وضع داكن
20-04-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 29 - الهجرة -4- الصحبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الأكارم، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ولا بد من كلمة تمهيدية.

كلمة تمهيدية

سيرة النبي كتاب وسنة

لو أنه لم يكن كتاب وسنة لكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنة، لأنه :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

( سورة النجم).

فأقواله، وأفعاله، وإقراره، وصفاته منهج لبني البشر، هو سيد الخلق وحبيب الحق.
لكن لا بد من ملاحظة ثانية: 

أحداث السيرة مقصودة للتشريع

إن كل الأحداث التي وقعت في عصره كانت مقصودة من قِبَل الله عز وجل ليقف منها الموقف الكامل المشرع، أفعاله تشريع يمكن أن نستنبط من أفعاله قواعد، وقوانين ومناهج في السلامة والسعادة، هو إنسان متميز أقسم الله بعمره الثمين، إله خالق السماوات والأرض يقسم بعمر إنسان، قال: 

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ 

( سورة الحجر ).

والمقولة التي أرددها كثيراً: أن الكون قرآن صامت، وأن القرآن كون ناطق ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، هو زوج كامل، وأخ كامل، وأب كامل وجار كامل، وقائد كامل، وزعيم كامل، فلذلك ما خاطبه الله عز وجل باسمه أبداً: 

﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾

( سورة مريم الآية: 12 ).

﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 55).

ولم يرِد في القرآن الكريم يا محمد: 

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾

( سورة المائدة الآية: 67 ).

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾

( سورة التحريم الآية: 9).

إذاً بادئ ذي بدء الأحداث التي وقعت في حياة النبي كانت مقصودة لذاتها، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً مشرعاً لنا، لذلك إذا قال الله عز وجل:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

( سورة الأحزاب الآية:21 ).

كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا إن لم نعرف سيرته، هذا ينقلنا بالمناسبة إلى قاعدة في أصول الفقه وهي:

ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض

أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، الصلاة فرض، هل تتم من دون وضوء ؟ لا، إذاً الوضوء فرض، ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما تتم السنة إلا به فهو سنة، قياساً على هذا، إذا قال الله:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

هذا أمر يقتضي الوجوب، كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لنا إن لم نعرف سيرته ؟ تكاد معرفة سنة النبي العملية تكون فرض عين على كل مسلم، لينفذ الآية، أضرب على ذلك مثلا:
السيدة عائشة أم المؤمنين زوجة سيد العالمين، الطاهرة، العفيفة، الحَصان اتهمت بأغلى ما تملكه امرأة، اتهمت بعفتها، لماذا ؟ لتكون أسوة حسنة لكل فتاة طاهرة عفيفة، حَصان اتهمت كيداً بأثمن ما تملكه.
إذاً هؤلاء الصحابة الكرام هم قدوة لنا أيضاً، لأنهم عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عقد زعماء قريش اجتماعاً خطيراً في دار الندوة، حيث تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم لخص مؤامرتهم، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 30 ).

أي ليسجنوك.

﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ﴾

﴿ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

( سورة الأنفال ).

مرة ثانية: معركة الحق والباطل أرادها الله عز وجل، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن المؤمن لا يرقى إلا بالصبر والبر والتضحية، ولأن الكافر لعله يهتدي إذا مع المؤمن، 

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

أيها الإخوة، بيّن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حصار المشركين لبيت صلى الله عليه وسلم ابتغاء قتله، هذا يعني أنه لا يجب أن تضعف إذا أراد بك الأعداء شراً، الله عز وجل يسمح لهم بالبدايات، ولكنهم لن ينجحوا، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

( سورة الأعراف ).

الأمور تدور، وتدور، وتدور، ولا تستقر إلا على نصر المؤمن، لذلك ينبغي ألا تضحك أولاً، بطولتك أن تضحك آخر، إن الذي يضحك أولاً يضحك قليلاً، ثم يبكي كثيراً ، أما الذي يضحك آخر يبكي قليلاً، ثم يضحك كثيراً، ثم جنة عرضها السماوات والأرض. 

﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾

( سورة المطففين ).

لا تفرح بالضحك المبكر، افرح بالضحك المتأخر.
حينما يولد الإنسان كل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، فإذا وافته المنية كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده. 

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة يس ).

حصار المشركين لبيت النبي ابتغاء قتله

بيّن عبد الله بن عباس حصار المشركين لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، الآن هؤلاء الصناديد، كفار قريش، أبو لهب، أبو جهل، هؤلاء الذين قاوموا الدعوة، وحاربوا النبي، ونكلوا بأصحابه، أين هم اليوم ؟ في مزبلة التاريخ، والذين وقفوا معه، أبو بكر عمر، عثمان، علي، طلحة، الزبير، ابن مسعود، هؤلاء الصحابة الكبار أين هم ؟ في أعلى عليين.
إخواننا الكرام، امشِ في سوق الحمدية في يوم مزدحم، كل هؤلاء الذين تراهم بعد مئة عام تحت الأرض، وكل الذين كانوا قبل مئة عام كانوا مثلنا، بيوت، وهموم وشركات، ودعاوى في القضاء، وزواج، وطلاق، وسفر، وحضر، وتهنئة، وحفلات، انتهى كل شيء، الموت ينهي قوة القوي، وينهي ضعف الضعيف، وينهي صحة الصحيح ، وينهي مرض المريض، وينهي غنى الغني، وينهي فقر الفقير، وينهي وسامة الوسيم ، وينهي دمامة الدميم، ولا يبقى إلا العمل الصالح الذي عملته تقرباً إلى الله عز وجل، فالدنيا زائلة.

شدة حب الصحابة للنبي

سيدنا علي، وهذه تضحية كبيرة، لأن المشركين ائتمروا على قتل النبي e، وضع مكانه علي بن أبي طالب، واحتمال أن يدخلوا عليه فجأة، ويقتلوه دون أن يتحققوا قائم، فلذلك أبو سفيان قال مرة: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
امضِ يا رسول الله بما أردت، نحن معك، والله لو خضت هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ودع ما شئت، فو الذي بعثك بالحق للذي تأخذه أحب إلينا من الذي تدعه لنا، هكذا الصحابة، أما صحابة نبي آخر فقالوا:

﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾

( سورة المائدة ).

الصحابة الكرام أكرم الله نبيه بهم، فقال عليه الصلاة والسلام:

((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي ))

[ رواه الطبراني عن عويمر بن ساعدة ].

حصار المشركين لبيت النبي ابتغاء قتله

أما نحن فحاجة ماسة إلى هذا الدرس
ينقصنا الحب لا المساجد، المسجد النبوي كان سقفه من سعف النخيل، وأرضه من الرمل، هنا سجاد مدفأ من تحته، ثريات، أعمدة، سقف شامخ، المساجد أرقى الآن بكثير، والكتب والمجلدات، والمؤتمرات، والأشرطة شيء لا يصدق، لكن لا حب بيننا، لا أقول: نحن بالذات، ليس هناك حب بين المسلمين، الأمة الإسلامية ممزقة، لماذا ؟

﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾

( سورة المائدة الآية: 14 ).

كلما اقتربت من الله أحببت أخاك، وكلما ابتعدت عنه تنافست معه، فالذي كان بين الصحابة من حب وود لا يعلمه إلا الله، أُخوة صادقة، يؤدون صلاة العشاء مع رسول الله، ثم يفترقان صحابيان، وقبل الفجر يلتقيان فيعانق أحدهما الآخر ويقول لأخيه: وا شوقاه غاب عنه ست ساعات فقط، وا شوقاه، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حرص النبي على ردِّ أمانات المشركين مع خطورة الوضع

 

هنا نقطة دقيقة، أناس كثيرون يذهبون إلى بلاد الغرب، ويشترون بطاقات ائتمانية ليستخدموها في المحلات التجارية، ويشترون بمبالغ طائلة، ويعودون إلى بلدهم ولا يدفعون شيئاً من هذه الديون المترتبة عليهم، ظناً منهم بغباء ما بعده غباء، وسذاجة ما بعدها ساذجة، وجهل ما بعده جهل أنهم كفار، لماذا أبقى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه 

وعرضه للخطر، خطر القتل، من أجل ماذا ؟

من أجل أن يرد الودائع لأصحابها، من أصحاب الودائع ؟ كفار، أرأيتم إلى فهمنا السقيم ؟!!
إخواننا الكرام، أنت إذا أسأت إلى مسلم يقول الناس: فلان أساء إلى فلان فقط ، أما إذا أسأت إلى غير المسلم فإنه يتهم الإسلام بالإساءة، أنا أرى أن الخطأ مع المسلم أقلّ بكثير من الخطأ مع غير المسلم، لماذا أبقى علي في فراشه، وعرضه للقتل ؟ من أجل أن يرد ودائع المشركين إلى أصحابها، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾

( سورة المائدة الآية: 8 ).

لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((من غش فليس منا ))

[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ].

مطلقاً، لو كان عابد وثن ينبغي ألا تغشه، إسلامنا إنساني، معظم الأنظمة في العالم أنظمة عنصرية، تعطي شعبها، ترفع مستوى شعبها، تهيئ فرص العمل لشعبها على حساب بقية الشعوب، هذه أنظمة غير إنسانية، أما الإسلام فدينٌ إنساني، والإسلام أممي، وكل من دخل في الإسلام له ما لنا، وعليه ما علينا، من دون أي تمييز، لذلك فإن إنسانًا من هؤلاء أفتي له أن هؤلاء غير المسلمين لك أن تأخذ أموالهم، فأخذ أموالهم بجرم فقد أخذ المال الحرام ، وأودع السجن، مضى عليه في السجن سنوات، أعطي كتابًا في السيرة، فلما وصل إلى هذه الفقرة، رأى نفسه مجرماً، كان متوهماً أنه فعل صواباً:

(( اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا، فإنها ليس دونها حجاب ))

[ رواه أحمد في مسنده عن أنس ].

هذا درس بليغ في السيرة، ضحى بابن عمه علي، واحتمال قتله قائم، من أجل أن يرد الودائع إلى أصحابها المشركين، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا مات أحد صحابته الكرام، وكان هذا الصحابي من أقرب الناس إليه يسأل: أعليه دين ؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، من عادة الصحابة أن يقول أحدهم: علي دينه يا رسول الله، كي يصلي عليه، فيقبل النبي هذه الضمانة، ويصلي عليه، يسأله بعد يومين أأديت الأمانة ؟ قال: لا، أأديت الدين ؟ قال: لا، في اليوم الخامس يقول له: لقد أديت الدين، فيقول عليه الصلاة والسلام: الآن ابترد جلده.
كم في المسلمين مَن يأكل الأموال بالباطل زوراً وبهتاناً ؟ وهذا القضاء، أنا لست متشائماً، ولكن أتمنى ألا تعتبوا على الله إذا بدا لنا أنه تخلى عنا، لا تعتبوا على الله، البنية التحتية، الطبقة المسلمة أقل طبقة عندها أخطاء كثيرة جداً.
قال سيدنا عمر لأحد أصحابه: هل تعرف فلانًا ؟ قال له: نعم، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، هل سافرت معه ؟ قال: لا، هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال: لا، قال: إنك لا تعرفه إذاً.
وقفت عند هذه النقطة لأن هناك أناسًا كثيرين يبيحون لأنفسهم أخذ أموال غير المسلمين، وهذا خطأ كبير، الأمانة لا تجزأ، والاستقامة لا تجزأ، وما هو حرام حرامٌ، مع من يلوذ بك، ومع من لا يلوذ بك، مع من يدين بدينك، ومع من لا يدين بدينك.
وكما تعلمون انتقل النبي إلى غار ثور، وقام المشركون بتقفي أثره.

 

الأخذ بالأسباب والتوكل على الله

 

الحقيقة عودًا على بدء، ذكرت لكم في أول الدرس أن كل الأحداث التي وقعت في أحداث النبي مقصودة لذاتها، النبي علمنا أن نأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، علمنا ذلك والله عز وجل شاءت حكمته أن يصل المطاردون إليه، لماذا ؟ ما الحكمة ؟ الحكمة أنه أخذ بالأسباب تعبداً لله، ولم يعتمد عليها، لكنه اعتمد على الله، فلما وصلوا إليه كان واثقاً من الله قال:

(( يَا أَبا بَكْرٍ، مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ؟ ))

[ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ].

إذاً الدرس الثاني: ينبغي أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وينبغي أن تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء.
في روايات ليست قوية جداً نسيج العنكبوت رواية ضعيفة، والحمامتان الوحشيتان أيضاً رواية ضعيفة، والشجرة التي نبتت في وجه الغار الرواية ضعيفة، لكن من حكمة الله جل جلاله أنه إذا أراد أن يحفظ إنساناً يحفظه بأقل الأسباب، وأحياناً يدمر إنساناً بأتفه الأسباب، وإنّ نقطة دم لا يزيد حجمها على رأس الدبوس تتجمد في مكان من الدماغ تصيبه بفقد وعيه كلياً، إذاً نحن في قبضة الله عز وجل.
وحين أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب جاء صلى الله عليه وسلم متقنعاً إلى منزل أبي بكر رضي الله عنه في وقت لم يعتد أن يزوره فيه في نحر الظهر، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، وقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه وقائع ما جرى فقال: 

(( فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا بها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي ))

 

الإسلام حبٌّ ونصرة وحسن معاملة

إخواننا الكرام، الإسلام حب، فإذا فرغت الإسلام من الحب فهو نصوص، وأفكار وأدلة، وحجج فقط، غدا كجثة بلا روح، انظر إلى وردة صُنعت من البلاستيك تضعها في البيت أيامًا معدودة، ثم تملّ منها، وقد تلقيها في القمامة، أما الوردة الطبيعية فلا تشبع من النظر إليها، ولا من شمها، لأنه فيها حياة.
إخواننا الكرام، تصور بيتًا فيه براد، غسالة، مكيف، سخان، كل الأجهزة الكهربائية من دون استثناء، و دون أن أذكرها جميعاً، لكن ليس فيه كهرباء، كلها لا معنى لها إطلاقاً، مملة، تأخذ حجماً، نحن في أمسّ الحاجة إليه، فإذا سَرَت الكهرباء في البيت فكل آلة لها قيمة كبيرة جداً، صدقوا، ولا أبالغ: إذا كنت مؤمنًا كان الهدف واضحًا، الآخرة واضحة، إيمانك قوي، تعرف حقيقة الكون، وكيف سُخر لك، تعرف حقيقة الدنيا، وكيف أنها دار عمل، وليست دار أمل، ودار تكليف لا 

دار تشريف، دار سعي، وليست دار جزاء

إن علمت الحقيقة تماماً، الزواج له معنى كبير جداً، أكبر من أن تحقق متعة كنت محروماً منها، أكبر بكثير، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: << والله أقوم إلى زوجتي وما بي من شهوة إلا ابتغاء ولد صالح ينفع الناس من بعدي >>، الزواج له معنى، والعمل تختار فيه نفع للمسلمين، فينقلب عملك عبادة، وأنت في معملك، وأنت في مكتبك، وأنت في دكانك وأنت في صفّك، وأنت أستاذ في الجامعة، وأنت مهندس، لأن الحرفة التي تكون في الأصل مشروعة، وتسلك فيها الطرق المشروعة، وتبتغي بها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين، ولم تشغلك عن واجب، ولا عن فرض، ولا عن عمل صالح، ولا عن طلب علم، انقلبت حرفتك إلى عبادة، هكذا المسلم، يسعد في عمله، لأنه عبادة، فإذا جلس مع زوجته وأولاده يسعد بهذا الجلوس لأنه عبادة، وإذا أخذ أهله نزهة هذه النزهة عند الله عبادة لأنه متن العلاقة مع زوجته وأولاده، وخفف عنهم أعباء الحياة، ولا يقطعون وادياً، ولا يطئون موطأ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.
فإذا سرت الكهرباء كانت الأجهزة كلها ثمينة، وكلها لها فائدة، أما من دون إيمان فلا حياة، بل كانت الحياة مملة، حياة فيها ضجر، فيها قلق، فيها إحباط، فيها تشاؤم، فيها خوف، فيها رعب.

الإذن بهجرة النبي إلى المدينة

السيدة عائشة قالت: << بينما كنا نحن يوماً جلوسًا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، يعني لأمر جللٍ، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، يعني أنا صاحبك بالهجرة.
والله أيها الإخوة، مرة كنت في عقد قران، وقام خطيب فقال كلمة جيدة، لكن فيها كلمة هزت أعماق أعماقي، النبي عليه الصلاة والسلام يقول لسيدنا معاذ: والله يا معاذ إني لأحبك، هذا وسام شرف، أن يحبك أهل الإيمان، وأحياناً الفسقة يحبون بعض الناس، لأنهم على شاكلتهم، فقل لي من يحبك أقلْ لك من أنت، هل يحبك أهل الإيمان ؟ هل يحبك المقربون إلى الله ؟ هل يحبك المنصفون ؟ هل يحبك العاملون في طاعة الله عز وجل، قال: والله يا معاذ إني لأحبك، أما سيدنا سعد فقال:

(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))

[ أخرجه مسلم عن علي وعن سعد بن أبي وقاص ].

هذا خالي أروني خالاً مثل خالي، كان يداعبه، وما فدى أحداً بأمه وأبيه إلا سعد بن أبي وقاص.
سيدنا عمر الفقيه العملاق، قال لسعد بعد وفاة رسول الله: << يا سعد، لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له >>.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

( سورة الحجرات ).

فقال أبو بكر: الصحبة ؟ يعني هل أكون صاحباً لك ؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: نعم، فقال أبو بكر: فخذْ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قطعت نطاقها قطعتين على شكل سريدة، وربطت بها فم الجوربين، الذين فيهما غذاء الصاحبين.
أيها الإخوة، ألك أعمال تذكرها من حين لآخر تعتز بها، وتقول: يا رب اجعلها في ميزان حسناتي ؟ ألك أعمال ؟ ألك بطولات ؟ ألك إنفاق ؟ ألك خدمة للناس ؟ ألك موقف فيه بطولة ؟ فيه جرأة، فيه ورع، فيه زهد، هذا الذي يمكن أن تعتد به يوم القيامة إذا وقفت للحساب بين يدي الله عز وجل.
لو أن الله سبحانه وتعالى أوقف أحدنا يوم القيامة، وقال: يا عبدي ؟ ماذا فعلت من أجلي ؟ ماذا يقول أحدنا ؟ يا رب، تزوجنا، لك الزواج، اشترينا بيتًا، ذهبنا إلى النزهات، أقمنا سهرات رائعة جداً، تحدثنا في السياسة طوال السهرة، وسمعنا الأخبار، وحللنا، والسهرة كانت مختلطة، ماذا فعلت من أجلي ؟ هل واليت فيّ ولياً ؟ هل عاديت فيّ عدواً ؟ هل بذلت من مالك ؟ هل بذلت من وقتك ؟ هل بذلت من جاهك ؟.

 

ماذا أعددْنا ليوم القيامة من عمل صالح ؟

إخواننا الكرام، هذا أخطر موضوع ماذا أعددنا يوم القيامة إذا قيل لنا ما عملكم يقول عليه الصلاة والسلام:

(( إذا مات الإنسان انقطع عمله ))

[ أخرجه مسلم عن أبو داود، الترمذي، النسائي، عن أبي هريرة ].

هل تعلمون من له الويل ؟

(( إذا مات الإنسان انقطع عمله ))

الويل لمن ؟ لمن ليس له عمل، هذا في الذي له عمل ينقطع، فكيف بالذي ليس له عمل، لكن البطولة أن يكون لك عمل لا ينقطع، أن تكون أمة، أن تكون في قلوب أمة، أن تدع أثراً تبكي عليه السماء والأرض، بدليل أن الله جل جلاله يصف أهل الدنيا الكفار بأنهم حينما يموتون لا تبكي عليهم السماوات والأرض، أما المؤمن بالمعنى المخالف فتبكي عليه السماء والأرض.
أريد قبل أن أختم الدرس أن نكون متيقنين أن يكون حجمنا عند الله بحجم عمله الصالح.
حينما غرقت الباخرة العبارة قبل أسابيع، ومات ألف رجل وامرأة قرأت في صحيفة حينما كنت في العمرة بمقابلة مع أحد الذين نجوا، لفت نظري أن هذا الناجي وهو يصارع الموت ثلاثة أيام شريط حياته رسم أمامه حَدثاً حدثاً، موقفاً مَوقفاً، كلمةً كَلمةً ، حَركةً حركةً، سَكنةً سَكنةً، هذا حق، الإنسان قبل أن توافيه المنية يذكر كل أعماله من دون استثناء.
يا قييس، إن لك قريناً تدفن معه وهو حي، ويدفن معك وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك.
أخطر شيء عملك، أنت رجل، كنت تاجراً، هل كنت صادقاً ؟ هل كنت أميناً هل نصحت المسلمين ؟ أنت كنت محامياً، هل قبلت دعوى أنت واثق أنها لن تنجح ؟ ولكنك كسبت الوقت، وكسبت أتعاباً لا تستحقها، أنت طبيب، هل كبرت الأمر على المريض أم كنت معتدلاً في وصف مرضه ؟ بكل حرفة في آلاف الطرق الغير مشروعة في كسب المال في أية حرفة.

وجوب الاستفادة من السيرة النبوية

فلذلك أيها الإخوة، نحن يجب أن نستفيد من هذه السيرة، الحياة مواقف، الحياة مواقف بطولية، الحياة التزام، الحياة صبر، الحياة تضحية، من لم يكن له مثل هذه الأعمال هو ميت كحي، وحي كميت.
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء.
والله عز وجل وصف أهل الدنيا بأنهم.

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾

( سورة النحل الآية: 21 ).

قد يكون ضغطه 8 ـ 10ـ 8 ـ 12 ـ هذا أفضل ضغط، ونبضه ـ70 ـ وفحص دمه فحصًا كاملا، فكان كله طبيعيًّا، وهو عند الله ميت، لأنه ليس له عمل صالح له، والغنى والفقر بعد العرض على الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور