وضع داكن
25-04-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 033 - أخلاق المسلم - الغضب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون  القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم... عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:

((يا رسول الله أوصني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تغضب، فردد مراراً أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب ))

 يبدو أن هذا الصحابي حينما كان يقول: أوصني، ينتظر أن تأتي وصيةٌ طويلة، فلما قال الدنيا: لا تغضب، استقلها، فقال: أوصني، قال: لا تغضب، قال أوصني قال: لا تغضب.

 

( رواه البخاري )

 

((عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أوصني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب))

( رواه البخاري )

 هذا الحديث على أنه حديثٌ قصيرٌ جداً، بل إن هذا الحديث هو كلمة واحدة، مسبوقة بأداة نهي، أي فعل مضارع مسبوق بأداة نهي، هذا كل الحديث، لكن بعض العلماء قال: إن هذا الحديث حديثٌ عظيم هو من جوامع الكلم، لأنه جمع بين خَيْرَي الدنيا والآخرة، قد لا ترون هذا واضحاً، كلمة: لا تغضب، تجمع بين خيري الدنيا والآخر ؟
 فهل الطلاق إلا في ساعة غضب، وهل كل الحماقات ترتكب إلا في ساعات غضب، وهل كل معاصي اللسان ترتكب إلا في ساعة غضب، وهل كل الورطات التي يقع بها الإنسان إلا في ساعة غضب، أن يجمع هذا الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري بين خيري الدنيا والآخرة ليس مستغرباً.
 الحقيقة حينما قال أبو هريرة إن رجلاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام، أحاديث أخرى تروي أن هذا الرجل هو أبو الدرداء... فقد أخرج الطبراني عنه، عن أبي الدرداء، قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، أنا مشتاق إلى الجنة، أريد الطريق إليها، أريد عملاً يوصلني إليها، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( لا تغضب ولك الجنة ))

 لا زلنا في دهشة، جنة عرضها السماوات والأرض من وصية واحدة، من سلوكٍ واحد، وهو ألا تغضب، ألم تسمعوا أن الحلم سيد الأخلاق، ألم تسمعوا أنه كاد الحليم أن يكون نبياً، الحليم كاد أن يكون نبياً، وقيل في رواية أخرى، إن هذا السائل هو جارية بن قُدامة رضي الله عنه، فقد أخرج الإمام أحمد عن جارية بن قدامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل عليَّ ـ لا تطول علي ـ لعلي أعقله فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تغضب، فأعدت عليه مراراً وهو يقول: لا تغضب ". علماء الحديث يقولون: لا مانع من تكرار الحادثة بحديث واحد، هذا شيء مقبول في علم الحديث.
 إذاً هذا الرجل إما أنه أبو الدرداء، وإما أنه جارية بن قدامة، الأول قال له النبي: لا تغضب ولك الجنة. والثاني قال: قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله: قال لا تغضب، فأعدت عليه مراراً وهو يقول: لا تغضب، معنى أوصني: دلني على عمل ينفعني، لا تغضب: الحقيقة الغضب ظاهرة نفسية، لكنها ليست إرادية، فكيف يقول النبي: لا تغضب ؟ أنا أغضب دون أن أشعر، أغضب دون أن أدري، إنسان يستفزني فأغضب، كلمة أسمعها فأغضب، موقف مهين يغضبني، فكيف لا أغضب ؟! كيف ينهاني النبي عليه الصلاة والسلام عن شيءٍ ليس إرادياً، الإنسان ينساق له سوقاً ؟
لا تتخذ موقفاً أساسه الغضب، أغضب، ولكن إذا أردت أن تتخذ قراراً فإياك أن تتخذه وأنت غاضب، هذا معنى لطيف جداً، قال:

﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)﴾

( سورة النمل )

 إياك أن تتخذ قراراً وأنت غاضب، تأكد هذا القرار لن يكون حكيماً، ولن يكون سليماً، وليس في صالحك، هذه نصيحة أيها الإخوة: إذا غضبت، ولابد من اتخاذ قرار فقل في نفسك: سأصدر هذا القرار بعد أسبوع، وبعد أسبوع ترى أنك أصبحت إنساناً آخر، في ساعة غضب: والله سأطلقها. أطل بالك، أجل هذا القرار إلى أسبوع واحد، تجد أنك إنسان واحد بعد أسبوع، والله ليس لها قيمة، جيد أننا لم نطلقها، إياك أن تتخذ قراراً وأنت غاضب، معنى لا تغضب، الغضب عمل ليس إرادياً، الإنسان أحياناً يسمع كلمة، فدقات قلبه ترتفع إلى المائة والثمانين، عمل لا إرادي، الغضب لا إرادي، بعد قليل سوف نصل إلى كيف أراد النبي من كلمة لا تغضب، أي ابتعد عن أسباب الغضب، أو إياك أن تتخذ قراراً وأنت غاضب.
من تعاريف الغضب: أنه ثورة النفس التي تحمل صاحبها على البطش والانتقام.
 الآن، تحليل هذا الحديث: بادئ ذي بدء من أخلاق المسلم ؛ الحلم، والحياء، والتواضع، والتودد، والاحتمال، وكفُّ الأذى، والصبر، وكل هذه الصفات تتناقض مع الغضب، من أخلاق المسلم، تقول: ذهب. معنى ذهب، أي يقاوم كل الأعراض من حموضة، من تأثيرات كيماوية، لأنه ذهب، أما لو كان معدن رخيص مطلي بلون الذهب، ضعه في الماء أو في محلول حامضي، يطلع تنك، فإذا قلت مسلم، أي حليم، كيف أن صفات الذهب الثابتة أنه لا يصدأ، ولا يتأثر بالحموض، صنعوا ألماس صناعي، بلغ درجة من الاتقان درجة عالية جداً، حتى أن الخبراء وحدهم هم الذين يفرِّقون بين الألماس الصناعي، والطبيعي، ومع ذلك لو أن امرأةً استعملت هذا الخاتم في الأعمال المنزلية، لانطفأ بريق هذا الألماس بعد حين، إذاً في فرق، إذا قلنا ألماس لا ينطفئ بريقه، إذا قلنا ذهب لا يصدأ، ولا يتأثر بالحموضة، ولا يضعف بريقه أبداً، هذا معنى ذهب.
 أما مسلم، معنى مسلم، فلان مؤمن، أي حليم، إذا قلت الذهب معدن ثمين، والذهب لا يصدأ، والذهب لا يتغيَّر لونه، والذهب لا يتأثر بالحموض، والألماس لا ينطفئ بريقه، هذه صفات ثابتة في هذه المعادن، كذلك المسلم، إذا قلت مسلم أو مؤمن قولاً واحدا هو الحليم، الحيي، المتواضع، المتودد للناس، الذي يحتمل، والذي يكفُّ الأذى عن الناس، والذي يعفو عن المقدرة، والذي يصبر عند الشدائد، وكل هذه الصفات تتناقض أصلاً مع الغضب، كل هذه الصفات.
 شيء آخر: هذا الصحابي الثاني الذي اشتاق إلى الجنة، وطلب الطريق إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تغضب. أي أن عدم الغضب من أخلاق النبوة، عدم الغضب من أخلاق القرآن، كان خُلُقه القرآن..

 

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾

 

( سورة المزمل )

﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾

( سورة فصلت )

﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾

( سورة المؤمنون: من آية " 96 " )

 هذه آيات قرآنية كلها، أخلاق القرآن ؛ عدم الغضب، أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أحدهم قال له: اعدل يا محمد. فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال:

 

(( ويحك من يعدل إن لم أعدل ))

 واحد جذب النبي من ردائه حتى علَّم على رقبته الشريفة، فابتسم وقال: دعوه. فأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام عدم الغضب، أخلاق القرآن عدم الغضب، أخلاق الإيمان عدم الغضب، فالإنسان إذا أصبح حليماً طبعاً وسجية لا تكلفاً، فقد ارتفع إلى مستوى الإيمان، في بدايات طريق الإيمان، إنما الحلم بالتحلُّم ؛ الإنسان يحتمل، من الداخل يغلي غليان، ولكنه من الخارج يضبط أعصابه، هذه في البدايات، لكن بعد مرحلة متطورة في الإيمان، المؤمن يشعر كأنه بحر عميق، كأنه جبل راسخ، كأنه باخرة عظيمة، هذه الأمواج السطحية لا تؤثر فيها إطلاقاً، أما القارب الصغير سريعاً ما يتأرجح لأدني موجة، أما السفينة العظيمة راسخة في مياه البحر، شامخة.
 المعنى الثالث: لا تغضب، إياك أن تعطي نفسك ما تشتهي، أحياناً الإنسان يشتهي يحطِّم خصمه، يشتهي يكيل له الصاع عشرة، يشتهي مزقه، يشتهي ينهش بعرضه، الإنسان البعيد هكذا يشتهي، كلمة: لا تغضب، لا تستجب لدواعي الغضب، لا تستجب لنزوات النفس، لا تجعل نفسك قائداً لك، اجعل نفسك وفق الحق، ربنا عز وجل قال:

 

 

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

 

( سورة آل عمران )

 الكاظمين الغيظ هذه درجة، من الداخل في غليان، من الخارج في كظم، الدرجة الأعلى والعافين عن الناس، من الداخل في مسامحة، الأعلى من هذا وذاك، أنه يحسن لمن أساء إليه..

 

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

 لكن الله يحب أن تواجه المسيء بالإحسان، الإمام أحمد من حديث عبد بالله بن عمر رشي الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله ما الذي يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال:

 

 

(( لا تغضب ))

 إن لم تغضب تبتعد عن غضب الله عز وجل، إذا غضبت وفعلت وتركت، وانتقمت وبطشت، فقد حل عليك غضب الله عز وجل، فإذا أردت أن تبتعد عن غضب الله عز وجل لا تغضب.
 كما قلت قبل قليل: الحلم سيد الأخلاق، كما قلت قبل قليل: كاد الحليم أن يكون نبياً، وهله ترتكب كل الحماقات إلا في ساعة غضب ؟ وهل تُشَتت الأسرة إلا في ساعة غضب ؟ وهل ترتكب الجرائم إلا في ساعة غضب ؟ وهل تفصم الشركات إلا في ساعة غضب ؟ وهل يفرَّق بين الأم وولدها إلا في ساعة غضب ؟ وهل تطلَّق المرأة إلا في ساعة غضب ؟ إذاً لا تغضب، كأن هذا الحديث كما قال عليه الصلاة والسلام جمع بين خيري الدنيا والآخرة.. يا رسول الله ماذا يباعدني عن غضب الله عز وجل ؟ قال: لا تغضب.
 والحسن البصري، هذا من كبار التابعين، يقول رضي الله عنه: "أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار ـ دققوا الآن ـ من مَلَك نفسه عند الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب... من ملك نفسه، هناك إنسان يملك نفسه، وهناك إنسان تملكه نفسه، هناك إنسان يخضع نفسه للحق، وهناك إنسان يريد أن يخضع الحق لنزواته، وهذا شيء مستحيل... من مَلَك نفسه عند الرغبة وعند الرهبة وعند الشهوة وعند الغضب فقد حرم الله عليه النار، وعصمه من الشيطان ".
 الإنسان قد يشتهي، فإذا قال: إني أخاف الله رب العالمين. سعد، وصار بطلاً، فمئات الأجيال يذكرون هذا النبي العظيم، سيدنا يوسف بالخير، لماذا ؟ لأنه ملك نفسه عند الشهوة، أعذب، شاب، وسيم، في قصر العزيز، دعته امرأة العزيز، وليس من صالحها أن يفتضح الأمر، وهي سيدةٌ له، مرة المفسرون ذكروا أكثر من عشرين بند مما يبرر له أن يرتكب الفاحشة، ومع ذلك قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي. فسيدنا يوسف ملك نفسه عند الشهوة.
وذات مرة سيدنا علي ـ كما تذكر بعض الروايات ـ كان يتتبع مشركاً ليقتله في بعض الحروب، فبصق في وجهه، قال: " الآن ربما قتلتك ثأراً لنفسي "، تركه، ملك نفسه عند الغضب.
وعند الرهبة، أحياناً الإنسان خوفه يحمله على اقتراف المعاصي، تنهار قواه، يهدد، فيعصي الله، وهناك إنسان يملك نفسه عند الغضب.
 ولعلكم ظننتم أن حديث شريف رواه البخاري فيه جماع خيري الدنيا والآخرة مؤلف من كلمة واحدة لا تغضب، والدليل أن الصحابي الثاني جارية بن قدامة، لما سأل النبي قال له: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله، قال له: لا تغضب، فأعدت عليه مراراً قال: لا تغضب، قال: أوصني قال: لا تغضب، قال: أوصني، أريد وصية طويلة، وصية كثيرة المعاني، متعددة قال: لا تغضب، معنى ذلك أن الصحابي استقل كلمة لا تغضب، وظنها وصية قصيرة لكنها في الحقيقة وصية ثمينة وعميقة. فمن لم يغضب فقد ترك الشر كله، ومَن ترك الشر كله أدرك الخير كله.
 يروى أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال:

 

 

(( حسن الخلق ))

 هو ألا تغضب إن استطعت، النبي عليه الصلاة والسلام جعل حسن الخلق بتعريفٍ مختصر هو ألا تغضب، سوء الخلق أن تغضب، وأن تبطش، وأن تضرب، وأن يعلو صوتك، وأن تدفع بيديك، وأن تبربر وأن وأن، هذا من سوء الخلق، حسن الخلق ألا تغضب، في الحقيقة، الغضوب ضعيف، وصغير في نظر الناس، والحليم قوي وكبير، هذه كلمات دقيقة، الغضوب صغير ؛ يتهم بالحمق، يتهم بالطيْش، يتهم بالسفاهة، يتهم بالسُخف، يتهم بأنه خفيف، قارب صغير أيَّة موجة تقلبه، أي اضطراب في الماء يزعزعه، لكن السفينة الكبيرة لا تبالي بهذه الأمواج هي راسخة.
 روى البخاري ومسلم في صحيحَيْهِما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( ليس الشديد بالصرعة ـ أي الذي يصرع الرجال، ملاكم من الدرجة الأولى، بطل في حمل الأثقال، بطل في المصارعة الحرة ـ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))

 لذلك قال أحد زعماء بريطانيا قال: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا، فهم بالطبع سخروا البحار، والفضاء، والبر، واخترعوا المركبات والطائرات والصواريخ، والغوصات، ونقلوا الصور، والأصوات ولكن لم نملك أنفسنا، لهذا بعض الفلاسفة قال: الحضارة الغربية أساسها السيطرة على الطبيعة، والحضارة الإسلامية أساسها السيطرة على الذات، السيطرة على الطبيعة تنتهي كل ثمارها عند الموت، لكن السيطرة على الذات تبدأ كل ثمارها بعد الموت، فهذه البطولة، فقد يقولون لك: بئر نفط في بحر الشمال، كيف غاصوا إلى أعماق البحر ؟ وكيف حفروا البئر خمسة آلاف متر تحت سطح البحر، حتى كشفوا النفط ؟ وكيف استخرجوا النفط من أعماق البحار ؟ وكيف نصبوا هذه الأنابيب ؟ وكيف صبوا الإسمنت وسط الماء ؟ فهذا شيء عجيب، السيطرة على الطبيعة، هذه حضارة الغرب، أما حضارة الإسلام السيطرة على الذات.
 الحقيقة الغضب له أضرار كثير، من هذه الأضرار أضرار جسدية، لا أكتمكم وأنا متأكد مما أقول، تكاد تكون معظم الأمراض أسبابها التوتُّر النفسي، أمراض القلب، أمراض الشرايين ؛ في عندنا ضغط دم عصبي، وهناك ضغط دم وعائي، في شرايين متصلبة، عندئذٍ يرتفع ضغط الدم، هذا التصلب لأسباب الكولسترول والتقدم في السن وما إلى ذلك، أما هناك ضغط دم عصبي، أي شدة نفسي، توتر نفسي يرفع الضغط، إذا الإنسان غضب يقيس ضغطه يطلع ثلاثة درجات، وكلما ارتفع الضغط جَهِدَ القلب، فقالوا: ضغط الدم هو ضغط الهم، الذي يؤدي إلى ضغط الدم، فالغضب يؤثر في القلب ووظائفه، وفي الشرايين ومرونتها، أحد أكبر أسباب القرحة في المعدة التوتر النفسي، الآن في آلام بالعضلات، آلام حقيقية، آلام في الكتف، آلام في الخاصرة، آلام في الرجل، هذه الآلام ثبت أنها ليس لها أي أسباب عضوية، بل أسبابها نفسية، فالتوتر النفسي يسبب آلام عضلية، أمراض الحساسبة لها علاقة بالتوتر النفسي، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل الأمراض، ولكنني قانع قناعة لا نهاية لها أن معظم الأمراض أسبابها توتر نفسي، إذاً الذي يغضب معنى ذلك يستهلك نفسه قبل الأوان، يستهلك جسمه قبل أن يستهلك استهلاكاً طبيعياً، هذا التوتر النفسي، هذه الشدة.
 فأولاً: هناك أضرار مادية جسمية، وهناك أضرار خلقية، الغضوب ليس محترماً بين الناس، في أضرار جسمية، في قرحة، في آلام، في أمراض عصبية، في أمراض بالقلب والرئتين، في أمراض حساسية، هذه كلها أسبابها جسمية، الغضب له نتائج سلبية في الجسم والبدن، الغضب له نتائج معنوية ؛ الغضوب ليس محترماً، الغضوب دائماً في عليه غمز ولمز وتهكم وتقليد ومحاكاة وسخرية طبعاً بغيابه، ويتخذ موضوعاً للتسلية، فلذلك الغضوب يفقد احترامه بين الناس، والغضوب يبتعد عن خُلُق المسلم، وعن خُلُق المؤمن، وعن مرضاة الله عز وجل، فهناك أضرار جسمية، وأضرار خُلُقية اجتماعية، وأضرار روحية دينية، كل هذه أضرار فردية.
 أما الغضوب له أضرار اجتماعية ؛ أنت حينما غضبت، وصببت جام غضبك على زيد أو على عُبيد ، فهذا حقد عليك، العنف دائماً لا يولِّد إلا العنف، حينما تغضب على إنسان يقول لك: لا أنساها له، ولا بالموت لا أنساها له، ويبقى الإنسان الذي أغضبته الذي صببت عليه جام غضبك، يبقى سنوات طويلة يفكر في الانتقام منك، إذاً هذا الذي يغضب، ويسب الناس، ويعتدي عليهم، ويجرِّحهم بلسانه، وقد يدفعهم بيده، هذا الإنسان يولِّد أعداء، يولِّد حاقدين، هذه أضراره الاجتماعية.
 لكن في عندنا موضوع دقيق: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا تغضب. كيف لا أغضب يا رسول الله، الغضب ليس عمل إرادياً، عمل لا إرادي ؟ فقال العلماء: لا تغضب بترك أسباب الغضب، فالكبر والتعالي والتفاخر على الناس، هذا يؤدي إلى مواقف سلبية من الناس، هذه المواقف السلبية قد تغضب المتكبر، المتكبر إذا لم ينصع الناس له، لم يخضعوا له ينزعج فيغضب، فأحد أسباب الغضب الكبر والتعالي والتفاخر، فإذا أردت أن يحبك الناس دعك من ذاتك، أنا وأنا، وبيتي، وتجارتي، وأرباحي، وسيارتي، وبناتي، وأصهاري، الحديث عن الذات دائماً يسبب إنكار من قبل الآخرين، فإذا أردت ألا يستفزَّك أحد، وألا يغضبك أحد، وألا ترد على هذا الاستفزاز بغضب شديد ؛ دعك من التكبر، والتفاخر، والتعالي، عندئذٍ يحبك الناس، فإذا أحبك الناس كانت العلاقات فيما بينك وبينهم علاقات طيبة.
 الآن، الهزء والسخرية للآخرين أيضاً هو سبب للغضب، أنت سخرت من إنسان، فكال لك الصاع صاعين، فغضبت، أنت السبب، فأنت سخرت منه، أنت استهزأت به، أنت قرَّعته، أنت استخرفت به، السخرية والهزء بالآخرين يسبب رداً مقابلاً، وعندها ينشأ الغضب، كل مجموعة أصدقاء، إذا في مزاح بينهم، فأغلب الظن أن هذا المزاح ينقلب إلى عداء شديد، أخي مرفوعة الكلفة بيننا، مرفوعة الكلفة صار في عداء.
 الآن كثر المزاح تسبب الغضب، من أسباب الغضب، يمزح مع زوجته، فتمزح هي معه مزاحاً أشد، فيغضب ويقلعها إلي أهلها، أنت الذي بدأت، أنت رافع الكلفة، تمزح، وهي ردت عليك بمزحة أشد طبعاً، لم يتحمل، أنت الذي بدأت، والبادئ أظلم، فأحد أسباب الغضب المزاح، أحد أسباب الغضب الكبر والتعالي والتفاخر، تفتخر، فيفتخر هو أكثر منك، أنا، لا أنا، يتلاسنوا، يتغاضبوا، أو الهزء والسخرية، فالكبر والتعالي والتفاخر، والهزء والسخرية والمزاح في غير حق، النبي كان يمزح، ولكن مزاح لطيف جداً، كان مزاحه صلى الله عليه وسلم يؤلف القلوب يطيب الخواطر.
 الآن، الجدال، هذا القلب الحي، هذا الجدال الطويل مع الناس، قيل وقال وكذا وكذا، هذا يسبب الغضب أيضاً، التدخل فيما لا يعنيك يسبب الغضب، الحرص على معرفة أخبار الناس يسبب الغضب، الحرص على فضول المال والجاه يسبب الغضب، فالحرص على المال والجاه، أن تلتفت لما لا يعنيك، الجدل، المزاح، السخرية، الهزء، الكبر، التعالي، هذه كلها من أسباب الغضب، فإذا قال عليه الصلاة والسلام لهذا الصحابي الجليل: لا تغضب. أي ابتعد عن أسباب الغضب، إن تكبَّرت، هناك من يتكبر عليك فيغضبك، إن استهزأت، هناك من يستهزئ بك فيغضبك، إن تدخلت فيما لا يعنيك، هناك مَن يسكتك، إن أكثرت الجدل، هناك مَن يفحمك، إن تطلعت إلى ما ليس لك، هناك مَن يقسمك. إذاً هذه أسباب الغضب: كبر، تعالي، تفاخر، سخرية، هزء، مزاح، جدل، تدخُّل، حرص على فضول المال والجاه، هذا كله من أسباب الغضب، والغضب يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
 أنأ أقول لكم وأنا أعني ما أقول: تكاد تكون معظم مشكلات الناس، أساسها الغضب، خلاف الزوجة، خلاف بين الشركاء، تكلَّم بكلمة قاسية، هذه الكلمة القاسية سببت كلمة أقسى، أنت ناقش، قل له: هذا العمل غير صحيح، أنا ليس مقتنع به، أما أن تقول: أنت لا تفهم، فهذه أصبحت تجريح، المناقشة شيء والتجريح شيء آخر، الحوار شيء، والسباب شيء آخر، الإقناع شيء وانتهاك كرامة الآخرين شيء آخر، فحينما تترك الإقناع والدليل والبرهان والحوار الهادئ ؛ إلى السباب والشتم والاستهزاز والتقريع، والتحقير والسخرية والاستهزاء، عندئذٍ تنشب معركة، وليس هناك إنسان إلا يقدر يؤذي، ويقدر يزعج، ما في إنسان ليس له أظافر، لو عندك مستخدم، إذا أردت أن تضايقه زيادة، سيتكلم عليك أشكال ألوان بالخارج، سمعتك سيئة، مستخدم، لأن صار في استفزاز.
 هذه القصة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نفهمها من زاوية واحدة ؛ من زاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حليماً، وقد أعطانا دروساً في الحلم، يأتيه رجل مشرك، أراد أن يمتحن حلمه، فهذا الرجل اسمه زيد بن سِعْنَة قبل إسلامه، أراد أن يختبر صفة النبوة في النبي صلى الله عليه وسلم، هو يعلم أن النبي حليم، ويبدو أن هناك تعامل مالي فيما بينهما، فهذا طالب سول الله صلى الله عليه وسلم بدين له، لم يبلغ أجله بعد، بفظاظة وغلظة، فيقابله النبي صلى الله عليه وسلم بكل رحابة صدر، وابتسامة ثغرٍ، سيدنا عمر جالس لم يتحمل، سيدنا عمر غضب غضباً شديداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى عمر يغضب، فيقول لهذا الصحابي الجليل سيدنا عمر:

 

 

(( أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا يا عمر ))

 نحن لسنا محتاجين إلى غضبك، نحن محتاجون إلى شيء آخر، فما هو الشيء الآخر ؟ قال يا عمر:

 

 

(( تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي ـ بلاً من أن تغضب، وجهه لأن تكون مطالبته أديبة، وقل لي: أدِّ ما عليك ))

 هذا درس بليغ لنا، أحياناً الإنسان في شخص يتطاول، ممكن أنت تكون أقوى منه وتبطشه، أما لو علمته درس بالحلم، وقد يكون غير محق، سيدنا عمر بالحق غضب، لأن النبي الكريم كامل، ومعصوم، وله مكانة كبيرة، ولكن غير المؤمن لا يعرف مكانة النبي، أحياناً الإنسان يتمنى من الناس يعاملونه على أنه مؤمن، لا يعرفونك أنك مؤمن، أنت بهذه النقطة قصَّرت، فإذا واحد انتقدك، معه حق ينتقدك، فالنبي عليه الصلاة والسلام اتخذ موقف دقيق قال له: يا عم، أنا وهو لسنا نحتاج هذا الموقف نحتاج تأمره بحسن الاقتضاء، وأن تأمرني بحسن الأداء.
 طبعاً موقف في تعليم ؛ لو إنسان كان لا يعرف مكانتك، لا يعرف قدرك، تجاوز حده، عليك أن تقابله بالحلم، وأن تقابله بالعفو، ومن أدراكم أن هذا الموقف الحليم من النبي الكريم، كان سبب إسلام هذا الإنسان !! فتروي كتب السيرة أن هذا الرجل بهذا الموقف الحليم من النبي عليه الصلاة والسلام، كان هذا الموقف سبب إسلامه رضي الله عنه.
 النقطة التي أود أن أقولها لكم، وهذه قد تعانون منها مع الناس: أنت ابن مؤمن، لك سلوك إلى الله عز وجل، لك جامعك، لك دروس، لك ثقافتك، لك ورعك، لك حبك لله عز وجل، أحياناً بخطأ منك أو بسهو يأتي شخص لا يعرفك، لا يعرف عنك شيئاً، فيحاسبك حساباً دقيقاً، أنت كن له واسع الصدر، من حقه فقد يطلب منك شيئاً كأن يقول لك: أريد هويتك، انظر هذا هويتي، أخي أنت نفسك، يكون شخص يكون له مكانة كبيرة اسمح لنا بالهوية، لماذا تغضب، من حقه ؟ معقول أكذب، أنت لا تكذب لكن غيرك يكذب، في مواقف، فالإنسان يكون بمكان لا أحد يعرفه، لا يعرف بهذه المكانة، فقد يطالب بشيء قد يستفزه هذا الشيء، فالأكمل ألا تغضب، وأن تكون كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان رحب الصدر، واسع الحلم، عظيم القدر، عفواً، مسامحاً.
 النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيِّريه في أي الحور شاء ))

 

(من الجامع لأحكام القرآن: عن " أنس " )

 وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد:

 

((ما كظم عبدٌ لله إلا ملأ جوفه إيماناً ". وفي رواية: أمناً وإيماناً ))

 ما معنى أمن وإيمان، إذا واحد استفزك، وأنت بطشت فيه، لا تنام ليلتك، يا ترى ماذا يفعل معي بكرة ؟ يعمل لي مشكلة بسيارتي ؟ يجوز يعمل لك مشكلة بالسيارة مثلاً، هل يا ترى يقف لي على الطريق، يعمل لي قصة، يعمل لي حكاية ؟ لا تنام الليل، أنت بطشت فيه، لو كنت معه حليم تنام مرتاح، البطَّاش والمنتقم ينام قَلِق، فالنبي الكريم أشار:

 

(( ما كظم عبد لله إلا ملأ جوفه أمناً وإيماناً ))

 الأمن قبل الإيمان، أنت لم تؤذه، كنت حليم، ترفعت عن إيقاع الأذى به، ترفعت عن الانتقام، فما عاد في انتقام من قبله، لكن ما من إنسان يبطش بالآخرين إلا وهو يترقب أن يبطشوا به، أو أن يؤذوه، أو أن يوقعوا الضرر فيه.
 في عندنا شيء آخر: لما الإنسان يغضب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن دائماً وأبداً إياكم أن تفهموا أن هذه الاستعاذة يمكن أن تقبل بلسانك، فهي لا تقبل إلا بقلب حاضر، فإذا غصب، وبدأ يرجف، فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فالاستعاذة مع حضور القلب هذه تزيل كل ألوان الغضب، يروى أن رجلان استبا عند النبي صلى الله عليه وسلم، شخصين عاديين، والنبي كان ماشي بالطريق، وتساببوا، يسب صاحبه مغضباً قد أحمر وجهه، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))

 

( من مختصر تفسير ابن كثير، للإمام الصابوني )

 أنا سمعت عن بعض الأشخاص ـ ولا أدري ما صحة ذلك ـ إذا كان في خناقة في الطريق يؤذن، إذا قال: الله أكبر. يهرب الشيطان، الشيطان داخل فيهم، فالأذان أحياناً يهرب الشيطان، إذا رأيت اثنين ضايجين استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: الله أكبر. فلعل هذا الشيطان الذي دخل بينهما يخرج.
 الآن، في عندنا عدة حالات النبي الكريم أوصانا بها إذا غضبنا، أول شيء: أن تغير حالتك، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

(( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فيضجع " الواقف يتحرك، اقعد ارتاح، ما زلت ترجف، تسطح، اجلس واضطجع، الواقف يريد أن يتحرك، يريد يكسر، يطبش، طول بالك، قال النبي الكريم: " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب ذهب وإلا فليضجع "))

 

( من الجامع لاحكام القرآن: عن " أبي ذر " )

 الآن، ترك الكلام، هذه نصيحة لوجه الله: طلع خلق الزوجة فاسكت أنت، لأن منك كلمة الآن وهي تغلي غليان، فلو قال لها: ما عجبك. تجبه: ما بدي هذا البيت، اسكت، إذا غضبت اسكت، وعلمها إذا غضبت هي كذلك تكست، فالنبي الكريم علمنا قال: ترك الكلام، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود:

 

(( إذا غضب أحدكم فليسكت ))

 والإنسان غضبان أي كلمة تقولها كأنك تصب على النار الزيت، إذا قلت: أشهد ألا إله إلا الله، لا يتحمل، أحياناً تكون الزوجة غاضبة فيقول لها: الله عز وجل جعلنا قوَّامين عليكن. فتكردس، لا تستخدم الأحاديث لمصلحتك وهي غضبانة، أبعد عنها، فهي ليست بعقلها الآن، تخليها توقعها بكلمات كفر، كل شيء ممكن يزوِّد الغضب وقف عنه، هذا التوجيه الثاني، إذا غضب أحدكم فليسكت.
 وفي نصيحة ثانية: إذا كانت الشغلة كبرانة اطلع من البيت كله، غادر البيت، الوضوء أيضاً، الوضوء يخفف من الغضب، النبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

 

(( ألا إن الغضب جمرة تتوقد في قلب ابن آدم فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"))

 

 حميان الموتور يحتاج لتبريد، كثير غضبان صب ماء، إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار فإذا غضب أحدك فليتوضأ.

 في أول الدرس في أخ ذكرنا، أن في غضب لله عز وجل، هذا محمود، هذا محمود جداً أن تغضب لله، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه، كان له عرق ينبض، كان يغضب لكن المؤمن لا يغضب إلا لله، إلا إذا انتهكت حرمات الله، إلا إذا اعتدي على إنسان ظلماً، إلا إذا رأى إنساناً محروماً، إنساناً مهضوم الحق، فكان يغضب عليه الصلاة والسلام، هذا الغضب المحمود.
 وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه: كان لا يغضب لشيءٍ، فإذا انتهكت حرمات الله عز وجل، فحينئذ لا يقوم لغضبه شيء. هذا الصاحب، أحد الأدباء قال:
 لي صاحب كان من أعظم الناس في عيني وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، إذا واحد سلطان بطنه قوي عليه يغضب من أجل بطنه، فكان لا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة، فلا يتكلم بما لا يعلم، ولا يماري بما علم، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا تكلم بذ القائدين، وكان يرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً، المؤمن بالمظهر آدمي، درويش، أما إذا انتهكت حرمات الله عز وجل، صار إنسان آخر ؛ يغضب لله.

 

 

((كان لا يغضب لشيء، فإذا انتهكت حرمات الله عز وجل فحينئذٍ لا يقوم لغضبه شيء ))

 

 

( رواه البخاري ومسلم )

 الآن سؤل: إذا الإنسان غضب وخالف السير، هل يعد غضبه ملغياً للمخالفة ؟ لا، بالقوانين الغضب لا يعفيك من المسؤولية، كذلك في الدين الغضبان مسؤول عن تصرفاته، إذا كنت في محل تجاري وغضبت وأمسكت بحاجة وكسرتها، تفضل ادفع ثمنها، أنا كنت غضبان، ما في كنت غضبان، الغضبان يدفع ثمن غضبه، فالغضبان مسؤول عن تصرفاته، فإذا أتلف الإنسان حال غضبه شيئاً ذا قيمة لأحد فإنه يضمن هذا الشيء لصاحبه، وإذا قتل نفساً فإنه يقتل ولو كان غاضباً، وإذا تلفَّظ بالكفر حُكم بردته عن الإسلام حتى يتوب، غضب فسب بالدين وسب الأنبياء كلهم، وإذا كنت غضبان، المؤمن في عنده مليون حاجز قبل أن يصل لهذا المستوى، فالإنسان ولو كان غضبان وتلفظ بكلمات الكفر يحاسب عليها حساباً عسيراً، وإذا طلق الغضبان، يقع طلاقه ؟ يقع، أما هذا الطلاق الذي لا يقع حالة من الغضب لا تقع بالمليون مرة مرة وهي ألا يعرف السماء من الأرض، إذا واحد غضبان إذا ما عرف الأرض من السماء، ولا الطول من العرض، هذه الحالة نادرة جداً، أما أكثر الذي يطلقون بساعة غضب، واعي هذا سقف وهنا الأرض تحت.
 آخر شيء في الدرس هو: أن الإنسان أحياناً يحتاج في قيادة بعض الأمور إلى أن يتغاضب، فالغضب شيء، والتغاضب شيء آخر، العقلاء يتغاضبون، مرة قيل لسيدنا عمر: أنك شديد، والناس يهابونك، فبكى وقال: " والله يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عبائتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى " أحياناً الإنسان يحتاج يتغاضب، أي يعمل حاله غضبان، وأنت صعب تعرف غضبان أما متغاضب، لأنه صعب تجد الفرق بينهما، فالعاقل إذا كان بموقع قيادي، إذا كان ناعم زيادة لا أحد يسمع كلامه، ففي حالات من التغاضب هذه محمودة، أما من الداخل هادئ، من الداخل متملِّك لأمور تماماً، يتغاضب، مرة سيدنا رسول الله اللهم صلي عليه عيَّن سيدنا أسامة بن زيد وهو في سن صغيرة جداً، سبعة عشر عاماً، عينه قائداً على جيش فيه أبو بكر وعمر، وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الجيش لم يرسل بعد، أراد سيدنا الصديق أن ينفذ بعث أسامة، وينفذ مشيئة النبي بعد وفاته، فرأى الصحابة تململوا، غير معقول سبعة عشر عاماً بالحادي عشر، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كبار الصحابة، شيوخ كبار، ويقودهم سبعة عشر عاماً؟ فالصحابة تململوا، كأن ما في داعي الجيش يطلع الآن في حرب ردة، فسيدنا الصديق، هم همسوا بأذن سيدنا عمر قل له صاحبك يسمع كلامك، فجاء عرض له رأيه، فيقول سيدنا الصديق، أمسك عمر بن الخطاب من لحيته، وهزها هزاً شديداً، كادت تنخلع بيده قال: " ثكلتك أمك يا ابن الخطاب جبار في الجاهلية خوار في الإسلام، أتمنعني أن أجيِّش جيشاً جيشه رسول الله ؟! ". هذا غضب أم تغاضب ؟ هذا تغاضب، المؤمن كالبحر، لكن في مواقف تقتضي أن يظهر غاضباً، فالصحابة لما رأوا سيدنا عمر هزت ذقنه، فسكتوا، وانصاعوا، ومشي الأمر، في مواقف كثير جداً الإنسان يحتاج إلى أن يتغاضب، وإلا القيادة تحتاج إلى شدة، اللين أحياناً لا يجدي، لابد من الشدة، أو الأصح أن تكون حكيماً، أن تكون شديداً في موضع الشدة، وأن تكون ليناً في موضع اللين، في مواقف لابد لها من الشدة.
 يقولون أن سيدنا رسول الله وقع ذات مرة أسير بين يديه، فترجاه وطلب العفو وعنده بنات، فعفا عنه النبي، وطبعاً بعد أن عفى عنه، وعاد إلى أهله وإلى قريش، عاد إلى سيرته الأولى، نكَّل بأصحاب النبي، وقاتلهم، وهجاهم، لم يتب إطلاقاً، ولكنه وقع مرة ثانية أسيراً، فأعاد الكرة، قال: " لا والله، اقتلوه، لئلا تقول: خدعت محمداً مرتين " في مواقف لا يجب أن تكون ليِّن، متساهل، عندئذٍ ينتهي الأمر، فنحتاج إلى شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف، لا تكن قاسياً فتكسر، ولا ليناً فتعصر، إذاً التغاضب غير الغضب، في أحد المفكرين والمصلحين، له كلمة قال: أنا أرضي أعدائي ولا أسترضيهم. الاسترضاء فيه تذلل، فيه خنوع، فيه بهدلة، أما يرضيهم بأفعاله، ولا يسترضيهم بأقواله.

((لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان))"

 ملخص الدرس: كاد الحليم أن يكون نبياً، والحلم سيد الإخلاص، وهذه أخلاق المسلم، وأخلاق المؤمن، وأخلاق النبوة، وأخلاق القرآن، ثم من صفات المؤمن الحلم، أما الغضب والصياح، والضجيج، والضرب والمُشادة، هذه صفة عامة الناس وسوقتهم ودهمائهم، أما الخاصة من المؤمنين هو في موقع أرقى بكثير من أن يغضب، أنا أذكر حينما كنت طالباً في المدارس كان في مدرس غضوب، فالطلاب يستفزوه، يضعوا له على الطاولة شيء مزعج، يدخل يغضب ويزمجر، ويطلب، جاء مرة مدرس آخر كان هادئ جداً، وضعوه له أشياء مزعجة على الطاولة قال: أين العريف ؟ أطلب الآذن، وأمره بأن يرفع هذه الأشياء، لم يسترج طالب يعيدها معه، هذا الموقف الهادئ أنهى الموضوع، أما الذي يصخب ويضوج الناس يضوجوه بزيادة، فالإنسان يكون هادئ حتى يسكت الألسنة كلها.

تحميل النص

إخفاء الصور