وضع داكن
20-04-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 43 - إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في منزل أبو أيوب وتحقيق المصالحة والمساواة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا في أحداث السيرة إلى المدينة المنورة.

تذكير بمهمة النبي عليه الصلاة والسلام بمكة والمدينة:

وذكرت لكم في دروس سابقة: أن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة كانت ترسيخ دعائم الإيمان، فأنشأ في نفوس أصحابه قوة الإيمان، قوة تعظيم الله عز وجل، عرفهم بالله، عرفهم باليوم الآخر، حملهم على أن يلتزموا.
وذكرت في درس سابق بنوداً كثيرة من الإنجازات الإيمانية التي تمت للصحابة الكرام في مكة المكرمة، لكنه في المدينة المنورة النبي عليه الصلاة والسلام أضاف إلى قوة الإيمان حق القوة، فبنى مجتمعاً إسلامياً قوياً، ما عناصر قوة هذا المجتمع ؟ ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى هذه الإنجازات المدنية، حتى أصبح المسلمون كياناً يتمتع بحق القوة كما كان متمتعاً بقوة الحق، في المرحلة المكية كان البناء إيمانياً، لكنه في المدينة كان البناء مدنياً، مجتمع مسلم قوي، عنده جيش يستطيع على أن يحافظ على إيمانه بقوته.
في الدرس الماضي ذكرت أن أول مرحلة فعلها النبي عليه الصلاة والسلام إصلاح ذات البين، بين قبيلتين كبيرتين في المدينة المنورة، الأوس والخزرج، ونحن لا نستطيع أن نواجه عدواً قوياً معه العالم كله إلا بمجتمع إسلامي متماسك، إذاً ينبغي علينا بادئ ذي بدء أن نصلح ذات البين، بين أطياف المجتمع، وشرائح المجتمع، وعناصر المجتمع، هذا الذي فعله النبي بادئ ذي بدء.
الآن يعبرون عن هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة تحت عنوان إسلامي: إصلاح ذات البين يعبرون عنه بالمصطلح الحديث بالمصالحة الوطنية، هذا لا بد منه كي نواجه عدواً متغطرساً، قوياً جباراً، بطاشاً لا يرحم طفلاً، ولا امرأة، ولا يبقي على منشأة، وهذا ما ترونه وتسمعونه.
العمل الثاني المساواة بين الناس، وعدم التمييز بين أفراد وجماعات، كيف ؟ لا بد من المساواة بين الناس.

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

( سورة الحجرات الآية: 13 ).

(( كلكم بنو آدم وآدم من تراب ))

(أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة ورواه الترمذي ابن عمر)

(( الناس سواسية كأسنان المشط ))

( أخرجه الديلمي عن سهل بن سعد)

ما لم يعتمد في المجتمع مقاييس كمقياس العلم والعمل فقط، يرجح الإنسان في بمجتمع المسلمين بعلمه أولاً، وبعمله ثانياً، أما قضايا النسب، وقضايا القوة، والوسامة والذكاء، والغنى هذه قيم ينبغي ألا تعتمد في مجتمع يريد أن يكون قوياً.
يروى أن بعض التابعين وهو الأحنف بن القيس كان قصير القامة، أسمر اللون أحنف الرجل، في عرج، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، لم يكن شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
أو شيء فعله النبي لإنشاء مجتمع قوي إصلاح ذات البين.
الشيء الثاني أرسى المساواة بين أفراد المؤمنين، من دون استثناء، ونعبر عن هذا الإرساء بأنه يوم خرج النبي عليه الصلاة والسلام من قباء باتجاه المدينة وقف الأنصار داراً بعد دار، عشيرةً بعد عشيرة، يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم فكان يقول لهم: دعوها، أيّ ناقته، فإنها مأمورة، لو نزل بأيّ مكان، بأيّ بيت، بأيّ عشيرة، بأيّ قوم ميزهم بلا مرجح، وجعل الطرف الآخر أصغر من هؤلاء الذين نزل عندهم.حينما تخص ابناً ولا تخص أخاه فقد ميزت الأول على الثاني، أما القرعة فما فيها تمييز، حاول أن تكون عادلاً بين أولادك، وإذا اقتضى الأمر أن تختار واحدا منهم فليكن بالقرعة. 

عنصرية العصر الحديث:

ما عاشر النبي واحد إلا وهو يظن أنه أقرب الناس إليه، كل واحد ممن التقى مع النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنه أقرب الناس إليه، أما مجتمع إنسان من الدرجة الأولى ، وإنسان من الدرجة الثانية، إنسان من الدرجة الثالثة، والرابعة، والخامسة، الذي ما يعانيه العالم اليوم ما يسميه العنصرية، فما العنصرية ؟.
أنا أرى أن البشر يمكن أن يصنفوا تصنيفين، لا ثالث لهما، تصنيف إنساني وتصنيف عنصري، من هو العنصري ؟ هو الذي يرى نفسه متميزاً على من حوله، يحق له ما لا يحق لهم، وهو معفى مما يجب عليهم، ينبغي أن يأكل وحده، وأن يسكن وحده، وأن يستمتع بالحياة وحده، وأن يشتري من الأشياء الثمينة ما يحلو له وحده، وأن يبني مجده على أنقض الآخرين، وأن يبني غناه على فقرهم، وأن يبني حياته على موتهم، وأن يبني أمنه على موتهم، وأن يبني عزه على ذلهم، هذا عنصري.
الذي نعانيه من الغرب العنصرية، يعاملون شعوبهم معاملة تفوق حد الخيال، ويعاملون بقية الشعوب معاملة تترفع عنها الوحوش، يستخدمون أسلحة الدمار الشامل لإفناء البشر، وإبقاء الحجر، لذلك لا يمكن أن تنهض أمة بأناس من طبقتين: قوي وضعيف، لا بد من أن يكون الناس سواسية كأسنان المشط.

(( فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ))

(رواه الطبراني عن ابي سعد )

(( وأيْمُ الله لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))

(مُتَّفَقٌ عَلَيه )

هذا مجتمع العدل والسواسية، بهذا نقوى على أعدائنا، بهذا نواجههم، بهذا نقف صفاً واحداً، بهذا لا نخترق من قبلهم.
دعوها فإنها مأمورة، حتى بركت عند المربد، وفي ذلك احترام للجميع وإصرار على عدم التمييز بينهم، وإذا كان نزوله في دار أبي أيوب الأنصاري فليس في ذلك إحراج أو تمييز، لأن داره أقرب دار لمبرك الناقة، سواسية، إصلاح ذات البين، ثم مجتمع المساواة.
أضرب لكم بعض الأمثلة: عندك في المحل التجاري شاب يعمل عندك، ابنك تريده طبيباً، تضعه في أغلى المدارس، تجلب له أمهر الأساتذة، أما هذا الذي عندك في المحل يرجوك أن يغادر المحل قبل ساعة، ليلتحق بمدرسة ليلية، لينال كفاءة، هو يتيم، فلا تسمح له، أنت عنصري، ولو صليت وصمت.
حينما تعامل الناس بطريقة فيها استعلاء، وفيها فوقية، وفيها غطرسة، حينما تريد لأولادك ما لا تسمح به لأولاد الآخرين فأنت عنصري، قد يكون المسلم في هذا الزمان عنصريا، لن يرضى الله عنا إلا إذا كنا إنسانيين. 

إنها قمة الرحمة والتواضع: امرأة تنظف المسجد:

هل من حرفة أقل في الأرض من أن تكنس ؟ امرأة تقمّ المسجد، توفيت أصحاب النبي الكريم ظنوا أنها أقلّ من أن يخبروا بموتها رسول الله، فلما تفقدها قالوا: ماتت يا رسول الله، قال: هلا أعلمتموني ؟ وقام إلى قبرها وصلى عليها صلاة الجنازة استثناءاً من أحكام صلاة الجنازة هي في قبرها صلى عليها.الذي نراه في العالم من توحش، وهمجية، وقتل أبرياء، وتهديم منشاءات، هذه العنصرية بعينها.

العنصرية جريمة وليست وجهة نظر:

إخواننا الكرام، العنصرية ليست وجهة نظر، إنما هي جريمة، عندك بنت في البيت من إندنوسيا، لا تسمح لها أن تتصل بأهلها إطلاقاً، أنت عنصري، ولو ذهبت إلى المسجد، كما أنك تشتاق إلى أهلك هي تشتاق إلى أهلها، حينما تكلفها فوق طاقتها، حينما لا تعينها على مهمتها، حينما تسهرها إلى ما بعد منتصف الليل، من أجل أن تلبي حاجاتك حينما لا تعاملها كابنتك، أنت عنصري، عنصري ولو كنت مسلماً.
كنت مرة في محل تجاري، صاحب المحل يُحمّل أحد موظفي المحل الصغار أثواباً على ظهره، أو ثوب الثاني، الثالث، الرابع، قال له: لا أستطيع، قال له: أنت شاب حمل ابنه ثوباً واحداً فقال: يا بني احذر ظهرك، خاف عليه، هذا عنصري، ولو أنك تصلي وتصوم ـ دققوا ـ لا يمكن أن ننتصر على أعدائنا إذا كنا عنصريين، لأنهم عنصريون، فإذا كنا نحن عنصريين لا ننتصر، يجب أن نكون ربانين إنسانين.
لما فتح الفرنجة القدس ذبحوا 70 ألفاً، فلما فتح صلاح الدين القدس لم يرق قطرة دم واحدة، إنساني، مقيد بالشرع، يخاف من الله.
أيها الإخوة، العنصري إنسان يرى نفسه متميزاً على الآخرين، يحق له ما لا يحق لهم، عشرة آلاف أسير، و30 عضو مجلس شعب في فلسطين اعتقلوا، و8 وزراء، وشعب لبنان بأكمله لا يساوي جنديين أُسرا، ما اسم هذا ؟ عشرة آلاف أسير، و8 وزراء، و30 عضو مجلس برلمان، وشعب لبنان بأكمله، لا يساوون جنديين أُسرا ؟! هذه عنصرية، الإنسان إما أن يكون متصلاً بالله فهو إنساني، وإما أن يكون منقطعاً عنه فهو عنصري.
بعض الخادمات ينتحرن أحياناً من قسوة المرأة في البيت، تلقي بنفسها من الطابق الرابع فتموت، لا تحتمل قسوتها، الضرب، والإيلام، عنصرية، ولو صلّت وصامت، وسوف يعاقبها الله عقاباً شديداً.
المؤمن إنساني، يعامل الناس كما يجب أن يعاملوه، يرحم الغريب والقريب، يرحم الآخرين كما يرحم أولاده.
إذاً المساواة بين الناس بند إسلامي.

مجتمع المدينة فيه مراعاة للظروف الاجتماعية:

البند الثاني الذي كان أساساً لبناء المجتمع في المدينة: راعى النبي صلى الله عليه وسلم في الظروف الاجتماعية، لكل أسرة حينما استقبلوا المهاجرين، فالمهاجرون الشباب الذين لم تزوجوا نزلوا على سعد بن خثيمة، وكان عزباً، لا زوجة له، وسميت داره باسم دار الأعزاب، ونزل المهاجرون مع زوجاتهم وأولادهم على الأنصار أصحاب الأهل والسعة في المسكن والرزق.
أيها الإخوة، الآن النبي عليه الصلاة والسلام يبني المجتمع، صلاح الدين الأيوبي كيف انتصر على الفرنجة ؟ بين بدء أخذه بالأسباب وانتصاره خمسون عاما، أنشأ مجتمعا مسلما، بدأ بالتعليم، علم منهج الله عز وجل، حمل الناس على طاعة الله، ألغى كل المنكرات.
مر أحد حكام مصر كان اسمه الخديوي، حث هجوم على مصر، فجاء إلى الأزهر وقال: ما العمل ؟ قال: نحن ألفانا كلما داهمنا عدوان قرأ علماء الأزهر صحيح البخاري، فقراءة صحيح البخاري لعلها ترد المعتدي، فأمرهم
أن يقرأ بعض العلماء صحصح البخاري، والعدوان مستمر، ويزداد إيذاءه، وتزداد ضراوته، فذهب إلى الأزهر الخديوي، وقال: إما أن هذه الفكرة أن تقرؤوا البخاري غير صحيحة ولا أصل لها، وإما أنكم لستم علماء، وإما أن يكون هذا الكتاب ليس كتاب البخاري، وغضب، فالعلماء سكتوا وخافوا، لأنه بطاش، قال أحدهم وهو شاب: أنت السبب، فسكت، وغادر المكان، وانهال عليه زملاءه باللوم والتقريع، لقد قتلت نفسك , قتلتنا معك، بعد حين طُلب هذا العالم الشاب إلى قصر الخديوي، هو ودعوه على أنه مقتول، وكتب وصيته، فلما وصل إلى الخديوي قال له: كيف أنا السبب ؟ قال له: إن لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر تدعون الله فلم يستجب لكم، هكذا في حديث قاله عليه الصلاة والسلام، قال له: ماذا افعل ؟ هكذا يريد مني الغربيون، أن أفتح دور اللهو، والمراقص، وحانات الخمر، هكذا تعني الحضارة، قال له: أنت السبب، وأزال كل المنكرات، وانتصر في النهاية.
فلذلك أيها الإخوة، النبي عليه الصلاة والسلام أنشأ مجتمعاً ما فيه خلافات، مجتمعاً تحكمه قيم واحدة.
(( لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
هذا المجتمع هو الذي صار قوياً وحقق النصر على أعتا قوة في الجزيرة العربية.

أخلاق النبي الكريم حينما بنى مجتمع الإيمان:

اقتسام الطعام مع أصحابه:

عن زيد بن ثابت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب لم يدخل ـ دققوا ـ لم يدخل منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية إلا وأرسل معظمها إلى أبي أيوب، هو في بيت أبي أيوب، وما جاءته هدية إلا قسمها بينه وبين أبي أيوب، جاءت قصعة مسرودة بخبز، وبر، وسمن، ولبن، فوضعها بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيها، ودعا أصحابه فأكلوا، فلما أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة على رأس غلام مغطاة، فوقف على باب أبي أيوب فكشف غطاءها، فرأى عليه عراقا، فدخل بها 

على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كنا في قوم مالك بن النجار

ما من ليلة إلا على باب رسول الله إلا منا الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، ويتناوبون بينهم، حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين بيت أبي أيوب، وكان مقامه فيها سبعة أشهر، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد بن زرارة.
هل خص نفسه بطعام خاص ؟ ما جاءه طعام إلا أطعم منه أصحابه الكرام، وإذا كان قليلاً أكل، وأرسل الباقي إلى أبي أيوب، هكذا القيادة.
سيدنا عمر بن عبد العزيز كان إذا دخل مقر إقامته يقرأ قوله تعالى: 

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

( سورة الشعراء ).

سيدنا عمر خاطب بطنه قال: قرقر أيها البطن أو لا تقرقر، فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين.
أي طعام جاءه كان يطعمه لأصحابه، وإذا كان بحجم قليل جداً يأكل حاجته والباقي إلى أبي أيوب.

2 – ما عاب طعاما قط:

من آدابه صلى الله عليه وسلم في الطعام: قيل لأم أيوب: أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم عرفتم ذلك لمقامه فيكم ؟ ماذا كان يأكل ؟ وماذا كان يحب ؟ قالت: ما رأيته أمر بطعام فصنع له بعينه، ولا رأيناه أوتي بطعام فعابه.
وصف أحدهم صديقه فقال: كان لي صديق هو من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد.
النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بصنع طعام بعينه ليأكله، أبداً، وإذا جيء بطعام له ما عاب طعاماً قط، بل في بعض آداب النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما عاب طعاما قط، ولا مدح طعاما قط، ما هذه الأكلة ؟ تجنن، ما عاب طعاماً قط، ولا مدح طعاماً قط.

3 – اللباقة عند الحرج من الأكل:

وعن جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً بعث فضله إلى أبي أيوب، فأوتي يوماً بقصعة فيها ثوم، فبعث بها كلها إلى أبي أيوب فقال: يا رسول الله أحرام هو ؟ قال: لا، ولكني أكره ريحه، قال: وإني أكره ما تكره يا رسول الله، يعني مراعاة لأصحابه ما أكل طعاماً في ثوم، من أجل رائحته.
ما هذه اللباقة ؟ ما هذا الحس الراقي جداً ؟ عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال: كنا نصنع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله، وتيمنت أنا وأم أيوب موضع يديه، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له بصلاً أو ثوماً فرده النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نرَ ليده أثراً للطعام، فجئته فزعاً، فقلت يا رسول الله، بابي أنت وأمي رددت عشاءك، ولم أرَ به موضع يدك، وكنت إذا رددته تيمنت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي ربي، فأما أنتم فكلوه، فقال أبو أيوب: فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعدها.

4 – التواضع في المسكن:

وعن أبي أيوب قال: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفلي، أرضي، وأنا وأم أيوب في العلوي، فقلت له: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، إن لأكره، وأعظم أن أكون أنا فوقك، وتكون أنت تحتي، فكن أنت في العلوي، ونحن في السفلي، فقال: يا أبا أيوب إنه أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفلي البيت، قال فكان عليه الصلاة والسلام في سفله، وكنا فوقه في السكن، فلقد انكسر حِبُ ماء لنا في ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، بلحاف، ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفاً من أن يقطر على النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه.

 

5 – استعذاب الماء:

وأما عن شرابه فكان أبو أيوب حينما نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم ليستعذب له الماء من بئر مالك بن النظر، والد أنس، وكان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السُقيا، ومن ذلك دلالة على سنة استعذاب الماء كان النبي عليه الصلاة والسلام ذا أذواق عالية جداً. 

6 – الشرب ثلاث دفعات وحمد الله بعد ذلك:

وعن أنس بن مالك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب جرعة، ثم قطع ثم سمى، ثم جرع جرعة، ثم قطع ثم سمى، ثم جرع جرعة، ثم قطع حتى فرغ، فلما فرغ حمد الله، كان يشرب الماء على دفعات ثلاثة.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب، قال: الحمد لله الذي أطعمنا، وسقنا، وسوغه، وجعل له مخرجاً. 

7 – الاجتماع على الطعام والشراب:

وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل منفرداً، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستة عشرة رجلاً، ولم يكن يأكل وحده.
أيها الإخوة الكرام، هذه أخلاق النبي، كان إذا دخل عليه أصحابه، ودخل إنسان غريب لا يعرف من رسول الله، يقول: أيكم محمد ؟ لتواضعه. 

8 – المساعدة في تحضير الطعام:

ومرة كان في سفر، أرادوا أن يعالجوا شاةً، قال أحدهم: علي ذبحها، وقال الثاني: علي سلخاها، وقال الثالث: علي طبخها، وقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نكفيك ذلك، قال: أعلم أنكم تكفونني ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على إقرانه. 

9 – النوبة في المشي والركوب:

ولما كان مع أصحابه في غزوة بدر، وكان أصحابه بضعة عشر رجلا، وكانت الرواحل قليلة، فقال: 

(( كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، فركب الناقة في نوبته، فلما انتهت نوبته وجاء دوره في المشي توسلا صاحباه أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر )) 

( أحمد )

10 – آخر الناس شربا للماء:

وكان إذا وزّعَ الماء بين أصحابه كان آخرهم شربا. 

11 – كان يجلس حتى ينتهي به المجلس:

وكان يجلس حتى ينتهي به المجلس، هذا مجتمع المسلمين، ما في تفرقة أبداً. 

12 – جمع الشمل:

الآن هناك شيء اسمه جمع الشمل، بلاد كثيرة إسلامية لا تقبل موظفاً من بلد آخر إلا وحده من دون زوجته، سنة بأكملها هو يعاني بُعده عن زوجته، وهي تعاني بُعدها عن زوجها، فإذا كان هو أو هي ضعيف الإيمان أخطأ، وأخطأت، ووقعت الفاحشة، لبُعده عن زوجته.
بينما النبي عليه الصلاة والسلام حينما بنى مجتمع المدينة جمع شمل الأسر، ماذا فعل ؟ أرسل النبي عليه الصلاة والسلام وهو في بيت أبي أيوب زيد بن حارثة، وأبا رافعة إلى مكة، وأعطاهما 500 درهم وبعيرين ليأتيا بأهله، وقد أخذاها من أبي بكر، ليشتريا بها ما يحتاجان إليه، فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة، وأرسل أبو بكر معهما عبد الله بن أريقط دليلاً فقدما بفاطمة، وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجته سودة بنت زمعة، وحاضنته أم أيمن زوج زيد بن حارثة، وابنهما أسامة، وقدما بعيال أبي بكر عبد الله ابن أبي بكر، وأم رومان زوجته، وعائشة بنت أبي بكر، وأختها أسماء زوجة الزبير وهي حامل، فولدت عبد الله بن الزبير في قباء، لشدة متاعب الهجرة، ثم قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، فكان عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام في المدينة. 

هذا هو مجتمع الصحابة:

هذا كان مرة مع أطفال صغار كثر، مر سيدنا عمر، له هيبته الشديدة، فالأولاد تفرقوا وهربوا، إلا عبد الله بن الزبير بقي واقفاً، وقد لفت نظر سيدنا عمر، فقال: أيها الغلام لمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال له: أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
هذا عبد الله بن الزبير أرسل كتاباً إلى معاوية بن أبي سفيان، اسمعوا هذا النص، قال:
أما بعد، فيا معاوية ـ وليس أمير مؤمنين، ولا خليفة رسول الله ـ أما بعد، فيا معاوية، إن رجالك قد دخلوا أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام.
كلام لا يحتمل، من مواطن إلى أمير المؤمنين، معاوية بن أبي سفيان كان يزيد ابنه إلى جانبه، أعطى الكتاب ليزيد، قال: ما ترى أن نفعل ؟ قال: يزيد أرى أن ترسل له جيشاً، أوله عنده في المدينة، وآخره عندك في الشام ليأتوك برأسه، فقال معاوية: غير ذلك أفضل، أمر كاتبه أن يكتب له كتاباً، قال:
أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها.
جاء الكتاب من عبد الله بن زبير:
أما بعد، فيا أمير المؤمنين: أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، دفع الكتاب إلى ابنه يزيد الذي اقترح عليه أن يرسل له جيش أوله عنده وآخره عندك، قال: يا بني، من عفا ساد، ومن حلُم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
ونزل عيال أبي بكر في بيت حارثة بن النعمان، وكانت ولادة عبد الله بن الزبير في شوال بعد أشهر من الحجرة.
نتابع هذا إن شاء الله في درس قادم، ونبين لكم كيف بنى النبي عليه الصلاة والسلام مجتمع المؤمنين، وكيف أضاف إلى قوة الحق حق القوة.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور