وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 59 - عالمية الإسلام وعولمة الغرب - القمح .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخــطــبـة الأولــى:

 الحمد لله رب العالمين، يا رب اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقبل توبتنا، وأصلح قلوبنا، ارحم ضعفنا، وتولَّ أمرنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنَّا في أوطاننا، انصرنا على أعدائك وأعدائنا، بلِّغنا مما يرضيك آمالنا، اختم بالصالحات أعمالنا.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فحاشا يا رب أن نفتقر في غناك، وأن نضل في هداك، وأن نذلّ في عزك، وأن نضام في سلطانك، فما من مخلوق يعتصم بك من دون خلقك فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلتَ له من بين ذلك مخرجاً، وما مِن مخلوق يعتصم بمخلوق دونك إلا جعلتَ الأرضَ هَوِيّاً تحت قدميه، وقطَّعتَ أسباب السماء بين يديه. وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، عاش لأمته لا لذاته، لم تشغله في دنياه رغبة، ولم تثنه عن نشر دعوته رهبة. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثُّكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير.

عالمية الإسلام وعولمة الغرب:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، موضوع الخطبة اليوم: عالمية الإسلام وعولمة الغرب.
عالمية الإسلام تعني أن الإسلام لم يكن يوماً للعرب، ولم يكن القرآن يوماً لقريش، فهو منذ اليوم الأول ؛ سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب الناس كافة، إنما يخاطبهم بمبدأ واحد ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، بل إن هذه الحقيقة هي فحوى دعوة الأنبياء جميعاً:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

( سورة الأنبياء )

 إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي، وليس رسالة خاصة بالعرب، إن موضوعه هو الإنسان، أي إنسان، ومجاله هو الأرض، كل الأرض، إن الله سبحانه ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون الإسلام وحدهم، إن الله هو رب العالمين، وهذا الدين يريد الله منه أن يرد العالمين إليه ؛ وأن ينتزعهم من العبودية للبشر ولأحكام يشرِّعها لهم أناس من البشر إلى العبودية لخالق البشر، وهذه هي العبادة التي لا يمكن أن تكون إلا لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله، مهما ادَّعى أنه من هذا الدين بمكان، ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع هو العبادة، فقال عن بعض المشركين:

 

(( إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ))

 

[رواه أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم]

 قال المغيرة بن شعبة لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسأله قبل المعركة: ما الذي جاء بكم ؟ فيجيبه: إنّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

الله هو ربّ العالمين وقد أكدت هذه الحقيقة آيات كثيرة في القرآن الكريم:

 قد أكدت هذه الحقيقة آيات القرآن الكريم، كما بينتها الأحاديث النبوية، والسلوك النبوي الشريف، وهي كثيرة نستعرض بعضاً منها:

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)﴾

( سورة ص)

 وقال:

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)﴾

( سورة التكوير)

 وقال:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)﴾

( سورة الأنبياء)

 وقال:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾

( سورة آل عمران )

 وقال:

﴿ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(104)﴾

( سورة يوسف )

 وقال:

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1) ﴾

( سورة الفرقان )

 وقال:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (28)﴾

( سورة سبأ)

العولمة مظاهرها وأساليبها:

 أما العولمة كما يريدها ويروِّج لها دُعاتها لا تعدو أن تكون تعبيراً معاصراً عن نزعة تسلطية قديمة، صاحبت كل قوة غاشمة على مدار التاريخ. إنها تضفي طلاءً من الذهب على الأغلال الحديدية، وتتوارى خلف أقنعة زائفة من العبارات الجذابة، والشعارات البراقة، كالعدالة، والديمقراطية، والحرية، والسلام العالمي، والتعايش السلمي، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، فهي علقم قديم في آنية جديدة.
 لعل من أبرز مظاهر هذه العولمة انهيار السدود بين الحضارات والثقافات، وفرض الهيمنة الغربية في مختلف المجالات ؛ سياسة، واقتصاداً، وإعلاماً، وفكراً ؛ توطئة للاستيلاء على ثروات الشعوب، وشل قدراتها الوطنية، ومسخ هويتها وخصوصياتها الحضارية، وتحويل أسواقها المحلية إلى أسواق استهلاكية، تفتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الأجنبية لترويج منتجاتها وتراكم أرباحها.
 وقد رأينا من ذلك بدايات مؤسفة، لا تخطئها العين، تمثلت في شيوع التقاليد، والأزياء، وأنماط الحياة الغربية، ومزاحمتها لمثيلاتها الوطنية مع ما يجلبه هذا الوافد الغربي من مفاهيم بلاده وقيمها، ولعل هذا يوضح الصلة بين شيوع هذه المظاهر، وبين مظاهر التخنُّث، وضعف التدين، وانفراط عقد الأسرة، وانتشار المخدِّرات، والجريمة المنظمة !
 ولقد وعى القوم دروس التاريخ فقدموا القوة الناعمة، وهي المرأة على القوة الضاربة ؛ لأنها أقل استفزازاً للآخرين، وأقل ظهوراً لهم، وأقدر على شلّ قدراتهم على المقاومة، وأقتل لروح الاستبسال والمواجهة في صدورهم.
 وإذا كان الأسلوب التقليدي لدى القوم قد تمثل في حمْل الآخرين على فعل ما تريد ولو باستخدام القوة المسلحة، فإن الأسلوب الأمثل اليوم يتمثل في حمل الآخرين على إرادة ما تريد، والإقبال عليه عن طواعية واختيار، وهذا يتوقف بطبيعة الحال على حسن تسويقه، وجاذبية عرضه من ناحية، كما يتوقف على حجم الإغراء الذي تحمله الجوائز التي تقدم ثمناً لمَن يتعاونون مع القوم من ناحية أخرى !
 المشكل القائم حالياً لا يكمن في مبدأ العولمة، وإنما يكمن في نوعية هذه العولمة، وخصوصياتها، وبنائها، فعولمة القطب الواحد فيها خصوصيات القطب القوي الواحد، كالاحتكار، وإرادة الهيمنة، وسلوكية الكيل بمكيالين، بعيداً عن روح المشاركة، والتنافس الحر الشريف، ومن خصوصيات القطب الواحد قانون تضخيم الأرباح، ولو على حساب الأرواح، وعدم خضوع هذا النظام للشرائع الإلهية.

بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية:

 مما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام ضرورة الفصل بين العالمية التي جاءت بها شريعة الإسلام، والتي تبنى على الوازع الديني، حيث الإسلام دين سماوي، وليس موضوعاً من الموضوعات البشرية، وما تحمله من رسالة حب ورحمة إلى العالم أجمع، وبين العولمة وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين لحساب قوى الاحتكار العاتية، بل لحساب حفنة من المتضلعين في دماء الآخرين وأموالهم.
 إن العالمية الإسلامية التي تحيل العالم إلى قرية كونية واحدة، يتمتع الإنسان فيها بحق الاختيار، ويسود فيها البر والقسط، ويتفيأ الإنسان فيها ظلال العدل والرحمة، وتصان فيها حرمات المخالفين وحقوقهم، هذه العالمية يجب ألا تلتبس في ذهننا بالعولمة التي يدعو لها حملة المشروع الغربي، والتي تحيل العالم إلى غابة عالمية واحدة، يأكل القوي فيها الضعيف، ويزداد فيه الأغنياء غنى، والفقراء فقراً.
 إن الاتجاه إلى العالمية برسالة حضارية عادلة لا حرج فيه، ولا تثريب على دعاته، ولكن الحرج كل الحرج إنما يكمن في روح الهيمنة، والجشع، والأنانية، والابتزاز الذي تحمله هذه العولمة الجامحة، كما يدعو إليها أباطرة العولمة وقراصنتها من غير ضابط من دين أو خلق، فليس الحرج في التوجه إلى العالمية في ذاته، والتعامل مع الكيان البشري كأمة واحدة، وإنما يكمن الحرج في المشروع الذي يحمله القائمون على هذا التوجه، عندما لا يرون في الآخرين إلا أحجاراً على رقعة الشطرنج، يعبثون بمقدراتهم ومصائرهم كما يشاؤون، الأمر الذي لا تقام به دنيا، ولا يصلح به دين، ولا يزداد به العالم إلا شقاءً فوق شقاء !
 إننا ـ نحن المسلمين ـ نحمل مشروعاً حضارياً رائداً، لُحمته الربانية، وسُداه البر والقسط، نبذله إلى العالمين ما داموا لا يقاتلوننا في الدين، ولا يصادرون علينا حقنا في أن نبسط دعوتنا إلى الآخرين. فليس على دعاة الدين الحق والرسالة الخاتمة من حرج أن يطوفوا بدعوتهم في المشارق والمغارب، يوطِّئون للحق مهاداً، وينشرون له أعلاماً في إطار قاعدة:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

( سورة البقرة الآية: 256 )

 وتحت خيمة الربانية التي ترعى حقوق الموافقين والمخالفين، حتى يتفيأ العالم ظلال هذه الرحمة العامة، يفيء إليها من هجير الظلم، ورمضاء الأثرة والجشع والأنانية، ويجد له موقعاً في سفينة الإسلام، التي تمخر به عباب هذه الفتن المتلاطمة حتى ترسو على شاطئ النجاة في الآخرة.

إن مصير العولمة سيكون كمصير غيرها من الحضارات التي صالت ثم انهارت:

 إن هذه العولمة في إطارها اللا ديني الجامح لَتحمل في طياتها بذور إخفاقها، وعوامل انهيارها ؛ فإنه لا دوام لظلم، ولا بقاء لتعسف ولا جور، لقد حدثنا القرآن الكريم عن دول قامت ثم زالت، وعن حضارات صالت ثم انهارت، قال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8)وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي(9)وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ(10)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13)إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾

( سورة الفجر )

 وقال تعالى:

﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً(37)وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً(38)وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً(39) ﴾

( سورة الفرقان)

 وقال تعالى:

﴿ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ(38)وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ(39)فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40) ﴾

( سورة العنكبوت)

نص مقتبس من خطاب السيد الرئيس عن العولمة والنظام العالمي الجديد:

 قال أحد حكماء الرومان حين وقف على أطلال روما: "إن أول رجل تسبَّب في خراب الإمبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها الأسلاب والغنائم " ؛ لأنه هو الذي أثار لدى أهلها شهوة النهب والسيطرة، وحرك شياطين الأثرة والأنانية الكامنة وراء جلودهم، وقديماً قال نابليون: "إن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض التخمة"، أي أن جوفها يعجز عن هضم ما تلتهمه من الأقاليم والشعوب.
 وقد أشار السيد الرئيس إلى العولمة والنظام العالمي الجديد في كلمته التي ألقاها في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الدوحة: "هو نظام دولة أو بضع دول على هذه الكرة الأرضية، أما ما تبقى منها فهو دول سابحة في هذا النظام الغريب، بعضها يعوم على السطح بصعوبة، وعليه أن يثبت وباستمرار حسن النية والطاعة والالتزام، ومع ذلك فهو دائما مخطئ، ومطلوب منه أن يكفر عن ذنوبه، وبعضها الآخر غارق في القاع إلى أجل غير مسمى، وأصبح كل ما يتماشى مع رغبات تلك الدول الكبرى ديمقراطية وعدلاً، وكل ما يحقق مصالحها هو حقوق إنسان، وحضارة بشرية، ولم يعد مستغرباً أن تصدر لوائح تحدد فيها قيمة الإنسان لدى شعب، وما يقابلها لدى الشعوب الأخرى كأسعار العملات ".
 ثم أشار إلى تلك الهجمة الشرسة التي تشنها قوى البغي والظلم على الإسلام، فقال: " هذا العدو الجديد الذي ظهر في التسعينات هو ديننا الإسلامي الحنيف، دين الأخلاق والعدل والمحبة الذي تم تشويهه إعلامياً وتثقيفياً وتربوياً ليغدو دين القتل والتطرف والإرهاب، فكلما حدث اضطراب في منطقة ما من العالم وجهت أصابع الاتهام للإسلام، ولو لم يكن للمسلمين وجود في تلك المنطقة، وكل عملية تخريب أو عمل إرهابي منفذه هو مسلم، حتى يثبت العكس، وغالباً ما يثبت العكس، أما الاتهام فيبقى كما هو، وبالتوازي حورب الإسلام الصحيح من خلال تغذية التطرف واستخدامه في ضرب الإسلام والمسلمين، والآن يصور هذا التطرف الذي جرت تنميته من خارج الأمة الإسلامية على أنه الإسلام الحقيقي، وذلك إمعاناً في تشويه صورته الناصعة، وإسرائيل أبرع من شوه هذه الصورة، وأية صورة حقيقية أخرى ". انتهى النص المقتبس من خطاب السيد الرئيس.
 هذا وإن الأهم من هذا كله أن نبعث في هذه الأمة روح المواجهة لهذه الأعاصير، وأن نستثير مذخور طاقاتها الإيمانية والجهادية , وأن نرشد توجيه هذه الطاقات على طريق المحافظة على الهوية، واستئناف ما توقف من مسيرتها الحضارية.

مفهوم النصر:

 مفهوم النصر من المفاهيم التي التبس أمرها على معظم المسلمين، بل وعلى بعض المتحمسين لدعوته المباركة، الأمر الذي أدى إلى اختلافهم في أحكامهم ومواقفهم إزاء الأحداث الجارية والمشهودة في عالمنا الإسلامي. فالبعض يظن أن النصر هو تحقيق الأهداف الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية مما يسعى إليه المؤمنون، فإذا بلغوا هذه الأهداف فهم منتصرون، وإلا فهم منهزمون. هذا فهم قاصر لانغماسه في الحسابات المادية البحتة دون النظر إلى غيرها.
البعض الآخر يتوهم أن النصر هبة إلهية، يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، من غير اشتراط الاستحقاق لهذا النصر أو الاستعداد والتهيؤ له، وهذا فهم خاطئ لأنه مخالف لسنن الله الكونية:

﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾

( سورة النساء الآية: 123 )

 وقال:

﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 60 )

 لكن في إطار الصراع بين المؤمنين وأعدائهم قد يستفحل الجور، وقد ينتصر الظلم، وقد يظهر البغي والفساد، فأين نصر الله ؟ النصر قد يكون مبدئياً، وقد يكون واقعياً.

أشكال النصر:

1ـ النصر المبدئي:

 يكون المسلم منصوراً نصراً مبدئياً حين يسعى لتنفيذ أوامر الله ونواهيه في جميع ما جاءت به الشريعة، وفي جميع الظروف والأحوال، وفي جميع الأوقات والأماكن، وفي حدود ما لديه من إمكانات. وبعبارة أُخرى، يكون المسلم منصوراً نصراً مبدئياً حين يكون قائماً بأمر الله لا من القاعدين، ساعياً للدفاع عن المبدأ لا من الخاملين المخلّفين، شاهداً أحداث الأُمة لا من المنعزلين. فحسب المسلم نصراً أن يحمل رسالة السماء إلى الناس، أما هدايتهم فأمرها بيد الله تعالى، وحسبه نصراً أن يعمل على إصلاح المجتمع أما صلاحه فأمره بيد الله تعالى، وحسبه نصراً أن يقاوم الظلم أما زوال الظلم فأمره بيد الله تعالى، وحسبه نصراً أن يكافح لاسترداد الأرض المغتصبة وثروات الأُمة المنهوبة أما ردها فأمرها بيد الله تعالى، وحسبه نصراً أن يجاهد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله في الأرض أما إطفاء الفتنة وهيمنة الحق فأمره بيد الله تعالى.
 ميزة هذا النصر أنه حتمي يتحقق لمجرد سعي المسلم له، أياً كانت النتائج الواقعية التي يتمخّض عنها سعيه وجهاده، وميزته أنه إرادي مقدور عليه، فكل مسلم يستطيع تحقيقه، ويستطيع تجنب الهزيمة، وميزته أن المسلم يستطيع إحرازه حتى لو وقف أعداء الإسلام بكامل قواهم لقتاله وحربه، كما هي الحال الآن:

﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) ﴾

( سورة التوبة )

2ـ النصر الواقعي:

 النصر الواقعي هو الفوز المشهود الذي يحرزه المسلم في عالم الواقع، في مضمار إعلاء كلمة الله لتكون هي العليا، فيكون المسلم منتصراً حين يحقق في الواقع مكسباً سعى إليه في سبيل الله، أو ينال هدفاً جاهد من أجله، وفي هذه الحالة يحرز المسلم كلا الحسنيين، نصراً مبدئياً، ونصراً واقعياً.
 إلا أن النصر الواقعي يتوقف على الإعداد المادي والإمداد الإلهي، إعداد العدّة وطلب النصر من الله تعالى، وهذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده مع الجاهلية الأُولى، وهذا ما يلزمنا في جهادنا مع الجاهلية المعاصرة.
والإعداد المادي يستلزم استنفار كل طاقات المسلمين، وتنسيق قواهم البشرية والمادية والروحية، حيث تمتلئ نفوسهم عزيمة وحيوية وإيماناً وثباتاً، وتنطلق جوارحهم بذلاً وعطاءً وقوةً ومضاءً مع تجريد النية لله تعالى، وعقد الثقة المطلقة به سبحانه. ولو قيض للمسلمين أن يعرفوا معنى الآية الكريمة:

﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 60 )

 وتحليلها الدقيق لعرفوا أن المعلوماتية اليوم والاتصالات هي من وسائل القوة، ولعرفوا أن علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك هي من وسائل القوة، ولعرفوا أن علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية من وسائل القوة، وأن علم الحيوان وعلم النبات وعلم طبقات الأرض من وسائل القوة، وعلوم الوراثة والهندسة الوراثية من وسائل القوة، إلى ما هنالك من علوم أتقنها الغربيون فأحكموا سيطرتهم على العالم، وأملوا عليه إرادتهم وثقافتهم وعولمتهم، ولا حرج علينا مطلقاً أن نأخذ ما في رؤوسهم وأن ندع ما في نفوسهم، فثقافة أية أمة هي ملك البشرية جمعاء، لأنها بمثابة عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال، وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع عسلها ؟!

بعض من وسائل قوة المسلمين:

 من وسائل قوة المسلمين تشخيص الباطل، والقدرة على تعريته، والمصابرة على تكذيبه وعدوانه، ومجابهة مكره وكيده وعناده، واليقين أنه إلى زوال لقوله تعالى:

﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) ﴾

 وقال:

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

( سورة إبراهيم )

 ثم الكفر بالباطل وكشف أكاذيبه، ونزع أقنعته ؛ لأن الكفر به شرط للإيمان بالله، قال تعالى:

﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾

( سورة البقرة الآية: 256 )

 فإذا علم الله صدق نية المؤمنين المجاهدين في سبيله، وثبات عقيدتهم، وتحرر نفوسهم، وشوقهم إلى لقائه، وحنينهم إلى نعيمه، عندئذ يتوفر لهم الإمداد الإلهي، فيبطش الله بالمجرمين بطشته الكبرى ويحقق النصر المؤمنين:

﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الروم )

 وقال:

﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)﴾

( سورة غافر)

 وقال:

﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً(45)﴾

( سورة النساء)

 

 

الحكمة من تباطؤ نصرة المؤمنين والمظلومين:

 إن نصرة المؤمنين والمظلومين قد تبطؤ لحكمة بالغة يعلمها الله تعالى، وقد لا تدركها عقولنا، أو لخير عميم ادخره لهم، أو ليعلم الثابتين منهم على عقيدتهم، الصابرين على آلامهم، والموفين بعهدهم، الصادقين في تضحياتهم، لتكون هذه الصفوة المؤمنة حريصة على حماية النصر المرتقب، الذي لم تنله إلا بالدماء الزكية، والأرواح الطاهرة، وتكون قادرة على تحمل أعبائه في إقامة الحق، وبسط العدل، ونشر حرية العبادة، وإشاعة الخير بين الناس، وتحريرهم من عبودية الطواغيت، وقطع دابر الفتنة والفساد في الأرض:

﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً(84)﴾

( سورة مريم)

 وقال:

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ﴾

(سورة القصص )

قصة الصحابي الجليل عبد الله بن سلام:

 يا أخوتنا في الأراضي المحتلة إليكم قصة الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، هاهو ذا الصحابي الجليل عبد الله بن سلام يحدثنا عن قصته فيقول:
لما سمعت بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، أخذت أتحرى عن اسمه، ونسبه، وصفاته، وزمانه، ومكانه، وأطابق بينها وبين ما هو مسطورٌ عندنا في الكتب، حتى استيقنت من نبوته، وتثبت من صدق دعوته، ثم كتمت ذلك عن قومي اليهود، وعقلت لساني عن التكلُّم فيه، إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه النبي عليه الصلاة والسلام من مكة قاصداً المدينة، فلما بلغ يثرب، ونزل بقباء، أقبل رجل علينا وجعل ينادي في الناس معلناً قدومه، وكنت ساعتئذٍ في رأس نخلة أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسة تحت الشجرة، فما إن سمعت الخبر حتى هتفت: الله أكبر الله أكبر، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيَّبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما فعلت شيئاً فوق ذلك !! فقلت لها أي عمة، إنه والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، وقد بُعث بما بعث به فسكتت وقالت: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدِّقاً لمن قبله، ومتمماً لرسالات ربه، فقلت: نعم، قالت: فذلك إذاً، ثم مضيت من توِّي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ورأيت الناس يزدحمون ببابه، فزاحمتهم حتى صرت قريباً منه، وكان أول ما سمعته منه: أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، فجعلت أتفرَّس فيه، وأتملى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، ثم دنوت منه وشهدت أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالتفت إلي وقال: ما اسمك ؟ فقلت: الحصين بن سلام، قال: بل عبد الله بن سلام. فقلت: نعم عبد الله بن سلام، والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي به اسماً آخر بعد اليوم، ثم انصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، ودعوت زوجتي وأولادي وأهلي إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً، وأسلمت معهم عمتي خالدة، وكانت شيخةً كبيرة.
يقول عبد الله بن سلام: ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا رسول الله إن قومي قوم بهتانٍ وباطل، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك، وأن تسترني عنهم في حجرةٍ من حجراتك، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني ورموني بكل ناقصةٍ وبهتوني، فأدخلني النبي عليه الصلاة والسلام في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضُّهم على الإسلام، ويحبب لهم الإيمان، ويذكِّرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل ويمارونه في الحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم قال لهم: ما منزلة الحصين بن سلام فيكم ؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرُنا وعالمنا، وابن حبرنا وعالمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون ؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، أعاذه الله من أن يسلم، فخرجت إليهم وقلت: يا معشر اليهود اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به محمد، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وتجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، وإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت، والله إنك لشرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به، فقلت: يا رسول الله ألم أقل لك: إن قومي قوم بهتانٍ وباطل، وإنهم أهل غدرٍ وفجور.

الحقائق الناصعة المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله تضيء سبيل النصر والصبر معاً:

 هذه الحقائق الناصعة المستنبطة من كتاب الله، وسنة رسوله، ومن السيرة النبوية، والتي تضيء سبيل النصر والصبر معاً أضعها بين

أيدي أخوتنا في الأراضي المحتلة، فلعل الله ينفعنا بها جميعاً.


أتيــت القبور فساءلتــــها  أين المعـظم والمحتــقر؟!
وأين المــــذل بسلـــطانه  وأين القوي على ما قـدر؟!
تفانوا جميعاً فما مــــــخبر  وماتوا جميعاً ومات الخبر!!
فيا سائلـي عـن أناس مضـوا  أما لك فيما مضى معتبـر؟!
تروح وتغـدو بنات الـــثرى  فتمحو محاسن تلك الصـور
* * *

 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخَّطانا إلى غيرنا، وسيتخّطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

***

الخــطــبـة الثانية:

 الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد قشور القمح:

 أخوتي المؤمنين، أعزائي المستمعين، إلى الموضوع العلمي:
إن الله تعالى جعل القمح لبني البشرِ غذاءً كاملاً، ولكنَ عنايةَ الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أنّها جَعَلَتْ هذا القمحَ ينبتُ في كل بقاعِ الأرضِ، ينبتُ في السهولِ، وينبتُ في الجبالِ، وينبتُ في الأغوارِ، وينبتُ في الأجواءِ الباردةِ، وينبتُ في الأجواءِ الحارّةِ، وينبتُ في الأجواءِ المعتدلةِ، وفي كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ الزمنِ هناك قمحٌ على وجهِ الأرضِ ينبتُ، ولكنَّ التصميم الإلهيَّ لهذه الثمرةِ أنه جَعَلَها كاملةَ الغذاءِ، ففيها غلافٌ خارجيٌّ يزن تسعاً في المئةِ من مجموع وزنِها، يُسمَّى عند الناس النُخالة، وفيها قشرةٌ رقيقةٌ تنطوِي على مادةٍ آزوتيةٍ لا تزيدُ عن ثلاثةٍ في المئة من وزنِها، وفيها الرُّشَيْمُ الكائنُ الحيُّ الذي ينبتُ إذا توافرت له شروط الإنبات، ووزنُه لا يزيدُ عن أربعٍ في المئة من وزنِ حبَّةِ القمحِ، والأربع والثمانون في المئة نَشاءٌ خالصٌ، ماذا نفعل نحن ؟ ننزعُ عن القمحةِ غلافَها، وغشاءَها، ولا يبقى لنا إلا النّشاءُ الخالصُ، أمّا هذا الغلافُ الذي يسمِّيه الناس نُخالةً، ففيه ستةُ فيتامينات، فتامين ب1، ب2... ب6، وفيتامينات أخرى في هذا الغلافِ، وفي هذا الغلافِ مادةٌ فسفوريةٌ هي غذاءٌ للدماغِ والأعصابِ، وفي هذا الغلافِ حديدٌ يَهَبُ الدمَ قوةً وحيويةً، ويُعِينُ على اكتسابِ الأوكسجين مِنَ الرئتين، وفي هذا الغلافِ الكلسيوم الذي يبني العظامَ، ويقوِّي الأسنانَ، وفي هذا الغلافِ السيليكون الذي يقوِّي الشعرَ ويزيدُه قوةً ولمعاناً، وفي هذا الغلافِ اليودُ الذي ينشط عملَ الغدّةِ الدَرَقِيَّةِ، ويُضفِي على آكلِه السكينةَ والهدوءَ، وفيه البوتاسيوم، والصوديوم، والمغنيزيوم، تدخلُ هذه المعادنُ كلُّها في تكوينِ الأنسجةِ، والعصاراتِ الهاضمةِ، أما نحن فننزعُ عن حبَّةِ القمحِ قشرَها، ونرمِيه للبهائمِ، ونأكلُ هذا النشاءَ الصافيَ الذي هو كما وَصَفَه بعضُ الأطباءِ بأنّه غراءٌ جيدٌ للمعدةِ، وهو يذمُّه بهذا الوصف، وهذا التصميم الإلهي لنا أنْ نأكلَ القمحَ بقشرِه، حتى نستفيدَ مِن هذه الموادِ التي أودَعَهَا اللهُ في قشرةِ القمحِ.
 إذا غُلِيَتْ هذه القشورُ بالماءِ الساخنِ كانتْ مهدئةً للسعالِ والزكامِ، وإذا شُرِبَ هذا المغليُّ كان قابضاً للأمعاءِ، وكان دواءً لتقرُّحاتِ المعدةِ وللزحار، وهو غذاءً للجلدِ ووقايةً له من أمراضِه، وعلى رأسها الأكزيما.
 لذلك حينمَا نأكلُ كما أرادَ اللهُ لنا أنْ نأكلَ، وحينما نطبِّقُ سنَّةَ النبي عليه الصلاة والسلام في الأكل، نضمن لأنفسنا الصحةَ والبُعدَ عن الأمراض.
 سئل الصحابي الجليل سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ: " هَلْ رَأَيْتَ النَّقِيَّ ـ الطحين المنخول ـ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّقِيَّ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: فَهَلْ كَانَ لَهُمْ مَنَاخِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مُنْخُلاً حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنَّا نَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مِنْهُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ ".
[ ابن ماجه عن عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ]

 وورد في الأثر أن أول بدعة ابتدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله نخل الدقيق.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور