تعريفات الصلاة القرآنية إن الصلاة خشوع قال تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[ سورة المؤمنين: 1 ـ 2]

 قال المفسرون: ليس الخشوع من فضائل الصلاة، بل من فرائضها، ثم إنه قد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن الصلاة مناجاة فقال عليه الصلاة والسلام:

((إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه))

[المستدرك على الصحيحين عن أبي هريرة ]

 ثم إن الصلاة في التعريف القرآني وعي، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

[ سورة النساء: 43 ]

 فمن شرد في صلاته فكأنما في حكم السكران، لا يعلم ما يقول:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

[ سورة النساء: 43 ]

 ثم إن من تعريفات الصلاة أنها عقل ، ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها .
 أيها الأخوة الكرام، هذا الكلام وجه إلينا جميعاً وأنا معكم أيها الأخوة، يجب أن نتقن الصلاة، يجب أن نصلي كما أراد الله للصلاة أن تكون، يجب أن نصلي كما صلاها النبي، صلاة خشوع، وصلاة قرب، وصلاة عقل، وصلاة ذكر، وصلاة إقبال، وصلاة مناجاة.
 أيها الأخوة الكرام، لن تكون الصلاة ذكراً وقرباً، ولن تكون خشوعاً ومناجاةً، ولن تكون وعياً وعقلاً، ولن تكون عروجاً إلا إذا بنيت على معرفة الله، قد تصلي، وقد قال الفقهاء: سقط الوجوب، وإن لم يحصل المطلوب، سقط عنك الوجوب، توضأت وصليت، ولكن هل قطفت من الصلاة ثمارها؟

الصلاة ميزان دقيق لمعرفة الإنسان بالله :

 أيها الأخوة الكرام، ينبغي أن تبنى الصلاة على معرفة الله أولاً، وينبغي أن تبنى على الاستقامة على أمره ثانياً، وينبغي أن تبنى على اتباع سنة نبيه ثالثاً، فكيف تذكر وتناجي من لا تعرفه؟ أو كيف تتقرب ممن تعصي أمره؟ إن الجهل مانع والمعصية حجاب، فالتفكر في خلق السموات والأرض يعرفك بمن تذكره وتناجيه، فيزول المانع، والتوبة النصوح تهدم كل شيء قبلها فيمزق الحجاب، والعمل الصالح يسرع الخطا إلى الله ويرفع الدرجات عنده، قال تعالى:

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف: 110]

 لذلك أيها الأخوة تعد الصلاة ميزاناً دقيقاً لمعرفتك بالله، ولاستقامتك على أمره، ولعملك الصالح، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مثل الصلاة المكتوبة كالميزان، فمن أوفى استوفى))

[ مسند الشهاب عن الحسن ]

 من أوفى الصلاة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها.

ثمرات الصلاة :

 أيها الأخوة الكرام، أول شيء في ثمرات الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، الإنسان حينما يتصل بالله يتطهر من أدرانه، وتزكو نفسه، تخلية وتحلية، يخلص من أمراضه النفسية، من الكبر، والعجب، والسيطرة، والعنجهية، والأنانية، والأثرة، وحب الذات، والغطرسة، والكبر، وما إلى ذلك من صفات لها رائحة نتنة، يتطهر من أدرانه، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((‏أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 أول شيء في الصلاة أنك تطهرك من أدرانك، من الخصال السيئة، من الخصال الذميمة، من الخصال التي تفوح منها رائحة العفن، من الكبر، من العنجهية، من الغطرسة، من حب الذات، من أمراض لا تنتهي، يبدأ فعلها بعد الموت، الصلاة طهور كما قال عليه الصلاة والسلام، إن الصلاة تنهى نهياً ذاتياً عن الفحشاء والمنكر، إن الصلاة تقابل الوازع الداخلي، هناك شيء في أعماقك يقول لك: افعل هذه الحسنة ولا تفعل هذه السيئة هذا من ثمار الصلاة.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 ثم إن الصلاة هي نور المؤمن، ما من عمل سيئ، ما من عمل قبيح، ما من جريمة، ما من حماقة، ما من انحراف إلا وراءه رؤية مشوشة، رؤية مضطربة، رؤية ضبابية، لكنك إن اتصلت بالله عز وجل قذف الله في قلبك النور، فرأيت الحق حقاً والباطل باطلاً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، لذلك العبرة أن تصح رؤيتك، إن صحت رؤيتك صح عملك.

((كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم والذي نفسي بيده وأشدّ منه سيكون. قالوا وما أشدّ منه ؟ قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراّ والمنكر معروفاّ ؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم والذي نفسي بيده وأشدّ منه سيكون، قالوا وما أشدّ منه ؟ قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ قالوا أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم والذي نفسي بيده وأشدّ منه سيكون))

[أخرجه ابن أبي حاتم في العلل عن أبي أمامة]

 إذا عاقبتم من أمر بالمعروف ، وكافأتم من أمر بالمنكر.
 أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾

[ سورة الأنعام: 122]

﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾

[ سورة الأحزاب: 43]

الصلاة طهور و نور و حبور :

 أيها الأخوة الكرام، الصلاة طهور، والصلاة نور، والصلاة حبور، قال عليه الصلاة والسلام:

((‏وجعلت قرة عيني في الصلاة))

[ النسائي من حديث أنس ]

 تقول السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها: "كان رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه".
 يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏: " ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس، ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أنصرف منها".
 أيها الأخوة الكرام، مما ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يرويه عن ربه، أنه:" ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصية، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها ولا يتغير حالها".

من عرف الله نجا من الهلع و الجزع :

 أيها الأخوة الكرام ربنا في عليائه يقول:

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾

[ سورة المعارج: 19]

 هكذا خلق، هذه أصل جبلته.

﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾

[ سورة المعارج: 20]

 ينهار بخبر سيئ، ترتعد فرائصه إذا بدا له شبح مصيبة.

﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

[ سورة المعارج:21-22]

 المصلي ناجٍ من هاتين الصفتين، لأنه عرف الله عز وجل.

من صلى كما أراد الله قطف ثماراً يانعة جداً :

 أيها الأخوة الكرام، الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، وغرة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات، هي الركن الوحيد المتكرر من أركان الإسلام الذي لا يسقط بحال، إنها أسّ العبادات، وأصل القربات، ومبدأ الطاعات، وهي ركن الأركان، وأساس البنيان، وهي أول ما يحاسب عنه المرء يوم القيامة، ولا يفلح المؤمن إلا بها قال تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة المؤمنين: 1]

 أبرز صفة من صفاتهم:

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[ سورة المؤمنين: 2]

 أيها الأخوة الكرام، هذه الصلاة التي أرادها الله عز وجل فإذا صلاها الإنسان كما أراد الله فقد قطف ثمارها وثمارها يانعة جداً.

تقنين الله تقنين تأديب لا تقنين عجز :

 أيها الأخوة الكرام، موضوع آخر في هذه الخطبة: أحياناً تنقطع أسباب الرزق بانقطاع الأمطار، فتغور الينابيع، وتجف الأنهار، وييبس الزرع، ويموت الضرع، ويهدد الإنسان بافتقاد كأس الماء، ولقمة العيش، وقد يجد الإنسان نفسه مضطراً أن يخرج من أرضه الجدباء مشرداً، وأن يغادر بيته هائماً على وجهه، الله عز وجل ثبت أشياء لا تعد ولا تحصى، ثبتها، ولا داعي للقلق أبداً، ثبت دورة الأفلاك، ليس هناك دعاء للشروق، ولا للغروب، الشمس تشرق وتغرب بالدقائق والثواني لمئة ألف عام قادمة، ثبت الدوران، وثبت خصائص الأشياء، الحديد حديد، والذهب ذهب، والفضة فضة، وثبت خصائص البذور، بذرة القمح تنجب قمحاً، وبذرة الشعير تنجب شعيراً، وثبت قوانين الأرض، لكن الله جلت حكمته حرك شيئين حرك الرزق وحرك الصحة ليؤدبنا بهما، لا يمكن أن نفسر انقطاع الأمطار إلا عن طريق التأديب التربوي، ليس عجزاً، ولكن تأديباً، تقنين الإله ليس عجزاً.

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

[ سورة الحجر: 21]

 قرأت في مجلة علمية رصينة أنه اكتشفت سحابة في الفضاء يمكن أن تملأ محيطات الأرض كلها ستين مرةً في اليوم الواحد بمياه عذبة:

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

[ سورة الحجر: 21]

 فيجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً أن تقنين الإله لا يمكن أن يكون تقنين عجزٍ، أي نقص المياه في العالم، ونظرية مالتوس المشؤومة، وازدياد السكان بسلسلة انفجارية، ونقص المياه العذبة، والحرب كانت حرب نفط، ثم أصبحت حرب قمح، ثم أصبحت حرب ماءٍ، هذا كلام لا يقف على قدميه، ولا يثبت له دليل، إن تقنين الإله جل جلاله تقنين تأديب، لا تقنين عجز.

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة الأعراف: 96 ]

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن: 16 ـ 17 ]

تعلق سقوط الأمطار بالاستقامة على أمر الله :

 أيها الأخوة الكرام، روى أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏:

((أن الناس قد قحطوا في زمن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل رجل من باب المسجد ورسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وخشينا الهلاك على أنفسنا فادع الله أن يسقينا؟ فرفع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه فقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مغدقاً عاجلاً ))

[ ابن قتيبة بإسناده في غريب الحديث عن أنس رضي الله عنه ]

 قال الراوي ما كان في السماء قزعةٌ أي سحابة، فارتفعت السحاب من هنا ومن هنا، حتى صارت ركاماً، ثم مطرت سبعاً من الجمعة إلى الجمعة، ثم دخل ذلك الرجل والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب، والسماء تسكب فقال: يا رسول الله تهدم البنيان، وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكه؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام لملالة بني آدم، فقال الراوي والله ما نرى في السماء خضراء، ثم رفع يديه فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر" فانجابت السماء عن المدينة حتى صارت حولها كالإكليل.
 أيها الأخوة الكرام، الله عز وجل بعد طول انقطاعٍ أكرمنا بأمطار نرجو من الله المزيد، فلا زالت النسب ضئيلة جداً بالقياس إلى المعدل السنوي، نسأل الله جل جلاله أن يزيدنا من فضله، يا ربي إنا قد سألناك فأعطيت، وإنا قد دعوناك فاستجبت، وإنا قد التجأنا إليك فلبيت، وأنزلت علينا من غيثك وكرمك وجودك، اللهم إنا نسألك بتوحيدنا لك وإيماننا بك أن تزيدنا من عطائك، وأن تزيدنا من غيثك، وكرمك، وألا تقطع عنا رفدك، وألا تقطع عنا عطاءك.
 ماذا يمنع أيها الأخوة أن يصلي كل واحد منا صلاة شكر بما أكرمنا الله به من هطول الأمطار، ذلك أنه في الأعوام السابقة لم تنزل ولا قطرة حتى دخول العام الجديد، نحن بحمد الله بالشهر العاشر هطلت الأمطار، وأقلها نسبة في دمشق، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يزيد من عطائه، القضية قضية اتصال بالله، وقضية رجوع إليه، وقضية توبة له، القضية اقتصادية بمجملها، متعلقة بالاستقامة في حقل المؤمنين، أما هؤلاء الشاردون.

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 هنا موضوع آخر، أنت كطبيب لو جاءك مريض مصاب بورم خبيث بالدرجة الخامسة، قال لك: ماذا آكل؟ قل له: كلْ كلَّ شيء، أمره محسوم، أما إذا جاءك مريض ومعه التهاب في المعدة تعطيه قائمة من الممنوعات، وتقيم عليه النكير لو خالفها، فنحن إن شاء الله في العناية المشددة، أما هؤلاء الذين انحرفوا أشدّ الانحراف وهم في بحبوحة ما بعدها بحبوحة فهؤلاء ينطبق عليهم قول الله عز وجل:

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

مجموع الأمطار الهاطلة في الأرض لا يتبدل ولا يتغير :

 أيها الأخوة الكرام، مما يلفت النظر، وهذا من دلائل نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مجموع الأمطار الهاطلة في الأرض لا يتبدل ولا يتغير، ولا يزيد ولا ينقص، متى عرفنا هذه الحقيقة؟ بعد هذه المقاييس التي انتشرت في كل بقعة في الأرض، أحياناً نشرات وزارة الزراعة تأتيك بأكثر من خمسمئة موقع هناك قياس للأمطار، هذا في كل بلد، بعد أن سلكت كل الدول سبيل إحصاء الكميات الهاطلة وجد أن كميات الأمطار في الأرض واحدة لا تزيد ولا تنقص، ولكنها تتبدل من مكان إلى آخر، هنا جدب وهنا سيول، لذلك من دون إحصاءات، ومن دون مراصد قال عليه الصلاة والسلام:

((ما عام بأمطر من عام ))

[ الجامع عن ابن مسعود]

 على مستوى الأرض، ما عام بأمطر من عام، وهذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفة متأنية عند تفسير النّجم الثاقب :

 أيها الأخوة الكرام، من سور القرآن الكريم القصيرة قوله تعالى:

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾

[ سورة الطارق: 1 ـ 4]

 ثم إن هناك آية كريمة:

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾

[ سورة النجم: 1]

 الحقيقة أن علماء التفسير وقفوا وقفات متأنية عند تفسير النجم الثاقب حتى استقر رأيهم أن هذا النجم ضوءه شديد ثاقب

  يخترق طبقات الجو، وصلوا إلى هنا ولم يتحدثوا إطلاقاً عن كلمة الطارق، وقد قلت لكم إن في القرآن آيات كونية لم يفسرها النبي عليه الصلاة والسلام لحكمة بالغةٍ بالغة، لو فسرها تفسيراً قريباً من بيئته لأنكرنا عليه، ولو فسرها تفسيراً عميقاً من رؤيته لأنكر عليه أصحابه، تركت هذه الآيات ليكشف العلم مع تطوره ورقيه حقيقة هذه الآية.

 أيها الأخوة الكرام:

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾

[ سورة النجم: 1]

 غير الشهاب الذي يسقط، هذا ذكره الله عز وجل في آيات كثيرة.

﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾

[ سورة الصافات: 10]

﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً﴾

[ سورة الجن: 8]

 إذاً:

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾

[ سورة الطارق: 1 ـ 4]

 فالنجم الطارق والنجم الثاقب والنجم إذا هوى، لا علاقة لهذه الآيات بالشهب المتساقطة، والتي نراها رأي العين كل يوم.
 أيها الأخوة الكرام، الموضوع معقد جداً لكن على سبيل التبسيط، النجوم حينما تكبر تنكمش وتزول الفراغات البينية بين ذراتها 

 إلى أن تصبح بحجم صغير جداً ووزن ثقيل جداً، فقالوا: كرة ككرة القدم من هذه النجوم النترونية المنكمشة يعدل وزنها خمسين ألف بليون من الأطنان، فإذا وضعت هذه الكرة على الأرض ثقبتها ووصلت إلى طرفها الآخر

  كما لو تأتي بقطن أو بسائل هلامي تضع به كرة حديد، هذه تسقط إلى الأسفل فوراً هذا هو النجم الثاقب، النجم النتروني الذي انضغط حتى أصبح بحجم الكرة وله وزن يعدل وزن الأرض، لو أن الأرض شاخت سوف تصبح بحجم البيضة 

بالوزن نفسه، وزن الأرض هو هوَ يصبح بحجم بيضة، هذا هو النجم الثاقب كم يرى بعض العلماء، القرآن حمّال أوجه.

 أيها الأخوة الكرام، ثم إن هناك تلسكوبات لاسلكية تلقت ومضات لاسلكية من هذه النجوم، نبضات نوبية

  وكأن هذا النجم يطرق باب الفضاء، نبضات نوبية يتزايد تواترها بشبابه، ويقل تواترها في شيخوخته، ونعرف من هذه النبضات التي تأتي عن طريق التلسكوبات اللاسلكية عمر هذا النجم

  أي نعرف عمر النجم من تواتر النبضات، فنجم يطرق، ونجم يثقب، وهذا شيء من أحدث البحوث الفلكية.

محاسبة الله الإنسان على كل حركاته و سكناته :

 أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾

[ سورة الطارق: 1 ـ 4]

 جواب القسم:

﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾

[ سورة الطارق: 4]

 فكل حركاتك وسكناتك، وكل أقوالك وأفعالك، وكل تمنياتك، وكل بواعثك، وكل آمالك، وكل ما أخفيته عن الناس يحفظه الله لك، 

 وسيحاسبك عنه، لأن الذي خلق النجم الثاقب، النجم الطارق، والنجم إذا هوى، هو الذي سيحاسبك على عملك:

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾

[ سورة الطارق: 1 ـ 4]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، ولا تأخذنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين، يا ربنا لك الحمد على ما أمطرتنا، يا رب لك الحمد والشكر والنعمة والرضا حمداً كثيراً طيباً مباركاً يا أكرم الأكرمين، اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، اللهم خذ بيدهم إلى الخير، ألهمهم الصواب برحمتك يا أرحم الراحمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور