وضع داكن
28-03-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 49 - التنظيمات الإدارية في المدينة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

الدين هو الحياة :

أيها الأخوة الكرام ؛

مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ولا زلنا في التنظيمات التي نظمها النبي صلى الله عليه وسلم للمجتمع المسلم في أول كيان سياسي إداري للمسلمين.
 الناس اليوم إذا ذُكر الدين يتوهمون أنه عبادات فقط ، تصلي ، وتصوم ، وتحج ، وتزكي ، وانتهى الأمر ، الدين هو الحياة ، يوجد في الدين تنظيم للعمران ، فيه معالجة للأمراض، فيه اتفاقيات ، فيه إصلاح للدنيا ، اعمل لآخرتك وأصلح دنياك .
 نحن قد نفاجأ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة بدأ يعالج مشكلاتها ، والدين حينما يعزل عن مشكلات المجتمع ينتهي ، الدين يجب أن يعالج مشكلة البطالة ، أزمة السكن ، أزمة الزواج ، تأمين فرص عمل ، أن يعالج القضايا الصحية العمرانية ، الأعمال ، التنظيم ، هذا من الدين ، الدين هو الحياة ، وليس الدين عبادات تؤدى بشكل أجوف، وانتهى الأمر .

الاختلاف المناخي والبيئي بين مكة والمدينة :

 أيها الأخوة ، المهاجرون بعد قدومهم إلى المدينة أصيبوا بمرض شائع في المدينة اسمه حمى يثرب ، هذه المدينة يثرب اشتهرت بهذا المرض ، والمهاجرون حينما قدموا إلى المدينة هناك اختلاف مناخي وبيئي بين مكة والمدينة .
نحن في دمشق إذا سكن أحدنا في الساحل قد لا يستريح ، هناك رطوبة عالية جداً ، وأبناء الساحل إذا جاؤوا إلى مدينة داخلية لا يستريحون ، هناك جفاف في المناخ ، فالإنسان مخلوق بإتقان رائع ، حيث إنه يألف البيئة ، ويتوافق معها ، ويتكيف معها حتى تصبح البيئة جزءاً من كيانه ، فإذا انتقل إلى بيئة أخرى شعر بحرج .
 فأهل مكة ، الأصحاب الكرام الذين هاجروا إلى المدينة اختلف عليهم المناخ ، واختلفت عليهم البيئة ، وفي الأصل يوجد في المدينة مرض اسمه حمى يثرب ، فصحة المهاجرين لم تتحمل هذا الوباء ، وكان له آثار جسيمة على المهاجرين ، حتى أوشك بعضهم أن يموت ، لماذا ؟ أذاق الله النبي الفقر فصبر ، أذاقه الغنى فأنفق ، أذاقه القهر في الطائف فراجع نفسه مع الله عز وجل ، أذاقه النصر في مكة فتواضع ، أذاقه موت الزوجة السيدة خديجة فتألم وصبر ، أذاقه موت الولد فصبر ، وقال :

(( إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإن عليك يا إبراهيم لمحزونون ))

[البخاري عن أنس ]

 وأذاقه طلاق ابنته ، وأذاقه الهجرة ، والهجرة اقتلاع من الجذور ، إنسان مستقر في بلده ، صحته متوافقة مع هذا المناخ والبيئة ، فينتقل فجأة إلى بلد يختلف في مناخه وفي بيئته عن بلده الأصلي .ـ لا لإهمال الصحة :
 ويمكننا أن نتعرف إلى ما أصاب المهاجرين ، ومن ثم ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من مواقف وأعمال أدت إلى تحول المدينة من الوباء إلى الصحة .

 

من لوازم عبوديتنا لله أن نحترم قوانين الله في أجسامنا :

 

ماذا نستنبط ؟

مؤمن يهمل صحته أمرٌ مرفوض ، صحتك رأس مالك ، بل إن من لوازم عبوديتك لله أن تحترم قوانين الله في جسمك ، تأكل ما تشتهي بلا ضابط ، وبلا توجيه طبيب ، ثم تفاجأ بمرض عضال ، وتقول : إن الله قدر علي هذا المرض ، هذا المرض نتيجة طبيعية لعدم الأخذ بالأسباب ، المؤمن شخصية فذة ، جسمه قوي ، تفكيره واضح ، معنوياته عالية ، نفسيته طاهرة ، بيته منظم ، عمله منظم ، مواعيده دقيقة ، حساباته دقيقة ، هذا الذي نتوهم أنه مؤمن مهمل ، ثيابه غير أنيقة ، معاملته غير منضبطة ، مواعيده غير منضبطة ، هذه مشكلة كبيرة ، لذلك الآية الكريمة :

 

﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾

[سورة الممتحنة : 5]

 عندما تعامل إنساناً غير مسلم ، تهمل مواعيدك ، تأتي بعد ساعة ، عملك غير متقن، حساباتك غير منضبطة ، محلك التجاري ليس فيه نظام أبداً ، ولا نظافة ، بضاعتك مهملة أو بضاعة انتهت صلاحيتها ، وتبيعها خطأ ، وأنت مسلم !

﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾

[سورة الممتحنة : 5]

 الطرف الآخر عندما يرى المسلم مقصراً ، مواعيده غير صحيحة ، صحته متردية ، أكله غير منضبط ، بيته غير منضبط ، أولاده مهملون ، هذا الطرف الآخر يتشبث بكفره، من الذي أقنعه بكفره ؟ المسلم المقصر ، المسلم المقصر هو الذي يقنع الكافر بكفره ، الكافر مواعيده دقيقة ، صناعته متقنة ، واضح وضوحاً شديداً .ـ الإسلام حياة شاملة :فلذلك أيها الأخوة ، الإسلام هو الحياة ، الإسلام هو التفوق ، لي كلمة أنا مقتنع بها ، ولا تطالبوني بالدليل : الآن في هذا العصر بالذات ، إن لم تتفوق في دنياك فلا يحترم دينك ، طبيب منذ عام ثمانية وخمسين ما قرأ كلمة في الطب بعدما تخرج ، وهو مسلم من رواد مسجد ، وفي العالم الغربي الطبيب إن لم يحضر في العام الواحد ثلاثة مؤتمرات لا يسمح له بمزاولة حرفته ، منذ عام ثمانية وخمسين لم يقرأ كلمة ، كله على القديم ، يقول لك : أنا تلميذ الشيخ الفلاني ، خيراً إن شاء الله ، الآخر متفوق ، أنا أقول لكم كلاماً من واقع مؤلم ، مؤمن غير متقن لعمله ، غير متقن لمواعيده ، لا يعتني بصحته إطلاقاً ، بيته سائب ، أولاده في الطريق ، زوجته عند الجيران دائماً ، هو مسلم ؟ لا أبداً . 

النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة أسس مجتمعاً منظّماً :

 الآن تفاجؤون أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة أسس مجتمعاً منظّماً ، عالج مشكلات المدينة الصحية والعمرانية ، وعالج الخدمات ، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام بمواقفه وأعماله حول المدينة من الوباء إلى الصحة . فعن عائشة رضي الله عنها قالت :

(( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ـ فيها مجموع أمراض ، في مقدمة هذه الأمراض الحمى ـ فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه ، قالت : فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة ، وبلال مع أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ))

 الحجاب حق من صلب الدين .بالمناسبة في فرنسا ظنوا أن الحجاب رمز إسلامي فمنعوا كل الرموز الدينية ، اليهود يضعون قبعة على رؤوسهم ، والحجاب ظنوه رمزاً إسلامياً ، أنا كان تعليقي أن الحجاب ليس رمزاً بل هو جزء من الدين .
 السيارة المشهورة التي لها علامة ثلاثة خطوط ، المرسيدس ، هذه الإشارة في مقدمة السيارة رمز لها ، لكن مكبح السيارة ليس رمزاً للسيارة بل هو جزء أساسي منها ، فلو ألغيت هذه الشارة تبقى السيارة سيارة ، أما إذا ألغي المكبح كان الحادث حتمياً .
 هذا كلام دقيق ، الحجاب في الإسلام كالمكبح للسيارة ، أما أن نظنه رمزاً يمكن أن نلغيه فهذا كلام فيه جهل كبير .
 قالت : وبهم لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ، أيْ ألم المرض ، فدنوت من أبي بكر فقلت له : كيف تجدك يا أبتِ ؟ فقال :

كل امرئ مصبح في أهله  والموت أدنى من شراك نعله
***

 أي على وشك الموت ، هذه الهجرة ، دُفع ثمن باهظ ـ قالت : فقلت : والله ما يدري أبي ما يقول ، ثم دنوت من عامر ، فقلت له : كيف تجدك يا عامر ؟ فقال :

لقد وجدت الموت قبل ذوقه  إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مــجاهد بطوقــــــــه  كالثور يحمي جلده بروقه
***

 كان سيدنا الصديق ومولاه عامر وبلال في حالة يرثى لها ، قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول ، قالت : وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ، ثم رفع صوته فقال :

ألا ليت شعري هل أبيتن لـيلـــــة  بفخ وحـولي إذخر وجـليـــــــل
وهل أردن يومــــــــــــاً مياه مجنة  وهل يبدون لي شامة وطفيل
***

 ثلاثة رجال في حالة مرض شديد ، وهم على وشك الموت ، قالت عائشة رضي الله عنها : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، فقلت : إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ، قالت : فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة . أي بالدعاء .

 

الدعاء سلاح المؤمن :

إخواننا الكرام ؛

الدعاء أكبر سلاح يملكه المؤمن ، الدعاء سلاح المؤمن ، اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، أو أشد .

 لذلك تروي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً قال : يا رب ، إني تركت مكة ، وهي أحب البلاد إلي ، فأسكني أحب البلاد إليك ، فسكن في المدينة ، وهي بنص الحديث أحب بلاد الله إلى الله .
قال : وبارك لنا في مدها وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة ، مكان بعيد ، دعاء حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة ، أي إلى الجحفة . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضاً ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود من شدة الوعك ، قال : فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم .
 الآن في معظم المساجد عدد كبير من المصلين كلهم على الكراسي ، المريض معذور، وصلاة القاعد إذا كان يستطيع أن يقوم على النصف ، قال :

(( فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل))

[أحمد]

الدعاء لا يقبل إلا إذا كان مقروناً بالعمل وإعداد الأسباب :

 من هاتين الروايتين يتضح أن شدة بالغة أصابت الصحابة الكرام في المدينة المنورة ، والدعاء لم يُعرف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أي انفصال بين القول والعمل .
 دقق الآن : ولا بين الدعاء ولا الأخذ بالأسباب ، هنا موطن الشاهد ، أنت لك أن تدعو الله ، أن تنجح في الامتحان ما لم تدرس الدعاء استهزاء بالله عز وجل ، أنت لك أن تدعو الله ، ولكن الدعاء لا يقبل إلا إذا أخذنا بالأسباب .
 تراجع المركبة قبل السفر مراجعة كاملة ، وتقول : يا رب أنت الحافظ ، وفقني في هذا السفر ، سلمني في هذا السفر ، أما ألا تراجع المركبة إطلاقاً ، وتسأل الله السلامة من دون أخذ بالأسباب فلا ! سيدنا عمر رأى أعرابياً معه جمل أجرب ، قال : يا أخا العرب ، ما تفعل بهذا الجمل ؟ قال : أدعو الله أن يشفيه ، فقال له سيدنا عمر : هلا جعلت مع الدعاء قطراناً .من اكتفى بالدعاء ولم يأخذ بالأسباب لم يفهم الدين ، الابن حرارته مرتفعة ، يا رب اشفه ، لا بد أن تأخذه إلى الطبيب ، وتشرف بنفسك على تلقي الدواء ، تدفع صدقة ، وبعد هذا تقول : يا رب أنت الشافي ، ولا شافي إلا أنت ، فيجب أن يسبق الدعاء أخذ بالأسباب .
 والمشكلة أيها الأخوة أن الغرب أخذ بالأسباب واعتمد عليها ، والشرق لم يأخذ بالأسباب أصلاً ، فالغرب وقع في الشرك ، والشرق وقع في المعصية ، نحن نتوهم ، ما معنى إنسان ديّن ؟ أي أنه متوكل على الله ، الفاكهة يأكلها قبل أن يغسلها ، سمِ الله ، لا يضر مع اسمه شيء ، هذا غير إسلامي ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه ))

[ الطبراني عن سلمان ]

 من أكل فاكهة من دون أن يغسلها فهو مؤاخذ ، عندما كان يشرب الماء يقول :

(( أبن القدح عن فيك ))

[ رَوَاهُ التِّرمِذِيّ عن أبي سعيد الخدري ]

 لأن الزفير ينقل بعض الأمراض ، ما شرب من إناء فيه ثلمة ، لأن هذه الثلمة تتوضع فيها الجراثيم ، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، تجري مراجعة للمركبة تامة وتقول : يا رب سلم ، يا رب احفظني . فكان دعاؤه هذا مقروناً بالعمل وإعداد الأسباب .

 

الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله :

بصراحة هل هناك إنسان على وجه الأرض أحق بالنصر من سيد الخلق ؟ ومع ذلك في الهجرة أخذ بكل الأسباب ، هيأ إنساناً يمحو الآثار ، وهيأ إنساناً يأتيه بالأخبار ، وهيأ إنساناً يأتيه بالزاد ، وسار باتجاه معاكس للمدينة ، وقبع في غار ثور أياماً ثلاثة ، ثم استأجر دليلاً رجح فيه الخبرة على الولاء وأخذ بكل الأسباب ، هذا هو الدين . في التجارة ، في الصناعة ، في الزارعة ، في الوظيفة يجب أن تأخذ بكل الأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء . السيدة عائشة تقول :

(( وقدمنا المدينة ، وهي أوبأ أرض الله ، وكان بطحان يجري نجلاً ، أي بماء آسن ملوث ، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح الماء يجري عذباً ، قالت السيدة عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بطحان على ترعة من ترع الجنة ))

 أخواننا الكرام ؛ حينما كنت صغيراً أذكر أنّ نهر يزيد في دمشق كان معظم أهل الصالحية يشربون منه ، كان هناك دين ، لا أحد يلقي فيه شيئاً ، الآن مياهه سوداء ، كلما قوي إيمان الإنسان يحافظ على البيئة ، وكلما ضعف إيمانه يلوث البيئة ، الآن مياه بردى لونها أسود، من الروافد ، والمياه المالحة ، وهل تصدقون وأنا والله أذكر ذلك ، معظم أهل الصالحية كانوا يشربون من ماء نهر يزيد ، لوجود الورع والدين .
 فالنبي نهى أصحابه ، ما عاد الماء ملوثاً ، توقفت الأمراض ، أصبح هذا الوادي فيه ماء نقي .

 

النظافة أحد أسباب الصحة :

 شيء آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( تنظفوا بكل ما استطعتم ، فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ، ولن يدخل الجنة إلا كل نظيف ))

[الطبراني في المعجم الأوسط عن عائشة]

أريد أن أعطيكم فكرة عن نظافة النبي ، وعن أناقته ، وعن ذوقه الرفيع ، أمامه طبق تمر ، فأخذ تمرة وأكلها ، ما الذي يجري عادة ؟ بعد أن يأكلها يمسك بالنواة ، ويضع النواة على طرف الخوان ، إصبعاه أخذا شيئاً من لعابه الشريف ، أخذ النواة من فمه محاطة باللعاب ، وأمسكها بإصبعه ، لو أمسك تمرة ثانية وجدها قاسية جداً فتركها وأكل الثالثة ، ما الذي حصل ؟ انتقل لعابه الشريف إلى تمرة لم يأكلها ، كيف كان يأكل التمر ؟ كان يضع النواة هنا ، وتبقى أصابعه جافة ، أرأيت إلى هذا الذوق ؟ كان إذا أكل التمرة وضع النواة على ظهر أصابعه ، أما إبهامه وسبابته تبقى هاتان الإصبعان جافتين ، هكذا الذوق .كان عليه الصلاة والسلام يُعرف بريح المسك ، كان يقول : نظفوا أفنيتكم ، تدخل بيتاً نظيفاً ، والله دخلت مرة إلى بيت في بلدة من قرى دمشق ، والله بيت متواضع جداً بغير إسمنت ، لبن وطين ، لكن طلاءه جيد ، فيه نظافة ، فيه ترتيب ، شيء لا يصدق ، المؤمن نظيف ومرتب ولو كان بيته متواضعاً ، أحياناً هناك أناقة ، وتناسب ألوان ، ونباتات بقياس واحد كلها ، كلها مطلية بطلاء واحد ، شيء جميل . فالنبي عليه الصلاة والسلام هكذا قال :

(( إن الله تعالى طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا أفنيتكم))

[ الترمذي عن سعد ]

 والآن ثبت أن النظافة أحد أسباب الصحة ، وهناك أمراض كثيرة سماها العلماء أمراض القذارة ، وفي العالم الآن ثلاثمئة مليون إنسان مصاب بمرض القذارة ، حيث يكفي أن يدخل إنسان إلى دورة المياه ، وبعد ما انتهى ما نظف أصابعه تماماً ، لو كان معه وباء كبدي قاتل يمكن أن ينقل المرض إلى ثلاثمئة إنسان من رواد المطعم ، فالنظافة أحد أسباب الصحة . 

النبي عليه الصلاة والسلام حضّ على الطهارة بشتى مجالاتها :

 النبي عليه الصلاة والسلام حض على الطهارة بشتى مجالاتها ، طهارة النفس ، طهارة الجسم ، طهارة اللباس والسكن .
 صدقوا ، أنا زرت بلاداً كثيرة جداً ، في كل أستراليا ليس هناك إلاّ الورق للتنظيف في دورات المياه ، أما عندنا فهناك مياه ، والتنظيف بالمياه أعلى مستوى ، وفي كل أمريكا التنظيف ورق ، ودورات المياه بالمطارات كلها ورق ، أما في بلادنا فهناك ماء ، وأمراض القذارة مشكلة كبيرة جداً ، والمسلمون الذين يعتنون بنظافتهم نظافة نفوسهم أولاً ، ونظافة أجسامهم ، ونظافة ثيابهم ، ونظافة بيوتهم ناجون من أمراض لا تعد ولا تحصى .

لذلك دقق في بعض التوجيهات : لا يجوز التبول في مهب الريح ، لأن البول يعود على الإنسان بفعل الرياح ، ولا في الماء الراكد ، ولا في ماء قليل ، ولو كان جارياً ، الماء القليل الجاري محرم البول فيه ، أو في كثير أيضاً ، ولا في المقابر احتراماً للموتى ، ولا في الطرقات .
 بالمناسبة ، الإنسان عنده حقوق مدنية بالمصطلح الحديث ، لكن قديماً عنده العدالة ، العدالة تمتع الإنسان بالحقوق المدنية ، الضبط والعدالة ، الضبط صفة عقلية ، والعدالة صفة نفسية ، هذه العدالة إما أن تسقط ، وإما أن تجرح ، كيف تسقط ؟ من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم ولم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته . هذا مؤمن يتمتع بحقوقه المدنية ، من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته، إذا عاملهم فظلمهم ، سقطت عدالته ، إذا حدثهم فكذبهم ، سقطت عدالته .

(( المؤمن يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة ))

[أحمد عن أبي أمامة ]

 فإذا كذب أو خان فليس مؤمناً ، ووعدهم فأخلفهم سقطت عدالته ، هذه الأشياء الثلاثة تسقط العدالة .

 

بنود تجرح العدالة وتسقطها :


لكن يوجد ثلاث وثلاثون حالة تشرحها ، من بال في الطريق جرحت عدالته ، من مشى حافياً جرحت عدالته ، من أكل في الطريق حرجت عدالته ، من قاد برذوناً ، قاد كلبًا مخيفًا، خوّف الصغار جرحت عدالته ، من أطلق لفرسه العنان ، الآن أسرع في السير بالسيارة جرحت عدالته ، من كان حديثه عن النساء جرحت عدالته ، من تنزه في الطرقات ، طريق يعج بالحسناوات ، كاسيات عاريات ، يحلو له التنزه بهذا المكان جرحت عدالته ، من علا صياحه في البيت حتى سمعه من في الطريق جرحت عدالته ، من طفف بتمرة ، فلم يأتِ الوزن تماماً ، حمل وقال له : تفضل ، الآن بالبنزين تقول له : فرضاً بألف ليرة ، لا يكملها ، تطفيف بتمرة ، يجرح العدالة ، أكل لقمة من حرام ، أكل مشمشة ، كم الكيلو ؟ غالي الثمن ، أكل لقمة من حرام ، تطفيف بتمرة ، الحديث عن النساء ، التنزه في الطرقات ، من علا صياحه في البيت ، من قاد برذوناً ، من أطلق لفرسه العنان ، هذا كله يجرح العدالة ، من مشى حافياً ، من بال في الطريق ، من صحب الأراذل ، إنسان منحرف الأخلاق تمشي معه تتهم به ، عدّ الفقهاء ثلاثة وثلاثين بنداً تجرح العدالة .لذلك لا يجوز التبول لا في مهب الريح ، ولا في ماء راكد ، ولا في ماء قليل جارٍ أو كثير ، ولا في المقابر ، ولا في الطرقات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل ))

[ أبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن معاذ]

 نبع ماء صافٍ تقضي حاجة بجانبه ؟ ويرتاده الناس ليشربوا ! وفي قارعة الطريق وفي الظلال ، ظلال الأشجار ، ولا يجوز أن يبول المرء تحت شجرة مثمرة .

 

الإتقان جزء من الدين :

 أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام توضأ من قعر ، قال : ردوها في النهر ينفع الله بها قوماً آخرين ، هذا اسمه ترشيد استهلاك المياه ، فضلت فضلة ردوها في النهر ، ينفع الله بها قوماً آخرين .
 أحيانا من أجل تبريد الماء تستهلك نصف متر مكعب ، ضع قارورة في البراد ، أما أن تستهلك هذا الماء ، في إلقاء الفضلات ، القمامة ، والتغوط ، والتبرز ، أمر النبي الكريم بالابتعاد عن المساكن في إلقاء الفضلات ، وجعل لها أماكن مخصصة تدعى المناصع ، بعيداً عن المساكن ، هذه تنظيمات ، الدين حياة ، الدين نظافة ، الدين نظام ، الدين صحة ، الدين وقاية من الأمراض ، المسلم بتصور الناس مهمل ، ليس عنده نظافة ، ولا نظام ، ولا موعد ، ولا إتقان بالعمل .
والله مرة متعهد يتعهد لتجديد مدرسة ، يضع القفل والبرغي المحلزن بالمطرقة ، ضربة واحدة أصبح في الداخل ، هذا البرغي قوته تأتي من إدخاله بشكل دائري ، أما ضربة بالمطرقة دخل لداخل الخشب حفر موشوراً ، بعد أيام يُنزع القفل ، قال لي : هكذا أسرع ، قلت له : ما هذا؟! لذلك نحن إخواننا الكرام عندنا تخلف كبير جداً ، ليس هذا هو الإسلام ، الإسلام إتقان .

(( إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ))

[ البيهقي عن عائشة رضي الله عنها ]

 الإتقان جزء من الدين ، تروي الآثار : أن النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء دفن بعض الصحابة الذي حفر القبر ترك فرجة هكذا ، فقال عليه الصلاة والسلام: 

(( إن هذه لا تؤذي الميت ، لكنها تؤذي الحي)) 

[ورد في الأثر]

 أحياناً مفتاح الكهرباء مائل مزعج ، هذا الميل يخدش الذوق ، اجعله متوازياً مع أرض الغرفة ، يقول لك : يعمل ، لو عمل فهناك ذوق ، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول :

(( إن هذه لا تؤذي الميت لكنها تؤذي الحي ))

[ورد في الأثر]

(( إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))

[الطبري في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها ]

 أيها الأخوة ؛ أنا أبين لكم ماذا فعل النبي في المدينة ، جعل الإسلام هو الحياة ، جعل النظافة ، والنظام ، والخدمات ، جعلها في أعلى مستوى ، لذلك هذه الحمى التي كانت من علامات المدينة ، حمى يثرب تلاشت ، هو دعا وأخذ بالأسباب وبعدئذٍ توكل على رب الأرباب. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور