- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
ذكر الله عز وجل حياة للقلب :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً﴾
في هذه الآية الكريمة أمْرٌ إلهي أن نذكر الله ذِكْرًا كثيرًا ، وذِكْرُ الله سبحانه وتعالى حياةٌ للقلب ، القلب الذي يذكرُ الله حيّ ، والقلب الذي لا يذكرهُ ميّتٌ ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((إذا مررْتم برياض الجنّة فارتعُوا ، قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنّة ؟ فقال : حِلَق الذّكر ))
أيْ مجالسُ الذّكْر ، أي المجالس التي يُذكر فيها اسم الله عز وجل ، المجالس التي تفسّر فيها آيات الله ، المجالس التي تُفسّر فيها أحاديث رسول الله ، المجالس التي يكون الحديث فيها عن الله تعالى ، المجالسُ التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، المجالسُ التي فيها حديث عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام ، المجالسُ التي فيها الحديث عن أُمور الفقه ، إنّها كلمةٌ واسعة ، من هنا قال الله عز وجل :
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
فيما رواه الإمام البيهقي ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إنّ ذِكْر الله تعالى شفاءٌ ، وإنّ ذِكْر الناس داء ))
فإذا أردْت أن يشفى قلبك فاذْكر الله عز وجل ، وإذا أردْت الداء الوبيل والمرض العضال فاذكر الناس ، في ذِكْر الناس الغيبة ، والنميمة ، والتحاسد ، والتنافس ، والسّخريّة ، والانقباض ، والقهر ، والخوف ، والتشاؤُم ، والسّوْداويّة ، هذا كلّه من ذِكْر الناس ، فإذا ذكرت الله عز وجل كان ذكره تعالى شفاء .
الإكثار من ذكر الله تعالى :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إنّ ذِكْر الله تعالى شفاءٌ ، وإنّ ذِكْر الناس داء ))
فحيثما جلستم ، وأنّى وُجدتم ، وحيثما التقيتم ، في لقاءاتكم ، في سهراتكم ، في ندواتكم ، في حلّكم وترحالكم ، أكثروا ذِكْر الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي والإمام أحمد في مسنده :
((مَن صلّى الفجر في جماعة ، ثمّ قعد يذكر الله حتى تطلع الشّمس ثمّ صلّى ركعتين ، كانتْ له كأجْر حجة وعمرةٍ تامّة تامّة))
سواءٌ تلا كتاب الله ، تلاوة كتاب الله ذكرٌ لله تعالى ، سواءٌ قال : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هذا أيضًا من ذكر الله تعالى ، أو قال : الله أكبر ، بأيّة طريقةٍ تذكرُ الله فيها ، سواءٌ أَفكَّرْت في ملكوت السموات والأرض ، إذا ذكرتَ الله تلاوةً لكتابه ، إذا ذكرتَ الله تفكُّرًا في آياته ، إذا ذكرتَ الله ذكرًا بلسانك ، وإذا سبّحتَه ، وإذا حمِدْته ، وإذا كبّرته ووحَّدتهُ ، فأنت مِمَّن ينطبقُ عليك هذا الحديث :
((مَن صلّى الفجر في جماعة ، ثمّ قعد يذكر الله حتى تطلع الشّمس ثمّ صلّى ركعتين ، كانتْ له كأجْر حجة وعمرةٍ تامّة تامّة))
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وخيرٌ لكم من إنفاق الذّهب والفضّة ، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله ))
قال تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
ألا بذكر الله تنشرحُ الصّدور ، ألا بذكر الله تعرُج النفوس .
ذكر الله يحيي القلب و يبعده عن الغفلة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حديثٌ شريفٌ رواه الإمام البخاري ومسلمٌ في صحيحيهما، يقول عليه الصلاة والسلام :
((مثلُ الذي يذكرُ ربّه ، والذي لا يذكرهُ مثلُ الحيّ والميّت))
يحيا القلب بِذكر الله تعالى ، ويموت القلب بالغفلة عن الله تعالى ، وقد يسأل سائلٌ لماذا لا نذكرهُ ؟ النبي عليه الصلاة والسلام أجاب عن هذا السّؤال ، قال عليه الصلاة والسلام : " من أحبّ شيئًا أكثر من ذكره " إنّ الذي لا يذكرهُ إنّه لا يحبّه ، لماذا لا يحبّه ؟ إنّ الذي لمْ يتفكّر في خلق السموات والأرض ، لمْ يعرف عظمة الله ، ولمْ يعرف جلاله ، ولمْ يعرف رحمتهُ، ولمْ يعرف فضله ، فما أحبّه ، لو أنّك تعرَّفْت إليه من خلال خلقه لأحببْتهُ ، ولو أنّك أحببْتهُ لأكثرْت من ذكره ، وإذا ذكرته سعِدتَ بذكره ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((مثلُ الذي يذكرُ ربّه ، والذي لا يذكرهُ مثلُ الحيّ والميّت ))
وفيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يذكُر الله في كلّ أحيانه . بعض الناس يذكرونه في الرّخاء ، أما في الشدّة فينْسونهُ ، وبعض الناس من نوعٍ آخر ، يذكرونه في الشدّة أما في الرّخاء فيَنْسَوْنهُ ، وبعضهم الآخر يذكرونه في الفراغ ، فإذا شُغلوا ينْسونهُ ، وبعض الناس يذكرونه في المرض ، فإذا كانوا أصِحّاء أقوياء ينْسَونهُ ، ولكنّ النبي عليه الصلاة والسلام وهو قُدوتنا ، وأُسوتنا ، كان يذكر الله في كلّ أحيانه ، في الفراغ وفي الشّغل ، في الصّحة والمرض ، في القوّة والضّعف ، في الغِنَى والفقْر ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، كان صلى الله عليه وسلّم يذكُر الله في كلّ أحيانه .
الذكر الخفي أقرب إلى الإخلاص :
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( خيرُ الذّكْر الخفيّ ، وخيرُ الرّزق ما يكفي))
كأنّ النبي عليه الصلاة والسلام يؤثرُ أن يكون الذّكرُ خَفيًّا ، لأنّ الذّكْر الخفيّ أقربُ إلى الإخلاص ، لأنّ الذّكْر الخفيّ أقربُ إلى الجدوى ، كان عليه الصلاة والسلام يقول :
(( خيرُ الذّكْر الخفيّ ، وخيرُ الرّزق ما يكفي))
أما هؤلاء الذين يذكرون الله للناس ، إنّك قد تذكرُ الله لِنَفسك ، وقد تذكرُه للناس ، هؤلاء وصفَهم النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الطبراني رحمه الله تعالى :
(( إنّ مِنَ الناس مفاتيح لذِكْر الله تعالى ، فإذا رُؤوا ذُكر الله بهم ))
وبالمقابل إنّ من الناس مفاتيح للشيطان ، فإذا رُؤوا ذكِرَتْ بهم الشياطين والأهواء والشهوات والانحرافات ، فإذا أردْت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملكَ ، هل إذا رُئيتَ يُذكر الله عز وجل ؟ أوليائي إذا رؤوا ذُكِر الله بهم .
الأشياء التي تقرب من ذكر الله و التي تبعد عنه :
ما الذي يُبعد عن ذكر الله ؟ وما الذي يقرّبُ منه ؟ النبي عليه الصلاة والسلام :
((الغناء واللّهو ينبتان النّفاق في القلب))
استماع الغناء ؛ في البيت ، وفي المحلّ التّجاري ، وفي المركبة ، وفي كلّ الأحوال ، وفي النّزهات ، إنّ المداوَمة على استماع الغناء ينبتُ النّفاق ، يقول عليه الصلاة والسلام:
((الغناء واللّهو ينبتان النّفاق في القلب ))
واللّهو كلّ ما لا طائل منه ، قتْل الوقت بِعَمَلٍ تافهٍ ، استغلال الوقت استغلالاً رخيصًا ، هذه الألعاب التي يمضي الناس بها سهراتهم حتى ساعةٍ متأخّرة من الليل ، إنّها استهلاك مكشوفٌ للوقت ، وحرْقٌ للوقت ، إنّها محْقٌ للبركة ، إنّها إتلافٌ للإنسان :
(( الغناء واللّهو ينبتان النّفاق في القلب ، كما ينبتُ الماء العشب ، والذي نفسي بيدِه إنّ القرآن والذّكْر ينبتان الإيمان في القلب كما ينبتُ الماء العشب ))
إذًا هناك أشياء تنقلُ إلى اللّهو ، وإلى النّفاق ، وإلى البُعْد ، وإلى الغفلة ، وهناك أشياء تنقلك إلى الجنّة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
((ما من قومٍ جلسوا مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا رأوهُ عليهم حسرةً يوم القيامة ))
ما الموضوع الذي هو أهمّ من ذِكْر الله تعالى ؟ إنّنا إلى الموت سائرون ، في ساعة الموت تعرفُ قيمة الذّكْر الذي أحيا قلبك .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولن يكون هذا اللّسان مفلحًا إلا إذا أكْثر من ذكر الله تعالى ، النبي عليه الصلاة والسلام قيل له : يا رسول الله ، أيُّ جلسائنا خير ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
((من ذكّركم بالله رؤيتهُ ، وزاد في علمكم منطقهُ ، وذكّركم في الآخرة عمله ))
هذا الذي إذا رأيتهُ ذكرت الله تعالى ، وإذا حدَّثك رفع مستواك بالعلم والعمل ، وإذا رأيت عمله ذكّرك بالآخرة ، فالذي يدلّك على الله تعالى ، له مظهر ، وله قالٌ ، وله حالٌ ، بمَظهره تذكر الله ، وبلِسانه يزداد علمك ، وبعمله يزداد ورعك ، مثلُ هذا صاحبهُ لأنّه كما يقول العلماء أنْدرُ من الكبريت الأحمر ، إذا رأيْتَ إنسانًا يرقى بك إلى الله حالهُ ، ويدلّك على الله مقالهُ فالْزَمْهُ ، فمَن قلَّدَ عالمًا لقي الله سالمًا .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيّدنا حنظلة رضي الله عنه رآه الصدّيق رضي الله عنه جالسًا في الطريق يبكي ، قال له : مالك يا حنظلةُ تبكي ؟ قال : نافقَ حنظلة ، قال : ولِمَ ؟ قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنّة كهاتين فإذا عافسْنا الأهل ننْسى ، فقال الصدّيق رضي الله عنه : أنا كذلك يا أخي انْطلِق بنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فحدَّثا النبي بِحَاليهما فقال عليه الصلاة والسلام :
((أما نحن معاشر الأنبياء فتنامُ أعيُننا ، ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعةٌ وساعة ، لو بقيتُمْ على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتْكم الملائكة ، ولزارتكم في بيوتكم))
بِمَعنى أنّك إذا حضرْت مجلس علم يرقى حالُك ، كأنّ هذا المجلس شِحنةٌ روحيّة تُشحنُ بها ، فإذا داومْت على حُضور مجالس العلم ، كنتَ في حالة طيّبة ، أما إذا كان الحضور متناوبًا ، ومضطربًا ، كانت هذه الشّحنات مضطربةٌ أيضًا .
تحسر أهل الجنة على ساعة في الدنيا مرت لم يذكروا الله فيها :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه عن ربّه يقول الله عز وجل :
(( مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ))
والله سبحانه وتعالى يقول أيضًا في الحديث القدسي :
((أنا جليسُ من ذكَرني وحيثما الْتمسَني عبدي وجَدَني))
ويقول في القرآن الكريم :
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾
ما ذكر عبدٌ ربّه خاليًا إلا ذكرهُ في ملأ من ملائكته ، ولا ذكرهُ في ملأ من خلقه إلا ذكره الله في ملأ خيرٍ منه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يتحسَّر أهل الجنّة إلا على ساعةٍ مرَّتْ بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها ، أهل الجنّة وهم في الجنّة شيءٌ واحدٌ يؤلمهم أنّ ساعةً في الدّنيا مرَّتْ عليهم ولم يذكروا الله فيها .
أحدُ العارفين بالله وهو يناجي ربّه يقول : " إلهي ، إذا رأيتني أُجاوِزُ مجالس الذّكْر إلى مجالس الغفلة ، فاكْسِر رجلي دونهم فإنّها نعمةٌ تنعم بها عليّ " .
أيها الأخوة ؛ نحن في حياتنا بين مجالس الذاكرين ، وبين مجالس الغافلين ، سهرةٌ فيها اختلاطٌ ، فيها أجهزة لهْوٍ لا ترضي الله عز وجل ، وفيها غيبةٌ ، فيها نميمة ، فيها سُخريّة، فيها غمْزٌ ولَمْزٌ ، فيها حديثٌ عن الدّنيا ، فيها تحبيب بالدّنيا ، هذه مجالسُ الغافلين ، قال تعالى:
﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
إلهي ، إذا رأيتني أُجاوِزُ مجالس الذّكْر إلى مجالس الغفلة ، فاكْسِر رجلي دونهم فإنّها نعمةٌ تنعم بها عليّ . أحدُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى جماعةً في السّوق وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجلسُ علمٍ ، فقال هذا الصّحابي لهؤلاء الغافلين : أراكم ههنا ، وميراث رسول الله في المسجد ، ما هو ميراثهُ ؟ النبي عليه الصلاة والسلام لمْ يورّث درهمًا ولا دينارًا ، ولكن ورَّث هذا العلم الشريف ، فمن دخل إلى مجلسِ علمٍ فإنّما يدخلُ ليرى ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
البذرة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى جلَّتْ حكمته جعل البذرة أساسًا لحياة النبات ، وجعل البذْرة أساسًا لتكاثرها ، ففي البذرة عالمٌ كبير لو اطَّلَعْنا عليه لخَشَعَتْ قلوبنا ، ولانهمَرَتْ دُموعنا .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ البذرة يتبايَنُ حجمها مِن جوْزة الهند الكبيرة التي هي بذرة إلى بذارٍ يزيد عدد الغرام منها عن سبعين ألف بذرة كالغبار ، ولكنّ القاسم المشترك بين كلّ البذور أنّ في كلّ بذرة كائنًا حيًّا بكلّ ما في معنى هذه الكلمة ، إنّه الرُّشَيم ، ولهذا الكائن الحيّ غذاءٌ مدروسٌ ، ومحدود ، وموزونٌ ، يكفي هذا الرُّشَيم حتى ينبتَ له جُذَيْرٌ وساق ، ائتِ بِبَعض حبّات الفاصولياء أو الحمّص ، وضعها على قسم مبلّل ، وانظر كيف أنّ هذا الرُّشيم الحيّ ينمو إلى سُوَيق ، وإلى جُذَير ، وحجم الحمصة يكفي لِتَغذية هذا الرُّشيم إلى أن يصبح الجذر قادرًا على مصّ الغذاء من التربة .
أما الشيء الذي يأخذ بالألباب فأنّ هذه البذور لها أحوال شتّى ، بعض هذه البذور مجنّحة ، لها أجنحةٌ ، تطيرُ مئات الكيلو مترات ، لها أجنحة ، تطير فتنقلُ الاخضرار من بلدٍ إلى بلد ، إنّ الهواء يحملها ، ويقطعُ بها مئات الكيلومترات لِتُزْرع زراعةً طبيعيّة في أراضٍ رطْبةٍ، فَتُنبتُ الأشجار ذات البهجة والجمال ، وبعض هذه البذور لها زغَبٌ كَزَغَبِ الصوف ، تطيرُ أيضًا في الهواء ، ولكن بِمَسافات قصيرة ، التي خُلِقَتْ لِتَنتقل عبْر القارّات وعبْر مئات الكيلومترات لها أجنحة ، أما التي خُلقَت لِتَنتقل عبْر مسافات قصيرة فلها زغابات كَزُغابات الصّوف .
ومن البذور ما لها غلافٌ عازلٌ لا تتأثَّر بالماء ، تنتقل عبْر الأنهار ، وعبْر السّيول ، من مكان إلى آخر ، إنّها مغلّفةٌ تغليفًا محكمًا عازلاً ، بحيثُ لا تؤثّر خُصوبة الماء في نموّ الرُّشَيم .
وإنّ من البذور ما لها أشواكٌ تلتصقُ بِذراع بعض الحيوانات لتنتقل من مكان إلى مكان ، وإنّ بعض البذور فيها مادّة لاصقة تلتصقُ بأرجل بعض الطّيور لِتَنتقل عبْر هجرتها من بلادٍ إلى بلاد .
وإنّ من البذور ما هي مودَعَةٌ في غلاف ينفجرُ في بعض الظروف الطبيعيّة فإذا انفجرَ هذا الغلاف تناثرَتْ البذور .
وإنّ من البذور - ولاسيّما البذور الرّعويّة - ما هي موضوعةٌ في محفظة ، والمحفظة فوق لوْلب ، فإذا وقع اللّوْلبُ على الأرض ساهَمَتْ الرّيح في غرسِهِ في الأرض ، ثمّ تنتقل عبْر هذا اللّوْلبُ إلى باطن ، وهذا يتمّ مباشرة من دون تدخل بني البشر .
الشيء الذي لا يُصدّق أنّ بعض النباتات التي تنمو في الصّحراء ، أو تنمو في البادية ، بعض النباتات الرّعوِيّة يزيدُ طول جذرها عن سبعة عشر مترًا نحو أعماق الأرض لِتَمتصّ الرّطوبة منها .
هذا هو خلْق الله ، في أماكن الجفاف ، في أماكن الأمطار القليلة ، حيث الحاجة إلى النباتات الرعويّة تكون الجذور ذات وضْعٍ خاصّ ، إنّها تضرب في أعماق التربة إلى ما يزيد عن سبعة عشر مترًا كي تأخذ الرّطوبة من الأرض ، إنّ لهذه النباتات زغاباتٌ تلتقط الرّطوبة من الجوّ ، هذا هو خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ؟! بذور لها أجنحة ، وبذور لها زغابات ، وبذور لها غلاف عازل للماء ، وبذور لها أشواك ، وبذور فيها مادّة لاصقة، وبذور مودعةٌ في كيسٍ ينفجر في بعض الأحيان ، وبذور تضرب جذورها إلى أبعاد كبيرة كي تأخذ الرّطوبة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ البذار وحدهُ آيةٌ كبرى من آيات الله تعالى ، لذلك عبادة التفكّر لابدّ منها ، كي نعرف الله سبحانه وتعالى .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ارزقنا حجاً مبرورا ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفورا . اللهم اكتب الصحة والسلامة للحجاج والمسافرين ، والمقيمين والمرابطين ، في برّك و بحرك من أمة محمدٍ أجمعين. اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .