وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0773 - استجيبوا لله وللرسول .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا، و سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإكراماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من لم يكن على الحق فهو على الباطل حتماً :

 أيها الأخوة الكرام: مضى رمضان، هنيئاً لمن صامه كما أراد الله، ولمن قام ليله كما أراد الله، وهنيئاً لمن كان عتيقاً من النار في رمضان، وهناك فرص تتلوها فرص لمن قصر في رمضان، أي شهر في العام يمكن أن يكون للمقصر رمضان، فالله عز وجل موجود، وهو يسمعك إذا دعوته، وهو يستجيب لك إذا سألته، وهو يتوب عليك إذا تبت، فيا أيها الأخوة الكرام تفتح الآن صفحة جديدة للسابق وللمقصر، ولمن ظلم نفسه في رمضان، تفتح صفحة جديدة وإذا أردت أن تتحرك حركة باتجاه الحق رأيت الله عز وجل يستجيب لك أيما استجابة.
 من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني مشياً أتيته هرولة، هذا في رمضان وفي غير رمضان وفي أي شهر من شهور العام.
 موضوع هذه الخطبة أيها الأخوة آيات ثلاث ، الآية الأساسية التي هي محور الخطبة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 ولكن قبل أن أشرح هذه الآية بتوفيق الله ومعونته هناك آية ثانية، الآية الثانية:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 الأمر استجيبوا :

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 إن لم تكن على الحق فهذا الإنسان على الباطل حتماً، إن لم يكن مستجيباً لله فهو يتبع الهوى، لا تحابي نفسك، لا تعش في وهم مريح، كن جريئاً، اعرف الحقيقة المرة ولا تبالي بالوهم المريح، إن لم تستجب لله في قرآنه، وإن لم تستجب للرسول في سنته، فأنت متبع للهوى شئت أم أبيت، أعجبك أم لم يعجبك، قبلت أم لم تقبل، هكذا نص القرآن الكريم.

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

من لوازم اتباع الهوى وقوع الإنسان في الظلم :


 وماذا يكون لو اتبعت الهوى؟ قال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 ليس في الأرض كلها من هو أشدّ ضلالاً وغباء وحمقاً وبعداً عن المنطق ممن يتبع هواه بغير هدىً من الله، وقد يستنبط من هذا أن من يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل فلا شيء عليه، اشتهى المرأة فتزوج، لا شيء عليه، أحب المال فكسبه بطريق مشروع، لا شيء عليه، أحب أن يكون متميزاً فأطاع الله، هذه الدوافع الثلاثة.

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 معنى ذلك أن اتباع الهوى لابد من أن ينتج عنه ظلم بشكل أو بآخر، قد يكون ظلم النفس، وقد يكون ظلم الآخرين، والظلم ظلمات يوم القيامة، اتباع الهوى من لوازمه أن يقع الإنسان في الظلم، وظلم النفس أشدّ أنواع الظلم، وظلم الآخرين ذنب لا يترك، ما لم يصحح هذا الذنب، ما لم تعتذر، مالم تؤد الحقوق، وإذا قال الله عز وجل:

﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ﴾

[ سورة الأحقاف: 31 ]

 أي بعض ذنوبكم التي بينكم وبينه، أما التي بينكم وبين عباده فلا تغفر إلا بالأداء أو بالمسامحة، فكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعني أنك إذا حججت إلى بيت الله الحرام رجعت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، أو من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ذنبه، الذي بينك وبين الله فقط، هذا بإجماع العلماء، لأن هناك ذنباً لا يغفر هو الشرك، وذنباً لا يترك هو الذي بينك وبين العباد، وذنباً يغفر وهو الذي بينك وبين الله، أي كأن حقوق العباد مبنية على المشاححة، إنما حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة.

 

على الإنسان أن يستجيب لله ولرسوله في الأوامر و النواهي :

 أيها الأخوة الكرام:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 حيثما جاءت لله وللرسول، أي استجيبوا لله في أوامره ونواهيه التي في القرآن، وهو كلامه، واستجيبوا للرسول عليه الصلاة والسلام في سنته أمراً ونهياً، إذاً عندنا أصلان في الدين لا ثالث لهما، كتاب الله وسنة رسوله :

﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 معنى استجيبوا أي أطيعوا، اضبطوا، نفذوا التزموا، لابد من حركة، ما دمت مستمعاً للأقوال معجباً بها وتثني على قائليها، وقد أُعجِبت بهذا الكتاب، وبهذه المحاضرة، وهذا المؤتمر، وهذا البحث، وهذا الشريط، وهذا الموقف، إعجابك لا يقدم ولا يؤخر ما لم تتحرك، ما لم تتخذ موقفاً.

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال:: 72 ]

 لابد من أن تقف موقفاً، لابد من أن تعطي لله، وأن تمنع لله، لابد من أن تغضب لله، وأن ترضى لله، لابد من أن تصل لله، وأن تقطع لله، لا بد من أن تقف موقفاً، لابد من أن تتحرك، وأي إيمان ما إن يستقر في قلب المؤمن إلا يعبر عن ذاته بحركة نحو الخلق، فإن لم تكن هناك حركة فليس ثمّة إيمان، ليس في ديننا إيمان سكوني، إيمان سلبي، إيمان إعجابي، إيمان أساسه الإّطلاع فقط دون الحركة، لابد من أن تستجيب، لابد من أن تأخذ موقفاً، يقول الله عز وجل:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 أين أنت من هذه الآية؟ أن تعجب بهذه الآية، وتسمع لها تفسيراً يأخذ بالألباب ولم تغض بصرك، لم تستفد شيئاً، لابد من أن تسأل نفسك في كل آية تقرأها أين أنا من هذه الآية؟ هل أنا مطبق لها أم مقصر في تطبيقي لها؟ هل أنا لا أطبقها أبداً؟ واجه نفسك بالحقيقة المُرّة فهي أفضل بألف مرة من الوهم المريح :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 إذا تفيد تحقق الوقوع، لا بد من أن يدعوكم.

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 على تفيد أن الله عز وجل ألزم ذاته العلية بأن يدعونا إلى الهدى.

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 23 ]

﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾

[سورة القصص : 51]

 الهدى تولاه الله، لابد من أن يسمعك الحق، في أي وقت وفي أي يوم وفي أي زمان بأنه خلقك ليهديك إليه وليسعدك.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 إذا تختلف عن إن:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾

[سورة الحجرات : 6]

 قد يأتي وقد لا يأتي، إن تفيد احتمال الوقوع، أما:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

 أو :

﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾

[ سورة النصر: 1]

 النصر محقق الوقوع.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 لا بد من أن يدعوكم لأنه خلقكم ليدعوكم إليه ولتتعرفوا إليه.

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

[سورة الطلاق : 12]

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً :

 أيها الأخوة: من خلال هذه الآية نجد أن الحياة النافعة، الحياة الإنسانية الراقية، الحياة التي تليق بك كمخلوق أول، الحياة التي خلقت من أجلها، الحياة التي تفضي بك إلى الجنة، الحياة التي تليق بإنسانيتك، الحياة التي أنت ينبغي أن تكون هكذا، هذه الحياة النافعة لا يمكن أن تحصل إلا بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة بالكلمة الكبيرة فلا حياة له :

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾

[سورة النحل: 21]

 أيها الأخوة الكرام: هذا الذي لم يستجب لله، حياته حياة بهيمية، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، هؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم الذين لم يستجيبوا هم أموات وإن كانوا أحياء. يا بني مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، مثل المؤمن وغير المؤمن كمثل الحي والميت، الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله وللرسول في ظاهرها وباطنها، هؤلاء هم الأحياء حقاً وإن ماتوا، وغيرهم ماتوا وإن كانوا أحياء.
 أيها الأخوة الكرام: إن أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه فيه الحياة الحقيقية، بل من فاته جزء منه فاتته أجزاء من الحياة الحقيقية.

 

من معاني قوله تعالى : لِمَا يُحْيِيكُمْ :

1 ـ الحق :

 أما قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 ما الذي يحيينا؟ قالوا الحق، ما الحق؟ الشيء المستمر، الثابت، الذي لا يتبدل ولا يتغير على اختلاف العصور، والأمكنة، والأزمنة، والأصقاع، والأمصار، قبل التطور وبعد التطور، قبل التقدم وبعد التقدم، الحق شيء ثابت، ومما يتميز به المسلم أن في حياته ثوابت لا تتبدل ولا تتغير، مبادئ ثابتة، حقائق وقيم ثابتة، منهج وطريق وهدف ثابت، فالحق هو الثبات والاستقرار، حقّ الشيء استقر.

﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 فالذي يحيينا هو الحق، والله هو الحق، فإذا أقبلت عليه أو اتصلت به، إذا سألته واعتمدت عليه، إذا التجأت إليه، إذا استسلمت له، إذا علّقت الأمل على فعله، فأنت على الحق، إذا التجأت إلى غيره فأنت على الباطل:

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾

[سورة الإسراء: 81]

 مهما يكن الباطل كبيراً فهو زهوق، مهما يتعدد الباطل مليار باطل وأكبر باطل إلى زوال :

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾

[سورة الإسراء: 81]

 الباطل هو الشيء الزائل، والحق هو الشيء الثابت، فبعض العلماء ومنهم مجاهد فسرّ معنى قوله تعالى:

﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي للحق، استجيبوا للحق، للثوابت، سمعت محاضرة في بلد غربي خطيرة جداً تقول: إن كل شيء في بلدنا متبدل غير ثابت، خاضع للمناقشة، وخاضع للرد وللرفض، خاضع... لا يوجد بالمجتمع شيء ثابت، كل شيء متطور ومتبدل، وهذا الذي أوقع العالم الغربي في مستنقع آسن، الهواء يحرك، ثم يكتشف بعد فوات الأوان أن هذا الهواء مدمّر،
 هذا المعنى الأول أيها الأخوة.

 

2 ـ القرآن الذي هو منهج الله و كلامه :

 المعنى الثاني جاء به قتادة رحمه الله تعالى قال: إنه القرآن منهج الله وكلامه، وفضل كلام الله على خلقه كفضله على خلقه.

﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 هو كتاب الله :

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾

[سورة الإسراء: 9]

﴿يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾

[ سورة القصص : 22]

 من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن قرأه وعلّمه كان في أعلى علّيين :

(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))

[البخاري عن عثمان]

 كلام خالق الأكوان، فيه أمر ونهي ووصف وتاريخ وإعجاز، فيه حلال وحرام وآية كونية وآية تكوينية.

﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 إنه القرآن كما قال قتادة، ففي القرآن حياة للقلب، وثقة بالمستقبل، ونجاة من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وعصمة في الدنيا والآخرة، لا يحزن قارئ القرآن :

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

[ سورة طه: 123 ]

 لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه.

 

3 ـ الإسلام :

 وقال بعض العلماء :

﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 هو الإسلام، أحيا الله الناس به بعد موتهم وبعد كفرهم.

 

4 ـ الحرب التي أعزّنا الله بها بعد الذّل :

 وقال بعضهم:

﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 الحرب التي أعزّكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منكم وأنتم تشاهدون وتسمعون وتقرؤون: أنه لا سبيل إلا أن ننتزع حقنا، إلا أن نضحي بالغالي والرخيص والنفس والنفيس، وكأن الأعداء لا يفهمون إلا لغة القوة، وكل الطرق كالمفاوضات والحوارات طرق مسدودة، وهذا بالدليل القاطع.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 هي الحرب التي أعزكم بها بعد الذّل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر، كل هذه العبارات الحق والقرآن والإسلام والحرب تدور حول محور واحد، أي إذا دعاكم لإحياء أمركم بجهاد عدوكم، ودعاكم إلى إحياء أمركم بسنّة نبيكم، وبقرآنكم، وباتباع الحق الثابت.

 

5 ـ الجهاد :

 أيها الأخوة الكرام: قال بعض العلماء: الجهاد من أعظم ما يحييهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد، وأما في البرزخ:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 169]

 وأما في الآخرة فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم.

 

6 ـ الشهادة في سبيل الله :

 وقد قال بعض العلماء:

﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي الشهادة في سبيل الله، لأنكم بها تحيَون حياة أبدية.

 

7 ـ الجنة :

 وقال بعض المفسرين:

﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي الجنة، فإنها الدار الحقيقية، وفيها الحياة الدائمة الطيبة كما حكاه الجرجاني، ولكن الأصح من هذا كله أن الآية الكريمة تتناول هذا كله: فإن الحق والإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، بل يجعلها تحيا كمال الحياة في الجنة.

 

للإنسان نوعان من الحياة حياة الأبدان و حياة القلوب :

 إذاً الإنسان لابد له من نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف حسب ذلك، ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذّل دون حياة من هو معافى من ذلك، هذه حياة الأبدان، الحياة الدنيا، الحياة المادية، وأما حياة القلب والروح التي بها يتميز الحق من الباطل، والغي من الرشاد، والهدى من الضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإفرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب وقوة البغض والكراهة للباطل، يجب أن نعلم علم اليقين لابد من حياة للأجسام، ولابد من حياة للقلوب، بل إن في الإنسان جوانب ثلاثة، جانب جسمي غذاؤه الطعام والشراب، وجانب عقلي غذاؤه العلم، وجانب نفسي غذاؤه الحب والإيمان، فأي إنسان يغذي جوانبه الثلاثة تغذية متوازنة فهو المتفوق، وأي إنسان يغذي جانباً ويهمل جانبين، أو يغذي جانبين ويهمل جانباً فهو المتطرف الذي نما فيه جانب على حساب جانب آخر، والعبرة بالتوازن لا بالتطرف.

 

التمييز أول ثمرات الحق وثمرات القلب :


 أيها الأخوة الكرام: حينما تميز بين الحق والباطل فأنت تعيش حياة القلب، حينما تميز بين الخير والشر ففي قلبك حياة، حينما تميز بين ما ينبغي وما لا ينبغي فأنت على نور من الله عز وجل، حينما تميز فالتمييز وحده حياة، أنت حينما تسمع نصّاً تميز الخطأ من الصواب فأنت على علم، طبعاً حينما تميز بين الطعام الطيب والطعام غير الطيب فأنت على ذوق، حينما تميز بين الحق والباطل فأنت على حق، موضوع التمييز خطير جداً، أول ثمرات الحق وثمرات القلب أنك تميز، من هنا كان عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول:... اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه..... ))

[مختصر تفسير ابن كثير اختصار الصابوني عن عائشة ]

 أيها الأخوة الكرام: إذا بطلت حياة القلب بطل التمييز، وكان من جملة الأموات، وعندئذ لا بد من أن نقف وقفة متأنية عند قوله تعالى:

﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾

[سورة النحل : 2]

 دعوة الله روح لجسمك، روح لذاتك، أنت من دون دعوة الله لك، ومن دون أن تستجيب لهذه الدعوة ميت، إن استجبت فأنت حي، سمّى الله دعوته روحاً.

﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾

[سورة النحل : 2]

 آية ثانية:

﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾

[سورة غافر : 15]

 آية ثالثة:

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾

[سورة الشورى: 52]

 وحيه روح لك، ومن دون هذا الوحي فالإنسان ميت ولو كان يتمتع بأعلى مستويات الصحة، هو عند الله ميت، وقد قال الله عز وجل:

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾

[سورة النحل: 21]

 فكتاب الله ووحيه وسنّة نبيه روح، فإن استجبت فأنت حي، ولو لا تملك من الدنيا شيء، إنك حي ورب الكعبة.
 أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:

﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾

[ سورة الأنعام : 122]

 فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عنه بين الموت والظلمة، وقد أجمع جميع المفسرين أن هذه الآية تعني أنه كان كافراً ضالاً فهداه الله.

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾

[ سورة الأنعام : 122]

 من كان كافراً ضالاً فهداه الله.

 

تفسير قوله تعالى : وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ :

 أما هذا النور الذي يقذف في قلب المؤمن والذي تؤكده آيات كثيرة وهذه من أبرزها:

﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾

[ سورة الأنعام : 122]

 فقال بعض المفسرين إنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمات، هو في نور ساطع وهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وهناك معنى آخر أنه يمشي بهم في نوره فهم يقتبسون من نوره، ويمشون على الصراط المستقيم، مشع هاد يقدم الحقيقة ناصعة لما قذف الله في قلبه من نور، هذا المعنى الثاني، المعنى الثالث: يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.

 

من معاني قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ :

1 ـ قلوب العباد بيد الله لصالح العباد :

 أما قوله تعالى:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء لكن لصالح العباد، فلو أن الإنسان أراد أن يعمل عملاً طيباً، أراد أن يتوب إلى الله، يمتلئ قلبه انشراحاً وغبطة وسروراً، أما إذا أراد أن يفعل شيئاً لا يرضي الله يملأ الله قلبه ضيقاً وقلقاً وخوفاً، قلوب العباد بيد الله لصالح العباد، كأن الله أعانهم أن جعل قلوبهم بين إصبعين من أصابعه، فإن أردت أن تفعل شيئاً طيباً ملأ الله قلبك انشراحاً وغبطة واطمئناناً وسروراً، وإن أردت أن تفعل شيئاً قبيحاً ملأ الله قلبك ضيقاً وحرجاً وقلقاً وخوفاً، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 قلبك بيد الله لصالحك ولصالح إيمانك، من أجل تربيتك، من أجل أن يشجعك إن فعلت شيئاً طيباً، أو أن يخيفك إن فعلت شيئاً سيئاً.

﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾

[سورة الحجرات :7]

2 ـ الله تعالى يعلم كل ما خفي عن الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام: معنى آخر من معاني قوله تعالى:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي أن كل خاطر ورد إليك، و الله تعالى يعلم كل ما خفي عنك.
 أيها الأخوة الكرام: ورد عن الإمام علي كرم الله وجهه أن الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على معصية، وأن تبغض على عدل، فكل خواطرك:

﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾

[سورة غافر : 19]

 علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 لا تخفى عليه خافية :

﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾

[سورة الحاقة: 18]

دعوة الله عز وجل الإنسان للحياة الحقيقية :

 أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي أطيعوه في قرآنه :

﴿وَلِلرَّسُولِ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أي في سنّته :

﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 دعاكم للحياة الحقيقية :

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

مراحل الدعوة الربانيّة للإنسان :

1 ـ الدعوة البيانية :

 بقي شيء آخر أيها الأخوة: آية ثالثة تكمل هاتين الآيتين وهي:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 الله عز وجل أرسل نبياً معه بيان ومنطق ودلالة، أهلها أعرضوا وكذبوا، هم على شهواتهم قائمون، منهج الله يحول بينهم وبين شهواتهم، فحينما كذبوا قال :

﴿إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 كأن الله عز وجل له سياسة مع خلقه أول شيء يدعوهم دعوة بيانية، كلام خطبة تُلقى، درس تسمعه بشريط، كتاب تقرأه، ناصح ينصحك، واعظ يعظك، عالم يبين لك، هذه دعوة الله البيانية دعوة سلمية، عليك أن تستجيب لله إن استجبت لم يعد هناك أية مشكلة :

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

[سورة النساء: 147]

2 ـ التأديب التربوي :

 إن لم تستجب تطبق عليك سياسة ثانية يقول الله عز وجل:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 إذا دُعيت دعوة بيانية عليك أن تستجيب، فإن لم تستجب دخلت في معاملة ثانية :

﴿أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 الشدائد، الأمطار، الأمراض، الخوف، القلق :

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾

[ سورة النحل : 112]

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾

[ سورة الأنعام: 65 ]

 المرحلة الأولى: الدعوة البيانية، كمال هذه المرحلة أن تستجيب وأنت في بحبوحة، وأنت في سلامة، وأنت موفور الكرامة، فإن لم تستجب أخضعت نفسك إلى عمل جراحي، يقول لك الطبيب: هذا المرض يعافى بالأدوية فإن لم تأخذها لا بد من عمل جراحي بالضبط قال:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 إن تضرعت وتبت نجوت .

3 ـ الإكرام الاستدراجي :

 إن لم تتضرع، ومن لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر قال:

﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 تأتي الدنيا وهي راغمة بمالها، بنسائها، بأمجادها، بكل ما فيها من جمال.

﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا﴾

[سورة الأعراف : 95]

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 هذه الثالثة خطيرة جداً، قد ينجو من الثانية تسعون بالمئة، الشدائد احتمال النجاة منها إلى التوبة تسعون بالمئة، أما الامتحان الثالث فخطير جداً احتمال النجاة منه عشرة بالمئة! إذا بدل الله لك مكان السيئة الحسنة، أعطاك مالاً وفيراً، وعّزاً، وجاهاً، ونساء، وأولاداً، ومركبات، ومزارع، احتمال النجاة في هذا الإجراء ضعيف جداً .

 

4 ـ القصم :

 دُعيت دعوة بيانية فلم تستجب، أُدبت تأديباً تربوياً فلم تتُب، أُكرمت إكراماً استدراجياً فلم تشكر، ماذا بقي؟ القصم :

﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 هذه سياسة الله مع خلقه، دعوة بيانية ينبغي أن تستجيب، تأديب تربوي ينبغي أن تتوب، إكرام استدراجي ينبغي ان تشكر، فإن لم تستجب ولم تتب ولم تشكر لم يبق إلا ضربة ساطور واحدة:

﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 ثلاث آيات:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 الآية الثالثة:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

[سورة الأعراف : 95]

 يا أيها الأخوة الكرام: هنيئاً ثم هنيئاً ثم هنيئاً لمن استجاب لله بدعوته البيانية، خطبة سمعتها، كتاب قرأته، شريط سمعته، ناصح نصحك، عالم بيّن لك، واعظ وعظك، انتهى! فإن كنت موثقاً استجبت عندئذ يقول الله لك:

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

[سورة النساء: 147]

 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حجاب الفتاة الملتزمة في التعليم الإعدادي والثانوي :

 أيها الأخوة الكرام: موضوع خاص في رمضان دُعي عدد ممن يعمل في حقل الدعوة إلى الله إلى مأدبة إفطار، وكان الذي دعانا من أصحاب القرار، وقد ناب عن السيد رئيس الجمهورية لتكريم العلماء، وطُرحت في هذا اللقاء موضوعات كثيرة تهم المسلمين في هذا البلد الطيب، وكان من هذه الموضوعات حجاب الفتاة الملتزمة في التعليم الإعدادي والثانوي، وذكرنا له أن بعض مديرات هذه المدارس يجبرن الطالبات على خلع حجابهن، فقال بالحرف الواحد- وأنا أنقل كلامه بالحرف الواحد-: ليس في بلدنا كله جهة مخوّلة أن تُكره الفتاة على خلع حجابها، ولا أن تُكرهها على وضع الحجاب، فكما تشاهدون أن الفتاة حرة في أن تخلع الحجاب وتتعرى، هي أيضاً حرة في أن تضع الحجاب وتتستر، هكذا التوجيه، وكل ما جرى من قبل ممارسات شخصية لا تعبر عن موقف الجهات العُليا في الحجاب، قلت له: أنبلغ الناس بهذا الأمر على المنابر في صلاة الجمعة؟ هذا الموقف الطيب الذي يريح المسلمين الملتزمين بدينهم وبتربية بناتهم تربية إسلامية؟ قال: نعم، قلت له: وإن أصرت إحدى مديرات الثانويات على إكراه الفتيات على خلع الحجاب أنبلغكم اسمها؟ قال: نعم، سنعاقبها، هذا ما جرى وأنقله إليكم بأمانة ودقة، ثم بلغني قبل أيام أن هناك تعميماً قد جرى تبليغه للجهات المعنية ولا أدري ما إذا كان شفوياً أو كتابياً ولكن يا أيها الأب الكريم إذا أخبرتك ابنتك أنها أُجبرت على خلع الحجاب فاذهب إلى المديرة وبلّغها هذا الذي قلته لكم، فإن انصاعت حُلّت المشكلة، وإن أصرت فأبلغنا اسمها كي نرفعه للجهات الرسمية كي تفعل بها ما تراه مناسباً.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين، يا رب العالمين، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور