وضع داكن
26-04-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 093 - حديث صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة - الصلح خير من الشقاق والصلة أفضل من القطيعة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تمهيد:


أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في رياض الصالحين, من كلام سيد المرسلين, عليه أتّمُّ الصلاة والتَسليم، والباب اليوم: 

باب الإصلاح بين الناس.

انطلقت في هذا الدَرس من حقيقةٍ خَطيرة. 

(( فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ, وَالصَّلاةِ, وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ))

[ وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ قَالَ: ]

(( هِيَ الْحَالِقَةُ, لا أَقُولُ: هي تَحْلِقُ الشَّعَرَ, وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما ]

فهذا الإسلام قوَّته في الودّ بين أبنائه، قوته في التعاون، قوته في التضامن، من حين لآخر, اطَّلع على خلافات عميقة بين المؤمنين؛ عداوات، شَحْناء، بغضاء.

إذاً: فما قيمة العقيدة الصحيحة؟ وما قيمة العبادات؟ وما قيمة هذه الشعائر التي نمارسها جميعاً, إذا كانت القلوب ممتلئة بالبغضاء, والحقد, والحسد, والاستعلاء؟. 

لذلك إصلاح ذات البين جُزءٌ أساسيٌ من الدين.

فالحديث الذي بدأته:

(( ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ, وَالصَّلاةِ, وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ))

وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ قَالَ:

(( هِيَ الْحَالِقَةُ, لا أَقُولُ: هي تَحْلِقُ الشَّعَرَ, وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ))

كم من إنسان ترك مجلس العلم لخلافٍ بينه وبين أخٍ في المَسجد؟ كم من إنسان رَفض الدين كله لمعاملةٍ سيئةٍ تلقَّاها من مسلم؟ كم من إنسانٍ كفر بالصلاة, لأنه عامل إنسانًا يصلي ويكذب، ويصلي ويحتال؟.

مرة كنت في مجلس, فتكلم أحد الإخوة الكرام؛ قال: والله أعرف رجلاً يرتاد المساجد ، ويحضر دروس العلم، يسكن بيتًا ثمنه سبعة ملايين، له مالكة من تركيا, تعيش من أجرته، كيف استولى عليه بسبعمئة ألف لا يعرف؛ بالتهديد، والوعيد، والاحتيال، والكذب.

تجد المسلم يؤدي الشعائر، أما في التعامل فتجده صفرًا، في التعامل يكذب، في التعامل يحتال، في التعامل يأخذ ما ليس له، يوقع في الناس صدمة خطيرة جداً، صدمة اسمها: خيبة الأمل بالدين.

هو شخص محدد، معين، له اسم، عندما عمل عملاً سيئاً, نَقَل الإساءة لدينه، نقل الإساءة لإسلامه، والطرف الآخر يدفع على الإساءة مليون، لأنه هو صدق ظنُّه, في أن الدين باطل، الدين بالتعبير اليومي زعبرة.

فيا أيها الإخوة الكرام؛ تزداد معنوياتي إلى درجة مذهلة, عندما أجد تضحية وإيثارًا.

أخ من إخواننا الكرام؛ دون أن أذكر اسمه، وهو لا يرضَى أن أذكر اسمه، أنشأ عدة أبنية في إحدى ضواحي دمشق، مدير الجمعية الذي يجب أن يستلم منه الأبنية, ماطل في الاستلام, إلى أن أضرَّه بمبلغٍ كبير، سنتان أو ثلاث ولم يستلم، فهذا المهندس أقام دعوى، والدعوى بقي لها سنتان أو ثلاث، ومبلغه ضخم جداً بالملايين، بعد حين محامِي الطرف الآخر, له معرفة بهذا المسجد، فقال له: يمكن أن نقيم حلاًّ صُلحيًّا, قال له: أتمنى، جاؤوا إلى المسجد، هذا الأخ المهندس الذي له الملايين, لما قال له رئيس الجمعية: هذا المبلغ سوف يدفعه أناس فقراء، المنتفعون بهذا المشروع، ولا ذنب لهم، الذنب متعَلِّق بالمدير السابق، هذا الأخ الكريم, لما عرف أن هذا المبلغ, سيدفعه أناس فقراء، أنا لم أصدق بجلسة واحدة سامح المبلغ، وقد سامحه واللهِ أمامي.

فأحياناً: الصُلح يحل مشكلة، لما يعمل الإنسان عملاً طيبًا تنمو نفسه، أذكركم بقول الله عز وجل:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

[ سورة التوبة ]

تُطَهِّرُهم من الحِقد، تطهرهم من الشُح، الفقير تطهر نفسه من الحِقد، والغَنِيّ تطهر نفسه من الشح، أما تزكيهم: فيشعر الفقير بنماء بنفسه.

أحياناً: الإنسان تأتيه حالات نمو، يحس أنه إنسان له عند الله مكانة، إنسان ترك بصمات واضحة في المجتمع، إنسان له تأثير كبير، إنسان أَسْهم بخدمة الناس، حَمَل جُزءًا من هموم الناس، وأحياناً: يعاين بعض الخلافات بين المسلمين، يشعر بحالة انكماش، فالمؤمن بين انفتاح وانكماش، انكماش سببه خلافات مستعصية؛ أحقاد، حسد، أهواء مسيطرة، مصالح مسيطرة، فالإنسان يتألَّم، يقول لك: إسلامنا شكلي، إسلامنا شعائري، إسلامنا جُغرافي، وهذا تعبير جديد؛ أيْ أنت بمكان معين مسلم .

 لو سافرت إلى مكان آخر تتغير كل مسلكك، فالإسلام الذي يتبَدَّل من مكان إلى مكان, لا قيمة له إطلاقاً، الإسلام الذي يتبدل من مكان إلى مكان, هذا إسلام جغرافي.

 

الإصلاح بين الناس.


أيها الإخوة؛ فالذي حملني على اختيار هذا الباب، هو أن الشقاء، والعداوة, والبغضاء بين المؤمنين، هذه تَحْلق الدين كلَّه، والصحابة الكرام لم يرض الله عنهم إلا بالحُب.

مرة ذكر أحد الصحابة أمام النبي، وغمز من قَناته، النبي الكريم تفقَّد أحد الصحابة. 

فأحدهم قال له: يا رسول الله, شغله بستانه عن أن يُجاهد معك 

فقام صحابي قال له: لا والله يا رسول الله, ما علمنا عليه إلا خيراً؛ لقد تخلَّف عنك أُناس, ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك 

فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام

فكان عليه الصلاة والسلام طيب النفس بهذا الكلام.

فأنت هل لديك استعداد أن تدافع عن أخيك؟ أن تقف موقف قوي بغيبته؟ أن تدافع عن نزاهته؟ عن إيمانه؟ عن ورعه؟ أما إذا تكلَّم الناس عنه ترتاح من الداخل, وتقول في نفسك: هذه رجل ثان سقط؟.

هناك شخص كلما سقط مؤمن يفرح، يقول لك: ألم أقل لك: إنه كله زَعبرة؟ هو صدق عليه إبليس ظنه، أصبح إبليس.

أيها الإخوة؛ هناك آية قاصمة للظهر، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾

[ سورة النور  ]

ماذا فعل هذا الإنسان؟ لم يتكلَّم ولا بكلمة، لم ينبس ولو بنت شفة، فقط ارتاح، أن هذا الإنسان سقط أو افتضح، حينما تُسَر بمصيبةٍ وقعت بمؤمن, يجب أن تعلم علم اليقين -لا سمح الله ولا قدر- أن هذا الذي سُر بمصيبةٍ وقعت بمؤمن, هو في خندق المنافقين بالدليل القطعي, قال تعالى:

﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)﴾

[ سورة التوبة ]

يتساءَل الإنسان: عندنا كل شيء، مساجد ضخمة جداً، الآن: هناك مساجد يمكن في تاريخ المسلمين ما أنشئ مثلها.

أنا دخلت مسجدًا بالدار البيضاء, كلَّف ألف مليون دولار، فيه زخرفة تُحَيِّر العقول، هو مبني فوق البحر، وأنت في الحرم, ترى البحر الذي أمر ببنائه, انطلق من قوله تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)﴾

[ سورة هود ]

مئذنته جامعة، بكل معاني هذه الكلمة، ومع ذلك لا يوجد حُب، لا يوجد ود، لا توجد استقامة، ولا التزام، الدين ليس مسعداً في هذه الأيام، لأن معه أعمالاً سيئة.

أيها الإخوة؛ الذي أتمناه في هذه النقطة المهمة جداً: لو أنه في دائرة صغيرة جداً الإنسان مطبق بها، هذه الدائرة تنمو، في الدعوة الإسلامية خلل خطير, وهو: أن كل من تدعوهم إلى الإسلام, لا يتعاملون مع الكلام، يقول: ائتن بمجتمع مسلم, حقق كل أهداف الإسلام, حتى أصدِّق كلامك، هذا منطق الغربيين.

إذا سافر الإنسان إلى بلاد الغرب, يجد عنده هذه المشكلة، الغربيون لا يعتَدون بالكلام، إذا كنت تؤمن أن هذا المنهج صحيح، ومنهج من عند الإله, ائتن بمجتمع طبَّق هذا المنهج، وقطف ثماره, حتى أخضع لك، أما أن تتباهى, نحن ديننا دين عظيم، نحن ديننا دين التوحيد، نريد الواقع، والواقع ليس ذلك.

فهناك عداوة, وبغضاء، وحسد، وغيبة, ونميمة، وكذب، واحتيال، واغتصاب، اغتصاب أموال، واغتصاب أعراض، فهذا المجتمع لا يدعو أن يلفت نظر الناس.

 

الآيات التي تحث على الإصلاح:


لذلك أيها الإخوة؛ هذا الباب في رياض الصالحين.  

الآية الأولى.

يقول تعالى:

﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)﴾

[ سورة النساء ]

أي كلامٍ لا قيمة له, ما لم تأمُر بمعروفٍ, أو تصلح بين الناس, قال تعالى: (إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس) معناها: ثُلث الكلام, يجب أن يكون إصلاحًا بين الناس.

قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

[ سورة الحجرات  ]

قال:

﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)﴾

[ سورة النمل ]

هناك تحقيق، فأساساً هذا منهج التحقيق، لا تقبل رواية قبل التحقق مِن صِحتها، لا تقبل قول إنسان في إنسانٍ, حتى تسمع مِن الطرف الآخر.

أنا مرة أمضيت -أعتقد- سبعة أو ستة دروس في هذا المسجد, حول القضاء في الإسلام، انطلقت من فكرة: أن يتوهم بعض الإخوة الكرام, أن هذا البحث يهم القضاة، لا، أنت قاضٍ وأنت لا تدري؛ أنت قاضٍ بين ابنتك وزوجها، وقاضٍ بين ابنك وأخيك، وقاضٍ بين جارك وجاره، وقاضٍ بين شريكين، فليس هناك مسلم, لا يحكم مئات المَرَّات بين مسلمين، فأنت قاضٍ، فالقاضي يستمع إلى هذا وإلى ذاك.  

الآية الثانية.

ثم يقول الله تعالى: 

﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)﴾

[ سورة النساء ]

 الآية الثالثة.

أيها الإخوة؛ هذه آية قرآنية, قال تعالى:

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾

[ سورة الأنفال ]

هذه الآية مركزية، مفصلية، أصلح نفسك، عرفها بربها, واحملها على طاعته، وأصلح ما بينك وبين الله، وأصلح ما بينك وبين الناس، وأصلح بين أية علاقة بين شخصين.

 

مقارنة بين الماضي والحاضر.


إخواننا الكرام؛ الإخوة في الدين مهمة جداً. 

لو وازنت بين مجتمع الصحابة الكرام ومجتمعنا: 

تجد عندنا مظاهر صارخة؛ مساجد فخمة جداً، مؤتمرات، ألقابًا علمية، مكتبات، لكن لن تجد ما كان بين الصحابة من ود، لن تجد ما كان بين الصحابة من حُب، لن تجد ما كان بين الصحابة من تعاون، من إيثار، إذا عز أخوك فَهُنْ أنت.

فمن يصدِّق: أن رجل كسيدنا الصديق, يعدُّ قمة العالم الإسلامي بعد رسول الله.

ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر

من يصَدِّق: أن هذا الخليفة العظيم, يمشي على قدميه، وأسامة بن زيد فتىً, لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً, يركب ناقةً، وقد عيَّنه رسول الله قائد الجيش, فهذه أين تصير؟.

من يقبل يمشي بركاب فتى, وهو قائد جيش؟. 

من يقبل أن يكون عمر جندياً في هذا الجيش؟. 

هل يقبل عليٌ أن يكون جندياً في هذا الجيش؟. قَبِل. 

هل رضي عثمان؟. نعم. 

بل إن سيدنا الصديق, استأذن أسامة في أن يبقي له عمر، هذه تسلسل في القيادة. 

لو قال له: يا عمر ابقِ معي، فمعناها تجاوز، استأذن أسامة, وهو قائد الجيش, أن يسمح له بعمر, ليعينه في أثناء غيبة الجيش.

قال له:

والله يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن, قال له: والله لا ركبت ولا نزلت، وما علي أن تغبَّر قدماي ساعةً في سبيل الله

الإسلام فيه شيء لا يصدق؛ إنكار للذات مُذْهِل.

فنحن نطالب الإخوة الكرام بالتعاون فقط، بالحِلم، بالرضا، بأنصاف الحلول، فكل إنسان هو هنا وخَصْمه هنا، أنا بهذا المبدأ، حاول أن تمشي إلى نصف الطريق، ولو مشى الطرف الآخر إلى نصف الطريق لالتقيتم، أما كل طرف يدعو الطرف الآخر إلى أن يأتي إليه، هذا كبر، هو قطع نصف المسافة, أنت تنازل بعض التنازل، طبعاً: هذه لا تطبقوها في شؤون الدين، لا يوجد تنازل في الدين, قال تعالى:

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾

[  سورة القلم ]

عندنا في الدين مداراة، وعندنا مداهنة، المداهنة: بذل الدين من أجل الدنيا، المُداراة: بذلُ الدنيا من أجل الدين. 


المعاني الدقيقة التي تشملها هذه الآية:

 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾

[ سورة الأنفال  ]

المعنى الأول: معرفة النفس بربها وحملها على طاعته.

أيها الإخوة الكرام؛ يغيبُ عن ذهن بعض المسلمين, أن كل أمرٍ في القرآن يقتضي الوجوب.

أنا أقول لبعض الإخوة: لماذا تصلي؟ يقول لي: معقول لا أصلي! لماذا تصلي؟ وهو لا ينتبه للسؤال, فيجيبك: فرض الصلاة, كيف هي فرض؟ لأن الله قال:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103)﴾

[ سورة  النساء ]

وهي فعل أمر، إذا الله قال: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) فعل أمر يقتضي الوجوب، فالصلاة فرض. 

وإذا قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)

دقق: لماذا تصلي؟. لأنها فرض. 

كيف عرفت أنها فرض؟. لأنها جاءت بشكل فعل أمر. 

فهذا جيد, إذا جاء فعل أمر آخر, يجب أن تعتقد, أن إصلاح ذات البين فرض، كما أنك تصلي, ينبغي أن تُصلح ذات بينك، بينك وبين أخيك، بينك وبين جارك، بينك وبين صديقك، بينك وبين أبيك، بينك وبين أمك. 

قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) وكما ذكرت قبل قليل: أصلح نفسك، أيْ عَرِّفها بالله, واحملها على طاعته، ثم أصلح العلاقة بينك وبين الله.

إذا كان عند أحدكم هاتف فخم جداً، ورفع السماعة, ولا يوجد خط، أله قيمة؟ يقول لك: فيه تسعة ذواكر, خير إن شاء الله، تكون مئة ذاكرة، لكن ليس فيه رَنَّة، فإذا لم يكن عند الإنسان خط حامٍ مع الله، فهو مقطوع عن الله عز وجل، كل أعماله ليس لها قيمة، الخط الحامي يأتي من الطاعة. 

قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) أيْ: عرفوها بربها، حملوها على طاعته، وانتهت العملية، هذا أول معنى. 

المعنى الثاني: إصلاح العلاقة مع الله.

 (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) أصلحوا العلاقة بينكم وبين الله، غير الاستقامة, اعمل عملاً صالحاً، الاستقامة سلبية كلها (ما).

سيدي أنا لم أكذب، أنا لم أغش، أنا لم اغتب، كل ذلك يسبقه الحرف (ما)، فهذه الاستقامة قبلها يوجد (ما). 

لكن ماذا قدَّمت؟ هل قدَّمت من وقتك؟ هل قدَّمت من مالك؟ هل قدمت عضلاتك؟ هل قدمت من خبرتك؟ هل قدمت من علمك؟ هل ضحيت بوقتك؟ ماذا قدَّمت للمسلمين؟. 

فإصلاح العلاقة مع الله تكون بالعمل الصالح، نريد دليلاً قطعيًّا, قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)﴾

[ سورة الكهف ]

 المعنى الثالث: الإصلاح بين الناس.

الآن: تصلح العلاقة بينك وبين الناس؛ تجد زوجين بينهما علاقة سيئة جداً، شقاق، وكلام قاس، ولا مبالاة، وإغاظة، وشحناء، وبغضاء، بيت محطم، أليس لديك إمكان أن تُصلح العلاقة بينك وبين زوجتك؟ بإمكانك، فإذا دخلت بيتك فسَلِّم، وجدت فيها إيجابيات أثنِ عليها، وجدتها غاضبة اسكت، جاء أهلها أكرمهم، هذه كل القصة, بيدك أن تملك قلبها. 

بالبِرِّ يُسْتعبد الحر.

بإمكانك أن تثني عليها بما هو فيها، من دون كذب، بإمكانك أن تقدِّم لها هدية، بإمكانك أن تُحسن كلامك معها، بإمكانك أن تُكرم أهلها، في عندك وسائل كثيرة، بإمكانك أن ترفعها إلى مكانةٍ مقبولة، لا أن تعدها من الدرجة الثانية.

أصلح علاقتك بينك وبين من حولك، ثم أصلح علاقتك بينك وبين الناس، ثم بادر إلى إصلاح علاقةٍ بين رجلين, أو بين زوجين. 

أيها الإخوة؛ هناك بالعائلات مشكلات مستعصية، غاضبة ثمانية أشهر، وكل يوم يزداد حِقد الزَوج على زوجته, لم يخبرون، لا يريدونني، ملؤوا برأسها، نفخوا فيها، لم يستفقدني، ليست لي قيمة عنده، فيصل الأمر إلى درجة الطلاق، يكون حولهم مئة قريب, لا أحد يتدخَّل، مرتاحون، كأنها مسرحية يشاهدونها ويستمتعون بها.

لو جاء واحد إلى بيت الزوجة, فأقنعها أن زوجك ممتاز، وأنتِ أخطأتِ معه، وأنتِ قومي بمبادرة، لو أنه ذهب إلى بيت الزوج، وقال له: زوجتك ممتازة، أما أن يقول لك: أنا مشغول، لكن مشغول بماذا؟ هذا أعظم عمل, أن تشفع بين اثنين في نكاح.

واللهِ من فضل الله أحياناً: ينشأ خلاف بين زوجين, يصل إلى الطلاق، الله عز وجل يتفضل ويكرِّم العبد, إذا قدر على يده الوفاق، تجد الأسرة سعدت, والزوج سَعِد، وهي سعدت معه، والأولاد ارتاحوا.

قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) فكل واحد منا يستطيع أن يصلح علاقته مع الآخرين بكلمة طيبة، بهدية, كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الهدية تذهب بِحَر الصدر)) بكلمة طيبة، باعتذار، وأنت وعلى قدر ما كنت, قل له: سامحني، أنا أخطأت بحقك، والله الطرف الآخر سيذوب خجلاً منك، قل له: سامحني، أنا أخطأت بحقك، لا تؤاخذني، سامحني، كلمة سامحني تذوِّب الصخر.

لو قال لزوجته: سامحيني, أنا قصرت بحقك، غلطت معك، ينتهي كل شيء، ولكن كِبر، لا يتراجع، وهي عندها كِبْر.

فأنا أقول: الإنسان لا يسعد إلا بعلاقة طيبة مع زوجته، مع أولاده، مع جيرانه، مع أولاد عمه، مع أخوة زوجته، تجده ينتقدهم أمامها طوال الوقت، يحطمها تحطيم، هؤلاء أخواتها، مدة جلوسه كلها ينتقد أباها، لماذا؟ دخل فيه شيطان، ودخل شيطان فيها.

أيها الإخوة؛ بيوت المسلمين أصبحت جحيمًا، أنا أسمع آلاف القصص عن جحيم بيوت المسلمين، الزوج بوادٍ.

واليوم قال لي شاب: إذا زرت أمي, يغضب عليّ أبي، منعه أن يزورها، طلقت أمه، لا مانع، لكن اسمح لابنك أن يزورها، فالابن تجده يغلي غليانًا، هكذا بيوت محطمة، وتريد أن يرضى الله عنا، بيوت محطَّمة، بيوت فيها ظُلم، بيوت فيها عدوان، بيوت فيها قَهْر، بيوت فيها قسوة، هذا حال المسلمين.

 

الصلح خير من الشقاق والصلة أفضل من القطيعة.


أحياناً: تجد الله من شيء قليل يتخلى عنا، كأنه متخلٍّ عنا من شدة التقصير، هذا الذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع اليوم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) .

أيها الإخوة؛ لك جار لسانه طويل، فهل تستطيع قص لسانه؟ تحتاج إلى مقص، لا، بل تحتاج إلى إحضار كمية تفاح تقدمها له، هدية، النبي قال: ((من يقص لسانه))

الصحابة كانوا فطنين، جاء إنسان فقدَّم له هدية, فسكت.

فإذا كان لك جار مزعج، طويل اللسان، قدم له هدية, تجده تلملم، دائماً: أنت خذ جانب السلم، جانب الإحسان، جانب العفو، كلما كبر إيمانك كبر قلبك، وكلما كبر قلبك يسع أخطاء الناس كلها.

فإنسان يقتل عمه حمزة وأعلن الإسلام، فانتهى الأمر، المؤمن لا يحقد، المؤمن سليم الصدر أمام الناس جميعاً.

 

الحالات التي يرخص فيها الكذب:


وفي حديثٍ صحيح متفقٍ عليه.

(( عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قالت: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ, فَيَنْمِي خَيْرًا, أَوْ يَقُولُ خَيْرًا ))

[ متفق عليه ]

أيها الإخوة, هناك أخطاء باللسان، أخطاء بكلامنا, أنا أعده جرائم، منها النميمة، فلان تكلَّم عنك بكذا، ماذا عملنا؟ تكلمنا كلام والله لا يؤاخذنا به.

إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً, يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً

أنا والله من عادتي دائماً أقول: فلان والله يحبك، يثني عليك، تجده ارتاح، قد يكون ثمة شيء من هذا، وقد يكون مبالغًا به، فلا مانع، الحديث سمح لك، قد يكون مبالغة، أنت طيِّبت قلبه، صار جسر بينك وبينه، أما فلان ما إن غادرت البيت, حتى تكلم عليك، ماذا قال ؟ لا أريد أن أقول لك، تكلم، والله لا يُتحدَّث بهذا الكلام، هذه ألعن، هذه علاقة الناس، تجد الناس كلها مفتتة، الأُسَر مفتَّتة، الأحياء مفتتة، الأقرباء مفتتين من النميمة ((النمَّام لا يدخل الجنة)) ، ((لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ, فَيَنْمِي خَيْرًا, أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)) هذا ليس كذبًا. 

أيها الإخوة؛ فهناك ثلاث حالات الكذب جائز فيها، لكن أنا قلما أذكرها، السبب: أن الناس من دون دف يرقصون، تعطيهم رخصًا، مثلاً: مسموح أن تكذب على زوجتك، فتوسع الرجال فيها, إلى درجة أن يقول لها في هدية اشتراها لها, ثمنها ثلاثة آلاف، ويكون ثمنها ألف، وهي تصدق، تأتي أختها إليها, والله جميلة هذه، بكم أخذتها؟ تقول لها: بثلاثة آلاف، فتقول: ضحك عليك زوجك, هذه ثمنها ألف، صغر زوجها أمامها، هذا الشيء مطبق كثيراً.

الزوج يكذب بالأسعار، كأنه فهم الحديث على الأسعار، هذا الحديث ينصَب فقط لو سألتك زوجتك: أتحبني؟ لو فرضنا أنك لا تميل كثيراً إليها، لا تتمنى أن تصبح زوجتك بهذا الشكل فرضاً، والقضية أن في هذا الزواج مصلحة، زواج إنساني، هناك ألف نوع من الزواج ، فإذا كذب على زوجته وقال: والله إني أحبكِ، فلا مانع، وإذا كان الزوج شكله وسطًا، وله زوجة بارعة الجمال، قال لها: أتحبينني؟ فقالت له: والله أحبك، أنت زوجي، أنت أبو أولادي ، فهذه الزوجة بهذا تكون ذكية جداً.

بهذا الموضوع بالذات الكذب مسموح، وليس بالأسعار، لكن بالمشاعر فقط، يمكن أن تبالغ في المشاعر، عندما تطمئنها ترتاح.

لي قريب مدة أربعين سنة, وهو يقول لزوجته: أريد أن أطلقكِ، قلت له: سوف أنصحك نصيحة: إما تطلقها، وإما أن تسكت، لمَ تقول لها: سوف أطلقك؟ لا يوجد علاقة بينك وبينها، الجدار هُدِم بينهما، وهو لن يطلقها، تهديد شيطاني، المرأة تطلق إذا خانت زوجها، إذا عملت عملاً قبيحًا، إذا عملت عملاً فيه خيانة للدين، ليس هناك امرأة كاملة، ولا يوجد زوج كامل.

مرة في درس من دروس السبت, تكون فيه مناقشة، ألهمني الله فكرة, أنا دائماً أذكرها, أنا أستعين في الحياة ليس بالنواحي الإيجابية لكن بالسلبية، قال لي أحدهم: وضحها لنا يا أستاذ؟ قلت له: كرجلٍ يمشي في طريق كله حفر، وفي الحقيقة: هذه الحفر مزعجة جداً، هذا له إيجابية، لأن هذا الطريق لا تنام فيه، الطرقات المستقيمة والممهدة, فيها حوادث مروِّعة، لأنه يمشي بسرعة مئة أو مئة وعشرين، صوت رتيب، ينام، حوادث السير بأسباب النوم مخيفة جداً، إذا كان الطريق كله مُنعطفات وحفر, لا تنام أبداً.

فالله عز وجل لا يحبك أن تتعلق بغيره، يريدك له، أما لو كان عندك زوجة كمالها مطلق، تضعها وتبركُ أنت وهي، لكن وسط، فتكون معها قليلاً، ومعنا قليلاً، وبالجامع قليلاً، وبعملك، أما إذا وصل الإنسان إلى غاية الكمال بزواجه، تجده لا يريد أحدًا، لا يطاق عندئذٍ، فكل إنسان من الممكن له, أن يكتشف النواحي الإيجابية بالسلبيات، هذا من فضل الله عز وجل أن تعرف هذه النقطة, أنها هي سلبية، لكن فيها إيجابية.

وفي رواية مسلم, قال ابن شهاب:

(( وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ, مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ؛ الْحَرْبُ, وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ, وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امرأته, وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ))

هذه أم أولادك، وهذه نصيبك، والله عز وجل قَدَرَك.

قابل أحدهم شخصًا في مصر، قال له: أنت قدرُنا، ونحن قدرُك، فإما أن تصبر علينا، وإما أن نصبر عليك.

فالإنسان أحياناً: يكون ابنه قدره، وزوجته قدره، وعمله قدره.

الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء

النظرة العميقة، الاتصال بالله، وأن تلهم الحكمة من الله عز وجل، هذه تجعل حياتك المتواضعة جميلة، والحُمق، والبعد عن الحكمة، والبعد عن الله, يجعل النعيم الذي أنت فيه جحيم، فهذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، كلام موجز دقيق. 

فأتمنى على الإنسان, أن يتعامل مع الله بصدق؛ يا رب أنا عبدك وأنت ربي، أنا عليَ أن أطيعك، فإن أطعتك أنت, وعدتني أن تريحني، ألا تعذبني، أن توفقني، أن تُسعدني، أن تملأ قلبي أمناً وأماناً، فإذا هناك مناجاة هكذا.

 

حوار سيدنا موسى عليه السلام مع ربه.


انظر: سيدنا موسى عندما ناجاه الله، قال له:

﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾

[ سورة طه ]

فهل يعقل أن الله يسأل؟ سؤال استفهام!؟ سيدنا موسى انتهزها فُرصة لا تعوض, قال:

﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾

[ سورة طه ]

يقول: عصاي وفقط, قال تعالى:

﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾

[ سورة طه ]

يريد أن يكمل، يكلم الله عز وجل, فقال له:

﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)﴾

[ سورة طه ]

هو استحى، فأتى بكلمة موجزة، فإذا أحبه الله عز وجل أن يكمل, ما هذه المآرب يا موسى؟ قلها, قال تعالى:

﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)﴾

[ سورة طه ]

عند: (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي) استحى، لأن هذا صار تطويلاً وإطنابًا، فجاء بكلمة تحتاج إلى إجابة: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) كان يتوقَّع أن يقول الله له: وما هي المآرب يا موسى؟ الله عز وجل أراد أن يؤكِّد له: أن هذه العصا التي بيده بعد حين ستكون حيَّة، القرآن ورد فيه حية، وورد فيه ثعبان، لحاله في وحشة, هذه العصا أصبحت حية, قال تعالى:

﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)﴾

[ سورة طه ]

الآن: حية طولها متر، مثلاً: بسنتيمترين لا تخيف كثيراً، أما أمام الملأ:

﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)﴾

[ سورة الأعراف ]

انظر إلى لطف الله عز وجل، لما كان وحده ويخشى الوحشة، فهي حية تسعى، فلما صار في جمهور كبير, وفي أنس, قال تعالى: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) .

 

أحسن الظن بالله.


مرة مر معي حديث مؤثر جداً, وهكذا يقول الله عز وجل:

مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ, تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ, يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ

أيْ: أنَّ الله يعرف أنك تكره الموت، والإنسان يكره المرض أيضاً، فعندما يسوق ربنا مرض لإنسان أو مصيبة لإنسان، فالله عز وجل هو الذي يعلم حجم المصيبة، وأثر المصيبة، وقوة المصيبة، ولكنه يكره مساءتك، يسوق لك ما يزعجك في الدنيا، كي تنجو من عذابٍ كبير ، قال تعالى:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

أيها الإخوة؛ قال: إذا كشف لك عن حكمة المنع, أصبح المنع عين العطاء.

 

قصة معبرة: وراء كل مصيبة حكمة من الله عز وجل.


مرة ذكرت لكم قصة: كنت مرة بإدلب, قال أخ من إخواننا: عندما كنت طالب طب بحلب، وأهلي بإدلب، وكل يوم خميس, أسافر إلى إدلب، جئت في سيارة تاكسي، من الخلف فيها ثلاثة أشخاص، وفي الأمام لا يوجد أحد، فجلست في الأمام، جاء إنسان، وأنا حجمي صغير، قطعته ململمة، قال لي: جاء إنسان ضخم الجثة، طويل القامة، مثل الوحش، فتح الباب ، ولم يتكلم معه بأي كلمة، ولكنه حمله هكذا، ووضعه في الخارج، وركب هذا الشخص الضخم مع صديقه.

قال لي: أنا في حياتي ما شعرت بحقد، لو معي سلاح لقتلته، أهانني إهانة.

طالب طب, صف رابع، يحمله واحد، قال لي: أصابني ألم لا يوصف، لو قال لي: انزل لنزلت, دون أن أتكلم معه أي كلمة، لأنني لست بحجمه، لكن لم يتكلم معي ولا كلمة، ويحملني وينزلني، انتظرت ساعة حتى جاء تاكسي ثان، واجتمعوا خمسة ركاب -والقصة قديمة جداً في الخمسينات-, وصلنا إلى بلدة تفتناز, فوجدنا السيارة مقلوبة، والخمسة موتى، قال لي: خلال ثانية واحدة، انقلب حقدي إلى شكر لله عز وجل، الذي حملني وأنزلني، عندما يكشف الله عز وجل لك, لماذا منعك؟ ينقلب حقدك إلى شكر، المؤمن له حسن ظن بالله كبير، حتى لو ما كشف حكمته، سوف تبدو لك الحكمة, صدق القائل:

كن عن همومـك معرضا     وكِل الأمـور إلــى القضا

وأبشر بخـــيرٍ عاجـــــل     تنس بــه ما قــد مضــــى

فلـرب أمــرٍ مُـســـــخط      لك فــي عـواقـبه رضـــا

ولربـا ضــاق المضـيـق      ولربـما اتـسع الفضــــــا

الله يـفـعــل مـا يـشـــاء      فلا تـكن مـعتـرضــــــــا

الله عـــــــوَّدك الـجميل      فقس عـلى ما قد مضــى

 

الخلاصة:


أيها الإخوة؛ أنا دائماً أقول هذا الكلام: هذا الكلام الذي يُلقى في دروس العلم، النجاح الكبير أن ينقلِب إلى سُلوك، أن ينقلب إلى واقع، فإذا الله عز وجل أكرم الإنسان، وأسمعه كلام رسول الله، وطبقه، يعيش بسعادة كبيرة جداً.

أصلح علاقتك بينك وبين الناس، اعمل قائمة اليوم: أين هي الخصومات؟ أين فلان؟ لا يتكلم معك؟ تحارب من؟ من يحاربك؟ انظر المشكلة، اعتذار فاعتذر، في حقوق أؤديها، أزوره، أقدم له هدية، أجعل علاقة طيِّبة، فالعلاقة الطيبة تنشئ أمنًا وأمانًا.

أيها الإخوة؛ أحياناً: الإنسان يدخل إلى محكمة اثني عشر عامًا, تتحطم أعصاب المتخاصمين، يقول للمحامِي: ماذا صار معك؟ والله خصمك ليس هينًا، قدّم مذكرة, افترى عليك أشياء غير معقولة، لا ينام الليل، يريد محامِيًا ثانيًا، اثنا عشر بالقضاء، وأنا أشَبِّه القصة كلها كالتالي:

بدابة, حمار، يقف بمكان في أيام الصيف القائظ، له ظل صغير، فجاء أحدهم وجلس بالظل ليرتاح، فقام لكي يشرب، فجلس آخر مكانه، رجع, قال له: هذا مكاني، بل مكاني، مكاني، تشاددوا، وتضاربوا، فمشى الحمار بعد ذلك، انتهت، هذه الدنيا.

يقول لي أحد القضاة: أكثر من عشرة آلاف دعوى تشطب, كل سنة يموت أحد الطرفين، ثماني عشرة سنة, كل يوم فيه حَرْق أعصاب، كل يوم فيه غيظ، كل يوم فيه حقد، العاقل لا يدخل إلى المحكمة.

أيها الإخوة؛ قال سيدنا معاوية لسيدنا عمرو بن العاص: يا عمر ما بلغ من دهائك؟ قال له: والله ما دخلت مُدخلاً, إلا وأحسنت الخروج منه, قال له: لست بداهية، أما أنا والله ما دخلت مُدخلاً, أحتاج أن أخرج منه.

قضية شائكة، فكن بالخارج، لا تدخل بقضايا شائكة، بقضايا مالية، لا تدخل أشياء فيها شُبهات.

النبي واضح، يمشي مع زوجته، مرا صحابيان, فقال لهما: على رسلكما إنها صفية، معقول! يشكان فيه!! وضِّح، بيِّن، هذه دفعة، هذا الحساب، هذا التفصيل، هذا الوصل، هذا العَقد، لماذا دخلت للبيت بغياب فلان؟ بين له, لماذا بعد ما خرج من البيت, دققت الباب؟ بيِّن له.

أنا موعدي معه الساعة التاسعة، هكذا هو قال لي، أما أن يظل الشيء غير واضح, فإنه يخلق مشكلات، فبطولتك هي: أن تعمل عملاً له تفسير واحد.

هناك أعمال كثيرة لها تفسيران، قد تكون أنت بريئًا على أحد التفسيرين، لكن هناك تفسير آخر, يتَّهمك بأنك لست حكيمًا، اعمل عملا له تفسير واحد، إذا كان خَطُّ الرجل مراقبًا, يقول: اشتريت مسدّسًا، هو قصده آلة تثقيب، ليس له علاقة بأي شيء، يختار كلمة ثانية واضحة، مثقب، يغير الكلمة، فأنت تكلَّم بكلمة لها معنى واحد، وإلا تقع في إشكال كبير، اعمل عملاً له تفسير واحد.

أيها الإخوة؛ أنا كلما أختار موضوع, تكون هناك مجموعة أحداث في أثناء الجمعة تصلني, أرى فيها وضعًا مؤلمًا، عداوة، شحناء، بغضاء، حِقد، طعن, من أبناء مسجد واحد، قرآن واحد، السُنة واحدة، الإله واحد، القِبلة واحدة، الصلاة واحدة، الحياة لا تحتمل.

تجد شقاقًا زوجيًا، أُسَرًا متفككّة، أزواجًا بعيدين عن زوجاتهم، أولادًا شاردين، هكذا حال المسلمين، طبعاً: هذه بصراحة تربية المسلسلات، هكذا تربي المسلسلات، كلها مَقالب، وكلها أحقاد، وكلها سقوط، أما القرآن فإنه يُربي تربية أخرى.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور