وضع داكن
19-04-2024
Logo
العقيدة من مفهوم القرآن والسنة - الدرس : 38 - العين والحسد -2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصداق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مقدمة عن الحسد :

 أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثامن والثلاثين من دروس العقيدة الإسلامية، الموضوع اليوم حول الحسد، ولكن لا بد من مقدمة في أصل الحسد.
 أولاً: لا يعقل ولا يقبل أن يخلق الله الإنسان على صفات ذميمة، لأن الله عز وجل يقول:

﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾

[سورة الروم الآية: 30]

 لا يعقل ولا يقبل من خالق عظيم, كماله مطلق، صنعته متقنة، خيريته مطلقة، أن يخلق إنساناً فيه خلل في نفسه.
 إذا قلت مثلاً: والحسد من شيم النفوس، فأنت لا تعرف الله، لا يمكن أن تكون صنعة الله ذات خلل، مستحيل، ولكن الإنسان مخير، ولأنه مخير, فكلُّ خصائصه حيادية، ولأن تخييره يثمن عمله، فلا قيمة لعملك إطلاقاً الذي هو ثمن الجنة, إلا إذا كنت مختاراً، قيمة عملك: أنك تعمله وأنت مختار، لذلك: لأنك في الأصل خلقك الله عز وجل ذا اختيار، تختار الخير أو الشر، الحق أو الباطل، أن تستقيم أو أن تنحرف، أن تُصلح أو أن تفسد، لأنك في الأصل مخير، خصائص نفسك حيادية.

ما أصل الحسد؟ :

 ما أصل الحسد؟ أن الله سبحانه وتعالى فطرك فطرة, أساسها: أنك تتمنى ما عند الآخرين، تتمنى لنفسك ما عند الآخرين، هذا التمني حيادي, يمكن أن يطبق في أمور الدنيا فيكون حسداً، أو أن يطبق في أمور الآخرة فيكون غبطة؛ إذا طبقته في شؤون الدنيا كان حسداً، وإذا طبقته في شؤون الآخرة كان غبطة، إذاً: تمني ما عند الآخرين خصيصة حيادية، لك أن تستخدمها سلّماً ترقى بها، ولك أن تستخدمها دركات تهوي بها.

قف هنا :

 إذا قلت: الحسد, لمَ لا تقول: مليون إنسان تابوا إلى الله, لأنهم تمنوا أن يكونوا كأتراب لهم صالحين؟ كم من إنسان حفظ كتاب الله, لأنه لما رأى من يحفظ كتاب الله هو مكرم جداً؟ كم من امرأةٍ تحجبت, لأنها رأت امرأة محجبة محترمة جداً في المجتمع؟ إذاً: أن تتمنى ما عند الآخرين, حالة أو خصيصة حيادية توظف في الخير في شؤون الآخرة، وتوظف في الشر في شؤون الدنيا.
 كيف أن المال حظ حيادي يوظف في الخير، ويوظف في الشر في وقت واحد؟ يمكن أن توظف المال لبلوغ أعلى درجات الآخرة، ويمكن أن توظف المال للوصول إلى أدنى دركات النار بالمال، حب المرأة يمكن أن يقودك إلى زواج طاهر تسعد به، ويسعد أولادك، ويمكن أن يقودك حب المرأة إلى الزنا، وإلى الفجور، وإلى أخفض دركات النار.

الحظوظ البشرية حيادية والخصائص البشرية حيادية توظف كلاً منهما في الخير والشر :

 أخواننا الكرام، كل حظوظ النفس حيادية، وكل خصائص النفس حيادية، الحظوظ, المال, الذكاء، يمكن أن يوظف الذكاء لبلوغ أعلى مراتب الجنة، ويمكن أن يكون الذكاء دركات إلى أسفل دركات النار، هؤلاء الذين تفننوا في خلق أفكار تصرف الناس عن الدين وعن الآخرة، هؤلاء الذين فلسفوا الجريمة، وفلسفوا قتل الشعوب، هؤلاء الذين غطوا نهب الثروات، والسيطرة على العالم بكلام مقبول عند السذج، نحن نحارب الإرهاب، واللهِ شيء جميل، لكم أن تأخذوا كل ثروات العالم بهذه الطريقة، ولكم أن تذلوا كل الشعوب، ولكم أن تلغوا كل الثقافات، ولكم أن تحكموا السيطرة على ثروات الأرض تحت غطاء، هذا من إنتاج فكر.
 أيها الأخوة, فالذكاء حظ, والمال حظ, والوسامة حظ، وأن تكون قوياً حظ، فالحظوظ حيادية؛ توظف في الخير أو الشر.

خصائص الجسد :

 الخصائص حيادية؛ توظف في الخير أو الشر، خصيصة الإنسان: أنه مثلاً يتمنى ما عند الآخرين، هذه خصيصة. الدليل:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾

[سورة الشمس الآية: 7]

 كيف سوى الله نفسك؟ كيف سوى جسدك؟ واضحة عندكم تماماً، إنسان له رأس، له عينان، له أذنان، له فم، له لسان، له يد، له أصابع، له سلاميات، يمشي على رجلين، يوجد مفاصل، يوجد جذع، يوجد أحشاء، يوجد جهاز هضم، هذه خصائص الجسم.

خصائص النفس :

 ما خصائص النفس؟ قال تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[سورة الشمس الآية: 7-8]

 من خصائصها: أنها تتمنى ما عند الآخرين، أي إنسان إن رأى مركبة فاخرة تمنى أن تكون له، وإن رأى قصراً منيفاً تمنى أن يكون له، وإن رأى تجارة رابحة تمنى أن تكون له، وإن رأى امرأة جميلة تمنى أن تكون زوجته مثلاً، إذاً: تمني ما عند الآخرين خصيصة، لكنها حيادية، وإن رأيت عالماً جليلاً تتمنى أن تكون مثله، وإن رأيت إنساناً مستقيماً تتمنى أن تكون مثله، وإن رأيت طالب علم مؤدباً تتمنى أن تكون مثله، وإن رأيت حافظ كتاب الله معززاً مكرماً محترماً تتمنى أن تكون مثله، وإن رأيت مؤمناً صادقاً تتمنى أن تكون مثله.

كيف يوظف المؤمن هذه الخصيصة؟ :

 يوجد خصيصة ثابتة في الإنسان: أنك تتمنى أن يكون الذي تظنه خيراً لك، لذلك لما خرج قارون بزينته:

﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾

[سورة القصص الآية: 79]

 هذه خصيصة في الإنسان، إلا أن المؤمن يوظف هذه الخصيصة لبلوغ درجات الآخرة، سماها النبي غبطة، وسماها مرة حسداً؛ بمعنى الغبطة.
 فعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ, عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ))

 تمنّي ما عند الآخرين إحدى خصائص النفس، لكنها درجات ترقى بها أو دركات تهوي بها، قد توظفها لبلوغ أعلى درجات الآخرة، وقد توظفها للوصول إلى أدنى دركات النار.

وهم خاطىء :

 أيها الأخوة, أن تتوهم أن الله عز وجل خلق إنساناً حسوداً، يا أخي الحسد من شيم النفوس، هكذا الإنسان حسود، بالتعبير العامي: أسود رأس حسود، من قال لك ذلك؟ الإنسان صنعة الله، كل مولود يولد على الفطرة:

﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾

[سورة النمل الآية: 88]

﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾

[سورة البقرة الآية: 138]

 فأنت مخلوق كامل، لكن الأصح من ذلك: أنك تحب الكمال، تكون كاملاً إذا اتصلت برب الأرض والسموات، وتكون محباً للكمال، لأنك من صنعة الله عز وجل، لأن فطرة الله تعني أنك تحب الكمال، لكن اتصالك به يعني أنك كامل، تكمل إذا اتصلت به، وتحب الكمال قبل أن تتصل به، لكنه فرق كبير بين أن تحب الكمال وبين أن تكون كاملاً، بين أن تحب العدل وأن تكون عادلاً، بين أن تحب الكرم وأن تكون كريماً، هذه المقدمة لا بد منها.

قضية الحسد :

 لا يذهبن أحدكم إلى أن يتوهم أن الحسد من شيم النفس، لا، من شيم النفس الحيادية التي قد توظف في الخير أو قد توظف في الشر: أن كل نفس بشرية تتمنى ما تظنه خيراً، تتمنى أن يكون عندها، تظنه خيراً عند الآخرين، فإذا كنت من أهل الدنيا, تتمنى أن تكون غنياً مثل أهل الدنيا، وإن كنت من أهل الآخرة, تتمنى أن تكون محسناً كأهل الآخرة، إذاً: قضية الحسد هي توظيف خاطئ لخصيصة حيادية أودعها الله في الإنسان.

قف هنا :

 طبعاً كما قلنا سابقاً: حينما يكون الموضوع قد ورد في القرآن الكريم, معنى هذا أن الموضوع مهم جداً، ومركزي في حياة الناس، وقد يكون تسعون في المئة من مشكلات الناس أساسها الحسد، أنا أؤكد ذاتي بإظهار ما عندي للطرف الآخر, فيتضور حقداً، لأن يكون هذا الذي عندي عنده.

ما هي مستويات الحسد؟ :

 أيها الأخوة، الحسد له ثلاثة مستويات, أدنى هذه المستويات: أن تتمنى أن يتحول الذي عند أخيك إليك، هو غني, تتمنى أن ينتقل الغنى إليك، هذا مستوى، هو محبوب, تتمنى أن تنتقل هذه الصفة إليك، المستوى الأسوأ من هذا: أن تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك تشفياً، لك أخ متألق، يعمل في مجال أنت لست أهلاً له إطلاقاً، إلا أن بُعد الإنسان عن الله، وانقطاعه عنه, حمله على أن يحسده، ففي المستوى الأسوأ: تتمنى أن تزول النعمة عنه دون أن تصل إليك تشفياً، هل يوجد مستوى أسوأ من هذا؟ المستوى الأسوأ: أن تسعى جاهداً بكتابة أو وشاية أو تحريض أن تزول النعمة عنه.
 أدنى مستويات الحسد: أن تتمنى أن تنتقل النعمة من أخيك إليك، أن تزول عنك، وأن تأتي إليك, هذا أو مستوى سيء جداً، إلا أنه انتفعت من الحسد، تمنيت أن يكون المال الذي عند أخيك عندك.
 المستوى الثاني يدل على لؤم شديد، تتمنى أن تزول النعمة عنه دون أن تصل إليك، يكفي أن تزول عنه كي تشمت به.
 المستوى الأسوأ: أن تكتب تقريراً، أن تحرض إنساناً، أن تسعى لإيقاع الأذى به، هذه مستويات الحسد، ولا يحسدُ مؤمن إطلاقاً.

هل يتناقض الحسد مع أهل الإيمان؟ :

 أيها الأخوة, الحسد يتناقض مع أهل الإيمان، المؤمن لا يحسد، إن رأى نعمة على أخيه يتمنى أن تدوم له، لذلك يمكن أن تكون هذه النقطة فيصلاً بين المؤمن والمنافق؛ المنافق :

﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾

[سورة آل عمران الآية: 120]

 يمكن أن تمتحن نفسك من دون مواربة، من دون مجاملة، إذا أصابت أخاك نعمة مالية ، أو علمية، أو تجارية، أو اجتماعية، تزوج امرأة صالحة، أنجب أولاداً صالحين، ارتقى إلى منصب رفيع، نال شهادة عليا، اشترى بيتاً جميلاً، يمكن أن تمتحن إيمانك من هذه النقطة، هل تفرح له؟ هل تسرّ؟ هل تقول: واللهِ فرحت له، وكأن هذا البيت لي؟ علامة إيمانك، وعلامة انتمائك لمجموع المؤمنين: أنك تفرح لنعمة أصابت أخاك، علامة النفاق: أنك تتألم إن أصابت أخاك نعمة.

ما محور هذه الآية؟ :

 والآية واضحة جداً:

 

﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾

[سورة آل عمران الآية: 120]

 فحينما ترتاح نفسك لملمّة ألّمت بأخيك المؤمن, فاعلم علم اليقين: أنك في خندق المنافقين، لمجرد أن ترتاح نفسك لملمة ألمت بمؤمن, فاحكم على نفسك يقيناً: أنك في خندق المنافقين، ما دام الحسد قد ورد في القرآن الكريم في أربع آيات, معنى ذلك: أن الحسد شيء مركزي في حياة الناس.

إليكم هذه الآيات التي وردت في موضوع الحسد :

 إلى الآيات؛ الآية الأولى:

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 109]

 حسداً، إعراب حسداً: مفعول لأجله، أي بسبب الحسد, تمنوا لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً.
 الآية الثانية في سورة النساء:

﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾

[سورة النساء الآية: 54]

 بالمناسبة: أنت حينما تحسد, تعترض على الله عز وجل:

 

قل لمن بات لي حاسداً  أتدري على من أسأت الأدبَ؟
أسأت على الله في فعله  إذا لـم ترض لـي ما وهبَ

 الآية الثالثة:

 

﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾

[سورة الفتح الآية: 15]

 الآية الرابعة:

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾

[سورة الفلق الآية: 1-5]

من الذي يتعرض لحسد الحاسدين, ولماذا المؤمن محصن من عين الحاسد؟ :

 الآن ندخل في بعض التفاصيل: ذو النعمة الغافل عن الله عز وجل، أو ذو النعمة الذي يظهر ما عنده, ليستعلي بهذه النعمة على الناس، هذا معرّض لأذى الحاسد، ُيحسَد، أما ذو النعمة الشاكر لها، المتواضع، الذي لا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً، فهذا محصّن من عين الحاسد.
 مرة ثانية: ذو النعمة الذي غفل عن الله، واعتد بهذه النعمة، وأظهرها للناس من أجل أن يؤكد ذاته, هذا معرّض لحسد الحاسدين، ولو كتب: عين الحاسد تبلى بالعمى، لا تكفي هذه ، ولو وضع حدوة حصان، لو رسم عيناً في داخلها سهم، هذا لا يقدم ولا يؤخر، ما دام غافلاً عن الله، معتداً بهذه النعمة، يعلو بها على الآخرين، هو يعرّض نفسه لعين الحاسد، والحسد موجود، والحسد مؤذٍ.
 أيها الأخوة, كيف أن العين تضع الجمل في القدر، والرجل في القبر، وكذلك المرأة، مثلاً حينما تفتخر بأولادها أمام امرأة عقيم، ابني الأول يحبونه في المدرسة كثيراً، هو جميل الصورة ومتفوق، كلما التقت بامرأة عقيم تبالغ بما عندها، قالت امرأة لضرتها العقيم: ولد في بطني، وولد على يدي، وولد يمشي, فموتي، الثلاثة ماتوا، أصابتهم عين الحاسد.

ينبغي أن تعلم :

 أيها الأخوة الكرام، لا تستغربوا، سلوك الغافل اليومي إظهار ما عنده، يقول لك: كسرت عينه بهذه الوليمة، ثلاثة عشر نوعاً من الطعام وضعت، هذه وليمة؟ وليمة شيطانية، شر الطعام طعام الولائم، القصد الافتخار, إظهار ما في البيت من تحف، يأتي الضيف هو ساكت، البيت مساحته أربعمئة متر، ما شاء الله، الله يجزيك الخير، هنأك الله به، أنت ما هدفك من هذا الكلام؟ هدفك أن تستعلي عليه بهذا البيت، دون أن يشعر الإنسان، أنماط من السلوك كثيرة جداً هدفها الاستعلاء؛ فالذي يتمتع بنعمة، ويظهرها، ويعتد بها، ويعلو بها على الآخرين, هذا يعرّض نفسه لحسد الحاسدين، والذي يتمتع بنعمة يتواضع لله، يشكر الله عليها، يتأدب مع عباد الله، هذا محصّن ضد عين الحاسدين.

ما الذي يناقض الحسد؟ :

 إلى السنة النبوية المطهرة: روى الإمام أحمد, عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ؛ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ))

 يبدو أن أخطر مرض يدب بين الناس هو الحسد, لذلك التهنئة تتناقض مع الحسد، أخوك اشترى بيتاً, أهنئه، وأقدم له هدية، متعك الله به، وجعله مأوى لك أنت وأهلك، أخوك اقتنى مركبة، جعل الله هذه المركبة في خدمة الحق وأهله، فأنت حينما تهنئ، وتقدم هدية, تعبر عن إيمانك، وعن غبطتك، وعن محبتك لأخيك, هذا يناقض الحسد.

 

الحسد ينقل إلى البغي والعدوان :

 وفي حديث آخر, أخرجه الحاكم بإسناد حسن, عن أبي هريرة -رضي الله عنه-, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:

((سيصيب أمتي داء الأمم؛ الأشر, والبطر, والتكاثر, والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي))

[أخرجه الحاكم في مستدركه]

 البغي؛ أي العدوان، أحياناً الحسد ينقل إلى العدوان، أحياناً يكون الحسد حالا نفسيًّا داخليًّا فقط، متألم من نجاح صديقه، هو لم ينجح، لكن صديقه نجح، ليته لم ينجح، يتمنى ألا ينجح، هذا حال، لكن أحياناً لو فرضنا -ولا أقر ذلك إطلاقاً- أن صديقه نجح بطريقة غير مشروعة، يفشي سرّه كي توقع به أشد العقوبات، أحياناً الحسد ينقل إلى البغي والعدوان.

الحسد حق :

 وفي حديث آخر, رواه الإمام أحمد, عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ, وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ))

[أخرجه أحمد في مسنده]

 الحسد حق.

غداً إن شاء الله :

 أيها الأخوة الكرام، إن شاء الله في درس قادم نتابع تفاصيل هذا المرض الخطير في النفس البشرية، وهو مرض متفشٍّ بين ضعاف المؤمنين، فسلامة الإنسان من الحسد: دليل عمق إيمانه وقوة إيمانه.

سؤال ورد :

 يوجد بعض الأسئلة:
 السؤال: يقول أحد الأخوة: إذا تمنى الشخص أن يكون له مثل ما عند الناس, من دون أن يتمنى زوالها عن زيد أو عبيد, فهل هذا حسد؟.
 الجواب: لا، أنت –مثلاً- لست متزوجاً, لك صديق تزوج، واستقر، هنّأه الله، تقول: اللهم ارزقني زوجة صالحة مثله، لا يوجد فيها شيء أبداً، لك أخ اشترى بيتاً فرضاً، لك أخ تفوق في العلم, هنأه الله، وارزقنا اللهم ما رزقته، هذا موقف سليم, لا يوجد به مشكلة إطلاقاً، أن تتمنى ما عند أخيك المؤمن من غير دون أن يزول عنه, هذا هو الوجه الإيجابي، كتمني ما عند الآخرين، هذا وجه إيجابي، من خير الدنيا أو الآخرة، لكن له أخ أو صديق غارق في المعاصي إلى قمة رأسه، الله يهنئه، ويرزقك لي مثله، هذه ليست جيدة، أن تتمنى ما عند الآخرين من خير فقط، من خير الدنيا والآخرة.

شبهة :

 سؤال: يقول الأخ الكريم:

 والظلم من شيم النفوس فإن  تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

 هذه آية أم حديث؟.
 الجواب: هذه اركلها بقدمك، هذا كلام الشاعر المتنبّي، قال:
 والظلم من شيم النفوس
 أي مثلاً: في بعض القرى يكون هناك مجمع ماء آسن، مياه مجاري أحياناً، هؤلاء الأطفال يسبحون، ويلعبون، ويضحكون، إذا وجدت أطفالاً يسبحون، ويمرحون في ماء آسن، هل هذا هو الأصل؟ هذه حالة مرضية، فإذا عاش إنسان بين أناس ظلاّم، عاش مجتمع المادة والقهر، عاش مجتمع التفلت، عاش مجتمع اللؤم، عاش مجتمع الابتزاز، مجتمع القسوة، يا أخي هكذا الله خلق الناس، لا، هذا ليس من خلق الله.
 أنت يمكن أن تشاهد سيارة سائقها يشرب الخمر، فنزل في الوادي، فأصبحت معجونة عجناً، وتقول: أيّ معمل صنع هذه السيارة؟ هذه السيارة التي تشوّه منظرها, لا تحتاج إلى معمل يصنعها هكذا، بل تفسير هذا: أن سائقاً مخموراً هوى بها في الوادي، فكانت كذلك، فإذا كنت تعيش في مجتمع ظالم، أو مجتمع قاسٍ، أو مجتمع منافق، أو مجتمع يغلب عليه قلة الذمة والدين, لا تتوهم أن الإنسان هكذا، أنت تعيش في مجتمع منحرف، يوجد أسباب كثيرة جداً دعت إلى انحرافه, ولكن الله عز وجل قال:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾

[ سورة الروم : الآية 30]

 فالظلم من شيم النفوس كلام لا صحة له إطلاقاً، ونحن دائماً وأبداً نقول: هناك نص قرآني قطعي الثبوت، مهمتك مع هذا النص أن تحاول فهمه فقط، وهناك نص نبوي قد يكون ظني الثبوت، وقد يكون قطعي الثبوت، لذلك أنت مع النص النبوي, يضاف إلى محاولة فهمه محاولة التأكد من صحته، مع النص النبوي تأكد من صحته أولاً، ثم افهم معناه ثانياً، مع النص القرآني افهم معناه فقط، لأنه قطعي الثبوت, مع نص آخر من آدم إلى يوم القيامة غير الكتاب والسنة، لك ثلاث مهمات؛ أن تتأكد من صحته أولاً، وأن تحاول فهمه ثانياً، وأن تعرضه على الكتاب والسنة الصحيحة، فإن وافقه فعلى العين والرأس، وإن خالفه فاركله بقدمك، وهذا بيت الشعر اركله بقدمك:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
 لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- ما روى في حياته إلا شطر بيت، هذا الشطر:
 ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 -باقي البيت-:
 وكل نعيم لا محالة زائل
 قال ابن مسعود: لا، نعيم أهل الجنة لا يزول، كلام غير صحيح، نعيم أهل الجنة لا يزول، لذلك قال هذا الشطر:
 ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 أما:
 وكل نعيم لا محالة زائل
 كلام لا أصل له، غير صحيح.
 يروى أن شاعراً دخل على ملِك، لقاء مقتضب سريع، قال له الشاعر: إن، قال له الملك: وانتهى اللقاء.
 ماذا تكلم؟ عندما خرج قيل له: ماذا قال لك الملك؟ أنت في الأساس ماذا قلت له؟ قال: قلت له: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها.
 قالوا: ماذا قال لك؟.
 قال: إنه قال:

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾

 فالأصل أن الكلام أنواع ثلاثة: قرآن وسنة صحيحة وكلام الآخرين؛ القرآن نفهمه، والسنة نتأكد من صحتها ونفهمها، وكلام الآخرين نتأكد من صحته أولاً، ونفهمه ثانياً، ونعرضه على الكتاب والسنة ثالثاً، فإن وافقه فعلى العين والرأس، وإن خالفه نركله بأقدامنا.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور