وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 50 - أثر الإيمان في نزول الرحمة - الغدة الصعترية - التيموس .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخــطــبـة الأولــى:

 الحمد لله نحمده حق حمده، ونسأله المزيد من فضله، فهو يعلم السر وأخفى، والجهر والنجوى، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقت فسويت، وقدّرت وقضيت، وأمت وأحييت، وأمرضت وشفيت، وعافيت وابتليت، وأغنيت وأقنيت، وأضحكت وأبكيت، والمرجع والمآل إليك، نحن بك وإليك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خيرته من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وترك أمته على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً.
 أما بعد أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خبر.

التقنين الإلهي هو تقنينُ تأديبٍ وتربية لا تقنين عجز وبخل:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إنَّ المتفكِّرَ في خلق السماوات والأرض يتبدى له من خلال جولته التأمُّلية أنّ الله ثبَّت أشياء كثيرة، منها النواميس والقوانين التي تحكم حركة الحياة، وثبَّت خصائص الأشياء التي نتعامل معها، وثبَّت دورة الأفلاك المحيطة بنا، وكل ذلك ترسيخاً للنظام الكوني، وتحقيقاً لتسخير الأشياء لنا، كي ننتفع بها في حياتنا الدنيا، ولكي ترشدنا إلى ربنا فنعرفه ونطيعه ونسعد بقربه في الدنيا والآخرة.
 وحَرَّك أشياء قليلة، منها الصحة والرزق، لتكون وسائل لتربيتنا والأخذ بيدنا إلى الله وإلى جنته، فالإنسان حريص على سلامته وعلى رزقه، ومن الثابت أن التقنين الإلهي هو تقنينُ تأديبٍ وتربية لا تقنين عجز وبخل، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27) ﴾

( سورة الشورى)

 وقال سبحانه:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾

( سورة الحجر )

الله جلّ وعلا لا يسوق لعباده شِدَّة إلا بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير:

 ثم إن الله جل وعلا لا يسوق لعباده شِدَّة إلا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير، قال عز وجل:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾

( سورة النساء الآية: 147 )

 وقال عزَّ مِن قائلٍ:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

( سورة الشورى )

 أخوة الإيمان في كل مكان، روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

 

(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ))

 

[ ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]

 ولكنْ ما العمل بعد نزول المصائب ؟ القرآن الكريم أجاب عن هذا السؤال، قال سبحانه وتعالى:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

( سورة السجدة )

 إنّ الهدفُ الأولُ والأوحدُ من سوق العذاب في الدنيا هو رجوعُ العباد إلى الله، والشيء الأول والأوحد الذي يصرف البلاء عن الإنسان في الحياة الدنيا هو طاعةُ الله وطاعةُ رسوله مخلصاً فيها.

 

الاستغفار من الوسائل التي تزيد في الرزق:

 

 يا أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33) ﴾

( سورة الأنفال)

 قال علماء التفسير: ما دامت سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية مطبَّقةً في حياتهم، وفي بيوتهم، وفي علاقاتهم الأسرية، ومطبَّقةً في أعمالهم، وفي كسب أرزاقهم، مطبَّقةً في حلهم وترحالهم، وفي أفراحهم وأحزانهم، مطبقة في مَنشَطِهم ومَكرَههم، في يسرهم وعسرهم ؛ فهُمْ في مأمن من عذاب الله، أما لو حيَّرتْهُم الشبهاتُ، وغلبتْهم الشهواتُ، فزلت أقدامهم، وانحرفت مسيرتهم، فأمامهم فرصةٌ ثمينة منحَها الله لهم، وبها يأمنون عذاب الله مرة أخرى، إنها الاستغفار، قال الغفور الرحيم:

 

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) ﴾

 

( سورة نوح)

 لقد أطمعهُم ربُّهم إنْ هم استغفروه بالرزق الوفير الميسور، من أول أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير، الذي تنبت به الزروع، وتتفجر به الينابيع، وتسيل به الأنهار، كما وعدهم برزق آخر من الذرية التي يحبونها وهي البنون والأموال التي يطلبونها ويحرصون عليها:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً *﴾

في القرآن مواضع متكررة ربط اللهُ جل جلالُه فيها بين الاستغفار والأرزاق الوفيرة:

 ربط اللهُ جل جلالُه بين الاستغفار وهذه الأرزاق الوفيرة، وفي القرآن مواضع متكررة فيها، هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله وبين تيسير الأرزاق وعموم الرخاء، جاء في موضع ثانٍ:

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (17)﴾

( سورة الجن )

 وجاء في موضع ثالث:

 

﴿ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (3) ﴾

 

( سورة هود)

 وجاء في موضع رابع:

 

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾

 

( سورة المائدة الآية: 66 )

ما من أمة قام فيها شرع الله إلا فاضت فيها الخيرات ومكن الله لها في الأرض:

 أخوتي المؤمنين أعزائي المستمعين، هذه القاعدة التي يؤكدها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة تقوم أسبابها على وعد من الله، ومن سنن الحياة ؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحقيقها على مدار القرون، والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاهاً حقيقياً إلى الله عبادة واستقامة وعملاً صالحاً واستغفاراً يشعر بخشية الله، وما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها على خلقه قيادة وهداية، وبدَّل خوفَها أمناً، قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35) ﴾

( سورة الأنبياء )

 نشهد في بعض الفترات أمما لا تتقي الله ولا تقيم شريعته ؛ وهي مع هذا موسع عليها في الرزق، ممكن لها في الأرض، ولكن هذا إنما هو الابتلاء، ثم هو بعد ذلك رخاء ظاهري، تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي، فقد صرح مسؤول كبير في العالم الغربي أن هناك أخطاراً كبيرة تهدد المجتمع الغربي منها تفكك الأسرة، وشيوع الجريمة، وانتشار المخدرات، وسقوط القيم، ثم انتشار مرض الإيدز.

من ملامح السنة الكونية أنَّ هداية الله تسير مع الإنسان في أربع مراحل:

 أيها الأخوة حضوراً ومستمعين، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95) ﴾

( سورة الأعراف)

 إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر، ومن ثم يتكشف أن هناك سنة تكوينية تجري عليها الأمور وتتم وفقها الأحداث ؛ ويتحرك بها تاريخ الإنسان في هذه الأرض. وأن الرسالة ذاتها على عظم قدرها هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس الأكبر، وأن الأمور لا تمضي جزافاً ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض كما يزعم الجاهلون الشاردون ! وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق إرادة الله الطليقة التي وضعت السنة وارتضت الناموس.
 من ملامح هذه السنة الكونية أنَّ هداية الله تسير مع هذا الإنسان الذي خلق لجنة عرضها السماوات والأرض في أربع مراحل:

 

1ـ الدعوة البيانية:

 الدعوة البيانية، وهي دعوة الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين، قال تعالى:

 

 

﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) ﴾

 

( سورة القصص)

 وقال سبحانه:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (24) ﴾

 

(سورة الأنفال)

 وقال:

 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50) ﴾

 

( سورة القصص)

 فإن لم يستجيب الناس لدعوة ربهم لهم إلى ما يحييهم الحياة التي خلقوا من أجلها، والحياة التي تليق بإنسانيتهم، والحياة التي تتصل فيها نعم الدنيا بنعم الآخرة، فإن لم يستجيبوا طُبِّقتْ عليهم الخطة الثانية وهي:

 

2ـ التأديب التربوي:

 التأديب التربوي: فليس من العبث ـ وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ أن يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم، إنما يأخذ الله المكذبين بالحق يأخذهم بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أنه يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب التي طال عيها الأمد متى كانت فيها بقية من خير، وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه، ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له، والعبودية لله غاية الوجود الإنساني، وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان افتقارهم له، ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم له إنما يُصْلِحُهُمْ هم، ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.

 

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)﴾

 

( سورة الذاريات)

 فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرَّروا من العبودية لسواه، وتحرَّروا من العبودية للشيطان الذي يريد أن يغويهم، وتحرّروا من شهواتهم وأهوائهم، وتحرّروا من العبودية للعبيد من أمثالهم، واستحَوْا أن يتبعوا خطوات الشيطان، واستحوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية، لذلك اقتضت مشيئةُ الله أن يأخذ أهل كل قرية شردت عنه بالبأساء في أنفسهم وذواتهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم، استحياء لشعورهم بالألم.
 والألم خير مهذِّبٍ، وخير مفجِّرٍ لينابيع الخير المستكنة، وخيرُ مرهفٍ للحساسية في الضمائر الحية، وخيرُ موجَّه إلى ظلال الرحمة التي تلوح للضعاف المكروبين قال تعالى:

 

﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ (95) ﴾

 

( سورة الأعراف)

 لكن حينما لا تحدث الشدائد في الناس توبة وإنابة بسبب شدة غفلتهم، وبُعد انغماسهم في المتع الرخيصة، تصبح مصيبتهم الكبرى في أنفسهم، وقد قيل: من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة، فمصيبته في نفسه أكبر، عندئذ يخضعهم الله للخطة الثالثة:

 

3ـ الرخاء الاستدراجي:

 الرخاء الاستدراجي: فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف. وإذا هو متاع ورخاء، وهناءة ونعماء، وكثرة وامتلاء، وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء. والابتلاء بالشدة ينتفع به الكثيرون، فالشدَّة تستثير عناصر المقاومة للمعاصي والآثام، وقد تذكر صاحبها بالله ـ إن كان فيه بقية من خير ـ فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظلِّه طمأنينة، وفي رحابه فسحة، وفي فرجه أملاً، وفي وعده بشرى، أما الابتلاء بالرخاء فالذين ينتفعون منه قليلون. فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي، فلا ينتفع به إلا القليلُ من عباد الله، قال عز وجل:

 

 

﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ (95) ﴾

 

( سورة الأعراف)

 أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة، ولم يجدوا في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه، وكلمة: ﴿عَفَوْا﴾ ـ إلى جانب دلالتها على الكثرة ـ توحي بحالة نفسية خاصة ؛ حالة اللامبالاة، حالة الاستخفاف والاستهتار، حالة استسهال كل أمر، حالة اتباع كل خاطر، وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد أفراداً وأمماً، كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل بشيء، أو تحسب حساباً لشيء، فهم ينفقون في يسر، ويتلذذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في يسر ! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان في يسر واطمئنان ! وهم لا يتقون غضب الواحد الديان، ولا لوم الناس ولا الخِلاَّن، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة. وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس، ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، ولا قصدٍ مرسوم:

 

﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ (95) ﴾

 

( سورة الأعراف)

 قد أخذنا حظَّنا مِنَ الضراء وجاء حظُّنا مِنَ السراء ! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة لأْواء، فهي تمضي هكذا كخبطة عشواء، عندئذ وفي ساعة من الغفلة السادرة تجيء العاقبة وَفق السنة الجارية:

 

﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95) ﴾

 

( سورة الأعراف)

 جزاء بما نسوا، واغتروا، وبعدوا عن الله، وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال، هؤلاء يبنون مجدهم ومجد شعوبهم على أنقاض بقية الشعوب، ويبنون غناهم على إفقار الشعوب، ويبنون قوتهم على إضعاف الشعوب، ويبنون سعادتهم على شقاء الشعوب. إن تحكم القطب الواحد، وازدواجية المعايير، وسيطرة الاحتكارات الكبرى حوَّل العالم إلى غابة تتحكم فيها قواعد القوة، وتغيب عنها ضوابط المبادئ والقيم، كما قال السيد الرئيس في أحد خطاباته. قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾

 

( سورة إبراهيم)

 حينما لا ينتفع الإنسان بالرخاء الاستدراجي، وهو آخر مرحلة ينتظر أن ينتفع بها الإنسان، حيث إنّ الله بيَّن له عن طريق الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين فلم يستجب، وساق له مِنَ الشدائد فلم يتب، وأغرقه بالنعم فلم يشكر، عندئذ يحسم أمره، فيقصم ظهره، وهي المرحلة الرابعة.

 

4ـ مرحلة القصم:

 مرحلة القصم: وهذه المرحلة توضحها الآية الكريمة:

 

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً (44) ﴾

 

(سورة الأنعام )

الطرف الآخر لسُنَّة الله الجارية في خلقه:

 أيها الأخوة الأحباب، للموضوع طرف آخر، قال تعالى :

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96) ﴾

( سورة الأعراف)

 ذلك هو الطرف الآخر لسُنَّة الله الجارية في خلقه، فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل العصيان ؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، هكذا:

 

﴿ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96) ﴾

 

( سورة الأعراف)

 مفتوحة بلا حساب، تأتيهم هذه البركات من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي فيضاً من العطاء الغامر الذي لا يعهده البشر من الأرزاق والأقوات.
 إن العقيدة الإيمانية في الله وطاعته ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن تاريخ الإنسان. إن الإيمان بالله وطاعته يؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض وعداً من الله. ومن أوفى بعهده من الله ؟
 ونحن ـ المؤمنين بالله ـ نتلقى هذا الوعد بقلب مؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه، ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله، نحن نؤمن بالله ـ بالغيب ـ ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان، لكن المذاهب الوضعية تغفل عنه، بل وتغفله كل الإغفال، وتنكره أشد الإنكار !

الإيمان بالله والتقوى يزيد من الرزق:

 إن الإيمان بالله دليل على سلامة في الفطرة، وسلامة في أجهزة الاستقبال، وصواب في الإدراك الإنساني، وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
 إنَّ الإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكيان البشري كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، لتحقيق مشيئة الله للإنسان في خلافة الأرض وإعمارها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها، وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
الإيمان بالله تحرُّرٌ من العبودية للهوى، ومن العبودية للعبيد، وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة من عبيد للهوى وعبيد الأشخاص. وتقوى الله، يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح، وحين تسير الحياة متناسقةً بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من سلطان الهوى وهيمنة الأقوياء، عابدة خاشعة لله، تسير سيرة صالحة منتجة، فلا جرم أنه تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح.
 والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص القرآني ولا يحددها. وأما إيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان، فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال ! فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةَ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ))

[ رواه ابن ماجه وأحمد والدارمي عَنْ ثَوْبَانَ]

 الذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة ! وما أجدرهم أن ينظروا نظرة أعمق، وأن يستنبطوا من كلام الله استنباطاً أليق.

الموازنة بين (بركات من السماء والأرض) وبين (أبواب كل شيء):

 أيها المسلمون في كل مكان، لا بد ونحن في صدد هذا الموضوع من الموازنة بين بركات من السماء والأرض في قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96) ﴾

( سورة الأعراف)

 وأبواب كل شيء في قوله تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾

 

( سورة الأنعام الآية: 44 )

 إنّ الرزق في بركات من السماء والأرض متاع طيبٌ ورخاء، وهو رغد في الدنيا، وزادٌ إلى الآخرة، والرزق في أبواب كل شيء مثار قلق وخوف، ومثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط واستهتار.
 إنّ الذرية في بركات من السماء والأرض هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة، بالذرية الصالحة، والذرية في أبواب كل شيء بلاءٌ، ونكدٌ، وعنتٌ، وشقاءٌ، وسهرٌ بالليل، وتعب بالنهار.
 وإنّ الصحة والعافية في بركات من السماء والأرض هي نعمة وحياة طيبة، والصحة والعافية في أبواب كل شيء بلاءٌ يسلطه الله على الصحيح المعافى، فينفق الصحة والعافية فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويزخر السوء إلى يوم الحساب.
 وإنّ الجاه والقوة في بركات من السماء والأرض هو أداة إصلاحٍ ومصدر أمنٍ، ووسيلةٌ لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر، والجاه والقوة في أبواب كل شيء مصدرا قلقٍ على فوته، ومصدرا طغيان وبغيٍ، ومصدرا حقدٍ وكراهية، لا يقر لصاحبها قرار، ويدخر بها للآخرة رصيداً ضخماً إلى النار.
 فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح، وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال، فهي قوة بلا أمن، وهو متاع بلا رضى، وهي وفرة بلا صلاح، وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد، وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال، إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر.

وسائل أخرى تزيد في الرزق:

 أيها السادة المستمعون أيتها السيدات المستمعات، والآن هل من وسيلة ذكرها القرآن الكريم وبينتها السنة المطهرة فضلاً عن الاستغفار والإيمان والتقوى تزيد في الرزق، وكل واحد من الخلق حريص على زيادة رزقه، فهل هناك علاقة بين الرزق والصلاة ؟ انظروا في قوله تعالى:

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) ﴾

(سورة طه)

 هناك علاقة بين الرزق والشكر، انظروا في قوله تعالى:

 

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7) ﴾

 

( سورة إبراهيم)

 هناك علاقة بين الرزق وصلة الرحم، انظروا في هذا الحديث الشريف، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

 

(( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))

 

[ متفق عليه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 هل من علاقة بين الرزق والصدقة ؟ لقد ورد في الأثر:

 

((اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ))

 

[الكامل في ضعفاء الرجال، وفيض القدير للمناوي عن جبير بن مطعِم]

 هناك علاقة بين الرزق والأمانة، انظروا في هذا الحديث الشريف:

 

((الأَمَانَةُ غِنًى))

 

[ أخرجه القضاعي في مسند الشهاب ]

 بالمعنى المادي، والأمين ينال أثمن شيء وهو ثقة الناس.
 هناك علاقة بين الرزق والإتقان، انظروا في هذا الحديث الشريف:

 

(( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ))

 

[ الجامع الصغير ومسند أبي يعلى الموصلي والطبراني في الأوسط عن عائشة ]

 فمَنْ أتقن عملَه أحبَّه اللهُ، وإذا أحبَّ اللهُ عبداً ألقى محبَّتَه في قلوب الخلق، ومن أحبَّه اللهُ وأحبَّه الخلقُ يَسَّره لليسرى.

فضل صلاة الاستسقاء:

 أيها الأخوة الأعزاء، وقد تنقطع أسباب الرزق بانقطاع الأمطار، فتغور الينابيع وتجف الأنهار، وييبس الزرع، ويموت الضرع، ويهدد الإنسان بافتقاد كأس الماء، ولقمة العيش، ويجد نفسه مضطراً أن يخرج من أرضه الجدباء مشرداً، وأن يغادر بيته الخاوي هائماً على وجهه، وقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الاستسقاء طَلَباً لِلرَّحْمَةِ وَالْإِغَاثَةِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ. ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) ﴾

( سورة نوح)

 كَمَا اسْتَدَلَّ لَهُ بِعَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ , فَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَائِهِ صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

 

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ وَاحْمَرَّتْ الشَّجَرُ وَهَلَكَتْ الْبَهَائِمُ فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا مَرَّتَيْنِ وَأيْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ صَاحُوا إِلَيْهِ تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَكَشَطَتْ الْمَدِينَةُ فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلَا تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الْإِكْلِيلِ))

 

[ البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

أحاديث أخرى تؤكد أهمية صلاة الاستسقاء:

 وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:

((شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ , فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى , وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْماً يَخْرُجُونَ فِيهِ , قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ , متواضعاً، متبذلاً، متخشعاً، مترسلاً، متضرعاً فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ , فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ , وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ , وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوَهُ , وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ , اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ من السماء، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغاً إلَى حِينٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ , ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ , وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكُنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ , وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ))

[أبو داود عن عَائِشَةَ رضي الله عنها]

 وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ:

 

(( صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ))

 

[ متفق عليه عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ]

الله يستجيب لعباده المؤمنين الذين استجابوا له فأطاعوه و أخلصوا في طاعتهم اسحقاقا:

 أخوة الإيمان في كل مكان، ونحن نذكر هنا للسيد الرئيس دعوته أولي الأمر والمواطنين إلى إقامة صلاة الاستسقاء تطبيقاً للسنة النبوية المطهرة، والتماساً لرحمة الله بأن يرسل علينا الغيث من السماء، وقد جاء في بيانه مضمونُ هذه الدعوة، أنها تأتي نتيجة لتأخر هطول الأمطار هذا العام، وأن صلاة الاستسقاء هي رجاء الرحمة من السماء، ونداء صدق تتواصى به النفوس المؤمنة خيراً، ورحمة للبلاد والعباد، وينبغي أن تسبقها التوبة الصادقة من المعاصي والذنوب، ورد المظالم والحقوق إلى أصحابها، وصيام ثلاثة أيام قبل اليوم الذي تؤدى فيه صلاة الاستسقاء.
 وقد تفضل ربنا واستجاب لعباده المؤمنين الذين أدوا صلاة الاستسقاء، واستغفروا ربهم وتضرعوا إليه أن يفتح لهم أبواب السماء، معلنين عبوديتهم وافتقارهم إلى الله الواحد القهار الذي قال في محكم كتابه:

 

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

 

( سورة فاطر )

 لقد استجاب ربنا جل جلاله لنا صبيحة ليلة القدر ففتحت أبواب السماء بماء منهمر وتساقطت الثلوج بعد انحباس استمر عاماً وزيادة، فاقتربت نسب الهطول في بعض المحافظات من نصف المعدل السنوي بحسب نشرة وزارة الزراعة الصادرة في العاشر من الشهر الأول مِنْ هذا العام.
 والجدير بالذكر أن الله جل في علاه يستجيب لعباده المؤمنين الذين استجابوا له فأطاعوه وأخلصوا في طاعتهم استحقاقاً، وقد يستجيب لعباده المضطرين الذين كاد يهلكهم الجفاف، وقصروا في طاعتهم وإخلاصهم قد يستجيب لهؤلاء تفضلاً وتشجيعاً، وقد يستجيب رحمة بالضعاف الطائعين الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:

 

((لولا شباب خشع، وشيوخ ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصُبَّ عليكم العذاب صباً))

 

[ أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة]

فضل الله تعالى علينا:

 إن كنا مشمولين باستجابة الاستحقاق فهذا من فضل الله علينا، وإنْ أظلتنا استجابة التفضل والتشجيع فلنتدبر أمرنا، ونصلح ذوات نفوسنا، ولنقبل على طاعة ربنا فهذه الفرصة ربما لا تتكرر. قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾

( سورة الشورى )

 قال ابن عباس:

(( إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخلق))

[ ذكره ابن القيم في الجواب الشافي ]

 أيها الأخوة المؤمنون، إني داع بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم في الاستسقاء: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، تفعل ما تريد، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللَّهُمَّ إنَّك أَمَرْتَنَا بِدُعَائِك , وَوَعَدْتَنَا إجَابَتَك فَقَدْ دَعَوْنَاك كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا أنزل علينا الغيث من السماء، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا، وبلاغاً إلى حين ".
 اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً هَنِيئاً مَرِيئاً مَرِيعاً غَدَقاً مُجَلَّلاً سَحّاً عَامّاً طَبَقاً دائماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ إنَّ بِالْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَالْخَلْقِ مِنْ اللْأَوَاءِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُوه إلَّا إلَيْكَ. اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّكَ كُنْتَ غَفَّاراً فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَاراً اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا , اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ والجبال وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ.
 اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، وَلَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ، وَلَا هَدْمٍ , وَلَا غَرَقٍ.
 اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ , وَالْجُوعَ , وَالْعُرْيَ , وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك.
 أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين، والحمد لله رب العالمين.

 

***

الخــطــبـة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين

فرق القتال في جهاز المناعة:

 أخوتي المؤمنين أعزائي المستمعين، والآن إلى الموضوع العلمي :
 يعد جهاز المناعة المكتسب من أخطر الأجهزة في الجسم البشري، وهو جيش دفاعي عالي المستوى والجاهزية، فيه فرق الاستطلاع، وفرق تصنيع السلاح، وفرق القتال، وفرق الخدمات، وفرقة المغاوير، والحديث اليوم عن فِرَق القتال في كريات الدم:
يرسل فريق من كريات الدم البيضاء التي صنعت وتشكلت في نقي العظام والتي فرزت لمهام قتالية ترسل إلى مدرسة حربية اسمها الغدة الصعترية (التيموس) في دورة تثقيفية تدريبية، وبعد اجتياز الامتحان تتخرج بلقب (الخلية التائية المثقفة)، وفي هذه المدرسة الحربية تدرس هذه الكريات البيضاء التي فرزت للقتال مادتين أساسيتين: التعريف بالذات والصديق، والتعريف بالعدو الممرض.
 في المقرر الأول: يعرض على هذه الخلايا مئات الألوف من البروتينات التي تدخل في بناء الجسم البشري، ثم ترمز هذه العناصر الصديقة، وتدرب هذه الخلايا على ألا تهاجمها، لأنها إن هاجمتها فمعنى ذلك أن الجسم يدمر نفسه، ويتلف بعضه.
 في المقرر الثاني: يعرض على هذه الخلايا ما عرفه النوع البشري عبر الأجيال على أنه عنصر ممرض من خلال مناعات الأم التي تصل إلى المولود من خلال الحليب، ومن خلال التجربة الحية، إذ أن الطفل في السنوات الأولى يميل بفطرته إلى التقاط الأشياء ووضعها في فمه لتتعرف خلاياه المقاتلة على العناصر المعادية، أو أن العدوى بالأمراض تعطيه مزيداً من المعلومات عن أعدائه، ومن خلال هذه المحاضرات تتعرف هذه الكريات البيضاء المقاتلة على العناصر المعادية التي عليها أن تهاجمها، أو تذيع نبأ وجودها، أو تساهم في إلقاء القبض عليها.

 

امتحانات تمر بها الكريات البيضاء:

 من خلال المجاهر الإلكترونية تبدو الغدة الصعترية من خلالها على شكل مدرجات رومانية تصطف الكريات البيضاء عليها لتتلقى هذه المحاضرات القيمة، ولا بد في أية جامعة أو معهد أو مدرسة من امتحان. تمر هذه الكريات فرادى في بوابات امتحانية وتمتحن واحدة وَاحدة في المقررين السابقين:
 امتحان المادة الأولى: يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر صديق، فإن هاجمته أخفقت في الامتحان، ومنعت من مغادرة الغدة الصعترية، وقتلت لأنها إن خرجت إلى الدم تهاجم الجسم الذي شكلها.
 امتحان المادة الثانية: يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر عدو ممرض، فإن أخفقت في تمييزه والرد عليه رسبت في الامتحان ومنعت من مغادرة الكلية وقتلت، لأنها إن خرجت إلى الدم غفلت عن العدو ومكنته من مهاجمة الجسم.
يستمر عمل هذه الكلية الحربية ( الغدة الصعترية ) من بدء الولادة وحتى السنة الثالثة، وبعدها تقوم بتوريث علم مراقبة وضبط عمل الكريات البيضاء إلى الكريات البيضاء الناجحة في الامتحان والتي سميت بعد التخرج بالخلايا التائية المثقفة لتقوم بدورها في نقل هذا العلم إلى أجيال الكريات البيضاء اللاحقة.
 في السبعينات من العمر يضعف تثقيف الكريات البيضاء المقاتلة فتبدأ بمهاجمة العناصر الصديقة، وبعض أجهزة الجسم وأعضائه فنرى في هذا العمر أمراضاً شائعة كالتهاب المفاصل الرثوي، وبعض الاعتلالات الكلوية، وأمراض المصليات، وأمراض أخرى ما كان سببها إلا ضعف ثقافة الجهاز المناعي الذي ينتج عنه زوال الضبط في عمل الخلايا المقاتلة وهو خرف الجهاز المناعي، فتصبح الخلايا المناعية المقاتلة تهاجم الجسم الذي شكلها وثقفها للدفاع عنه وتكون حالة الجسم ما يشبه الحرب الأهلية.

أعلِّمه الرمايةَ كــلَّ يومٍ  فلما اشتدَّ ساعدُه رماني
وكم علَّمته نظم القوافـي  فلما قال قافيةً هجانـي
* * *

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور