- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومَن والاه ومَن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
قال عليه الصلاة والسلام : لا فقر أشد من الجهل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، التقى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : يا رسول الله أوصني. وإليكم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا فقر أشد من الجهل ... ))
أن يكون الإنسان جاهلاً فهو أفقر الفقراء ، لأن الجهل سبب كل معصية ، والمعصية سبب كل مصيبة ، بالجهل نعصي ، وبالمعصية نُصاب ، فمَن كان جاهلاً فقد كان عدو نفسه ، يجهل طريقة معاملة الزوجة ، فيطلقها ، أو يعيش معها في جحيمٍ لا يطاق ، يجهل في التعامل مع الناس ، فيكسب العداوات ، يجهل في علاقاته المالية ، فيقع في الربا ، فيدمر الله ماله ، يجهل في علاقته بربّ ، فيحرِم نفسه نعمة الاتصال بالله ، فيعيش في القلق ، والهم ، والحزن ،والشك ، وعدم التوازن .
إن الجهل سبب كل مصيبة ، لا فقر أشد من الجهل ، والجاهل عدو نفسه ، وعدوٌ عاقل خيرٌ من صديقٍ جاهل ، والجهل وراء كل معصية ، والمعاصي وراء المصائب .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصية النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا فقر أشد من الجهل ... ))
بل إن رتبة العلم أعلى الرتب ، بالعلم تعرف الله ، فتسعد به في الدنيا والآخرة ، بالعلم تعرف ما لَك وما عليك ، بالعلم تعرف لماذا أنت على ظهر الأرض ، وماذا بعد ظهر الأرض ، وما حالك في بطن الأرض ، وما حالك يوم العَرْض ، بالعلم تعرف كيف تعامل الزوجة ، فتسعد بها ، ولو لم تكن كما ينبغي ، بالعلم تعرف كيف تعامل الناس ، فيحبك الناس ، ويثقون بك ، بالعلم تكسب المال الحلال ، فيبارك الله لك فيه ، بالعلم تعرف أن هذه الدنيا فانية ، تتعلَّق بالباقي وتترك الفاني .
قال عليه الصلاة والسلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنها قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
فريضةٌ كفريضة الصلاة ، لو لم تطلب العلم لكنت في الجهل قطعاً، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
ليس في الحياة حالةٌ بين الحالتين ، إما أن تكون مؤمناً ، وإما أن تكون غير ذلك ، إما أن تكون على الحق ، وإما أن تكون على الباطل .
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
إما أن تكون مؤمناً ، وإما أن تكون فاسقاً ..
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾
إما أن تكون مسلماً ، وإما أن تكون مجرماً ـ ولو بحق نفسك ـ
ما هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي ؟
1- لا فقر أشد من الجهل .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصية الرسول صلى الله عليه وسلَّم:
(( لا فقر أشد من الجهل ... ))
لا يقعدن أحدكم عن طلب العلم ، اطلب العلم من المهد إلى اللحد .
(( الكلمةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحق بها ))
احضر مجالس العلم ، تعلَّم تفسير القرآن ، افهم كلام الله ، تعلَّم سُنَّة رسول الله ، تعلَّم الأحكام الفقهية ، تعلم ما ينبغي أن تفعله في الدنيا.
(( لا فقر أشد من الجهل ... ))
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
شيءٌ آخر يؤكد هذه الوصية : يقول عليه الصلاة والسلام :
(( القرآن غنى لا فقر بعده ، ولا غنى دونه ))
ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
أي على كل شخصٍ مسلمٍ ذكرٍ كان أم أنثى .
2- ولا مال أعود من العقل .
يا أيها الإخوة الأكارم ... نُتابع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ولا مال أَعْوَدُ مِن العقل ))
بالعقل تجلب المال ، وبالحمق تبدده .
(( تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، إن الرجلين ليستوي عملهما ، وبرهما ، وصومهما ، وصلاتهما ، ويختلفان في العقل كالذرة جنب أحد ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين ))
﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾
﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
أفلا يتذكرون . أفلا يفكرون . والله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حثَّنا على التفكُّر فقال :
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
أين تذهبون . أنَّى تُصْرَفون ..
﴿ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
(( ولا مال أعود من العقل ))
بالعقل تجلب المال ، وبالحمق تبدده ، بالعقل تجعل مِن الزوجة السيّئة زوجةً صالحة ، وبالحُمق تجعل الصالحة سيئة ، بالعقل تجلب قلوب الناس ، وبالحمق تُنَفِّرهم .
(( ولا مال أعود من العقل ))
الله سبحانه وتعالى ميَّز الإنسان على سائر المخلوقات بالعقل ، فلو تخلَّى عن عقله لكان كل حيوانٍ أعظم منه ، فهناك حيوانٌ أقوى من الإنسان ، وهناك حيوانٌ أشد حساسيةً في سمعه من الإنسان ، وهناك حيوانٌ أشد حساسيةً في شمِّه من الإنسان ـ تحدثنا عنه في الخطبة السابقةـ وهناك حيوانٌ أشد إبصاراً من الإنسان ، وهناك حيوانٌ أكبر حجماً مِن الإنسان ، وهناك حيوانٌ أثقل وزناً من الإنسان ، ولكن الإنسان سيُّد المخلوقات جميعها ، لأن الله عزَّ وجل وهبه العقل ، فلو تخلّى عن عقله ، فلو عَطَّله ، فلو أساء استخدامه ، فلو سخَّره لأغراضٍ رخيصة ، لغاياتٍ دنيئة ، فقد احتقر نفسه ، واحتقر عقله ..
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
هذا الذي لا يستخدم عقله يحتقر نفسه ، يجعلها سفيهةً .
3- ولا وحدة أوحش من العجب .
وصيةٌ ثانية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :
(( ولا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العُجْبِ ))
هذا الذي يعجب بنفسه ، تعجبه نفسه ، فيحتقر الآخرين ، لا يصغي إلى نصائحهم ، لا يهتم بهم ، يرى نفسه فوقهم ، يستغني عن مشورتهم إنه في صحراءٍ موحشة ، هي صحراء العُجب ، وقد قيل : لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر ، وما هو الذي أكبر من الذنب؟ إنه العجب .
(( ولا وحدة أوحش من العجب ))
الذي يختال عجباً بنفسه ، وكبراً على خلق الله عزَّ وجل يبعُد عنه الناس ، يبتعدون عنه ، يدعونه وحده في صحراء موحشة ، من استشار الرجال فقد استعار عقولهم ، لا تُعْجَب بنفسك ، لا ترَ نفسك فوق الآخرين ، كن مع الناس ، تواضع لهم ، ادخل على الله من باب الذل والمسكنة ، ولا تدخل عليه من باب العجب فإن باب العجب مُغْلَق .
(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ))
(( ولا وحدة أوحش من العجب ))
هذه هي الوصيَّة الثالثة .
4- ولا استظهار أوثق من المشاورة .
(( ولا استظهار أوثق من المشاورة ))
أي لا تقوى على حل مشكلاتك إلا أن تشاور المؤمنين ..
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
خذ رأي إخوانك ، خذ رأي المؤمنين ، خذ رأي المُخْلصين ، اسألهم : ما الحل ؟ ما الرأي ؟ من استشار الرجال فقد استعار عقولهم .
تستعير عقل إنسانٍ ناضج ، خبر الحياة ، وعرف حلوها ومرّها بسؤالٍ طفيف : ماذا أفعل في هذه المشكلة ؟ كيف أتصرَّف ؟ جاءني هذا الخطيب الفلاني ، أزوجه ابنتي ؟
النبي عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا الاستخارة ، وسن لنا الاستشارة ، فالاستخارة لله عزَّ وجل ، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين ، في كل حركاتك وسكناتك ، في كل تصرفاتك استشر ، اسأل ، أكثر المشكلات الكبرى ، والمصائب العظمى كانت بسبب الجهل وعدم الاستشارة .
(( ولا استظهار ))
الاستظهار هو الاستعانة بالآخرين .
5- ولا عقل كالتدبير .
(( ولا استظهار أوثق من المشاورة ، ولا عقل كالتدبير ))
هذا الذي يدبِّر أموره ، هذا الذي يخطط لمستقبله ، هذا الذي يخطط لأولاده ، هذا الذي يعيش لحظته ويعيش مستقبله ، هذا الذي يُعِدُّ العدَّة للموت ، هذا الذي يعد العدة للآخرة ، هذا الذي يفكر فيما سيكون لا فيما هو كائن ، هذا الذي يدبِّر أموره ، هذا الذي يُحْكِمها ، الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكفر بقولٍ موجزٍ بليغ ، قال :
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
أموره مضطربة ، علاقاته مضطربة ، أعماله مضطربة .
6- ولا حسب كحسن الخلق .
(( ولا عقل كالتدبير ، ولا حَسَبَ كحُسن الخُلُق ))
لا تقل : أنا ابن فلان ، أنا جدي فلان ..
لا تقل :
أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل
* * *
ما حصَّله من علم ، ما حصله من خُلُق .
(( ولا حسب كحسن الخُلُق ))
ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة .
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
الإسلام بناءٌ عظيم هو بناءٌ أخلاقيٌ في الدرجة الأولى ، بني على دعائم الإسلام ، وهي الصلاة والصوم ، والحج والزكاة ، والشهادتان .
7- ولا ورع كالكف .
(( لا عقل كالتدبير ، ولا حسب كحسن الخلق ، ولا ورع كالكَف ))
ترك مالٍ من حرام ، هو الورع ، ترك لقاءٍ فيه معصية ، هو الورع ، ترك أكلةٍ فيها شبهة ، هي الورع ، ترك حفلةٍ فيها معصية ، هي الورع ، ترك فتاةٍ مخطوبةٍ في دينها رقَّة ، هو الورع ، ترك صفقةٍ فيها شيءٌ من الحرام ، هو الورع ، ترك صحبة امرئٍ يعصي الله ، هو الورع ، الورع هو الكف ، وركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مُخلِّط .
8- ولا عبادة كالتفكر .
(( ولا ورع كالكف ، ولا عبادة كالتفكُّر ))
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
تفكّروا في مخلوقات السماوات والأرض ، تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا ..
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
هذه عبادة ، ولا عبادة كالتفكُّر ، إن التفكر في آيات الله عزَّ وجل هي أرقى أنواع العبادة .
9- ولا إيمان كالحياء .
(( ولا إيمان كالحياء ))
علامة الإيمان الحياء ، علامة الإيمان أن تستحيي من الله عزَّ وجل ، قالوا : يا رسول الله وما حق الحياء ؟ قال :
(( أن تحفظ الرأس وما وعى ))
ألا تنظر إلى حرام ، وألا تستمع الخنا ، وألا تنطق بالباطل ، وألا تغتاب المسلمين ، وألا تتبَّع عوراتهم ، وألا تقع في الغيبة ، أو النميمة ، أو الفُحْشِ ، أو البذاءة ، أو الخصومة ، هذا هو الحياء من الله عزَّ وجل.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
الخلاصة :
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلماتٌ قليلةٌ في عددها ، خطيرةٌ في فحواها ، قليلةٌ في ألفاظها ، عميقةٌ في معانيها : يا رسول الله أوصني . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( لا فقر أشد من الجهل ، ولا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا استظهار أوثق من المشاورة ، ولا عقل كالتدبير ، ولا حسب كحُسن الخلق ، ولا ورع كالكف ، ولا عبادة كالتفكُّر ، ولا إيمان كالحياء ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام عن نفسه :
(( أوتيت جوامع الكَلِم ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( نضَّر الله وجه من أوجز في كلامه واقتصر على حاجته ))
والبلاغة في الإيجاز ، وهذه وصيةٌ لو أخذ بها الناس لسعدوا في الدنيا والآخرة .
* * *
على ذكر الوصيَّة : يسنُّ لكل رجلٍ أن يوصي أولاده قبل موته ، يسن له أن يعلِّمهم في حياته ، أن يعلمهم أمر دينه ، أن يعلمهم كتاب ربّهم ، أن يعلمهم سُنّة نبيّهم ، أن يدعوَهُم إلى التعلُّم ، إن لم يكن عالماً فعليه أن يحثهم على التعلُّم ، لأن هذا الابن في ذمة أبيه يوم القيامة ، وقد يقول الابن لله عزَّ وجل يوم القيامة : يا رب لا أدخل الناس حتى أُدخِلَ أبي قبلي ؛ لأنه لم يعلمني ، لم يفقّهني . فإما أن تعلِّه ، وإما أن تدعوه إلى العلم .
وقد يُسَنُّ أن يوصي الإنسان أولاده وصيةً مكتوبةً قبل موته ، ويظن معظم الناس إلى أن الوصية لها طابعٌ ماديٌ في الدرجة الأولى ، المبلغ الفلاني لفلان ، والبيت الفلاني لفلانة ، والدُكان الفلاني لزيد ، وهذا لعُبيد ، وهذا لعلاَّن . الوصية التي سنها النبي عليه الصلاة والسلام أعمق ، وأوسع ، وأشمل من أن تكون قضايا مالية فحسب .
فالسلف الصالح كان يكتب لأولاده وصية ، بخط يده ـ إن أمكنه ذلك ـ من أجل أن تكون لهم دستوراً في حياتهم ، وقد أُخِذَ هذا من كتاب الله عزَّ وجل .
وصية سيدنا جعفر لولده .
سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه أوصى ولده فقال :
يا بني اقبل وصيتي ، واحفظ مقالتي ، فإنك إن حفظتها تعش سعيداً وتمت حميداً ، يا بني إنه مَن قَنِعَ بما قُسِمَ له استغنى ، ومن مدَّ عنيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً .
هذا الذي ينظر إلى فلان ؛ بيت فلان أوسع من بيتي ، ودخله أكبر من دخلي ، وتجارته أروج من تجارتي ، وزوجته أفضل من زوجتي ، وأولاده أبرار ، وأولادي ليسوا كذلك . هذا الذي يمد عينيه إلى ما عند غيره يَمُت فقيراً .
يا بني إنه من قنع بما قُسِمَ له استغنى ، ومن مدَّ عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً ، ومَن لم يرضَ بما قسم الله له اتهم الله في قضائه .
هذا الذي لا يرضى بما قسمه الله من حظوظ الدنيا ، كأنّه يتهم الله في حكمته ، يتهمه في عدالته ، يتهمه في رحمته ، يتهمه في حكمته.
يا بني من لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه ، ومن استصغر زلَّة غيره استعظم زلة نفسه .
الناس ليسوا كذلك ، يستعظمون زلة الآخرين ويستصغرون زلة أنفسهم ، كن على عكس ذلك . استصغر ذنب الآخرين واستعظم ذنب نفسك .
يا بني مَن كشف حجاب غيره ، انكشفت عورات بيته .
من تتبع عورات المسلمين تتبع اللّه عورته ، ومن تتبع اللّه عورته يفضحه ولو في قعر بيته .
يا بني مَن كشف حجاب بيته انكشفت عورات بيته ، ومَن سلَّ سيف البغي قُتِلَ به ، ومَن احتفر لأخيه حفرةً سقط فيها ، ومَن داخل السفهاء حُقِّر.
أن تسير مع السفهاء ، أن تسمر معهم ، أن تسهر معهم ، أن تُرافقهم ، أن تمازحهم ، أن تقيم بينك وبينهم علاقاتٍ حميمة ، هذا مما يحقِّرك عند الناس . لذلك الفقهاء لا يأخذون بشهادة مَن صحب الأراذل ، صحبة الأراذل تجرح العدالة .
ومن داخل السفهاء حقِّر ، ومن خالط العلماء وقِّر .
إذا خالطت من هو أرقى منك عند الله ، تتعلم من أخلاقه ، مِن محبته لله ورسوله ، من ورعه ، من حكمته ، من لطفه .
ومن دخل مداخل السوء اتُهِم .
معاوية بن أبي سفيان سأل عمرو بن العاص فقال :
يا عمرو ما بلغ مِن دهائك ؟
ـقال : واللهِ يا أمير المؤمنين ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه .
ـقال : لست بداهية ، أما أنا والله لا أدخل مُدْخَلاً أحتاج أن أخرج منه .
ومن دخل مداخل السوء اتُهِمْ .
النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، جاءته زوجته إلى المسجد وكان معتكفاً ، جاءته بطعام ، فأراد أن يوصلها إلى البيت ، في الطريق مرَّ بهما صحابي ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا فلان هذه زوجتي فلانة . قالوا : أفيك نشك ؟ قال : إن الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم .
البيان يطرد الشيطان .
ومن دخل مداخل السوء اتُهِمْ .
يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه : لا تضع نفسك في مواضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك .
يا بني قل الحق لك أو عليك ـ هذه علامة الإيمان ـ وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال ، يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه .
عليك بأهله ، لا تقف على باب اللئيم ، لا تطلب المال من اللئيم ، لا تطلب المعونة من اللئيم .
يقول الإمام عليٌ كرم الله وجهه : واللهِ واللهِ مرتين ، لحفر بئرين بإبرتين ـ هذا مستحيل ـ وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين ـ أشد استحالةً ـ ونقل بحرين بمِنْخَلَين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ـ كلّ هذه مستحيلات ـ أهون عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخُلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أجهزة الإنسان :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول بعضهم : شدة القرب حجاب ، هناك آيةَ صارخةٌ دالةٌ على عظمة الله عزَّ وجل ، لشدة قربها منا ، فكأننا لا نراها ، منها التنفُّس .
ينام الإنسان ملء عينيه ، ورئتاه تخفقان بانتظام .
ينام الإنسان ملء عينيه ، وقلبه يضرب بانتظام .
ينام الإنسان ملء عينيه ، وجهازه الهضمي يعمل بإحكام .
ينام الإنسان ملء عينيه ، وجهاز التصفية يعمل بدقةٍ مذهلة .
لو أن جهاز التصفية ، وجهاز الهضم ، وجهاز الدوران ، والقلب ، والرئتين ، كانت منوطةٌ إلينا ، هل منا مَن يستطيع أن ينام لحظة ؟ أو أن يعمل لحظة ؟ أو أن يجلس مع أخيه لحظة ؟
هذه الآية الكبيرة ، هي الأفعال اللاإرادية ، إنها تعمل بشكلٍ مدهش ، بدقةٍ ما بعدها دقة ، بحكمةٍ ما بعدها حكمة ، بتدبيرٍ ما بعده تدبير .
قال العلماء : هناك مراكز للأعمال اللاإرادية تتحكم في ضربات القلب ، ووجيب الرئتين ، وعملية الهضم ، وعملية الإفراز ، وأعمال كثيرة ، لا يعلمها إلا الله ؛ أعمال الغدد الصمَّاء ، البنكرياس ، الكبد ، الكظر ، الدرقية ، النخامية ، وأجهزةٌ ، وغددٌ ، وأعمالٌ معقدةٌ ، والتوازن الحراري ، وتوازن السوائل ، وتوازن ضربات القلب ، وأعمال كثيرة أخرى تتم بشكل لا إرادي .
قال العلماء : هناك في البصلة السيسائية ، التي هي في القسم السُفْلي ، مِن جذع الدماغ ، عقدة الحياة ، في هذه العقدة ـ استمعوا :
مركز تنظيم التنفُّس ، ومركز تنظيم ضربات القلب ، ومراكز الأوعية ، تتسع وتضيق من هنا ، ومركز البَلع ، ومركز المضغ ، ومركز التصويت ، ومركز توازن السكري ، ومركز العرق ، ومركز اللعاب ، ومركز النوم واليقظة ، ومركز المَشي ، ودورة الحيض ، وحرارة البدن ، ومركز الغدد التناسلية ، في القسم الأسفل من جذع الدماغ ، يسمَّى هذه المكان عقدة الحياة وهو أخطر مكانٍ في الإنسان ، لو أصيب بخلل مات الإنسان فوراً .
جهاز التنفس :
لنأخذ فقط مركز التنفس :
قال : في هذا الجذع بُقْعَتان ؛ بقعةٌ للشهيق ، وبقعةٌ للزفير ، إن غاز الفحم المتواجد في الدم ينبه الشهيق والزفير ، إذا نُبِه مركز الشهيق ثبِّط مركز الزفير ، وإذا نبه مركز الزفير ثبِّط مركز الشهيق ، لو نُبِّها معاً لاضطرب الأمر ، تنبيه أحدهما تثبيطٌ للآخر ، شيءٌ عجيبٌ ، شيءٌ يأخذ بالألباب .
شيءٌ آخر ، هناك تنفسٌ إرادي ؛ يستطيع الإنسان بإرادته أن يحدث شهيقاً إرادياً ، أو زفيراً إرادياً ، هناك مركزٌ يأتي من الدماغ ، للشهيق الإرادي ، والزفير الإرادي ، هذا المركز ، إن كنت غافلاً عنه ، يعمل بشكلٍ ذاتي ، ما الذي ينبِّه هذين المركزين ؟ غاز الفحم الذي في الدم ، فإذا تراكم غاز الفحم ، وكثر في الدم ، تضاعف الشهيق والزفير، لو أن الإنسان غطَّى رأسه بالغطاء ، وقل الأوكسجين في الفراش ، وكثر غاز الفحم ، ليراقب نفسه ، يزداد وجيب رئتيه ، مِن دون أن يشعر ، هذا الشهيق والزفير السريع ، بسبب ازدياد غاز الفحم ، غاز الفحم الذي ازداد في الدم ، نبَّه مراكز الشهيق والزفير ، فضاعفت حركاتها ، ونحن لا ندري ، نحن غافلون ، الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء .
يقول العلماء : لو زاد غاز الفحم اثنان بالعشرة عن كميته النظامية في الدم ، تضاعف التنفُّس ، ولو قلَّ غاز الفحم اثنان بالعشرة عن كميته النظامية في الدم ، لتوقَّف التنفس ، ما هذا التوازن ؟! إذا ارتفع غاز الفحم في الدم ، من دون أن ينبه مراكز التنفس ، دخل الإنسان في غيبوبةٍ ثم مات ، وهؤلاء الذين يختنقون ، في الحمام أحياناً بسبب استخدام وقود غازي مثلاً ، ما السبب ؟ ارتفاع نسبة غاز الفحم في الجو ، وبالتالي في الدم ، وبالتالي يتوقف التنفس ، فيموت الإنسان .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا النَفَس ، وهاتان الرئتان .
ننام ملء العيون ، والرئتان تعملان بانتظام .
ننام ملء العيون ، والقلب يضرب بانتظام .
ننام ملء العيون ، والغدد الصمَّاء تقوم بأعمالٍ مدهشة بانتظام .
ننام ملء العيون ، وجهاز الهضم ؛ يتحرك ، ويعمل ، ويفرز بانتظام .
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
هذه الفكرة مأخوذةٌ مِن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا عبادة كالتفكر .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، سبحانك إنه لا يذل مَن واليت ، ولا يعز مَن عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، يا أرحم الراحمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .