وضع داكن
26-04-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 025 - حديث من دعا إلى هدى – أحكام البيع2 - صور من مواقف علي بن أبي طالب3
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  تمهيد :


أيها الإخوة المؤمنون؛ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحضُّ على فعل الخير، والتي تحض على هداية الناس، حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى, كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا, وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ, كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شَيْئًا ))

[ أخرجه مسلم ]

الحقيقة: أن هذا الحديث، والنبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وما دام هذا الحديث الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، جاء به عن ربه، فيجب أن نستبشر أن كل من دعا إلى هدى؛ لو دعوت إنساناً إلى طاعة الله، أعماله كلها التي يفعلها في حياته, إنما يكتب لك أجر مثلها من غير أن ينقص أجره شيئا، فالإنسان حينما يتكلم، حينما يقنع الناس بشيء، حينما يوضح لهم فكرةً، حينما يغريهم بفعلٍ ما، هذا شيء خطير جداً، إن دعوتهم إلى معصية، هذه المعصية كتبت في صحيفتك، من فعلها إلى يوم القيامة، لأن الإنسان الذي دل عليها, سيتحمل إثم فاعلها، ومن فعلها بتوجيه فاعلها إلى يوم القيامة.

قد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه، ولكن كرم الله سبحانه وتعالى لا يعرفه عامة الناس، فمن أحيا نفساً, فكأنما أحيا الناس جميعاً، لو أن الله سبحانه وتعالى قدر على يديك, أن تنقذ إنسان من الضلال؛ كان ضالاً، كان تائهاً، كان حائراً، كان شقياً، كان منحرفاً، عرَّفته بالله عز وجل، حملته على طاعته، دللته على طريق التقرب إليه، فعل هذا الإنسان هذه التوجيهات, فسعد بالله، حينما أزمع أن يتزوج، بحث عن امرأة مؤمنة، أسس بيتاً إسلامية، جاءته ذريةٌ صالحة، زوَّج بناته من شباب مؤمنين، هذه الأسرة وما يَنْسُل منها من ذرية صالحة إلى يوم القيامة، وأعمال كل هذه الأسرة الصالحة في صحيفة التي دل الزوج على هذا الهدى.

فحينما تتاجر, لا تنسى أن ربح مئة بالمئة ربح فاحش، فما قولك إذا تاجرت مع الله عز وجل، فإن الأرباح التي سوف تأتيك, لا يمكن أن يعقلها إنسان، إن كل إنسان دعوته إلى الله، إن كل إنسان دللته على الخير، إن كل إنسان أغريته بطاعة الله، إن كل إنسان حملته على الاستقامة، إن كل إنسان نصحته بأن يقف عند حدود الله، إن كل مَن اتبع نصيحتك, وائتمر بأمر الله عز وجل، إن أعماله كلها في صحيفتك، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً.

فهل من الممكن مثلاً بالحياة العامة أن تدل إنسان على تجارة، وهذه التجارة تنمو وتنمو وتَنمو، فأصبح رصيد هذا الذي دللته على هذه التجارة مئة مليون، أيعقل في حياتنا العامة, أن يسجل لك في حسابك مائة مليون, من دون أن ينقص من حساب هذا التاجر, الذي دللته على هذه التجارة شيئاً؟ هذا شيء مستحيل، لو دللت عشرين تاجرًا على تجارة رابحة، أيعقل أن تسجل لك في صحيفتك في الحساب كل أرصدة هؤلاء التجار؟!!.

هذا الواقع، هذا الذي جاء به النبي، فهذا اللسان, قبل أن تغري إنسان أن يفعل هذه المعصية، قبل أن تغري إنسان أن يذهب إلى هذه النزهة التي لا ترضي الله، قبل أن تغري إنسانًا أن يسافر إلى هذا البلد، هل تدري ماذا سيكون في هذا السفر؟ لا تنصح أحداً إلا بالهدى، لا تنصح أحداً إلا بطاعة الله عز وجل، لا تدع أحداً إلا بخير، لأنك إذا دعوت إلى خير, كان لك مثل أجر هؤلاء الذين فعلوا الخير, من دون أن تنقص أجورهم شيئا, قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)﴾

[ سورة الصف ]

تجارة, قال تعالى:

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾

[ سورة الصف ]

لو أن الإنسان تجارته رابحة جداً، ومعه أرصدة كبيرة، إذا جاء ملك الموت ترك كل هذا المال، ولكنه إذا تاجر مع الله عز وجل, فإن أرباحه كلها تجيَّر له للآخرة، أرباحك في الدنيا تبقى في الدنيا، إذا غادر الإنسان البيت، يبقى ماله في البيت، ويرافقه الأهل إلى شفير القبر، بعض ممن يلوذ بك, يرافق المتوفى إلى شفير القبر، وبعض ممن يلوذ بالميت, يبقى في البيت، فإذا دخل إلى القبر, لا يدخل معه إلا عمله الصالح، المال يبقى في مكانه، له بناء، له أرض، له مزرعة، المال يبقى في مكانه، والمشيِّعون يقفون عند شفير القبر، ولا يدخل معه في القبر إلا عمله، إذا تاجرت مع الله عز وجل, إن كل الأرباح معفاةٌ من الضرائب، وسوف تنتقل معك إلى الدار الآخرة، فتسعد بها إلى الأبد.

اليوم الذي يمضي من دون أن تتعرف إلى الله معرفة جديدة، ومن دون أن تعمل عملاً صالحًا, يكون لك زاداً لك في الآخرة، فهذا اليوم يوم خاسر، ولو رأيت الغلة كبيرة جداً، يوم خاسر، هذه السورة القصيرة:

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

إذا خلا اليوم من معرفة بالله، وعمل صالح، ودعوة إليه، وصبر على الأذى، ففي هذا اليوم خسارة كبيرة.

  

إذاً : من دعا إلى هدى ... 


ادعُه إلى كتاب الله، ادعه إلى سنة رسول الله، ادعه ليقف عند حدود الشرع، مر بالمعروف، انه عن المنكر، دله على مجلس علم، دله على عمل صالح يتقرب به من الله عز وجل، إن كل عمل يفعله هذا الذي دعوته في صحيفتك، ومثل هذا المبلغ يسجل في حساب فلان، ومثل هذا المبلغ يسجَّل في حساب فلان، إذا جاءك من فلان مبلغ، ومن فلان مبلغ، يصبح لك رصيدٌ كبير، لذلك أربح تجارة أن تتاجر مع الله، والله سبحانه وتعالى حينما تتاجر معه, يحب أن تربح عليه، بخلاف ما لو تاجرت مع إنسان, إذا تاجرت مع إنسان، فهذا الإنسان يحب أن يربح منك، ولكنك إذا تاجرت مع الله, فالله سبحانه وتعالى يحب أن تربح عليه، قال تعالى:

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾

[ سورة البقرة ]

أضعافاً كثيرة، أرباح فاحشة، بالمائة مليون، بالمائة مائة مليون، بالمئة ألف مليون ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ) أيّ عمل صالح يعد قرضاً حسناً لله عز وجل، سيدنا سعد بن أبي وقاص حينما قال:

ثلاثة أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك, فأنا واحد من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله, إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى

وهذا حديث من رسول الله، فلنعلم علم اليقين: أنه حق من الله تعالى، لذلك دُل الناس على الخير، ادعهم إلى مجالس العلم، عرفهم بربهم، أعنهم، استجلب قلوبهم، ليِّن قلوبهم بالإحسان إليهم، ذلل طريق الهدى بإكرامهم، قدِّم لهم خدمة حقيقية، اخدمهم في دنياهم، حتى يستمعوا إليك، حتى يصغوا إليك، هذه التجارة الرابحة، هذه الصنعة صنعة الأنبياء، من أجرى الله على يديه الخير, فهذا عز عظيم، إذا أردت أن تعرف مقامك, فانظر فيما استعملك.

 

أحكام البيع والشراء.


والآن إلى متابعة بحث البيوع الذي بدأناه قبل دروس عدة، نحن في الدرس الماضي, وصلنا إلى شروط انعقاد البيع، التي لو اختل أحدها, لبطل البيع، ومعنى أن البيع باطل, أي لا يمكن أن يقوم، عندنا بيع منعقد، وعندنا بيع صحيح، وعندنا بيع لازم، وعندنا بيع نافذ، فهناك شروط انعقاد، وشروط صحة، وشروط لزوم، وشروط نفاذ، شروط الانعقاد منها ما يتعلق بالمتبايعين، منها ما يتعلق بصيغة البيع، منها ما يتعلق بمكان البيع، منها ما يتعلق بالمبيع نفسه، هذا تحدثنا عنه في الدرس الماضي، وأما شروط صحة البيع: فهو موضوع هذا الدرس إن شاء الله تعالى.

 

من شروط صحة البيع.

 

1- التأبيد :

التأبيد وعدم التوقيت، بيع مؤَقَّت: هذا لو أنك بعت شيئاً لزمنٍ محدود، فهذا بيع فاسد، كيف يصحّح؟ بأن تجعله إلى الأبد، من شروط صحة البيع؛ التأبيد، بعتك هذا الكتاب لشهر، هذا لا يجوز، إذا بعت هذا الكتاب فدائماً، لذلك بيع العين لا يجوز فيه التوقيت، ولكن بيع المنفعة يجوز فيه التوقيت، كأن أجرتك هذه السيارة لسنة، أجرتك هذا البيت لسنة، أنت حينما تؤجر البيت, تبيع المنفعة لا تبيع الرقبة، هناك بيع منفعة، وهناك بيع رقبة، بيع العين، بيع العين لا تصح إلا على التأبيد.

أحياناً: أقرأ إعلانات في بعض الصحف، أن هناك بيوت تباع لتسعةٍ وتسعين عاماً، هذا البيع فاسد، لأن البيع بيع العين على التأبيد، وليست بيع العين على التوقيت، فملكية الأعيان، أي ملكية الرقاب, لا تقبل التوقيت بخلاف ملكية المنافع، فإنها تقبل التوقيت، بل الوقت أصلٌ فيها، الوقت أصل في بيع المنافع، فلو باع الكتاب إلى شهرٍ, يعد هذا البيع فاسداً.

لكن العلماء قالوا: إذا بعت هذا الكتاب، بكم تبيعني هذا الكتاب؟ بمئة ليرة، خذ هذه المئة، وقد اشتريت منك هذا الكتاب، ولم يذكر الوقت في هذا البيع، إن عدم ذكر الوقت يعد على التأبيد، لأن الأصل في البيع على التأبيد، لو اشترى إنسان من إنسان حاجة بإيجاب وقبول صحيحين، ولم يتعرض فيه إلى الوقت، فالأصل في البيع أنه على التأبيد، لو لم يذكر الوقت مما يشترط في البيع التأبيد، إذاً: التأبيد أصل في البيع, لكن التوقيت في الثمن جائز، التوقيت في المبيع غير جائز، المبيع أي: الحاجة، أما أشتري منك هذه الحاجة, على أن أؤدي ثمنها بعد شهر، هذا جائز. 

2- معلومة المبيع وما يلحق به.

الشرط الثاني من شروط صحة البيع: معلومة المبيع، ومعلومة الثمن، ومعلومة الأجل، ومعلومة طرائق التوثيق، لو سألت المُحَكَّمين التجاريين: ما أسباب المشكلات والخلافات والمنازعات بين التجار؟ أعتقد أن تسعة وتسعين بالمئة من أسباب الخلافات، والنزاعات، والمشاحنات، والمشاجرات فيما يتعلق بالبيع والشراء, سببه الجهالة.

اشترى قماشًا على مسطرة، فجاءت البضاعة من نوع آخر، نشأت المنازعة، اشترينا هذه الحاجة، ولم نحدد الثمن بالضبط، الثمن حدد، ولم يحدد نوع النقد، اشتريت بضاعة في بلد آخر، لم يحدد نوع النقد، دخل في منازعة، اشتريت بضاعة معلومة، والثمن معلوم، ولكن لم تحدد وقت الدفع، أو طريقة الدفع، تركتها غائمة، لا تفرق، لا نختلف إن شاء الله، لا سوف نختلف، إذا قلت: لن نختلف, سوف نختلف، فبيّن، هذا أهم شرط بصحة البيع.

معلومة المبيع: الوزن، الكمية، النوع، بلد المنشأ مثلاً. 

قد تشتري بضاعة ذات منشأ معين، فإذا بها ذات منشأ معين، تلك لها سعر، وهذه لها سعر، قد تشتري بضاعة بكميةٍ أنت بحاجة إليها، تأتي الكمية أقل مما تحتاج أنت، تنشأ مشكلة، قد تشتري بلاطًا لبيت، أنت تحتاج إلى مئة متر، باعك سبعين، مستحيل، لا بد أن تكمل البيت بنفس البلاط، فأهم شروط المبيع, معلومة المبيع؛ الوزن، والعدد، الكمية، والنوع، تاريخ الصنع، انتهاء المفعول، يعني يجب أن تعرف بالضبط الحجم والمواصفات جميعاً، لذلك حينما تنتفي الجهالة تنتفي المنازعة.

إذا أردت أن تبيع وتشتري بلا منازعة، بلا مشكلات، بلا تحكيم تجاري، بلا حجز مبالغ، بلا إقامة دعاوى، بلا إنذارات، يجب أن تعلم ما هو المبيع؟ ما عدده؟ ما حجمه؟ ما لونه؟ ما جنسه؟ ما مصدره؟ ما طبيعته؟ كيف سيعلَّب؟ بأي حجم سيعلب؟ أحياناً تشتري قماش على أنه سيأتي لفًّا، فيأتي على شكل أثواب مثلاً، هذا القماش لو ثني فله مشكلة، فهذا يجب أن يكون واضحاً معلوم المبيع.

معلومة الثمن.

كلمة لا تفرق، ولا نختلف، هذه كلمات الجهلة، اسأله: كم الثمن؟ وما نوع الثمن؟ وكيف ينبغي أن يدفع؛ دفعة واحدة أم على أقساط؟ وفي أي مكان يجب أن يدفع؟ وما طرق التوثيق؟ من تحب أن يكون الكفيل؟ كيف تحب أن يكون التسليم؟ طرق التوثيق.

 

الفرق بين الجهالة الفاحشة وغير الفاحشة.


أيها الإخوة؛ العلماء يفرَّقون بين الجهالة الفاحشة والجهالة غير الفاحشة، هناك جهالة فاحشة، وهناك جهالة غير فاحشة.

العلماء قالوا: الجهالة القليلة مغتفرة، أخي الأثواب تأتي بين خمسة وعشرين مترا أو ثلاثين، هناك فرق، فهذه جهالة قليلة، هناك أمثلة توضح تلك الجهالة المقبولة.

الجهالة الفاحشة تفسد البيع، قطيع غنم، تقول لإنسان: سأبيعك غنمةً بألفي ليرة، هناك غنمة وزنها ثلاثون أو أربعون كيلو، وغنمة أخرى وزنها خمسة عشر، هناك تفاوت كبير في قطيع الغنم بين الغنم السمين والغنم الهزيل، فهذه جهالة فاحشة، أنت تنتقي السمين، تقول له: هذه، الشراء صحيح، بعتك هذه الشاة بألفي ليرة، بعتك شاة من هذا القطيع بألفي ليرة، لكن الشاة السمينة لها ثمن، والهزيلة لها ثمن، لكن بعتك صاعاً من هذا القمح، القمح متماثل، فالجهالة هنا طفيفة, لا تفضي إلى المنازعة، بعتك ذراعاً من هذا الثوب، الثوب متماثل، فأنت لا تعرف من أي مكان سيأخذ هذا الذراع، من أوله لا تفرق، القماش متماثل، وأخذ مترًا من هذا القماش لا يؤذي الثوب، فعندنا جهالة فاحشة، وجهالة طفيفة، الجهالة الطفيفة معفو عنها، ولكن الجهالة الفاحشة هذه تسبب المنازعة.

الجهالة تتعلق بأربعة موضوعات: تتعلق في المعقود عليه؛ كبيع شاة من قطيع، أو ذراع من ثوب، الجهالة الفاحشة تفسد العقد، والجهالة غير الفاحشة لا تفسده، في جهالة بالعوض بالثمن، الثمن بسعر السوق، هذه كلمة مطاطة، اختلفوا على سعر السوق، أنا سألت قال: الثمن هكذا، هذا سأل, قال هكذا، صار في خلاف، لا تقل له: بسعر السوق, قل له: بالسعر الفلاني كذا وكذا.

هناك جهالة في الأجل، الأجل لشهر، لشهرين، لثلاثة، لستة، نقداً لسنة.

والجهالة الرابعة في وسائل التوثيق: مَن هو الكفيل؟ عند من تكون البضاعة؟ من يسلم الثمن؟ طرق التوثيق .

إذاً: يجب أن تنتفي الجهالة في المبيع، وفي العوض، وفي الأجل، وفي طرائق التوثيق حتى يصح البيع، وإلا فالبيع فاسد، والبيع الفاسد منعقد، ولكنه يصحح.

3-   سلامة الرضا.

عندنا شيء يخدش صحة المبيع: سلامة الرضا، مر بنا قبل أسبوعين أو أكثر, أن الرضا ركن البيع الأوحد، لا يوجد غيره، لقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)﴾

[ سورة النساء ]

فركن التجارة، ركن البيع والشراء, أن يرضى البائع، وأن يرضى المشتري، الرضا حالة نفسية لا تعرف، لا يعلم الغيب إلا الله، لكن الرضا يعبر عنه بالإيجاب والقبول، كما مر بنا من قبل، فصار الإيجاب والقبول متصل بالرضا، فهناك علاقة بين الإيجاب والقبول وبين الرضا، إذا انقطعت العلاقة بين الإيجاب والقبول وبين الرضا، صار البيع غير منعقد، إن لم يعبِّر الإيجاب والقبول عن الرضا أصلاً، وإن انتفى الرضا أصلاً في هذا الإيجاب والقبول, فهذا البيع باطل، ولكن إذا ضعفت الصلة بين الإيجاب والقبول والرضا فالصلة ضعيفة، عندئذٍ يصبح البيع فاسداً، وإذا انتفى الرضا، وانقطعت العلاقة بينه والإيجاب والقبول, فهو باطل، وإذا ضعفت العلاقة بين الإيجاب والقبول والرضا, فهو فاسد.

 

البيوع التي لها آثار سلبية على صيغة الإيجاب والقبول .


ما الذي يضعف العلاقة بين الإيجاب والقبول, وبين الرضا؟  

1- بيع الإكراه.

العلماء قالوا بيع الإكراه يعني: يجب أن تشتري هذا الشيء مع التهديد، فإن لم تشتره, فعلنا بك كذا وكذا، هذا إكراه.

العلماء أيضاً فرقوا بين إكراهين: إكراه ملجئ، وإكراه غير ملجئ.

ما الإكراه الملجئ؟ الإكراه الملجئ أن تخاف من تلف النفس، أو تلف العضو، أو ضرب شديد مبرح، أو حبس طويل، والضرب المبرح، وقتل النفس، وتلف عضو، هذا إكراه ملجئ، فالإكراه يضعف الصلة بين الإيجاب والقبول والرضا، وإذا ضعفت هذه الصلة, صار البيع فاسداً.

أما إذا كان الإكراه, يؤدي إلى ألم خفيف، أو ضرر يسير، أو تهديدٍ، وأنت تظن أن هذا التهديد لا يقع، ولا يحصل، فهذا إكراه غير ملجئ.

فإذا قلت: اشتريت، فهذا البيع صحيح، إذا كان الإكراه غير ملجئ, فالإيجاب والقبول صحيحان، أما إذا كان الإكراه ملجئًا, ضعفت العلاقة بين الإيجاب والقبول والرضا، إذاً: فالبيع فاسد.  

2- بيع المواضعة أو بيع التَلْجِئَة.

عندنا شيء آخر, يضعف العلاقة بين الإيجاب والقبول والرضا: 

بيع المواضعة، أو بيع التَلْجِئَة.

كأن يكون اتفاق بين إنسانين على بيع صوري، أحياناً الإنسان يبيع بيته بيعًا صوريًا, حتى يهرب من توريث زوجته، يهرب من الورثة، أو يهرب إذا فلس، يبيع بيته بيعًا صوريًا، فالبيع الصوري بيع تلجئة، أي أنه لجأ إليه, ليتهرب من إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم، فبيع التلجئة إيجابه وقبوله, يضعف العلاقة بينه وبين الرضا، هذه التلجئة إما أن تكون في أصل العقد، البيع كله صوري، البيت له، والعقد رسمي، وهناك إيجاب وقبول، ونُقل البيت إلى الصحيفة العقارية للمشتري، لكن هناك عقد ثان، أن هذا العقد الذي جرى هو عقد شكلي.

في حالات الإفلاس الاحتيالي, يلجأ إلى بيع صوري، سماه الفقهاء: بيع التلجئة، هذا البيع فاسد، لأنه يشك في الرضا التام من البائع والمشتري.

أحياناً: تكون التلجئة لا في أصل العقد, بل في الثمن، البيت بيع بثلاثة ملايين، وكتب بثمانمئة ألف، لأسباب معينة، فحدث خلاف في الثمن، أيضاً بيع التلجئة الذي يتعلق بالثمن, هذا بيع تضعف فيه الصلة بين الإيجاب والقبول والرضا، كيف يصحح؟ باعتماد الثمن الحقيقي، وقد يجري بيع شكلي لاسمٍ مستعار، هذا بيعٌ فاسد، تضعف العلاقة فيه بين الرضا والإيجاب والقبول، كيف يصحح؟ باعتماد المشتري الحقيقي.

يمكن أن يكون ضعف العلاقة بين الإيجاب والقبول والرضا؛ عن طريق الإكراه, أو عن طريق بيع التلجئة, بأنواعه الثلاثة؛ صورية العقد في الأصل، أو الثمن مختلف، أو الشخص مستعار.   

3- الهزل.

شيء آخر, يؤدي إلى ضعف العلاقة بين الإيجاب والقبول والرضا: هو الهزل، أحياناً يكون الكلام فيه هزل، البائع غير جاد، والمشتري غير جاد، ولكن العلماء قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: 

(( ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ, وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

فالمزح في موضوع الزواج لا يرضي الله عز وجل، يخاطب أخته فيقول لها: فلان خطبك، فلان طلبك، تفرح المسكينة، تظل يومين أو ثلاثة, تعيش بأحلام رائعة، ثم تتبيّن بعد ذلك أنها مزحة، ثلاثة جدهن جد, وهزلهن جد، إذا مزح الإنسان في موضوع الزواج, يلزمه القاضي بالزواج، لكرامة المرأة على الله عز وجل، فهذه القضية ليس فيها مزح، وكذلك الطلاق: أنا كنت أمزح، لا يوجد مزح في الطلاق، طلقتْ طلقت، والعِتق: إنسان أعتق عبدًا، طار من الفرح، مزح، ما هذا المزح؟ (( ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ, وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ )) وفي رواية: ((والنذر)) يا بني إذا كان نجحت إن شاء الله, سوف أشتري لك دراجة، أنت نذرت، نجح، كنت أمزح، ما دمت قد نذرت على نفسك, فهذا النذر صار واجبًا، والعلماء أضافوا اليمين، لأن اليمين متعلقة بالنذر.

صاروا خمسة: النكاح، والطلاق، والعتق، والنذر، واليمين، هذه خمسة أشياء, إذا عُرِف العدد عُرف المعدود، خمسة الأشياء، وليس الخمس أشياء، فهذا خطأ شائع, جدهن جد وهزلهن جد.

فالإنسان يتأدب مع الله عز وجل، يمزح في موضوع زواج، في موضوع طلاق، في موضوع خطبة، في موضوع عتق، نحمل عليها حكم آخر، إنسان عنده صانع, فيقول له: إن شاء الله سوف أشاركك، فقبل هذا الصانع بالأجر اليسير، قبل بالتعب الزائد، قبل بالدوام الإضافي، كله قبِل به، لأن صاحب المعمل, سوف يدخله شريكًا معه، مضت سنتان لا توجد حركة، سنة ثانية، وظل ساكتاً، أين الشركة؟ هذا مزح، صدقت أنت، لا يجوز هذا، تطمعه بشركة لكي تستغله, هذا لا يرضي عز وجل.

انظر الإسلام كم هو دقيق، واضح، من استأجر أجيراً فليعلمه بأجره, أخي ألف بالشهر، تعال اشتغل، أنا يدي للخير، أنا كريم أعطيك، هذا جاء بفكره ثلاثة آلاف، وأنت ثمانمئة، ثمة مسافة كبيرة جداً بينهما، من استأجر أجيراً فليعلمه.

الشرط صار هزلا، وبيع التلجئة، وبيع الإكراه، هذه تفسد عقد البيع، لا تبطله، ولكنها تفسده، والفاسد يصحح، والباطل لا ينعقد.

 

عودة إلى شروط البيع :


فأول شرط من شروط البيع: 

1- التأبيد.

2- الشرط الثاني: معلومة المبيع، ومعلومة الثمن، والأجل, وطرق التوثيق.

3- الشرط الثالث: سلامة الرضا، انعدام الرضا يبطل البيع، ولكن ضعفه يفسده، مما يضعفه الإكراه والتلجئة بأنواعها الثلاثة، والهزل، الشرط الذي بعد هذا الشرط: الإفادة. 

4- الإفادة.

مع أخوين كتاب كهذا الكتاب، تبيعني هذا الكتاب بهذا الكتاب، نفس النوع، الطبعة نفسها، الثمن نفسه، التجليد نفسه، هذا البيع ليس له طعم، هذا البيع فاسد، لأنه بلا جدوى، لرجلين بيت مشترك، لكل واحد منهما نصفه، هل تبيعني حصتك بحصتي؟ بعتك إيَّاها، البيع ليس له معنى إطلاقاً، وهو بحسب ما بدا معنا الآن, ليس له معنى ، اثنان مشتركان في ملكيته، فباع أحدهما حصته لزميلة بحصته، إلا أن السادة الشافعية أجازوا هذا البيع، هذا البيع سمَّاه العلماء: بيعًا غير مفيد ، وإذا كان البيع غير مفيد فهو فاسد، لماذا؟ ما جدوى هذا المبيع؟ ولكن الشافعية أجازوا هذا البيع، لأنك إذا وهب إليك نصف بيت، ووهب للآخر نصفه الآخر، وبعت أنت حصتك إلى شريكك بحصته، لا يوجد أي مجال لتسترد الهبة، لأنك بعت الحصة، فالشافعية أجازوا بيع الشريك حصته بحصة شريكه مشاعاً، لأن فيه فائدة، وهذه الفائدة هي عدم صحة رجوع الواهب، لا يقدر، بعتها، وهبتني وبعتها، هذه هي الفائدة الوحيدة من أن يبيع شريك شريكه حصته بحصته مشاعاً، عند الشافعية جائز، عند الأحناف عدم الإفادة في المبيع يفسد المبيع.


من الشروط التي تفسد المبيع:

 

1- عدم القدرة على التسليم عند العقد. 

لكنّ أخًا سألني: أحياناً يكون في معمل بضاعة معينة، فأنت تقدم نموذجًا، تتفق عليه مع المشتري على هذا النموذج، الكمية ألف، السعر كذا، التسليم بعد ستة أشهر، فقيل: إن هذا البيع بيع المعدوم، لا، فهذا بيع شرعي جائز، سوف نصل إليه بعد فترة، إنه بيع الاستصناع، أنت اتفقت مع إنسان على أن تصنع له هذه البضاعة، هذا بيع شرعي، وله مواصفاتٌ دقيقة, نأتي عليها في وقت آخر إن شاء الله.

فعدم القدرة على التسليم عند العقد, من غير ضرر فاحش يلحق البائع، فلو بعت جذعاً في سقف، إذا أردت أن تسلم هذا الجذع, وقع البناء، هذا بيع فاسد، أو حجر في حائط، حجر كبير, بيع فساد، ذراعاً، أحياناً قطعة قماش يسمونها (كبّون) متران ونصف، وطلبت مترًا واحدًا، لو صار إيجاب وقبول, فهذا البيع فاسد، لو أعطاك مترًا لم يعد للباقي فائدة، فإذا أعطاك المبيع، وتضرر ضررًا فاحشًا, فالبيع فاسد، فعدم القدرة على التسليم عند العقد, من غير ضرر فاحش, يلحق بالبائع، فلو كان هناك عدم قدرة على التسليم، أو كان هناك قدرة على التسليم, ولكن هناك ضرر فاحش، عندئذٍ يعد البيع فاسداً.

2- شيء آخر: أن يكون الثمن متقوّماً.

يكون الثمن مالا يجوز الانتفاع به، سمعت أن شخصًا له عند رجل حقوق، فأعطوه خمرا، لا يجوز هذا، فهذا ثمن غير متقوّم، ما دام الله عز وجل قد حرمه، هو مال عند غير المسلمين، وله ثمن، وقد يكون ثمنه غاليًا جداً، لكن ما دام المال محرمًا شرب هذا المشروب، إذاً: هذا ليس بمال متقوّم، فإذا كان المبيع ليس مالاً, فالبيع باطل، إذا كان المبيع ليس مالاً؛ كالميتة والدم, فالبيع باطل، إذا كان الثمن مال غير متقوَّم، لا يجوز استعماله، فهذا البيع فاسد، واحد باع حاجة بلحم خنزير أو بخمر، البيع صحيح، ينفذ، ولكن نعدل الثمن، ونصححه، نريد عوض هذا الشيء ثمنًا نقديًّا.

بقي شرطٌ، ولكن يحتاج إلى درس مستقل، نأخذه في الدرس القادم إن شاء الله: الخلو عن الشروط الفاسدة، أحياناً يكون الشرط مفسدًا للبيع، كأن أبيعك هذا البيت على ألا تبيعه أنت، لا يصح، لا بيع وشرط، فهذا موضوع يحتاج إلى تفصيلات، نقف عنده في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

 

صور من مواقف علي بن أبي طالب.


والآن: إلى سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، هذا الفصل عن سيدنا علي بن أبي طالب متعلق ببطولته.

 

بطولته.


كان سيدنا علي من أشجع الشجعان رضي الله عنه وأرضاه، قال: ذات يوم والنبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة, نزل عليه الوحي بآية جديدة من القرآن، وراح النبي صلى الله عليه وسلم يتلوها على أصحابه, وهم منصتون، -ما هذه الآية؟- قال تعالى:

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾

[ سورة آل عمران ]

قال: هذه الآية أحدثت في نفس الصحابة الكرام رد فعل قوي، ظن بعضهم أنها تنعى النبي عليه الصلاة والسلام، -ماذا فعل سيدنا علي؟- سيدنا علي صاح وقال: 

والله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله

من علامة الإيمان: أن تكره أن تعود في الكفر كما أن تكره أن تلقى في النار. 

من علامة النفاق: أن تعبد الله على حرف.

هزة طفيفة تنقلب على عقبيك، هذه من علامة النفاق، أما من علامة الإيمان: أن تكره أن تعود في الكفر كما تكره أن تلقى في النار، فلما سيدنا علي سمع الآية: ( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ) فقال: 

والله يا رب لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله، ولئن مات أو قتل -سيدنا رسول الله- لأقاتلن على ما قاتل عليه, حتى أموت

هذه نقطة دقيق جداً: التعلق بالمبادئ، وليس بالأشخاص.

أعظم مقولة قالها سيدنا الصديق, قال:

من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله, فإن الله حي لا يموت

لا تربط نفسك بالأشخاص، اربط نفسك بالله الواحد القهار، أبدي، سرمدي، لا يزول ولا يحول، الشخص يموت، الشخص قد تزل قدمه، إذا ربطت نفسك بالله ورسوله, فأنت في حصنٍ حصين، فإذا ربطت نفسك بزيد أو عُبيد, فأنت على مشارف الهلاك.

قال له:

والله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله، ولئن مات أو قتل, لنقاتلن على ما قاتل عليه, حتى نموت

المبدأ هو الأصل.

 

حيائه.


في غزوة أُحد: يخرج من صفوف المشركين, أحد مبارزيهم الأشداء، وهو أبو سعد بن أبي طلحة، وينادي علياً بالذات ليبارزه، ويخرج عليٌّ إليه، ويتلاقيان في مبارزة ضارية حامية، ويتمكن منه سيف علي بضربة تطرحه أرضاً، وهو يتلوى من الألم، وبينما علي كرم الله وجهه يتهيَّأ ليجهز عليه بضربة قاضية، ينحسر جلباب الرجل، فتنكشف عورته، فيغمض علي عينيه, ويغض بصره، وينثني إليه سيفه، ويعود إلى مكانه، ويسأله المسلمون:

لمَ لمْ تجهز عليه؟ فيجيبهم: لقد استقبلني بعورته فكففت عنه

نقول: كرم الله وجهه، ما نظر إلى عورة قط، كرم الله وجهه دائماً.

أحد الصحابة رضي الله عنه قال:

والله منذ صافحت رسول الله بيميني, ما لمست بها عورتي قط

طوال حياته، هذا الانضباط الشديد, منذ أن صافح النبي بيمينه, ما لمس بها عورته.

يقول بعض الشعراء في رواية أخرى: أن أحد المبارزين, حينما أيقن أنه سيموت, فكشف عورته، فقال بعض الشعراء: 

لا خير في رد الردى بمذلةٍ      كما ردها يوم بسوءته عمرو

يعني هذا رد الردى بمذلة. 

 

خلقه مع خصومه.


سيدنا علي في بعض معاركه مع خصومه، أحد قواده الكبار شتما خصمه، فسيدنا علي نهاهما عن ذلك، نهاهما عن هذا الشتم, وأمرهما أن يكفا عنه، فقالا:

يا أمير المؤمنين, ألسنا على الحق وهم على الباطل؟!.

فأجابهم سيدنا عليه كرم الله وجهه: بلى ورب الكعبة.

فقالوا: ولم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟.

قال سيدنا علي: كرهت لكم أن تكونوا شتَّامين, ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدنا من ضلالتهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لج به.

هذا الخلق الرفيع، عوِّد لسانك على الكلام الطيب, حتى مع خصومك. 

 

تضحياته :


في الحقيقة: النبي عليه الصلاة والسلام في أيام الهجرة، لما ائتمر كفار قريش على قتله، وأحاطوا بمنزله، وتربصوا به الدوائر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان الأمين، عنده ودائع كثيرة لقريش، سَجَّى سيدنا علي مكانه، فأوهم المحاصرين أن النبي في سريره، وخرج النبي كما تعرفون، فهذا العمل تضحية ما بعده تضحية، احتمال أن يقتلوه احتمال كبير جداً، لأن كل أصحاب النبي, أصبحوا في الهجرة، والنبي هاجر، ما بقي أحد، فآخر من هاجر سيدنا علي، وفوق ذلك أمره النبي عليه الصلاة والسلام برد الودائع إلى أهلها، ولكن النبي طمأنه، قال له:

يا علي لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم

لكنها مجازفة، فالقضية بالكلام سهلة، ولكن تجلس مكان إنسان، وهناك مؤامرة على قتله، وهناك حنق، وغيظ شديد، والإنسان يتفلت ويخرج، ولا يوجد أمامك إلا هذا الشخص البديل، وهذا الشخص البديل ابن عمه، وهو من أخلص أتباعه، وينجو من القتل، مستحيل، فكانت هذه منه تضحية كبيرة، فلذلك كل إنسان حجمه عند الله عز وجل بحجم تضحياته.

 

شجاعته.


في غزوة أحد: يسقط اللواء من يد مصعب بن عمير، بعد أن أبدى بطولةً خارقة، ويدعو النبي علياً رضي الله عنه لحمل اللواء، ويحمله بيده, ويده الأخرى قابضة على سيفه، واسمه ذو الفِقار، هذا السيف الوثيق الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم, وعن صاحبه، ما كاد ابن أبي طالب, يحمل اللواء, حتى صاح حامل لواء المشركين: ألا هل من مبارز؟ هذه الخروج للمبارزة بالمئة ثمانون مصيره الموت، بقدر التضحيات ترقى عند الله عز وجل، ألا هل من مبارز؟ ولا يجيبه من المسلمين أحد، فلقد كانوا في شغل عنه بالمعركة, التي بلغت أقصى عنفوانها, وشدتها, وضراوتها، ويرسل حامل اللواء نعيقه مرة أخرى: ألستم تزعمون أن قتلاكم في الجنة, وقتلانا في النار؟ ألا فليخرج إلي أحدكم؟.

ولم يطق سيدنا علي صبراً فصاح به: أنا قادم إليك, كان فتى، وهذا الذي يدعوه للمبارزة من صناديد قريش, أنا قادم إليك يا أبا سعد بن أبي طلحة, فابرز إلي يا عدو الله، والتقيا بين الصفوف الملتحمة، تحت وقع السيوف وتبارزا، فاختلفا ضربتين، ضربه علي ضربةً واحدة, فسقط على الأرض, يعالج جرحه، وهم علي أن يضربه ضربةً ثانية، فانكشفت عورته, هذا الذي هو الذي تحدثت عنه قبل قليل, عندئذٍ كف عنه هذا الإمام الكبير.

يبدو أنه قد أصابته جراحاً كثيرة, أعيت المضمدين، فرآه النبي الكريم في هذه الحالة فقال:

إن رجلاً لقي هذا كله في سبيل الله, لقد أبلى وأعذر

 

هنيئاً لك هذه الراية.


يبدو أن في معركة خيبر، وأمام حصنها المنيع، ارتدت أول يوم كتيبة, يقودها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، ثم ارتدت في اليوم الثاني كتيبة أخرى, يقودها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يجزع النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان هو بالجازع أبداً.

(( فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا, يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ, فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى, فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى, فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ, فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ, فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ, فَبَرَأَ مَكَانَهُ, حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ, فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا, فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ, حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ, ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ, وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ, فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ, خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم ))

هذا المعنى، وهذا الكلام لا يعني أن سيدنا الصديق أقلّ، أو سيدنا عمر أقلّ، لكن هكذا جاء، فالإنسان حينما يأخذ مزيةً, لا تعني أنه تفوق بها، ولكن هذه مزية، فقال سيدنا عمر رضي الله عنه:

والله ما تمنيت الإمارة قط في حياتي إلا ذلك اليوم، رجاء أن يكون ممن يحبه الله ورسوله

هذه أمنيته، وفي الصباح اصطفت الصفوف، واشرأبت الأعناق متمنية راجية، وشق السكون صوت النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

أين علي بن أبي طالب؟

لم يخطر بباله أن يكون ذلك الرجل الذي وعد النبي أصحابه، وجعل بشرى الفتح على يديه.

فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، وأشار النبي إليه بيمينه فتقدم، ورأى النبي ما بعينيه من وجع واهتياج، فبل أنامله المضيئة بريقه الطهور، وبث بهما عين البطل، ثم أعطاه الراية, وقال: خذ الراية, فامضِ بها, حتى يفتح الله عليك

وحمل الراية، وفتح بها حصن خيبر، وقال لمن على الحصن من أصحابه: أنا علي بن أبي طالب لم يقلها مفتخراً، ولكن النبي قال لصحابي, كان يتبختر في مشيته قبيل المعركة قال:

إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن

لأن التكبر على المتكبر صدقة، سيدنا علي قال: 

والذي نفسي بيده, لأذوقن ما ذاق حمزة، أو ليفتحن الله لي

  

الخلاصة.


أبو سفيان قُبَيل فتح مكة, شعر أن الخطر قريب، فأوجس خيفةً، وتوجه إلى المدينة يسترضي النبي عليه الصلاة والسلام، وأراد أن يسترضي أصحابه أولاً، فلعلهم يُعينونه على استرضاء النبي، فذهب إلى بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، ومنعته من أن يطأ فراشها، فقال أبو سفيان: وجئت ابن أبي قحافة, فلم أجد منه عوناً، وجئت ابن الخطاب، فلم أجد منه عوناً، وقال لي: أنا أشفع لكم عند رسول الله, وجئت علياً فوجدته ألين القوم، سيدنا علي مع بطولته الخارقة, كان ذا لينٍ معروفٍ، ولينه ربما سبب له بعض المتاعب، كان عنده لينٌ, وعنده شجاعة وإقدام.

على كلٍ؛ كما قال سيدنا رسول الله:

(( دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده, لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً, ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))

سيدنا رسول الله قال له مرة:

(( أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي ))

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور