وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0189 - ذكرى المولد4 - محبته صلى الله عليه وسلم - المجرات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

ذكرى المولد : محبته صلى الله عليه وسلم .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ في الخطبتين السابقتين تحدثت عن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام ، وعن عدالته ، واليوم نتحدث عن محبته صلى الله عليه وسلم .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ المرء إنْ لمْ ينطوِ على قلب ينبض بالمحبة ، فهذا الإنسان لا ينتمي إلى بني الإنسان ، إن لم تشعر برغبة في أن تحب ، وإن لم تسع إلى أن تُحَب ، فلست من بني البشر
 النبي عليه الصلاة والسلام كان رسول المحبة ، أحب اللهَ كثيرا لذلك أطاعه طاعةً تامةً ، أحبَّ الناس كثيرا لذلك دعاهم إلى ما يسعدهم ، أحب الخلق كافة لذلك عطف على كل مخلوق ، أعماله ، و أقواله ، وتصرفاته ، إنما كانت صادرةً عن محبته لله ، ومحبته للخلق ، ومحبته للبشر .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ذات يوم أقبل عليه رجل فضٌّ ، لم يكن قد رآه من قبل ، غير أنه سمع أن محمدا يسب آلهة قريش والقبائل كلها ، فحمل سيفه وأقسم ليُسَوِّين حسابَه مع محمد ، والتقى هذا الرجل الغاضب بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بدأ في حديثه عاصفا ، مزمجرا ، والرسول عليه الصلاة والسلام يبتسم ، وتنطلق مع بسماته أنوار النبوة ، وما هي إلا لحظات حتى انقلب هذا الرجل إلى محب ، يكاد من فرط الوجد والحياء يذوب قلبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتَّجه إلى يدي النبي عليه الصلاة والسلام يقبلهما ودموعه تنحدر من عينيه ، ولما أفاق قال يا محمد والله لقد سعيت إليك ، وما على وجه الأرض أبغض إِلَيَّ منك ، وإني لذاهب الآن وما على وجه الأرض أحب إليَّ منك ، حادثة غريبة يصعب تفسيرها ، أتاه وهو ينطوي على بغض شديد ، وانصرف منه ، وقد امتلأ قلبه بالمحبة الآسرة ، ما تفسير ذلك ؟ بعضهم يفسر هذه الحادثة بأنه لمَّا التقى النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، وتوجه إليه رأى محبته للبشر كافة ، حينما صافحت نفس هذا الأعرابي النبيَّ عليه الصلاة والسلام وجده مُحِبًّا ، إذا أردت أن يحبك الناس فأحبهم أنت أولا، أحبهم كي يحبوك ، ولن يحبوك قبل أن تحبهم ،النبي عليه الصلاة والسلام أحب الناس كافة ، لذلك بعثه الله إلى الناس كافة ، بعثه الله عزوجل إلى جميع الخلق ، كان حبيب الحق وهاديا للخلق .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ ذات يوم وهو في الطائف ، حديث عهد بدعوته ، سَلَّط عليه أعداؤه بعض السفهاء ، لقد جاشت نفسه ، رموه بالأذى ، سفهوا دعوته ، ردوا نبوته ، كذبوا قوله أغروا به سفهاءهم ، وقد جاءهم من مكة إلى الطائف ، جاشت نفسه ، وظهر ما في نفسه من حبٍّ للخلق كافة ، ورفع بصره إلى السماء وقال : يا رب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.
 ما الذي حجزه عن أن يسمح بإهلاكهم ؟ مَحبتُّه للخلق ، أحبَّ الخلقَ ، ولن تستطيع أن تكون هاديا للناس إلا إذا أحببتهم ، إلا إذا استوعبتهم ، إلا إذا احتويتهم ، إلا إذا قدَّرْتَ ظروفَهُمْ ، إلا إذا أردت إسعادهم .

محبته لله تعالى .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ذات يوم يدخل على ولده الحبيب إبراهيم وهو مسجًّى في فراش الموت ، يتدفق حنان محمد صلى الله عليه وسلم ، غامرا مفيضا ، فلا يزيد على أن يقول وعيناه تبكيان :

(( تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبّ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن أسماء بنت يزيد ]

 أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام رأوا القمر قد خُسِف ، وظنوا أن هناك ارتباطا بينهما ، بين خسوف القمر وبين موت إبراهيم ، بلغ ذلك النبيَّ فقال :

(( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ))

[ رواه البخاري]

 محبته لله عزوجل طغت على عاطفة الأبوة ، أراد أن يفصل بين هذه الظاهرة الكونية وبين أن تُتّخذ دليلا على قدسية النبي عليه الصلاة والسلام ، إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر ، والشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت واحد ولا لحياته .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ لا شيء يؤكد المحبة كالإخلاص ، لذلك إذا أردت أن تكتشف ما إذا كنت محبا لله عزوجل ، فامتحن إخلاصك له ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))

[رواه أبو داود]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا شيء يفسد المحبة كالنفاق ، والرياء ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويستعيذ به من النفاق ، ومن الرياء ، ومن سوء الأخلاق ، وكان يقول :

(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالَ الرِّيَاءُ ))

[رواه أحمد ]

 الرياء شرك أصغر ، يقول الله عزوجل إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟!
 الشرك ، والنفاق ، والرياء ، هذه كلها تفسد المحبة ، وأثمن ثروة تملكها أن يحبك الله ورسوله ، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: والله يا معاذ إني لأحبك.
 إذا حَظِيتَ بمحبة الله ، ومحبة رسوله ، ومحبة أهل الحق ، فهذه ثروة كبيرة لا تُقدَّر بثمن ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة من خردل من رياء .
 إذًا الرياء ، والشرك الأصغر ، والنفاق ، وعدم الإخلاص ، هذا كله يفسد محبة العبد لربه ، هذا عن محبة النبي عليه الصلاة والسلام لله ، فماذا عن حبه للناس ؟

 

محبته للناس .

 أحب الناس جميعا ، لذلك كافأه الله عزوجل بأن جعله نبيا للناس جميعا ، ورسولا للناس جميعا ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ))

[رواه أحمد ]

 إلى الناس كافة ، وفي حديث آخر : بعثت إلى الناس كافة ، ويدعو النبي عليه الصلاة والسلام ، يدعو الناس إلى أن يحب بعضهم بعضا ، بل يجعل من الحب آية للإيمان ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ))

[ رواه أبو داود ]

 والنبي عليه الصلاة والسلام يدعو أصحابه الكرام إلى أن يعبروا عن محبتهم لبعضهم بعضا ، جليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ :

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ - وقد مر رجل -إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمْتَهُ قَالَ لَا قَالَ أَعْلِمْهُ قَالَ فَلَحِقَهُ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ ))

[رواه أبو داود]

 وقد وضع النبي عليه الصلاة والسلام توجيها ثابتا فقال :

(( إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ ))

[الترمذي]

 وكان يقول :

(( إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَمِمَّنْ هُوَ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ ))

[رواه أبو داود]

 يسأله ذات يوم سيدنا أبو ذر رضي الله عنه يقول : يا رسول الله ما شأن الرجل يحب القوم ، ولا يستطيع أن يعمل عملهم ؟
 قال الإمام الشافعي :
 أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفـاعة
 وأكره من بضاعته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
 هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، أنت مع من تحب ، ليكن أحدنا عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ، فالمحبة تقود صاحبها إلى الدرجات العلا ، المحبة تقود إلى الاستقامة ، المحبة تقود إلى فعل الخيرات ، المحبة ترقى بصاحبها إلى أرقى الدرجات .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ قَالَ هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا ))

[رواه أبو داود]

 يعني الإنسان أحيانا ، يحب أقرباءه بدافع فطري ، و قد يحب من ينفعه بدافع شهواني ، أما أن تحب أخا في الله لا تربطك به قرابة ، ولا نسب ، ولا مصلحة ، ولا تعامل ، ولا درهم ، ولا دينار ، فهذه المحبة خالصة لوجه الله عزوجل ، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء فقال :

(( فَوَ اللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ))

[رواه أبو داود]

 حتى إن الحب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل ، والبغضاء مشتقة من المحبة ، فَلأَِن النبي عليه الصلاة والسلام يحب الله ، يبغض أعداءه ، لأنه يحب الطائعين يبغض العصاة ، لأنه يحب المؤمنين يبغض الكافرين ، البغضاء يجب أن تنطلق من المحبة ، لأن المحبة هي الأصل .

 

توجيهات نبوية عن المحبة .

 لكن النبي عليه الصلاة والسلام يعطي توجيها دقيقا ، يقول:

(( أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا ))

[رواه الترمذي]

 ولحرص النبي عليه الصلاة والسلام ، لحرص النبي على تمتين أواصر المحبة بين الناس ، سنَّ آدابا اجتماعية غاية في الأهمية ، فقال عليه الصلاة والسلام :

(( إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ))

[رواه أحمد]

 من آداب الصحبة ، من آداب العلاقات الاجتماعية ، أننا إذا كنا جميعا فلا يتناجى اثنان دون ثالث ، فإن ذلك يحزنه .
 من الآداب الاجتماعية التي تسبب النفور .

(( لا يُقيمنَّ أحَدُكم رجلاً من مجلسه ، ثم يجلسُ فيه ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

 أن تقول لفلان قم لأقعد مكانك ، هذا يسبب إحراجا ، يسبب استهانة بمكان الآخر ، نهى النبي عليه الصلاة والسلام :
 أن يُقِيمَ الرجلُ أخاه ليجلس مكانه .

(( لا يقيمُ أحدُكم أخاه من مجلسه ، ثم يجلسُ فيه ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

 شيء آخر ، لا يحل لرجل أن يجلس بين اثنين إلا بإذنهما ، كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا يُجْلَسُ بين رجلين إِلا بإِذنهما ))

[ أخرجه أبو داود ]

 ومن دواعي المحبة ، إفشاء السلام بين الناس ، فكان عليه الصلاة والسلام يكثر من السلام على الناس ، كان يسلم على الصبيان ، أمرنا بإفشاء السلام ، وبذل الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، حتى ندخل الجنة بسلام ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ ))

[رواه الترمذي ]

 قل السلام عليكم ،يذهب عنك الشيطان ، يذهب عنهم الشيطان ، تحل المودة والوئام ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام :ثلاث يُصفين لك وُدَّ أخيك ، تسلم عليه إذا لقيته .
 وكان يقول عليه الصلاة والسلام :

(( تصافحوا يذهبِ الغِلُّ ))

[ أخرجه الموطأ ]

 تصافحوا يذهب الغل من قلوبكم .
 والوفاء ممَّا يديم المحبة بين الناس ، فالوفاء عنوان المحبة ، والمحبة دليلها الوفاء ، والوفاء والمحبة لا يفترقان .
 ذات يوم زارته بالمدينة المنورة سيدة عجوز ، فخف عليه السلام للقائها ، في حفاوة بالغة ، وأسرع فجاء بُبردته ، وبسطها على الأرض لتجلس عليها ، وبعد انصرافها سألته السيدة عائشة عن سر هذه الحفاوة البالغة ، فقال : هذه كانت تزورنا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان .
 الوفاء دليل المحبة ، بل إنه صُورُ المحبة ، وأمَّا الخصام الذي يبدو بين الناس ، فهو الذي يفتت المحبة ، وهو الذي يذهبها ، فكان عليه الصلاة والسلام يقول :

(( كَفَى بِكَ إِثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا ))

[الترمذي ]

 و :

(( مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ))

[أحمد]

 ما لي أسمع أن فلانا خاصم فلانا سنتين ، ولم يتكلما وكلاهما مسلم ، من هجر أخاه سنة كان كسفك دمه ، والخصام قد يتأتّى من المشاحنة والمماراة ، والجدل المُغْرِض ، لذلك مرَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام ذات يوم بأربعة من أصحابه ، هم أبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك ، رآهم يتجادلون ، ويتمارون في أمر من أمور الدين ، فغضب عليه الصلاة والسلام غضبا شديدا ، ثم قال : مهلا يا أمة محمد ، إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء لقلة خيره .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مما يديم المحبة ويجعلها مستمرة ، أن تقبل العذر من أخيك ، قال عليه الصلاة والسلام :من أتاه أخوه متنصلا ، فليقبل منه ، محقا كان أو مبطلا.
 شرار الخلق هم الذين لا يقبلون معذرة ، إن أحسنت لم يقبل ، و إن أسأت لم يغفر ، إن رأى خيرا كتمه ، وإن رأى شرا أذاعه ، كان يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا ))

[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط والصفير ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ أحبوا الله لِمَا يَغْذُوكم به من نعمه ، أحبوا نبيه عليه الصلاة والسلام ، لأن محبته عين محبة الله عزوجل ، أحبوا إخوانكم المؤمنين فهم أجنحتكم ، أحبوا الناس كافة ، وهذا واجبٌ على كل مسلم أن يحب الناس كافة ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))

 ومن بعض الأحاديث التي وردت في كتب الأحاديث : ألا لا إيمان لمن لا محبة له.
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا أعلا في المحبة ، تروي كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلا بيده خاتم من الذهب ، فأشار النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزعه من يده ، فما كان من هذا الرجل إلا أن يلقيه على الأرض توًّا ، وحلف ألا يأخذه بعد ، وبعد أن طرح على الأرض ، وقال له بعض من معه لقد مضى رسول الله إلى شأنه فخذ هذا الخاتم ، وانتفع بثمنه ، فقال هذا الرجل والله لا آخذه أبدا ، يعني لأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا الرجل أن ينزعه من يده ، ولم يرض النبي أن يتحلى هذا الإنسان بخاتم ذهبي ، ألقى الخاتم على الأرض ، ورفض أن ينتفع بثمنه وفاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أعطى نفسه هواها ، و تمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين

***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمدا صاحب الخلق العظيم ، للهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المجرات :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلمة المجرات نسمعها كثيرا ، ونقرأ عنها الشيء الكثير ، ولكن الحقائق التي اكتُشِفت حديثا ، تكاد لعظمتها لا تُصدق ، قالوا المجرات أيها الإخوة ، جزر كونية هائلة تكَوِّنُ وحدات الكون الأساسية ، في المجرات غبار كوني ، وسدم ، ونجوم ، وكواكب ، ومذنبات ، ونيازك ، وشهب ، ومجالات مغناطيسية كهربية عنيفة ، كل هذا في المجرّة الواحدة والشيء الغريب ، أن أكبر مرصد على وجه الأرض ، رصد ألف مليون مجرة ، ألف مليون ، بينما بالعين المجردة لا نرى إلا ثلاث مجرات ، إذا نظرنا إلى قبة السماء نرى درب التَّبَّانة ، ومجرة ماجلان الصغرى ، والكبرى ، بينما المراصد الكبيرة رصدت ما يزيد عن ألف مليون مجرة ، بل إن تقديرات العلماء أن في السماء مليون مليون مجرة ، وفي كل مجرة بالرقم الوسطي ، ما يزيد عن ثلاث مئة ألف مليون نجم في كل مجرة ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى حينما قال :

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[سورة الواقعة الآيات : 75-76]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
 اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .

تحميل النص

إخفاء الصور