وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 37 - الفطرة - محنة المذنب مع نفسه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى:

الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وينادي هل من تائب فأتوبَ عليه، وهل من مستغفر فأغفرَ له، ويقول: عبدي لا تعجز منك الدعاء وعلي الإجابة، منك الاستغفار وعلي المغفرة، منك التوبة وعلي القبول، من أحبنا أحببناه، ومن عصانا أمهلناه، ومن رجع إلينا قبلناه.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، أخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقت فسويت، وقدرت، وقضيت، وأمت، وأحييت، وأمرضت، وشفيت، وعافيت، وابتليت، وأغنيت، وأقنيت، وأضحكت، وأبكيت، المرجع والمآل إليك، نحن بك وإليك، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.

الله عز وجل زكى نبينا محمد في القرآن الكريم في عدة آيات:

يا سيدي يا رسول الله، نحن في ذكرى مولدك نقول لقد زكى الله عقلك، فقال:

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾

( سورة النجم )

وزكى لسانك فقال:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) ﴾

( سورة النجم )

وزكى شرعك فقال:
الله جل وعلى زكى نبينا في القرآن

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾

( سورة النجم )

وزكى جليسك فقال:

﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ﴾

( سورة النجم )

وزكى فؤادك فقال:

﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) ﴾

( سورة النجم )

وزكى بصرك فقال:

﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) ﴾

( سورة النجم )

وزكاك كلك فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾

( سورة القلم)

اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته وارض عنا، وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.

النفس الإنسانية منذ تكوينها ألهمت في فطرتها إدراك طريق فجورها وطريق تقواها:

أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، موضوع خطبة اليوم الفطرة التي فطر الناس عليها.
لقد أودع الله في مدارك الأفكار، وفي مشاعر الوجدان ما تدرك به فضائل الأخلاق ورذائلها، وهذا ما يجعل الناس يشعرون بقبح العمل القبيح، وينفرون منه، ويشعرون بحسن العمل الحسن، ويرتاحون إليه، وبذلك يمدحون فاعل الخير ويذمون فاعل الشر، لقد أرشدت النصوص الإسلامية إلى وجود الحس الأخلاقي في الضمائر الإنسانية، وأحالت المسلم المؤمن إلى استفتاء قلبه في الحكم على أي سلوك قد تميل النفس إليه، قال تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ﴾

( سورة الشمس)

فالنفس الإنسانية منذ تكوينها وتسويتها أُلهمت في فطرتها إدراك طريق فجورها، وطريق تقواها، وهذا هو الحس الفطري الذي تدرك به الخير من الشر.
الإنسان لديه بصيرة يستطيع أن يحاسب بها نفسه محاسبةً أخلاقيةً على أعماله ومقاصده، ولو حاول في الجدل اللساني الدفاع عن نفسه وإلقاء معاذيره على غيره، قال تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾

( سورة القيامة)

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

((البِرُ حـسن الخـلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس))

[ مسلم عن النواس بن سمعان ]

هذا الحديث يدل على أن في النفس الإنسانية حساً خلقياً بالإثم، لذلك يكره فاعل الإثم أن يطلعَ عليه الناس، لأنه يعلم أنهم يشعرون بمثل ما يشعر، وذلك بحسٍ أخلاقي موجودٍ في أعماق النفس، هذا الحس هو ما أسماه الباحثون الأخلاقيون بالضمير، روى الإمام أحمد والدارمي بإسنادٍ حسن عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

(( جِئتَ تسأل عن البر ؟ قلت: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: استفت قلبك، البر ما طمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ))

[أحمد عن وابصة بن معبد ]

في هذا الحديث الشريف أيها الأخوة الكرام تبيانٌ واضحُ للحس الأخلاقي، وليس هناك ما يمنع بالضمير الأخلاقي، هذا الضمير إذا كان نقياً صافياً سليماً من العلل والأمراض فإنه يستطيع أن يحس بفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك، وأن يحس برذائل الأخلاق ومساوئ السلوك، وأن يميز بين الصنفين.

الطمأنينة علامة البر والتردد والاضطراب وخوف إطلاع الناس علامة الإثم:

الطمأنينة علامة البر والخوف علامة الإثم
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، البر المفسر في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق، يفعله الإنسان السوي، وهو مطمئن القلب، مطمئن النفس، أما الإثم فإن الإنسان السوي لا يقدم عليه إلا وفي نفسه قلق منه، وفي صدره تردد واضطراب، فالطمأنينة علامة البر، والتردد والاضطراب وخوف إطلاع الناس علامة الإثم، ولكن قد يختلط الأمر في بعض الأعمال على العقل والضمير، ويلتبس عليهما وجه الحق، فيكونان حينئذ في حاجة إلى هداية وتبصير، وقد تطغى الأهواء والشهوات أو العادات والتقاليد، أو يؤثر فيهما الموجهون المضللون أو الشياطين الموسوسون من الجن والإنس، وطريقة المسلم في هذه الحالة هي اتقاء الشبهات، فإذا كان اتقاء الشبهات في جانب الترك لأن الأمر مشتبه بين الحلال والحرام كان الأفضل للمسلم أن يترك العمل المشتبه فيه خشية الوقوع في الحرام، وإذا كان اتقاء الشبهات في جانب الفعل لأن الأمر مشتبه بين الحلال والواجب كان الأفضل للمسلم أن يأتي بالعمل المشتبه فيه خشية الوقوع في ترك الواجب، والدليل على هذه الطريقة التي ينبغي للمسلم أن يتبعها ما رواه البخاري ومسلم من عدة طرق عن النعمان بن البشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ))

[متفق عليه عن النعمان بن البشير]

الشبهات:

أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، هذا الحديث الشريف الصحيح من أحاديث الأصول الجوامع، وفيه كليات عظيمة تتصل بأمهات السلوك، وفيه تقسيم ثلاثي للأحكام الشرعية، فالقسم الأول هو الحلال الصرف البين الواضح الذي لم تخالطه شبهة، ولا يختلف فيه الناس، ولا تتأثم منه النفوس ولا تتحرج، والقسم الثاني الحرام الصرف البين الواضح لا يختلف فيه عقلاء الناس وأصحاء البصيرة، ولا يفعله فاعل إلا وفي نفسه حرج، وشعور بالإثم، وخوف من سوء المصير، والقسم الثالث المشتبهات، وسميت بذلك لأن لها شبهاً بالحلال يزيد وينقص، وشبهاً بالحرام يزيد وينقص، هي تلتبس وتختلط على كثير من الناس، ولكن لا على كل الناس بل العلماء المحققون، وقد جاءت كلمة الشبهات جمعاً لأنها كثيرة جداً بالنسبة إلى الحلال والحرام، وجاءت جمعاً لأنها متفاوتة في قربها من الحلال، وقربها من الحرام، والأسلم للمسلم الصادق في استسلامه إلى ربه أن يدع هذه الشبهات استبراءً لدينه عند الله، وعرضه عند الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك ))

[الترمذي عن الحسن بن علي]

وعن عطية بن عروة السعدي، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس))

[رواه الترمذي عن عطية بن عروة السعدي ]

أخوتي المؤمنين، لما كان الإنسان مزوداً في أصل كيانه بعقل إذا أعمله متفكراً في خلق السماوات والأرض أوصله إلى الإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، وموجوداً، وواحداً، وكاملاً.
ولما كان الإنسان مزوداً في أصل فطرته بحسٍ أخلاقي كافٍ لإدراك الخير والشر، والحق والباطل من دون معلم، ولا موجه، ولا كتاب منير، إنه مزود بعقل يدله على الله، ومزود بفطرة تدله على خطئه، لذلك بما أنه مزود في أصل كيانه بعقل، وفي أصل فطرته بضمير كافيين لمعرفة عظمة الله، ولمعرفة حال نفسه، يُقال له يوم القيامة عندما يُسلم كتاب عمله في الحياة الدنيا:

﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) ﴾

( سورة الإسراء)

أي إنك ستحاسب نفسك لأنك تملك ميزانين، ميزان العقل وميزان الفطرة.

قواعد هادية للبصيرة الأخلاقية:

فضلاً عن الحس الأخلاقي الذي أودعه الله في الإنسان إدراكاً وشعوراً، هنالك قواعد هادية للبصيرة الأخلاقية، نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، من هذه القواعد عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك، وقد جاء هذا المعنى في حديث طويل رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر وفيه يقول عليه الصلاة والسلام:

((من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتَأتِه مَنِيَتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه))

[مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما]

عامل الناس كما تحب أن يعاملوك
كلما اشتبه على الإنسان أمر السلوك، عليه أن يضع نفسه مكان الطرف الآخر ويفترض أن الأمر كان معكوساً، فالأمر الذي يستحسنه لنفسه من الآخرين مما لا معصية فيه هو الأمر الذي ينبغي أن يفعله معهم، لذلك على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال:

 

((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))

 

[البخاري عن أنس رضي الله عنه ]

ومن هنا يندفع المسلم إلى أن يكون صادقاً مع أخيه لأنه يحب أن يصدقه الناس إذا حدثوه، ويكره أن يكذبه، ويندفع المؤمن إلى أن يكون أميناً على مال أخيه وعرضه وشرفه، لأنه يحب أن يعامله الناس بأمانة على ماله وعرضه وشرفه، ويكره أن يخونوه بشيء من ذلك، ويندفع المؤمن إلى مساعدة أخيه ومعاونته في مال، أو علم، أو جاه، أو خدمة، أو نصيحة، أو دعوة صالحة، أو شفاعة حسنة، لأنه يحب لنفسه مثل ذلك من أخوانه، ويندفع المؤمن إلى دعوة أخيه إلى الإيمان الصادق والعمل الصالح، لأنه أحب هذا لنفسه، وهكذا تجد المسلم مدفوعاً إلى الصبر، والعفو، والصفح، والمسامحة محاولاً جهده ستر العيوب، وعدم نشرها بين الناس، بل يبادر إلى نصحهم سراً ما وجد إلى ذلك سبيلاً، إنه يفعل ذلك، لأنه يحب أن يعامل هكذا.

الإيمان أساس الفضائل:

ما الهدف من التزام مكارم الأخلاق التي ترتاح إليها الفطرة، والتي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها ؟ وما الهدف من اجتناب نقائص الأخلاق والتي تنكرها الفطرة، والتي نهى عنها الإسلام أو رغب في تركها ؟
الهدف من هذا وذاك هو الفوز بسلامة القلب وسعادته، ونيل الجزاء المعجل في الدنيا، والنجاة من العقاب المعجل فيها، ثم الفوز العظيم بالسعادة المطلقة الأبدية في الآخرة.
لذات الجسد وآلامه أهون اللذات، والآلام قيمة في حياة الإنسان، ولكنها تدخل ضمن الوحدات الجزئية التي تمنح الإنسان قسطاً من السعادة، لكنها كرذاذ سريع الجفاف، لا يملأ ساحة النفس والقلب والفكر، وتأتي فوق لذات الجسد لذات النفس الدنيوية وآلامه، وهي أعمق، وأشمل، وأطول، ثم تأتي فوق لذات النفس الدنيوية سعادة النفس الأخروية، وهي تتغلغل إلى أعمق أعماق الإنسان، وتتسع حتى تشمل كل حياته، وكل نشاطاته، وكل حركاته وسكناته، وهي أبدية لا تزول أبداً، لها بداية مع بداية الإيمان، وليس لها نهاية، وهي متنامية دائماً.
مكارم الأخلاق تحقق الفوز في الدنيا والآخرة
قد تطغى لذة النفس على ألم الجسد فلا يشعر الإنسان بألم الجسد، وقد تطغى سعادة النفس الأخروية على ألم النفس الدنيوي فلا يشعر الإنسان بهذا الألم، وقد تطغى آلام النفس على لذات الجسد فلا تكون لهذه اللذات أية قيمة.
أيها الأخوة المؤمنون، مجمل القول أن الإنسان إذا لزم مكارم الأخلاق التي ترتاح إليها الفطرة، والتي يطمئن إليها القلب يحقق الغاية من وجوده، ومن سلامة وجوده، ومن كمال وجوده، ومن استمرار وجوده، ذلك لأن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفي القلب نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه وقدره، والصبر على ذلك إلى يوم لقائه، وفي القلب فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، والإخلاص له.
مجمل القول أن الإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن من أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً، وأن خير ما أعطي الإنسان خلق حسن، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الجنة، والخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

***

الخــطــبـة الثانية:

محنة المذنب مع نفسه:

أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إليكم قصة صحابي جليل، هو كعب بن مالك، تخلف عن غزوة تبوك من دون عذر، كيف كانت محنته مع نفسه ؟ وكيف كان موقفه من رسول الله ؟ ثم كيف انتهت محنته إلى منحة إلهية ؟ وكيف انتهت شدته إلى شدة إلى الله ورسوله ؟ هذه القصة متوافقة مع موضوع الخطبة توافقاً دقيقاً، خرّج البخاري ومسلم حديث الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، فقد نزل فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، فقد روى الإمام مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط إلا غزوة تبوك، ولم أكن حين تخلفت عنه أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت، لقد غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً ـ أي صحارى ـ واستقبل عدواً كثيراً، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجمعهم كتاب حافظ، لقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار، وانتشرت الظلال، وأنا إليها أميل، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع، ولم أقض شيئاً، وأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت، ورجعت، ولم أقض شيئاً، فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، وأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر لي ذلك، فطفقت إذا خرج الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو يحزنني أني لا أرى لي أسوة في الناس إلا رجلاً منافقاً، أو عاجزاً ضعيفاً، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال عليه الصلاة والسلام وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً من تبوك حضرني حزني، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بما أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي أشد ما تكون محنة المذنب مع نفسه
فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، وصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل عليه الصلاة والسلام منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل إلى الله تعالى سرائرهم، حتى جئت فلما سلمت تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم المغضب، ثم قال: تعال، تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك يا كعب ؟ ألم تكن قد ابتعت ظَهراً ـ أي ناقة ـ فقلت: يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر تقبله، ولقد أُعطيت جدلاً ـ أي فصاحةً وقوةً إقناع ـ ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه ـ تغضب علي فيه ـ إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله يا رسول الله ما كان لي عذر أبداً، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال عليه الصلاة والسلام ـ قبل من بضعة وثمانين أعذارهم، واستغفر لهم، وبايعهم، ووكل سرائرهم إلى الله ـ قال عليه الصلاة والسلام بعد قول كعب بن مالك الصادق: أما هذا فقد صدق ـ يعني هؤلاء الذين اعتذروا لم يكونوا صادقين ـ أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضيَ الله فيك، فقمت فقال لي رجال من بني سلمة: والله ما علمنا أنك أذنبت ذنباً قبل هذا، لو اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المتخلفون، قد والله مازالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذبَ نفسي.

قصة المخلفين ورد ذكرها في القرآن الكريم:

أيها الأخوة الأكارم، للقصة تتمة مثيرة، ارجعوا إذا شئتم كتب السيرة، أو اسألوا أهل الذكر لتتابعوا ماذا حدث بعد ذلك، لكن الفصل الأخير من هذه القصة ذكره القرآن في سورة التوبة، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) ﴾

( سورة التوبة )

كعب بن مالك أحد هؤلاء الثلاثة الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
أيها السادة المستمعون أيتها السيدات المستمعات، نظراً لضيق الوقت أدع لكم أن تربطوا بين أحداث القصة وبين موضوع الخطبة، وأذكركم بقوله تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

( سورة القيامة )

أذكركم بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة))

[متفق عليه عن عبد الله رضي الله عنه ]

وما علاقة هذا الحديث الشريف بأحداث القصة ؟

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور