وضع داكن
28-03-2024
Logo
موسوعة الأخلاق الإسلامية - الندوة : 09 - خلق البر
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

  السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، أيها الأخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات ، أهلا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم :"موسوعة الأخلاق الإسلامية" .
 لننتقل إلى خلق جديد اليوم مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في كليات الشريعة وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً بكم أستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
 بكم أستاذ أحمد جزاك الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
 سيدي الكريم نتمنى اليوم أن نتحدث عن خلق جديد ألا وهو خلق البر ، خلق البر هذا عرفه لنا ربنا جلّ وعلا في قوله :

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾

( سورة البقرة )

 ذكرت الآية بتمامها ، لأننا لو بقينا نشرح فيها حلقات متتابعة ربما ما كفانا الوقت، فحبذا من انطلاق قول الله الذي ذكرنا أن نعرف البر ، وأن تتحدث لنا عن أنواع البر.

 

العبادات الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 أستاذ أحمد ، أحياناً القرآن يعرف شيئاً ، أنا أرى أن هذا التعريف أكمل تعريف مثلاً : الولي عرفه القرآن الكريم ، فقال :

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾

( سورة يونس )

 فنحن لو تقيدنا في تعريفات القرآن لنجحنا ولأفلحنا ، الآن الموضوع عن البر .
 البر في القرآن معرف بآية تعريفاً تفصيلياً ، وكأن القرآن أراد أن ينبهنا إلى أن هناك عبادة تؤدى أداءً شكلياً ، عبادة تؤدى أداءً مفرغاً من المضمون ، هذه العبادات لا تقدم ولا تؤخر ، بل إن العبادات الشعائرية لا تقبل ، ولا تصح ، إلا إذا صحت العبادات التعاملية.
 والدليل : أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل أصحابه :

(( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ ؟ قالوا : المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شَتَمَ هذا ، وقذفَ هذا وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه ، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه ، ثم يُطْرَحُ في النار ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 الصيام :

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ]

 الحج :

(( من حج بمال حرام فقال : لبيك اللهم لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك))

[الأصبهاني في الترغيب عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ]

 إذاً الله عز وجل في هذه الآية ، بل في مطلعها أراد أن يلفت نظرنا إلى أن العبادات الشعائرية ، وفي رأسها الصلاة ، إذا أديناها أداءً شكلياً ، أداءً فيه تفريغ من المضمون ، هذه العبادات لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تقبل أساساً ، فالله عز وجل لئلا نتوهم أن البر هو أن نصلي وألا نستقيم ، أخبرنا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال تعالى :

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

الإيمان الذي لا يحمل على طاعة الله لا يعد إيماناً منهجياً :

 أحياناً تنشأ خلافات في أمور ثانوية ، وهذه الخلافات تستهدف الجهد والوقت ، وتعيق التقدم ، وتضعف المسلمين ، كأن الله يريد أن يلفت النظر إلى أن الخلافات ، والمشاحنات ، والعداوات ، والبغضاء ، حول شكليات العبادة ، من دون التفات إلى مضامينها وإلى مقاصدها ، عمل ليس مقبولاً عند الله عز وجل :

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾

 الآن جاء التعريف الإيجابي ، ذاك ليس براً ،

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾

 هناك آية تقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ﴾

( سورة النساء الآية : 136 )

 معنى ذلك أن الإيمان الذين هم عليه لا يكفي ، بل لا يحملهم على طاعة الله ، جاءت بعض الآيات :

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾

( سورة الحج الآية : 78 )

﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 102 )

 إذاً نريد أن نتقن هذه العبادة ، نتقن الجهاد ، نتقن التقوى ، نتقن الصلاة ، إذاً الإيمان الذي لا يحمل على طاعة الله لا يعد إيماناً منهجياً ، لا يعد إيماناً تقطف ثماره .

 

ما لم ينقلب إيمان الإنسان إلى التزام ووقوف عند حدود الله فلا قيمة له :

 لذلك :

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾

 آمن بالله الإيمان الذي يحمله على طاعة الله ، آمن بالله الإيمان الذي يريده الله ، آمن بالله الإيمان الذي يرقى بالإنسان ، آمن بالله الإيمان الذي يدفعه إلى الجنة .
 لذلك ليس كل مؤمن بمؤمن ، بل إنني أرى ـ وأرجو أن أكون على صواب ـ أن هناك دائرة كبيرة ، كل من قال : لهذا الكون إله فهو مؤمن ، ضمن هذه الدائرة ، والذي أنكر وجود الله هو خارجها ، هذه الدائرة داخلها دائرة ، كل من حمله إيمانه على طاعة الله في الدائرة الثانية ، وكل من لم يحمله إيمانه على طاعة الله في الدائرة الأولى ، وفي مركز الدائرة الثانية نقطة هي دائرة الأنبياء والمرسلين .
 إذاً الله عز وجل يقول :

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾

 يؤكد هذا المعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل وما حقها ؟ قال : أن تحجبه عن محارم الله ))

[ الترغيب والترهيب عن زيد بن أرقم بسند فيه مقال كبير ]

 أي ما لم ينقلب الإيمان إلى التزام ، إلى سلوك ، إلى وقوف عند حدود الله ، إلى ائتمار ، لا قيمة لهذا الدين .
الأستاذ أحمد :
 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر فلا صلاة له ))

[ورد في الأثر]

ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن كالإيمان بالله واليوم الآخر :

 الدكتور راتب :
 بل :

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

( سورة الأنفال الآية : 72 )

 إذاً :

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾

 أستاذ أحمد ، ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن تلازماً عجيباً كالإيمان بالله واليوم الآخر ، لأننا إذا آمنا بالله ، خالقاً ومربياً ، ومسيراً ، ولم نأتمر بأمره ، ولم ننتهِ عما عنه نهانا ، ما قيمة هذا الإيمان ؟ أما الإيمان باليوم الآخر معنى ذلك أن هناك يوم تسوى فيه الحسابات ، هناك يوم يجازى فيه المحسنون على إحسانهم ، ويعاقب فيه المسيئون على إساءتهم .
 لذلك الإيمان بالله يعني أن لهذا الكون إلهاً عظيماً ، خلق الكون ، وأمده ، وسيّره، ولكن الإيمان بالله واليوم الآخر يعني أن الله سوف يحاسب ، وسوف يعاقب ، وأي إنسان لا يدخل الله في حساباته ، بل لا يدخل الآخرة في حساباته هو إنسان غبي جداً ، لأنه تجاهل حقيقة صارخة ، فهنا جاءت :

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾

الإيمان بالملائكة يؤكد للإنسان أن كلّ أعماله مسجلة :

 ثم إن بعض المسلمين قد لا يفهمون بعض الآيات ، أو لا يأخذونها على محمل الجد ، أن على كتفيك ملكين يكتبان عليه كل حركاته ، وكل سكناته .

﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾

( سورة ق )

 الإيمان بالملائكة يؤكد للإنسان أن كل أعماله مسجلة ، وقد أذكر وأقول : إذا قيل لإنسان أنك مراقب ، أو هاتفك مراقب ، ينتقي أدق الألفاظ ، وأوضحها ، ينتقي لفظة لا تؤول تأويلين ، إذا راقبك إنسان تنضبط ، فكيف إذا علمت أن على كتفيك ملكين يكتبان عليك كل صغيرة وكبيرة ،

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾

 النبييون ماذا فعلوا ؟ بينوا كتاب الله عز وجل .

﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾

( سورة النحل الآية : 44 )

 بينوا هذا الكتاب ، بينوا التفاصيل ، كأن الكليات في القرآن ، والتفاصيل في السنة، الأنبياء لهم دور آخر ، فضلاً عن أن النبي مبين ، هو قدوة ، هو أقنعك بهذا الدين ، لأنه طبقه ، هو حجة عليك .
 إذاً النبي له وظيفتان ، وظيفة التبليغ أولاً ، ثم وظيفة التبيين ثانياً ، ثم وظيفة القدوة ثالثاً .

 

التفكر في خلق السماوات والأرض يعرفنا بالله أما قراءة القرآن فتعرفنا بمنهجه :

 إذاً

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ ﴾

الكتاب منهج أي نحن بعقولنا إذا قمنا بجولة في الكون نستنبط أن لهذا الكون خالقاً عظيماً ، مربياً حكيماً ، مسيراً عادلاً .
 ولكن هناك حقائق لا يمكن أن نعرفها بعقولنا ، كيف ؟ أنت إذا زرت جامعة تأملت في الأبنية ، أبنية رائعة ، هناك قاعات للتدريس ، و قاعات للمطالعة ، ومكتبات ، و سكن الطلاب ، وحدائق عامة ، وملاعب ، يمكن أن تستنبط آلاف الحقائق ، أن وراء هذا البناء عقل كبير ، مهندس خبير ، إشراف ، ذوق فني رفيع ، خبرة عالية في التعليم الجامعي، كل مرافق الطلاب ميسرة ، لكن مهما كنت ذكياً ، ومهما كان التأمل عميقاً ، لا يمكن أن تعرف من هو عميد هذه الجامعة ، ولا من هم عمداء الكليات ، ولا النظام الداخلي ، ولا شروط القبول ، ولا شروط النجاح والرسوب ، ولا الأقساط ، هذه المعلومات لا بد أن تجدها في كتاب .
 لذلك كل شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به ، إذاً الكتاب فيه إخبار من الله .

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾

( سورة إبراهيم الآية : 32 )

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

( سورة الرعد الآية : 2 )

 الكتاب فيه تفاصيل ، إذاً التفكر في خلق السماوات والأرض يعرفك بالله ، أما قراءة القرآن ، تعرفك بمنهج الله ،

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾

الأستاذ أحمد :
 وكأن عدد أركان الإسلام وأعمدته في هذا الشطر من الآية .

 

الإيمان الذي لا يترجم إلى عمل لا قيمة له إطلاقاً :

الدكتور راتب :
 هناك النبي ، والكتاب ، والملائكة ، واليوم الآخر ، والإيمان بالله .
 الآن : إيمان من دون عمل لا وزن له إطلاقاً ، كيف ؟ لو أن إنساناً مصاب بمرض جلدي ، علاجه الوحيد أن يتعرض لأشعة الشمس ، قبع في غرفة مظلمة ، قميئة ، رطبة ، وقال : يا لها من شمس ساطعة ! ما أعظم نور الشمس ! ما أعظم فوائد أشعة الشمس ! وهو لا يفعل هذا ، ما قيمة هذا الإيمان ؟ .
 لذلك الإيمان الذي لا يترجم إلى عمل لا قيمة له إطلاقاً ، إذاً هنا

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾

 هذه مرحلة اعتقادية .

 

أكبر دليل على أن المؤمن يحب الله حينما ينصاع إلى تنفيذ أمره :

 

 الآن المرحلة السلوكية ، الأول الإيمان النظري ، الثاني الإيمان العملي ، الأول المنطلقات النظرية ، والثاني التطبيقات العملية ،

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ ﴾

 المال محبب .

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

( سورة آل عمران الآية : 14 )

 المال محبب ، الإنسان يحب أن يقتني المال ، و يكنزه ، و يأخذه ، و هذا طبع فيه ، أما إنفاقه تكليف ، فأكبر دليل على أن المؤمن يحب الله ، حينما ينصاع إلى تنفيذ أمره ، إذاً صار التكليف بإنفاق المال محكاً واختباراً ،

﴿ وَآتَى الْمَالَ ﴾

 ولكن أنا قد أوتي الناس كي أنتزع إعجاب الناس ، أنا أعطي المال ليقال عني المحسن الكبير ، أنا لا أدفع مبلغاً في بناء مسجد إلا إذا وضعوا لوحة كتب عليها هذه المئذنة تبرع بها المحسن الكبير ،

﴿ َآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾

 لا من أجل الشهرة ، لا من أجل المديح، لا من أجل أن يرقى إلى مكانة علية ، لا من أجل أن يتاجر بهذا العطاء ،

﴿ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾

الأقربون أولى بالمعروف :

 وللمفسرين آراء طريفة ، معنى

﴿ عَلَى حُبِّهِ ﴾

 أي على أنه يحب المال آتاه ، أي عاكس طبعه ، قاوم طبعه .

﴿ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾

( سورة النازعات )

 الهوى اتقاء المال ، هذا المعنى الأول ، المعنى الثاني : آتى المال بسبب محبته لله عز وجل ، إما أنه آتى المال وهو يحبه ، أو آتى المال بسبب محبته لله ، فأن تقول آتى المال حباً مفعول لأجله ،

﴿ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾

 من ؟

﴿ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾

 القاعدة : الأقربون أولى بالمعروف .
 بالمناسبة : الله عز وجل حينما قال :

﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾

( سورة الشعراء )

 لماذا ؟ لأن بين الأقارب ليس هناك حواجز ، أنت الآن لا تستطيع أن تقول لإنسان في الطريق تعال معي إلى المسجد ، لا يعرفك ، وبالتالي لا يثق بك ، أما أخوك ، ابن عمك ، ابن خالتك ، صديقك ، زوج أختك ، لا يوجد حواجز أبداً ، فابدأ بهؤلاء هم أقرب الناس إليك ، وهذا الملمح نجده في هذه الآية ،

﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾

الأستاذ أحمد :
 ربما يتمنى أن يعطي المال فيعطيه لغريب حتى يمدح بين الناس ، أما ربما بينه وبين القريب لا يدري به كثير من الناس ، ففي الأمر مشقة وصعوبة .

 

ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ أولى الناس بالعناية والإرشاد :

الدكتور راتب :

﴿ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾

 اليتيم فقد الأب ، أو فقد الأم ، أو فقد الأب والأم ، هو أولى الناس بالعناية والإرشاد ، لأنه :

﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا ﴾

( سورة المائدة الآية : 32 )

 أي من أحيا النفس البشرية :

﴿ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾

( سورة المائدة الآية : 32 )

 ولتكريم اليتامى جعل الله نبيه الكريم ، وسيد الخلق أجمعين ، وحبيب الله عز وجل يتيماً ،

﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾

 المسكين هو العاجز الذي يعجز عن كسب رزقه ، الفقير ليس عاجزاً ، لكن رزقه لا يكفيه ، ليس الفقير الذي تسده اللقمة واللقمتان ، ولكن الفقير هو الذي لا يجد ما ينفق ، إذاً أعطانا ربنا عز وجل أن هؤلاء المساكين الذين ابتلاهم الله بعاهة تمنعهم من كسب الرزق أولى الناس بقصد هذه الأموال ؛ أموال الصدقات .

 

من لوازم وصف الله جلّ جلاله للفقير بأن يحسبه الجاهل غنياً :

﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾

 المنقطع في الطريق ، المسلمون متعاونون ، فكل إنسان ، وقد يكون غنياً في بلده ، إلا أنه الآن هو فقير ، وقد جعل الله لابن السبيل نصيباً من الزكاة .

﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ﴾

 الذي يسأل ، طبعاً قال تعالى :

﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

( سورة الذاريات )

 الثاني لا يسأل ، فيحرم ، لكن هناك ملمح أتمنى أن يكون واضحاً لدى الأخوة المشاهدين ، قال تعالى يصف الذين يستحقون الزكاة :

﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 273 )

 ما دام الذي يستحق الزكاة لا تعرفه بالشكل ، لا بد من أن تتفقده فتسأل عنه ، من لوازم وصف الله جلّ جلاله للفقير بأن يحسبه الجاهل غنياً ، ينبغي أن تسأل عنه أنت ، أن تبحث عنه .

 

العبودية عادت لا على مستوى الأفراد بل على مستوى الشعوب :

 إذاً هنا جاءت :

﴿ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾

 السائل قال تعالى :

﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾

( سورة الضحى )

 الذي يسأل يجب ألا يرد ، ولكن إن لم تكن واثقاً من حاجته أعطه مالاً لا تندم عليه إن لم يكن كما ينبغي ،

﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾

 هذه مضى وقتها ، في موضوع عتق العبيد وهناك إشارات في القرآن :

﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ﴾

( سورة المجادلة الآية : 12 )

 معنى ذلك قضية مرحلية ، لكنني أرى أن العبودية عادت لا على مستوى الأفراد بل على مستوى الشعوب ،

﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾

 الآن بعد هذا الإيمان الرائع

﴿ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾

 وبعد هذا العطاء الرائع ، إنفاق المال

﴿ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾

إيتاء الزكاة فريضة بينما إنفاق المال على حبّ الله عز وجل طوعية :

 الآن هيأ أسباب الصلاة

﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾

 هناك ملمح دقيق في هذه الآية وهو أنه أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، لو أخذنا الزكاة بمفهومها الفطري إيتاء الزكاة شيء ، وإنفاق المال على حب الله شيء آخر .
 لذلك قال لعض العلماء : للمال حق سوى الزكاة .

﴿ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

( سورة المعارج )

 أما

﴿ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ ﴾

 الصدقة ، لذلك قضية إيتاء الزكاة فريضة بينما إنفاق المال على حبّ الله عز وجل طوعية ، يبقى في الثانية أكثر ، أنت حينما تؤدي الضريبة لا يعقل أن تشكر ، ما سمعنا أن وزير المالية قدم كتاب شكر لمن أدى الضريبة ، لأنه واجب مستحق ، أما حينما يقدم المواطن بناء ليكون جامعة يقام له حفل تكريم .
 إذاً إيتاء المال كصدقة يرقى بالإنسان أيما رقي ، بينما دفع الزكاة أداء لواجب.
 هناك ملمح آخر : أنت حينما تتصل بالله عز وجل ، ينبغي أن تشتق من كماله ، حينما تكون مع الرحيم ينبغي أن تكون رحيماً ، حينما تكون مع العدل ينبغي أن تكون عادلاً ، حينما تكون مع اللطيف ينبغي أن تكون لطيفاً ، فيبدو أن الصلاة من أولى أهدافها أن تشتق الكمال من الله لهذا المعنى أقام الصلاة ، واستفاد منها لتزكية نفسه ، وآتى الزكاة .

 

الإنسان خاسر لا محالة إن لم يبحث عن الحقيقة ويعمل بها ويدعو إليها :

 الآن المحصلة صارت شخصية فذة ، لها مرتبة علمية ،

﴿ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾

﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾

 ومرتبة أخلاقية ،

﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾

(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ))

[ ورد في الأثر ]

 إذاً :

﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ ﴾

 نحن في طريق الدنيا في معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، لا بد من أن نصبر ، بل إن الإنسان خاسر لا محالة إن لم يبحث عن الحقيقة ، ويعمل بها ، ويدعو إليها ، ويصبر على البحث عنها ، والعمل بها، والدعوة إليها ،

﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ـ في المعركة ـ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ـ ما عاهدوا الله عليه ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾

 الذين اتقوا أن يدخلوا النار ، واتقوا سخط الله ، واتقوا غضب الله عز وجل .

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ أحمد :
 نشكر لكم أستاذنا هذا الشرح الوافي ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأبرار الأطهار ، وأن يعيننا على البر والتقوى ، اللهم آمين ، نشكر أستاذنا الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، وإلى أن نلقاكم في حلقة أخرى من برنامجكم موسوعة الأخلاق الإسلامية ، نستودعكم الله .

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور