وضع داكن
19-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 26 - كراهيته إطلاق بعض الكلمات بغرض إبهامها - عبادته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

كراهيته صلى الله عليه وسلم إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامِها:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى كراهيته صلى الله عليه وسلم إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامِها.

فقد جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي  ))

فإذا شعر باضطرابات في أمعائه فلا يقولنّ أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي، أي إن النبي عليه الصلاة والسلام كره أن يوصف المؤمن بالخبث، وبعض علماء المواريث يقولون: جدةٌ فاسدة، فلعل الإنسان يتوهم أنها فاسدة بالمعنى المعروف، وإنما المقصود الجدةُ التي عن طريق الأب، مثل أم أب أم، فهي ليست من طريق الأم، وبعضهم يقول: جدةٌ غير ثابتة، فالإنسان كلما ارتقى إيمانه ارتقى مستوى تعبيره، وأحسن اختيار كلماته، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي... )) فإذا شعرت باضطرابات في الهضم والأمعاء، فهو ليس خبيثاً، والمرض ليس خبثاً، كان يبدو في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا شعر الإنسان بآلام في معدته، أو باضطراب، أو بتُخمة يقول: خبثت نفسي، فالنبي ما أراد أن يوصف المؤمن بالخبث قال: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي)) وإذا أردنا أن نستنبط من هذا الحديث الشريف قاعدةً فإنها: 

 

حسن اختيار الكلمات جزءٌ من دينك .


وكلما ارتقى إيمانك اخترت الكلمة التي لا تخدُش، ولا توهم بشيء، وسيدنا عمر تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يشعلون ناراً فقال: 

السلام عليكم يا أهل الضوء 

ولم يقل: السلام عليكم يا أهل النار، و أيضاً هذا من حسن اختيار المؤمن للكلمات، فليس غريباً أن تعيش مع مؤمنٍ سنواتٍ طويلة، ثلاثين عاماً، لا تسمع منه كلمة نابية، ولا كلمةً تجرح الحياء، ولا كلمة توهم بخلاف ما أردت، كان عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلا هَالِكٌ  ))

[ أخرجه أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية ]

كان عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يتوهم متوهمٌ شيئاً ليس واقعاً، فَعَنْ عَلِيِّ بِنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: 

(( أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا  ))

[ متفق عليه ]

تعَوَّدْ أن تبيِّن، فإنّ البيان يطرد الشيطان، وقِسْ على هذا الحديث آلاف الحالات، وضِّحْ أين كنت، ولماذا أتيت في هذا الوقت، وما قصدك من هذه الكلمة، وما قصدك من هذه الزيارة، ولماذا أعطيت، ولماذا منعت، لا تكن مُبهمًا، هناك شخصيات مبهمة، لا تعرف، وقد يسئ الناس بها الظن، وسيدنا علي يقول: 

من وضع نفسه موضع التهمة، فلا يلومنَّ الناس إذا اتهموه

فلو فرضنا أنك في بيت، فدخلت على الأهل ـ على الحريم ـ وهذا ليس بيتك، وأنت مع أصدقاء، فيجب أن تعلمهم أن هذا بيت أختك، أنا داخلٌ على أهلي، أحياناً الإنسان يستغرب، سبعة رجال في جلسة، وصاحب البيت موجود، قام رجل ودخل، أين ذاهب ؟ وثمة نساء، فيجب أن تعلم أنّ فلانًا زوج أختي، فدائماً وضِّح، ولا تجعل العدو يفسر عملك الطيب بتفسير خبيث، وهذه لها تعريف آخر، وإذا كنت موفقاً وذكياً، فلا تفعل شيئاً له تفسيران، اجهد على أن يفهم من عملك الحقيقة التي هي عليه، أو هو عليها.

خبثت نفسي، كيف خبثت ؟ هل ارتكبت المعاصي ؟ لا، لا معي اضطراب في الأمعاء، ففي هذه لا تقل: خبثت نفسي، قل: لقست نفسي، أعاني من اضطرابات هضمية، أما فلان نفسه خبيثة، أي يشعر بآلام في معدته، وهذا كلام لا يليق.

وفي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ جَاشَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي  ))

وبعضهم يستخدم كلمات سوقية، أو كلمات ليست مستعملة في المجتمع الراقي، فإذا قال واحد: دخل الحمام، والله كلمة لطيفة، وهناك كلمات أخرى تخدش الحياء، إنسان قضى حاجة، فقل: دخل الحمام، والقرآن علمنا الكنايات اللطيفة..

قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) ﴾

[ سورة النساء ]

وقال أيضا:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) ﴾

[ سورة الأعراف ]

تغشاها، لامستم النساء.

وقال عز وجل:

﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) ﴾

[ سورة المؤمنون ]

فيجب أن تعد كلامك جزءًا من عملك، والإنسان كيف يتجمَّل، يلبس، ويتعطر، ويرتب بيته، فكما تعتني ببيتك، وبأثاث بيتك، وبهندامك، وبمركبتك، فعليك أن تعتني بألفاظك.

أحدهم رأى شابًا يرتدي أجمل الثياب، ويتكلم أقبح الكلمات، فقال له: إما أن ترتدي ثياباً تشبه كلامك، وإما أن تتكلم كلاماً يشبه ثيابك، ففي سيرته تناقضٌ.

وقال الإمام النووي: قال العلماء: معنى لقست وجاشت أي غثيت، وهو الشعور بالغثيان ، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم كلمة خبُثت لأنه ما أحب أن يوصف المؤمن بالخبث. 

 

تحذيره صلى الله عليه وسلم أن يقول العبد لسيده: يا ربي .


هل هناك آيةٌ في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، أن يختار الإنسان أجمل الكلمات وأحسنها ؟ قال عز وجل:

﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) ﴾

[ سورة المؤمنون ]

أي اختر أحسن الكلمات، فلو اعتدى عليك إنسان، وقسا عليك بالكلمات، رُدَّ عليه بأحسن الكلمات، مثلاً: من ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول العبد لسيده: يا ربي، ربك هو الله، فهذا سيّدك، ومعلمك، وليس ربك، ولذلك فأنا لا أستسيغ كلمة أرباب الشعائر الدينية، أرباب جمع رب، خدام المساجد ليسوا أرباب الشعائر الدينية، هم موظفون على العين والرأس، يخدمون بيوت الله، أما أرباب !! فلا تليق.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: 

(( لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي))

[ أخرجه أحمد ]

كلمة عبدي فيها استعلاء، وكلمة ربي فيها تذلل، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يقول العبد لسيِّده ربي، بل يقول: سيدي ومولاي، ونهى أن يقول السيد لغلامه: عبدي أو أمتي، وليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، إذاً فالكلمات لها أثر في إهانة المخاطب، أو في تأليه المخاطب، فلا تؤلِّه مَن هو فوقك، ولا تستعبد من هو دونك.

والإمام مسلم رحمه الله تعالى روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي))

لمخلوقٍ إياك أن تقول له: ربي، ولو قلت له: سيدي، وأنت تراه رباً لك، فأيضاً هذا خطأ، والآن دعنا من الألفاظ، إذا رأيت أن فلاناً الكبير بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك، أو أن يقربك أو أن يبعدك، ولو قلت له يا سيدي، فقد ارتكبت إثمًا أكبر، لأنك ألَّهته بالمعنى، وأنت لا تدري، ولذلك : 

(( عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ))

[ أخرجه أحمد ]

وفي روايةٍ أخرى يقول عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة  ]

وكلكم يعلم في الدعاء الشريف: 

(( اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ  ))

[ أخرجه أحمد عن عبد الله بن مسعود  ]

إذاً: (( لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي )) الحكمة أنه منع السادة أن يتألَّهوا، ويتجبروا، ومنع الصغار أن يُستعبَدوا ويهانوا.

 

تحذيره صلى الله عليه وسلم أن يقول: هلك الناس .


ومن ذلك أيضاً تحذيره صلى الله عليه وسلم أن يقول: هلك الناس، الناس لا يوجد فيهم خير، الناس كلهم فسقوا، الناس كلهم فسدوا، لا يوجد غيرنا، من السذاجة أن تظن ذلك، 

(( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ  ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة  ]

أي هو أشدهم هلاكاً، من قال هلك الناس، الدنيا بخير، وهناك أُناسٌ طيِّبون، وفي كل بلدةٍ أناس طيبون، فهذا الذي ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود، ويلقي على نفسه كل فضيلة، وينزعها من كل إنسانٍ آخر، هذا إنسان غير سوي، يحتاج إلى معالجة، ولذلك نهى فعليه الصلاة والسلام وحذر أن يقول الرجل هلك الناس، وهو يريد بذلك انتقاصهم واحتقارهم، و تنزيه نفسه وتفضيلها عليهم، لا تقل: هلك الناس.

فسبحان الله هناك أشخاص لا يرون الكمال إلا فيهم، ومهما رأوا من كمال في غيرهم يرونه نقصاً، فهذا إنسان يحتاج إلى طبيب نفسي، لأنه هو مريض، ويرى الكمال في نفسه وحدها، وما سواه كلهم في نقصٍ شديد.

فلذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ)) وفي رواية: (( مِنْ أَهْلَكِهِمْ)) هو أهلكهم، وأشدهم هلاكاً، ومِن أهلكِهم، وسبحان الله هذا الذي يكَفِّر الناس ويفسِّقهم يقع في شر عمله، ربما فُضِحَ في عقر داره، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: 

(( يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ  ))

[ رواه الترمذي ]

وفي رواية أبي داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ  ))

ودائماً يوزع تهمًا على الناس، ويقيِّمهم تقيماً سيِّئاً، ويسئ الظن بالآخرين، ويحسن الظن بذاته، وربما وقع هذا الإنسان في شر عمله، وزلت قدمه فوقع في حماقةٍ يترفَّع عنها معظم الناس الذين اتهمهم بالسفه.

وبالمناسبة اللهم صلِّ عليه هو أعظم إنسان، هو البطل الذي جمع كل نواحي العظمة، ومع ذلك ما غفل أبداً عن بطولة أصحابه، أعطى كل صحابيٍ حقه، فإذا كنت في عمل ولك زميل، وأنت مهندس وثمة مهندس غيرك، أو كنت مدرسًا وثمة مدرس غيرك، ووجدت من صديقك أو زميلك تفوقاً، فما الذي يمنعك أن تذكر هذا التفوق، وألاّ تحسده، عوِّد نفسك أن تعترف للآخرين بالفضل، وتُثني على أعمالهم، وألاّ تكون ذا أثرة، وأن تكون موضوعياً، فأنت مهندس وقدم لك مهندس مشروعًا رائعًا فقل له: والله هذا شيء رائع، بارك الله بك، إنه شيء يرفع الرأس، هنيئاً لك على هذه الملكات، عود نفسك أن تقدِّر عمل الآخرين، أما مَن كان أفقه ضيقًا، والحسد يأكل قلبه فلا يستطيع أبداً أن يقدِّر الآخرين، بل ينتقصهم، ويبحث عن زلاتهم، وأحياناً يوجد إنسان يقرأ كتابًا لا لشيء إلا ليبحث عن نقاط ضعفه، ليس هذا مثقفاً، أما المتعلم الحقيقي فيقرأ الكتاب ليستفيد منه، وقد يغُضُّ الطرف عن بعض زلات المؤلف، ويقول لك: العصمة لله، وما منا إلا من رَدَّ ورُدّ عليه، فخذ ما يعجبك ودع ما لا يعجبك، وخذ ما تستفيد منه ودع ما لا تستفيد منه، وخذ الأشياء المشرقة، ودع الأقل إشراقًا.

أما الحقيقة فهناك أناس كثيرون إذا أمسك أحدهم كتابًا فقط ليبحث عن العلل، والأخطاء، والثغرات، فهذا إنسان مريض، يتعامى عن إيجابيات الكتاب، ويتعامى عن فكره العميق، وعن أسلوبه الرفيع، لكنه وجد خطأً، كأنه فاز بشيء، فالنقد جيد، ولكنه النقد المعتدل، والنقد البنَّاء، والذي فيه ثناء.

أنا كنت أذكر لكم ذلك الذي دخل إلى المسجد، وأحدث جلبة وضجيجًا، وشوش على المصلين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: 

(( زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ  ))

[ أخرجه البخاري عن أبي بكرة ]

وإذا كنت مدير دائرة، أو مدير ثانوية، أو مدير مستشفى، بمنصب قيادي، ووجدت إنسانًا أخطأ معك، فأساء، أو تأخَّر، فحاوِلْ أنْ تقدَّم له شيئًا من ميزاته، وإيجابيَّاته، لكي يطمئن، وتجبر قلبه، وبعد ذلك اذكر بعض عيوبه، ولا تذكر العيب إلا بعد أن تذكر الحسن، ولذلك في أدق تعاريف النقد الحديث ذكر الحسنات والسيئات، وذكر الإيجابيَّات والسلبيات، وذكر المنائح والمثالب، أما أن تكتفي بالمثالب وبنقاط الضعف فهذا بعيد عن الاستقامة.

قضية يسمونها سمة بالإنسان، إنسان دخل بيته فوجده نظيفًا، والطبخ جاهز، وغرف النوم نظيفة، والأولاد منتظمون، وجد غلطة واحدة، فتعامى عن كل الإنجازات، ونظر إلى هذا الخطأ وكبَّره، فهذا إنسان شقيٌ في حياته، ويَشقي مَن معه، كن إيجابيًا، وخذ النواحي الإيجابية وكبَّرها، كان يحسِّن الحسن عليه الصلاة والسلام، ولذلك فأنجح الأزواج هؤلاء الذين يثنون على زوجاتهم بما هُو فيهن، أما ويبتعدون عن النقص، والغلط.

يروون قصة وهي طريفة عن أحد الأزواج المتعسفين الظُلاَّم الجبابرة، له كأس خاص له ـ كريستال ـ يشرب منه، فإذا دخل البيت وجب أن تكون امرأته وراء الباب، تحمل المنشفة والنعل الخاص بالبيت، فماذا يفعل ؟ يأتي بمنديل أبيض ويصعد إلى سطح الخزانة ويمرر المنديل عليه، فإذا تلوث هذا المنديل أقام عليها النكير، وأقام القيامة، ولم يقعدها، وله كأسٌ ثمينٌ، وغالٍ خاص به، فمرة طلب كأس ماء، فجاءته بهذا الكأس، شرب منه، وقع من يده على السجاد فانكسر، فابتسمت، فلما ابتسمت توعدها، لماذا ابتسمت ؟ وضيَّق عليها، وضغط، إلى أن قالت: واللهِ هذا الكأس وقع مني من رأس الدرج، ولم ينكسر، فسجدت لله شكراً خوفاً منك إذا انكسر، قال لها متعسف: أنت خَرِفة.

وهناك شخص جبار في البيت، ووجوده فيه مخيف، إذا خرج من البيت تنفس أهله الصعداء ؛ ويقولون: ارتحنا منه، وإذا مرض وجاء الطبيب وقال لهم: حالة بسيطة عرضية، انزعجوا كثيراً، ما هذه العرضية، ظنناها القاضية، فلم تكن القاضية، فشتان بين من يتمنى الناس بقاءه وحياته، وبين من يتمنى الناس موته، اجهد أن يتمنى الناس بقاءك، وأن يتمنى الناس حياتك.

والإمام النووي يقول: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلَكُهُم ، أي أسوؤهم حالاً فيما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أدَّى ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خيرٌ منهم، فيهلكه الله عز وجل.

 

تحذيره صلى الله عليه وسلم من العجب .


إخواننا الكرام؛ اسمعوا هذا الحديث، إنه حديثٌ خطيرٌ جداً: 

(( وله أيضا عن أنس رفعه لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك - يا رب ما هو الذي أشد ؟ - العُجب العُجْب  ))

[ القضاعي عن أنس ]

فهناك إنسان معجب بنفسه، وبشخصيته، وببيته، وبأولاده، يرى الناس كلهم أمامه لا شيء، فهذا إنسان مريض، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، فالناس أذكياء، ويعرفون الغث من الثمين، ويعرفون الصالح من الطالح، والخير من الشر، والمتواضع من المتكبِّر، ويعرفون الوقائع، أما إذا أردت أن تكون أنت في برجٍ عاجي بمعزل عن المؤمنين الطيِّبين، وظننت أنهم لا يفقهون ولا يعرفون، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، وليحذر المسلم أن يزكي نفسه وأن يحتقر غيره.

فيا أيها الأخ اتهم نفسك بالتقصير دائماً وأبداً، وأحسن الظن بأخيك المؤمن، فهذا أكمل خُلُق، والمعاكس دائماً تحسن الظن بنفسك ؛ ولا ترى الأخطاء الكبيرة في شخصيتك، وتبحث عن أخطاء صغيرة في الآخرين، وهذا موقف مرضي، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى معالجة نفسية، ولذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا إذا رأى الرجلُ أخاه وقع في ذنب ماذا يفعل ؟ قال في الحديث الشريف: 

(( الذنب شؤم على غير فاعله، إن غيره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه ))

[ كنز العمال عن أنس ]

يجب ألا تعيِّر، وألا تذكر، وألا تقره على عمله، ويجب أن تقول: الحمد لله الذي عافاني، وأرجو الله أن يهديه، فقط من دون أن تسمعه ذلك، إذا قلت: الحمد وهذا هو الموقف الصحيح، سمعت عن عالم بحمص رحمه الله تعالى، ما سُئل سؤالاً، وعزي الجوابُ إلى عالمٍ آخر إلاّ امتنع عن الإجابة عن هذا السؤال، لا تقل: قال فلان كذا فما رأيك ؟ هذه فتنة، ما قولك يا سيدي في هذا الموضوع ؟ هذا الجواب، أما: قال فلان كذا ماذا، فماذا تقول أنت ؟ فقد دخل الشيطان، سيدي أفتى بخلاف ما قلت، لم يرض ما قلت، لم يعجبه ما قلت، دخلنا في الفتنة، فلذلك كثير من طلاب العلم أقدر فيهم أنهم يجمعون ولا يفرقون، فهو ينقل من عالم لعالم أجمل صورة، ولا ينقل أسوأ صورة، ورد في الأثر عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ 

(( لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ  ))

[ رواه مالك في الموطأ ]

فهل أنت وصي عليهم ؟ أحد الدعاة قال: نحن دعاةٌ، ولسنا قضاةً، أنت لست قاضيًا، سبحان الله هناك كثير ممن يُنصِّب نفسه وصيًّا على المسلمين، فيوزِّع التُهم، ويقيِّم الناس، وهو لا يعرف قدر نفسه، فقد جاء في الأثر: 

(( وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ  ))

[ رواه مالك في الموطأ ]

إلا أن المؤمن لو رأى عاصياً فلا يحتقره، إنها معصية، ولكن ليقل: أرجو الله أن يتوب منها، وربما تاب العاصي وسبق الذي انتقده، الصُلْحَة بلمحة، فأنا لفت نظري اليوم في درس الطاووسية سحرة فرعون، هؤلاء أعوان فرعون، وأعوان الظلمة، كادوا لسيدنا موسى، وأرادوا أن يطفئوا نور الله، وأنْ يردوا الحق، فلما رأوا العَصَا انقلبت إلى ثعبانٍ مبين.. ماذا حصل ؟ 

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) ﴾

[ سورة طه  ]

فلو رأى مؤمن قبل ثانية سحرةَ فرعون يصنعون الحبال، ويهيئون الكيد لسيدنا موسى، ويعاونون فرعون لقال: هؤلاء كفار، ولكن بعد دقيقة صاروا صدِّيقين، وهذا الكلام أقوله لكم، فهل ترى إنساناً أسوأ من سحرة فرعون ؟ إنهم سحرة، ومن سحر فقد كفر، والساحر عون للظالم، يريد أن يكيد لهذا النبي الكريم، ولكن عندما أجرى محاكمة دقيقة جداً، ورأى أن هذا الذي جاء بهذه المعجزة هو رسول الله، انتهى الأمر، وآمنوا به خلال دقائق. 

ولذلك قلت لإخواننا اليوم: العبرة لا لمن سبق بل لمن صدق، وهناك شيء في الإسلام اسمه حرق المراحل، في نظام التعليم لا بدَّ أن تمضي أربع سنوات كي تأخذ الإجازة في فرع معين، وفي بعض الدول الراقية ثلاث سنوات للأذكياء والمتفوقين، لكن يمكن عند الله عزَّ وجل أن تأخذ هذه الإجازة في ساعة، لأنّ المراحل تُضْغَط، فكلَّما ازداد الصدق قصُر الزمن، فسحرة فرعون في زمنٍ قياسيٍ وصلوا إلى ما وصلوا إليه في أعلى درجة، هذا الكلام الذي ذكرته الآن لا تحتقر حتى العاصي، فلعلَّه يتوب ويتفوق عليك، واسأل الله السلامة، فالعبد شأنه التواضع لا التكبُّر، قال: (( وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ)) .

وننتقل إلى موضوعٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ألا وهو:

 

عبادته صلى الله عليه وسلم: 


النبي صلى الله عليه وسلَّم نال أعلى مقامات العبادة.. 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات  ]

أنت في أعلى درجة من درجات الرُقي، وفي أعلى درجة تكون عبداً لله، وأعلى مقام تناله العبوديَّة لله، وحينما تكون عبداً لله يرفع الله لك ذكرك، فالقضية علاقة معكوسة، كلَّما ازددت تواضعاً لله رفع الله شأنك، وكلَّما تكبَّرت قصمك الله عزَّ وجل، فلذلك لا أجد على وجه الأرض إنسانًا أعزَّه الله كالنبي الكريم، وما على وجه الأرض إنسان أشد تواضعاً لله، وانصياعاً لأمر الله، وعبوديَّةً لله كرسول الله، فكلَّما ازددت خضوعاً زادك الله عزًّا، ولذلك فأحد الصالحين قال: أنا أدخل على الله من باب الانكسار ، هذا الباب ليس عليه ازدحام أبداً، فأكثر الناس يقول لك: أنا داعية، أنا هديت الناس، أنا لي مؤلَّفات، أنا دكتور في كذا، دائماً يكبِّر حجمه ؛ إلا المؤمن الصادق الذي وصل إلى درجة عالية فإنه يصغِّر حجمه، والله سبحانه وتعالى يزيده عزاً بهذا التصغير، يقول الإمام الشافعي في كلمة مشهورة:  كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي ، ويقول ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: 

(( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ  ))

[ رواه البخاري ]

وسيدنا حذيفة بن اليمان معه أسماء المنافقين، فمن سأله عن القائمة ؟ سيدنا عمر، قال له: بربك اسمي معهم ؟ ، ما هذا الكلام ؟ سيدنا عمر عملاق الإسلام، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي ضرب للناس مثلاً أعلى في العدالة والتقشُّف يقول: بربك اسمي مع المنافقين ؟ ، فهذا هو التواضع، المؤمن عبد لله عزَّ وجل، ليس عنده كبر، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَقَالَ: 

(( أَيْ أُخَيَّ أَشْرِكْنَا فِي دُعَائِكَ وَلَا تَنْسَنَا  ))

[ رواه الترمذي ]

كان عليه الصلاة والسلام مَن رآه بديهةً هابه، فإذا عامله أحبَّه، المؤمن بسيط من الداخل، ليس فيه تعقيدات، ولا كهنوت، ولا تصنُّع، إنه بسيط، قال: كانت الجارية ـ الطفلة الصغيرة ـ تأخذ بيد النبي وتقوده فيدفعها حيث شاءت، جارية صغيرة، سيدنا الصديق له جيران فقراء يحلب لهم الشياه، تولَّى الخلافة، و غير معقول أنْ يتابع لهم هذه المهمَّة، ففي صبيحة اليوم الأول من توليه الخلافة طُرق باب أحد الجيران، وصاحبة البيت قالت لابنتها: افتحي الباب يا بنيتي، فلما فتحت قالت: من جاء ؟ من الطارق ؟ قالت: جاء حالب الشاة يا أماه ليحلب لنا، هو سيدنا الصديق نفسه.

هو على ناقته وقع منه زمامها، فنزل عن ناقته ليلتقط الزِمام، وحوله أصحابه وهو خليفة رسول الله وخليفة المسلمين، قالوا: نكفيك ذلك، قال: لا.. أمرني حبيبي أن لا أسأل الناس شيئاً ، اخدم نفسك بنفسك، هكذا كانوا، سيدنا الصديق يمشي على قدميه، وسيدنا أسامة بن زيد الذي لا تزيد سنه عن سبعة عشرَ عاماً، قائد جيش المسلمين، يمشي في ركابه، سيدنا أسامة أديب قال له : والله يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن . فقال له:  والله لا ركبت ولا نزلت، وما عليَّ أن تغبَّر قدماي ساعةً في سبيل الله ؟ .

فيا إخواننا تقرؤون عن الصحابة شيئًا لا يصدق ؛ مِن تواضع، وبساطة، وأدب، ومحبة لله عزَّ وجل، وورع.

فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان سيد العابدين، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾

[ سورة الحجر ]

والعياذ بالله هناك فرقةٌ ضالةٌ تفهم هذه الآية على النحو التالي: أنه إذا بلغت اليقين سقطت عنك العبادة، لا، فاليقين في الآية هو الموت، أي واعبد ربك طوال حياتك، وعندما قال ربنا:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ﴾

[ سورة آل عمران ]

ما معنى قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم ؟ أي دائماً، فالإنسان إما أنه واقف، أو نائم، أو مُضجع، أي دائماً ، ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) أي طوال حياتك إلى الموت، فأمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم في هذه الآية بأربعة أشياء ؛ أمره بالتسبيح، والتحميد، والسجود، والعبادة حتى الموت، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، والتحميد إثبات المحامد كلِّها لله عزَّ وجل ، ( وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)) أي كن من المصلين، واللهُ ذكر السجود لأنه أبرز ما في الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، هذا في البلاغة يقال عنه: ذكر الجُزء وإرادة الكل، والإنسان بالسجود له أن يدعو الله كثيراً، لأنه أقرب حالة تكون فيها مع الله وأنت ساجد، فلذلك اغتنم هذا القرب بالدعاء ، ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) .

وهنا سؤال: لماذا سمَّى الله الموت يقيناً ؟ لسببين ؛ السبب الأول أن الموت متيقنٌ وقوعه..

كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى .. إلا ذو العزة والجبروت

* * *

كل مخلوقٍ يموت، متيقين وقوعه، ولا أحد على الإطلاق يجرؤ أن ينكر الموت، لكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن يستعد له، وغير المؤمن لا يستعد له، فالمؤمن أدخله في حساباته اليوميَّة، وأدخله في برامجه اليوميَّة، أما غير المؤمن فلا يستعدُّ له، هذه واحدة.

والثانية: عند الموت تتيقَّن ِمن كل ما جاء به الوحي، والقرآن بين أيدي الناس، بربكم لو أنهم تيقنوا ما فيه لما كانوا على ما هم عليه، أما الشيء الثابت فإنهم غير متيقِّنين، ولكن عند الموت كل شيء سمعته في القرآن، أو من السنة تتيقَّن به، وماذا يفيدنا هذا ؟ يفيدنا أن خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت، لا خيار قبول، أو رفض، فقد يقدَّم إليَّ كأس ماء، فأشرب أو لا أشرب، خياري مع هذا الكأس القبول أو الرفض، أما خياري مع التنفس فليس الرفض، إذًا أنا مع التنفس مقهور وإلا أموت، لكن خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت، إما أن تؤمن وأنت في الحياة الدنيا، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان، والدليل ؛ أكفر أهل الأرض فرعون آمن، ولكن متى ؟ عند الموت، إذاً الإيمان حاصل، وبقي أنه ينبغي لك أن تؤمن قبل فوات الأوان، فخيارك مع الإيمان خيار وقت، وليس خيار قبول أو رفض.

إذاً سُمِّي الموت يقيناً لتيقُّن وقوعه، ولأن فيه اليقين..

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾

[ سورة ق   ]

 فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، وسأسمعكم كلمتين لسيدنا علي ؛ الأولى يقول: والله لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً ، أي إنه بلغ درجة من اليقين قبل الموت، فيقينه بالحقائق قبل الموت، كيقينه بها بعد الموت، والكلمة الثانية: والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي ، فهذه درجة عالية جداً، إلى أقصى سرعة.

والآن القرآن كما قلت لكم: مثاني، ومعنى مثاني، أي إن كل آية تنثني على أختها فتفسرها، كيف عرفنا أن اليقين هو الموت ؟ من آية ثانية:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) ﴾

[ سورة المدثر  ]

الموت. فاليقين هو الموت ، ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) اعبد ربك طوال حياتك، فقضية الدين ليست قضية مرحليَّة، نهائيَّة طوال الحياة. 

وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري وأحمد عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا  ))

قالت واحدة: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، قال: 

(( وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ  ))

طبعاً التفسير الدقيق جداً: واعبد ربك مدة حياتك كلِّها دائماً دائباً، وهذا نراه في آية أخرى:

﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً (31) ﴾

[ سورة مريم ]

ورد في أثر مُرسل: 

ما أوحي إليَّ أن اجمع المال وكن مع التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبِّح بحمد ربك وكن مع الساجدين 

كن مع الساجدين لا مع جُمَّاع الأموال، بقي شيء ثالث مع العبادة، أولاً مدَّتها طوال الحياة، قال لك:

﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) ﴾

[ سورة مريم ]

من خصائص العبادة أنها ربما تتناقض مع طبع الإنسان، لأنّ الطبع يميل للراحة، والعبادة فيها جهد، والطبع إطلاق البصر، والعبادة غض البصر، والطبع قبض المال، والعبادة إنفاقه، والطبع إطلاق اللسان في عورات الناس، والعبادة ضبطه، فالعبادة ذات كُلفة، و سمي التكليف تكليفاً لأنه ذو كلفةٍ، ولذلك الآية الكريمة : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65)) والسيدة عائشة سُئلت عن عبادة النبي، كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟ فَعَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: 

(( هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ  ))

[ رواه البخاري ]

أي ما في عنده فورات وهموم، الآن أكثر طلاب العلم يفور فورة وبعدها يهمد، حضور قوي وبعده يغيب، إقبال شديد وبعده يدبر، هذه الحالات المتناوبة النبي كان بعيد عنها، (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)) ولذلك قال: 

(( أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ  ))

[ أخرجه مسلم عن السيدة عائشة  ]

لزمتَ مجلس علم فتابعه، ألزمت نفسك أن تقرأ كل يوم جزءًا فتابعه، وأنْ تدفع كل شهر صدقة فتابعها، تتراكم الأمور، وتتنامى، أما هذه الفورات، فورة وهمود، فهذه لا تصنع شخصيةً إيمانيةً كبيرة، قطرات ماء ثم انقطاع لا تملأ برميلاً، إذْ لا بدَّ من الاستمرار، ولذلك فالإنسان المؤمن الصادق يشكِّل حياته وفق برامج دينيَّة رائعة، أما من يجعل حضور الدروس وطلب العلم من باب الفضلة، وعلى ما تبقَّى من وقته، ففي الأعم الأغلب ليس عنده وقت فراغ، والأصل بالعكس، الأصل أن تطلب العلم وأن تعطيه أثمن أوقاتك، حتى يبارك الله عزَّ وجل لك في بقية الأوقات، تماماً كأداء الزكاة، فمن أدَّى زكاة ماله حفظ الله له بقية ماله، ومن أدى زكاة وقته حفظ الله له بقية وقته، ومن تأدية زكاة الوقت القيام بالعبادات، وطلب العلم الشرعي.

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: 

(( مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ  ))

[ رواه النسائي ]

أي تقدَّمت سِنُّه، يصلي صلاة التطوع وهو جالس لكن ما ترك الصلاة ـ وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه العبد وإن كان شيئاً يسيراً "، وجميل جداً أنْ يكون للإنسان نظامٌ صارم لحياته، وقت لدرس العلم، ووقت لحفظ القرآن، وثالث لتلاوته، ورابع للجلوس مع الأهل، وخاص للأولاد، وآخر للعمل.

فالحقيقة التوازن يحتاج إلى بطولة، أما التطرُّف فعملك يمتص وقتك كله، وهذه سهلة، تجد الجل منحازًا، أو كل وقته للبيت، فالتطرُّف سهل لا يحتاج إلى بطولة، أما أن توزِّع الوقت توزيعًا منتظمًا، وأن تعطي كل ذي حقٍ حقَّه ؛ فأولادك لهم حق، والزوجة لها حق، وعملك له حق..

وسيدنا عمر رضي الله عنه جاءه رسولٌ من أذربيجان، وصل المدينة منتصف الليل، وكره أن يطرق بابه، فذهب إلى المسجد، فسمع رجلاً يتأوَّه ويبكي ويقول: يا رب هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟ ، قال: من أنت يرحمك الله ؟ ، فقال:  أنا عمر ، قال: أنت أمير المؤمنين ؟ !، لقد كره أن يطرق بابه ليلاً لئلا يوقظه، فوجده سهران يصلي، فأجابه عمر:  إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، فإن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل .

وفي الدرس القادم إن شاء الله نتابع موضوع العبادة عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولا تنسوا قوله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

أي إن علة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله. فإذا ذهب طالب إلى فرنسا ليدرس، فالسؤال الدقيق: ما علة وجوده في هذه البلدة ؟ الدكتوراه فقط، فأكبر خطأ يرتكبه أن يغفل عن مهمته الأساسية، فلو زار المتاحف، وزار المقاصف، وطالع كتبًا ليست لها علاقة باختصاصه، وأقام حفلات وسهرات، ورجع بخفَّي حُنين، فهذا غفل عن مهمته الأساسية، وكل إنسان يغفل عن عبادة الله عزَّ وجل، يغفل عن مهمته الأساسيَّة في الدنيا.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور