وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 22 - المولد - شمائله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 استفتاح الخطبة:
 الحمد لله رب العالمين، يا رب اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقبل توبتنا، وتول أمرنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعلمانا.
 وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
 وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين كان بين الناس رجلاً، وكان بين الرجال بطلاً، وكان بين الأبطال مثلاً.
 اللهم صل، وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا، وعنهم يا رب العالمين
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.

مقدمة:

1 ـ الحاجة ماسّة لهدي النبي:

 يا سيدي يا رسول الله، بعد أيام قليلة تطل علينا ذكرى مولدك الشريف، ونحن يا سيدي يا رسول الله في أمسِّ الحاجة إلى هديك الرباني، الذي لا تزيده الأيام إلا رسوخاً وشموخاً، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى سنتك المطهرة التي هي المنهج القويم، والصراط المستقيم.
 ونحن في أمسّ الحاجة يا سيدي يا رسول الله إلى أخلاقك العظمى التي لا يزيدها التأمل والتحليل إلا تألقاً ونضارة.

2 ـ تزكية الله للنبي:

 يا سيدي يا رسول الله، لقد زكى الله عقلك فقال:

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

( سورة النجم )

 .. وزكى لسانك فقال:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ﴾

( سورة النجم )

 وزكى شرعك فقال:

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

( سورة النجم )

 وزكى جليسك فقال:

﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾

( سورة النجم )

 وزكى فؤادك فقال:

﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾

( سورة النجم )

 وزكى بصرك فقال:

﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾

( سورة النجم )

 وزكاك كلك فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

( سورة القلم )

 لقد أقسم بعمرك الثمين فقال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

( سورة الحجر )

الحق أنت، وأنت إشراق الهدى  ولك الكتاب الخالد الصفحات
من يقصد الدنيا بغيرك يلقهــا  تيهاً من الأهوال والظلمـات
***

3 ـ هذه هي أخلاق النبي:

 يا سيدي يا رسول الله، يوم كنت طفلاً عزفت عن لهو الأطفال، وعن ملاعبهم، وعن أسمارهم، وكنت تقول لأترابك، إذا دعوك إلى اللهو: أنا لم أخلق لهذا ".
 ويوم جاءتك رسالة الهدى، وحُمِّلت أمانة التبليغ، قلت لزوجتك، وقد دعتك إلى أخذ قسط من الراحة: " انقضى عهد النوم يا خديجة ".
 ويوم فتحت مكة التي آذتك، وأخرجتك، وكادت لك، وائتمرت على قتلك، وقد ملأت راياتك الأفق ظافرةً عزيزة، قلت لخصومك الذين أصبحت حياتهم معلقةً بكلمة تخرج من فمك: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
 ويوم دانت لك الجزيرة العربية، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، صعدت المنبر، واستقبلت الناس باكياً وقلت لهم: " من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتَد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ".
 يا سيدي يا رسول الله ؛ كنت تصلي في أصحابك، وعلى غير عادة منك أنهيت صلاتك على عجل، وأنت في قمة الغبطة والنشوة مع ربك، لا لشيء ذي بال، بل لأنك سمعت بكاء طفل رضيع، كانت أمه تصلي خلفك في المسجد، كان ينادي أمه ببكائه، لقد أنهيت صلاتك على عجل رحمة بهذا الرضيع.
 يا سيدي يا رسول ؛ الله لقد كنت ترتجف، حين تبصر دابة تحمل على ظهرها أكثر مما تطيق.
 لقد كنت تجمع لأصحابك الحطب في بعض أسفارهم، ليستوقدوه ناراً تنضج لهم الطعام.
 حقاً يا سيدي يا رسول الله ؛ لقد كنت أحسن الناس خلقاً، وأجود الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرةً، لقد صدق ملك عمان حينما قال بعد أن التقى بك ؛ " والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد ".
 يا سيدي يا رسول الله ؛ لقد رأى أصحابك رأي العين كل فضائلك ومزاياك، رأوا طهرك وعفافك، رأوا أمانتك واستقامتك، رأوا شجاعتك وثباتك، رأوا سمّوك وحنانك، رأوا عقلك وبيانك، رأوا كمالك كالشمس تتألق في رابعة النهار.

مولد النبي:

1 ـ ميلاد النبي ميلاد للنور قبل ميلاد الشخص:

 أيها الإخوة المؤمنون، في شهر ربيع الأول شهر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الهدى والرحمة، وللنبوة والأنبياء في عقيدة المسلم قصة، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، حمَّله أمانة التكليف وأعطاه مقوِّمات هذا التكليف، كونٌ ناطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، وإكرامه، وعقل يتفق في مبادئه، مع سنن الكون، وهو أداة المعرفة ومناط المسؤولية، وفطرة سليمة تكشف للإنسان خطأه وشهوة دافعة رافعة، وحرية اختيار مقوّمة مثمَّنة، وقوة محققة للكسب كاشفة للطوية، ومنهج تفصيلي يقي الزلل ويحقق الهدف.
 ومع كل هذا فقد يغفل الإنسان عن مهمته، وينسى ما كُلّف به وتغلبه شهواته، وتُرديه رغباته، ويسير في طريق الهاوية، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً ولأن الله الذي خلق الإنسان هو أرحم به من نفسه خلقه لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلا بد وهو أرحم الراحمين من أن يخاطب البشر، من حين إلى حين، مذكراً بمهمتهم، مبيناً لمنهجهم، محذراً عواقب غفلتهم، وإعراضهم، وبما أنه يستحيل أن يخاطب الله كل البشر، لأن تحمُّل الخطاب وتلقي الوحي عن الله لا يستطيعه، ولا يستأهله إلا نخبة من صفوة البشر، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

( سورة آل عمران: 33 )

 من أجل هذا كان الأنبياء والمرسلون، وكان من بعدهم الأئمة والداعون والهداة والمهديون.

2 ـ النبي بشر كسائر البشر:

 ولأن النبي لا يستطيع تحقيق رسالته إلا إذا كان من بني البشر ليبلغهم بلسانهم، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

( سورة إبراهيم )

 ولا يستطيع نبي تحقيق رسالته إلا إذا جرت عليه كل خصائص البشر حتى يكون انتصاره على بشريته، قدوةً ومثلاً لكل البشر، وبهذا يُحقق النبي الكريم مهمة القدوة، تكميلاً لمهمة التبليغ، لذلك يُعدُّ من سنة النبي أقواله وأفعاله وإقراره وصفاته، قال تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

( سورة القلم )

 وقال:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

( سورة آل عمران )

3 ـ من سنن الله الجارية: أن يكون للنبي معارِضون:

 وحينما يأتي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعقيدة، ومنهج يُسفِّه بهما ضلالات البشر، وانحرافاتهم، يظهر المعارضون المتضررون من تطبيق منهج الله، هؤلاء المعارضون الذين حدَّت رسالة السماء من انحرافهم وطغيانهم، ما يكون منهم إلا أن يكذِّبوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾

( سورة الرعد )

4 ـ لابد للنبي من معجزة تشهد على رسالته:

 لذلك لا بد من أن يشهد الله لكل البشر أن هذا الإنسان الذي خصه الله بالنبوة والرسالة هو رسوله، وهو صادق فيما يقول، وتكون شهادة الله للبشر بأن يؤيد رسوله بمعجزة، يعجز عن الإتيان بمثلها كل البشر، وينبغي أن يكون موضوع المعجزة مما نبغ فيه القوم ليصح التحدي، ولتقوم الحجة.
 لقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسّية، محدودة بمكان، وزمان، تألقت مرة واحدة كعود الثقاب، ثم أصبحت خبراً يصدقه مصدق، ويكذبه مكذب، أما معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين فهي معجزة مستمرة لكل البشر ؛ لأنها بين يدي البشر في كل عصر ومصر إلى يوم القيامة، إنها معجزة عقلية بيانية إنها القرآن.. ففي القرآن الكريم إعجاز بياني، وإعجاز علمي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز إخباري، وكلما تقدم البحث العلمي كشف عن جانب من إعجاز القرآن، قال تعالى:

 

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾

 

( سورة فصلت )

 فبالعقل يحكم الإنسان بأنه لا بد لهذا الكون من خالق موجد، ورب مُمِدّ، ومسير حكيم، واحد في ذاته، وفي أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وبالعقل يحكم الإنسان بأن هذا القرآن هو كلام الله من خلال إعجازه، وبالعقل يحكم الإنسان بأن الذي جاء بالقرآن المعجز هو رسوله.
وبعدئذ يأتي القرآن ليخبر الإنسان عما لا يستطيع العقل أن يدركه بذاته، إنها قصة خلق السماوات والأرض، وحقيقة الحياة الدنيا والآخرة، وخلق الإنسان، أين كان، وإلى أين المصير، وما سر وجوده على هذه الأرض، وما المهمة التي كُلف بها، وما المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه، ليحقق ذاته، ويدرك السعادة، في الدنيا والآخرة ؟
 فالدين عقل ونقل: عقلٌ لمعرفة الله، وللتحقق من صحة النقل عنه، ولفهمه، ونقل يُبين للعقل ما خفي عنه، وما عجز عن إدراكه، وما يضمن سلامته وسعادته.
 هذه باختصار شديد قصة النبوة والأنبياء، ونحن في شهر ربيع الأول شهر مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أي الجوانب يكون الحديث عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن أبرز هذه الجوانب هي شمائله الشريفة.

 

ماذا يعني الحديث عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ؟

 

 أيها الإخوة الأكارم في كل مكان، ماذا يعني الحديث عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ولا سيما وقد جعله الله أسوةً صالحةً لنا:

1 ـ تلازماً ضرورياً بين التدين الصحيح والخلق القويم:

البناء الأخلاقي هو الهدف الأمثل لدعوة النبي:

 إنه يعني أن هناك تلازماً ضرورياً بين التدين الصحيح والخلق القويم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حدد الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأمثل لدعوته، فقال فيما رواه الإمام مالك:

 

(( إنما بُعثتُ معلماً، إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ))

 فالهدف الأول لدعوته، هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد، والمجتمع، لأنه ثمن سعادة الدنيا والآخرة، والوسيلة هي التعليم لا التعنيف، قال صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( علموا ولا تُعنِّفوا، فإن المعلم خير من المُعنِّف ))

 

[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن عدي في الكامل ]

 والمتتبع لنصوص القرآن الكريم وللسنة المُطهرة الصحيحة يجد ذلك التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، قال تعالى:

 

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5)الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6)وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾

 

( سورة الماعون )

 وقال تعالى:

 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 

( سورة القصص )

 وعَنْ أَنَسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

 

(( لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ ))

 

[جزء من حديث طويل أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن أنس ]

 وقال أيضاً:

 

(( الإيمان والحياء قُرِنَا جميعاً، فإذا رُفع أحدُهما رُفع الآخر ))

 

[أخرجه الحاكم]

 إذاً: فالإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر.
 وقد ورد في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

 

2 ـ أحسن الناسِ إسلاماً أحسنهم خلقاً:

 لقد بين الني صلى الله عليه وسلم أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن من أحبّ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً، وأن من أقرب المؤمنين مجلساً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحسنهم خلقاً، وأن خير ما أُعطي الإنسان خلق حسن، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، والخلق الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

مقتطفات من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم:

 هذه مقتطفات من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم:

1 ـ عنايته بأصحابه وتواضعه له:

 فمن عنايته بأصحابه، وتواضعه لهم ما رواه الحاكم بإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس بأهله، وامتلأ، فجاء جرير البجلي، فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فألقاه إليه، فأخذه جرير ووضعه على وجهه وجعل يقبله ويبكي، وأعاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: ما كنت لأجلس على ثوبك أكرمك الله كما أكرمتني فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً فقال:

(( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ))

 وعن عدي بن حاتم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فألقى إلي وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقال: اجلس عليها، قلت: بل أنت قال: بل أنت فقال عدي: فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، فقلت اشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً، وأسلم عدي بن حاتم.
 وروى البيهقي في الدلائل أنه وَفَد وفْدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخدمهم بنفسه فقال له أصحابه: يا رسول الله نحن نكفيك القيام بضيافتهم، وإكرامهم، فقال صلى الله عليه وسلم:

 

(( إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم بنفسي ))

 

[ ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن أبي فتادة ]

2 ـ رحمته بالمخلوقات:

 ومن رحمته بالخلق: ما روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ أَحَبَّ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ يَعْنِي حَائِطَ نَخْلٍ، فَدَخَلَ حَائِطَ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، جَزِعَ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ قَالَ: فَأَتَاهُ فَمَسَحَ سُرَّتَهُ إِلَى سَنَامِهِ قِرَاهُ وَذِفْرَاهُ فَسَكَنَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَلا تَتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ يَشْكُو إِلَيَّ أَنَّكَ تُدْئِبُهُ وَتُجِيعُهُ ))

، أي تُتعبه.

[ الحاكم في المستدرك ]

3 ـ عدله:

 ومن عدله صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان واللفظ للبخاري عن عَائِشَةَ:

(( أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))

4 ـ صبرُه:

 ومن صبره صلى الله عليه وسلم: ما رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا وَارَى إِبِطُ بِلَالٍ ))

5 ـ صبرُه:

 ومن شجاعته صلى الله عليه وسلم ما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: كنا أي معشر الصحابة، إذا حمي البأس، واحمرت الحِدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقربَ إلى العدو منه.

6 ـ خشيته لله:

 ومن خشيته لله: أنه غضب صلى الله عليه وسلم ذات مرة من غلام، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم وَصِيفَةً لَهُ فَأَبْطَأَتْ، فَقَالَ:

(( لولا مَخَافَةَ الْقَوْدِ ـ القصاص ـ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لأَوْجَعْتُكِ بِهَذَا السِّوَاكِ ))

[ الأدب المفرد للبخاري ]

7 ـ هيبته:

 ومن هيبته صلى الله عليه وسلم: أنه كان صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:

(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))

[ ابن ماجه ]

8 ـ حياؤه:

 ومن حيائه أنه كان أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً، عَن ابْنِ عُمَرَ:

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيْمَان ))

[ البخاري ]

 فكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وقد بلغ من حيائه أنه لا يواجه أحداً بما يكره.
 ورحم الله من قال في مدح خير الأنام:

 

يا من له الأخلاق ما تهوى العُلا  منها وما يتعشق الكبـــراء
فإذا سخوت بلغت بالجود المـدى  وفعلت ما لا تفعل الأنـــواء
وإذا عفوت فقادراً ومقــــدراً  لا يستهين بعفوك الجُهـــلاء
وإذا رحمت فأنــت أم أو أب  هذان في الدنيا هــما الرحمـاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبــة  في الحق لا ضغـن ولا بغضاء
وإذا خطبت فللمنابر هــــزةٌ  تعرو النـدي و للقلوب بكــاء
يا أيها الأميُّ حسبك رتبــــةً  في العلم أن دانت لـك العلمـاء
***

 أيها الإخوة المؤمنون، هذه بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نقتدي بها، لأنه أسوةٌ لنا وقدوة.
 اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

تتمة ذكرِ شمائله عليه الصلاة والسلام:

9 ـ عفوه:

 ومن عفوه: عفوه عن سفانة بنت حاتم طيِّئ، فنقد عُرض الأسرى على النبي صلى الله عليه وسلم عقب بعض الغزوات، فوقفت امرأة أسيرة فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، وخلِّ عني، ولا تُشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه يفُكُّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرجُّ عن المكروب، ويطعم الطعام، ويُفشي السلام، ويحمل الكلَّ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائباً، أنا بنت حاتم طيِّئ.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(( يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: خلوا عنها ؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ارحموا عزيز قوم ذلَّ وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين الجُهَّال ))

 فاستأذنته بالدعاء، وقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردِّها، ورجعت إلى أهلها، وقالت لأخيها عدي: ائت هذا الرجل، فإني قد رأيت هدياً، وسمتاً، ورأياً ؛ يغلب أهل الغلبة، ورأيت فيه خصالاً تعجبني  رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود، ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلا تزال في عز ملكه.
قيل وأسلمت.. واستجاب لها أخوها، وقَدِمَ إلى المدينة وهو يظن انه سيلقى ملكاً فقال: دخلت على محمد وهو في المسجد، فسلمت عليه فقال: من الرجل ؟ فقلت عدي بن حاتم، فقام، وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة، ضعيفة كبيرة، في الطريق فاستوقفته، فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ثم مضى بي حتى دخل بيته، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقذفها إليَّ فقال: اجلس علي هذه، قلت: بل أنت فاجلس عليها فقال: بل أنت فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، ثم قال لي: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من فقرهم.. فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه..ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى ن كثرة عدوهم، وقلِّة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها فتزور هذا البيت لا تخاف.. ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى المُلك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، وأن كنوز كسرى قد صارت لهم قال: فأسلمت، ولقد عُمِّر عدي حتى رأى بنفسه كيف تحققت كلُّ بشارات النبي صلى الله عليه وسلم ".

 

[ السيرة النبوية لابن كثير، ودلائل النبوة للبيهقي، سير أعلام النبلاء للذهبي، والإصابة، وأسد الغابة ]

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور