وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 46 - سورة البقرة - تفسير الآيات131 - 137، الدين استسلام لله وخضوع له
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السادس والأربعين من دروس سورة البقرة .

الدين في أصله استسلامٌ وخضوع لله عزَّ وجل:

 مع الآية الواحدة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى :

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

 التي قبلها :

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) ﴾

 اصطفاه لأنه :

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

 أيها الأخوة، الدين في أصله وفي جوهره استسلامٌ لله عزَّ وجل وخضوع، ولكن هذا الخضوع لمن ؟ للخالق، الخضوع للقوي، الخضوع للعليم، للرحيم، للعدل، للخبير، للطيف، وهذا الذي يخضع لغير الله إنسانٌ أحمق، لأنه يخضع لضعيف، وخسيس، ولئيم، وعاجز، وجاهل، وأصل الدين أن تخضع لله، بل إن العبادة في أصلها غاية الإذعان مع غاية الحب، ولا يليق بالإنسان أن يخضع لغير الله، ولا أن يُحسَب على غير الله، ولا أن يستسلم لغير الله، لأن الإنسان خُلِق لله، فأنت في الأصل مخلوق لله عزَّ وجل، وإذا صحَّ أن نقول: إن الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن ؟ هو لله عزَّ وجل .

(( خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ))

[من شرح الجامع الصغير عن ابن مسعود]

من جهل حقيقة إنسانيّته ورسالته وسرّ وجوده فقد احتقر نفسه:

 حينما يكون الإنسان لغير الله يحتقر إنسانيَّته، ويحتقر هويَّته، والمقام الرفيع الذي أحلَّه الله به:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾

( سورة الإسراء) .

 يخاطب الله عباده بنسبة تشريفٍ له:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الزمر)

 وقال:

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) ﴾

( سورة الحجر)

 رفع الله جلَّ جلاله من قدر الإنسان إلى أعلى مكان، فحينما يجهل الإنسان حقيقة إنسانيّته، وحقيقة رسالته، وحقيقة سرّ وجوده فإنما يحتقر نفسه:

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) ﴾

( سورة البقرة)

الإسلام أن تستسلم للمطلق:

 أيها الأخوة الكرام:

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ (131)﴾

( سورة البقرة)

 دقِّق، أحياناً تأخذ فكرةً عن طبيبٍ متفوِّقٍ جداً ؛ عالمٍ، ورعٍ، مسلمٍ، مخلصٍ، يعطيك تعليمات، راقب نفسك، فقلَّما تحاول أن تفكَّر في حكمة هذه التعليمات لأنك مؤمنٌ أنه متفوِّق في علمه، وفي ورعه، وفي اختصاصه، وفي نصحه، فأنت مع إنسان تستسلم، فكيف مع الواحد الديَّان ؟ الاستسلام لله شيء مسعد، وكل هذا الكون يشهد لله عزَّ وجل بالعظمة، ويشهد له بالحكمة، والرحمة، والعلم، والعدل، فإذا استسلمت لله حقَّقت كل مصالحك . فالإنسان له مصالح، وأكبر هذه المصالح السلامة والسعادة، فإذا استسلمت إلى خالقك وطبَّقت منهجه فهو الصانع الحكيم، وتعليماته هي تعليمات الصانع، والجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها . أما أن يستسلم الإنسان لإنسان، أيْ لمخلوق ضعيف، إذ يستسلم لما يبدو له أنه قوي وهو في الحقيقة ضعيف !!
 يقال: إن أحد الوزراء سأل أمير المؤمنين وقد طلب كأس ماءٍ منه، فقال: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس لو مُنِع منك ؟ قال: " بنصف ملكي " ، قال: ولو منع إخراجه ؟ قال: " بنصف ملكي الآخر ".
 الإنسان ضعيف إذ كل ملك هذا الخليفة لا يساوي كأس ماءٍ يشربه ويخرجه . وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيت الخلاء، يقول:

(( الحمد لله الذي أذهب عني الخبث، أذهب عني ما يؤذيني، الحمد لله الذي أذاقني لذَّته ـ الطعام ـ وأبقى فيَّ قوَّته، وأذهب عني أذاه ))

[من شرح الجامع الصغير عن أنس بن مالك]

 الإنسان ضعيف، فأنت حينما تكون لإنسان فأنت ضعيف لضعيف، وفقير لفقير، وجاهل لجاهل، أما إذا استسلمت للمُطلق ـ دقق ـ فضعفك يقوى بقوَّته، وجهلك يزول بعلمه، وحيرتُك تتلاشى بهداه، والإسلام أن تستسلم للمطلق، قد يقول أحدكم: كيف أستسلم؟ فهذا القرآن، وهذه تعليمات المُطلق، وتعليمات الخالق، وتعليمات الإله، لتفعل ولا تفعل، لمجرَّد أن تطبِّق هذا الأمر والنهي فأنت استسلمت لله عزَّ وجل .

 

الكون وحده يعتبر دليلاً قاطعاً على عظمة الله عزَّ وجل:

 قال تعالى:

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

 دقِّق:

﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

 الأب طبيب، وباعه طويل في الطب، ومتفوِّق، وعانى ابنه من قضيَّة في صحَّته، فالأب يقول له: لا تأكل هذا الطعام، ودع شُرب الماء، واترك الملح ـ مثلاً ـ كل ثقة الطفل بأبيه، وكل ثقته بعلم أبيه، أفلا يكفي هذا الكون دليلاً قاطعاً على عظمة الله عزَّ وجل ؟ وأمر من هذا ؟ أمر الخالق .
 ذكرت هذه القصَّة كثيراً ولكنها مناسبة الآن ؛ عالم ذهب إلى أمريكا، وأجرى حواراً مع عالم مسلم أمريكي حول لحم الخنزير، فالعالِم الذي من بلدنا أفاض، وشرح، وبيَّن الحكم، والعلل، والجراثيم، والدودة الشريطيَّة . فابتسم هذا المسلم الأمريكي وقال له: كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرَّمه . لأن كل علم الله في هذا التحريم، ولأن كل رحمة الله في هذا التحريم، وحكمته وخبرته أيضاً، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

( سورة فاطر )

 أنا لا أريد أن أُكثر من الأمثلة، ولكن لو كان لديك جهاز كمبيوتر وأصابه خلل، فأنت تذهب به إلى الخبير، فيقول لك: يجب أن تُغَيَّر هذه القطعة ـ فإذا كنت واثقاً طبعاً ـ تقول له: افعل ما تريد . فأنت مع الخبراء مستسلم، ومع الأقوياء مستسلم، ومع العلماء أيضاً، فالله يأمرك أن تكون مستسلماً له، فالعلم كلُّه، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقدرة كلها، واللطف كله، والخبرة كلها إن استسلمت لله استسلمت للمُطلق .

 

حينما تخضع لأمر إلهي تخضع لأنه أمر الله عز وجل:

 قال تعالى:

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

 هذا هو الدين، إنّه خضوع ؛ إنك حينما تخضع لأمر إلهي، تخضع لأنه أمر الله عز وجل، قال علماء الأصول: " علَّة كل أمرٍ أنه أمر " . ويكفي أنه أمر وانتهى الأمر، وهذا يقودنا إلى قول سيدنا الصديق حينما أنبأه أهل قريش أن صاحبك يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته . كلام غير مقبول، لا توجد مواصلات، ولا طائرات، ولا حوَّامات، ولا مركبات سريعة، ولا قطار سريع، ولا يوجد إلا الجمال، فشهر ذهاب وشهر إياب، أما أن يذهب إنسان ويصلي في بيت المقدس ويعود !! أرادوا أن يؤكِّدوا له أن صاحبك يقول كلاماً غير معقول: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته !! فماذا كان جواب سيدنا الصديق ؟ قال: " إن قال هذا فقد صدق "، أرأيت الاستسلام ! أنت حينما تؤمن بالله وأنا أدعوك إلى الاستسلام بعد أن تؤمن بالله، وبعد أن تؤمن بما عنده، وبما ينتظر الإنسان من إكرامٍ لو استقام على أمره، وبما ينتظر العاصي من عقاب إذا خرج عن منهجه:

﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾

( سورة يونس)

على الإنسان أن يستسلم لعلم الله وقدرته:

 إذا كان بُعد بعض المجرَّات أربعةً وعشرين ألف مليون، هناك مجرَّات تبتعد ثلاثمئة ألف مليون سنة ضوئيَّة، والضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، فكم تبعد هذه المجرَّات ؟ إذا كانت درب التبانة ـ هذه مجرَّتنا ـ وهي مجرَّة معتدلة ليست كبيرة ولا صغيرة، من بين مئة ألف مليون مجرَّة ـ هذا الرقم الأخير ـ ومجرَّتنا إحدى هذه المجرَّات، تحوي مجرّتنا ما يقترب من مئة ألف مليون نجم، والمجموعة الشمسيَّة بأكملها ما هي إلا نقطةٌ على خريطة هذه المجرَّة، ويقال لك: إن الإنسان غزا الفضاء، أي قطع بالفضاء الخارجي ثانية ضوئية واحدة، فوصول الإنسان للقمر قطع ثانية ضوئية فقط، والشمس ثماني دقائق، والمجموعة الشمسيَّة ثلاث عشرة ساعة، والمرأة المُسلسلة مليونا سنة ضوئيَّة، وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئيَّة، ونجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئيَّة، ثم هناك خمس ملايين، ثم هناك أربعمئة مليون، ثم هناك ثلاثمئة ألف مليون سنة ضوئيَّة:

﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

( سورة غافر )

 ينبغي لك أن تستسلم لعلمه، وأن تستسلم لقدرته، ونحن عندنا قِوى ضغط من صنع الإنسان، إذا دخلت الأرض النقطة السوداء ـ أو الثقوب السود ـ أصبحت بحجم البيضة، تصوَّر إذا ذهبت إلى حلب تحتاج خمس ساعات، ويزداد سَأَمُكَ من طول الطريق، وسوريا لا تتسع لكتابة اسمها على خارطة صغيرة، سوريا خمسة حروف لا تتسع كل بلاد سوريا على خارطة صغيرة ليكتب عليها اسمها بين الدول الكبيرة، وهذه الدول العملاقة، القارات الخمس التي هي خُمس البحر، وهذه الأرض إذا دخلت إلى ثقبٍ أسودٍ في الفضاء أصبحت بحجم البيضة، فهذه قدرة، وما قولك بهذه القدرة ؟ قدرة تضغط الأرض إلى حجم بيضة بالوزن نفسه ؟! قوة، ورحمة، وعلم، وخبرة، يدعوك الله إلى أن تستسلم له ؛ للقوي، والغني، واللطيف، والخبير، والعليم، والعدل هذا هو الموضوع:

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾

الإنسان يحب أن ينقل خبراته إلى أولاده وأن يكونوا استمراراً له:

 رب العوالم، العوالم جمع عالَم، والعالَم ؛ عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الأسماك، وعالم الأطيار، ففي الحيوانات وحيدة الخليَّة أنواع منوَّعة، وفي البحار مليون نوع من الأسماك، ومئات الألوف من الأطيار، وملايين من أنواع النباتات، فكل هذه العوالم ربُّها الله هو الذي أوجدها، وهو الذي أمدَّها، وهو الذي يسيِّرها .

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

 نشكر أختاً كريمة تحضر معنا الدروس من أكثر من ربع قرن، لها ابنةٌ وزوج ابنةٍ ليسا مؤمنين، يؤمنون بأنه لا إله، فكانت هذه المرأة تدعو ابنتها وزوج ابنتها إلى حضور هذه الدروس، سنوات وسنوات، فاستجابا لها في النهاية وحضرا بضعة دروس، ثم وافت المنيَّة زوج ابنتها، فقال لأولاده وهو على فراش الموت: " كل شيءٍ سمعتموه مني كان باطلاً، الدين هو الحق " . ففي حياة الإنسان شخص واحد يتمنَّى أن يفوقه، هو ابنه، وعواطف الأب تجاه ابنه شيء ثابت، فالإنسان يحب أن ينقل خبراته إلى أولاده، وأن يكون ابنه استمراراً له، يحب أن يكون ابنه أحسن الناس، فهذه من جبلَّة البشر، ولذلك قال سيدنا إبراهيم:

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ (132) ﴾

 يعقوب وصَّى أيضاً بنيه:

﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ (132) ﴾

 لا يعقل أن يخلق الله عزَّ وجل كوناً بإعجازٍ مذهل، ثم يدع خلقه من التوجيه والتعليمات، فلا بد من أن يرسل الله لنا رسله، ولا بد من أن يكون هؤلاء الرسل موزَّعين في بقاع الأرض كلها، وفي الأزمان كلها .

 

الإنسان حينما يصدق في طلب الحقيقة يسوقه الله إلى منابعها:

 الأنبياء، والرُسل، والدعاة، والعلماء موزَّعون توزيعاً جغرافياً، وتوزيعاً زمنياً مُحْكَماً، وإن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة دينها، فالله عزَّ وجل يهيِّئ طبعاً في البدايات أنبياء ومرسلين، ثم قد هيَّأ دعاةً مخلصين ينطقون بالحق لئلا يكون الناس معطَّلين عن الأمر والنهي، والإنسان حينما يصدق في طلب الحقيقة يسوقه الله إلى منابعها، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 23 )

 أنت حينما تسمع الحق فهذه بشارةٌ لك أن الله قد علم فيك خيراً، فهناك شعوب تعبد البقر، وشعوب تعبُد الحجر، وأخرى تعبد النار، وثالثة تعبد الشهوة، ورابعة تعبد المال، فإذا شرَّفك الله بأن تعبده وأن تُصْغِي إلى الحق فهذا من نعم الله الكبرى .

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

 لذلك أنا أُلِحُّ على أخواني الكرام أن يعتنوا بتربية أولادهم، لأن الابن استمرار لأبيه، ولأن شعور الأب حينما يرى ابنه طائعاً لله، عارفاً بالله، وقَّافاً عند حدود الله شعورٌ لا يوصف، ولا يعرفه إلا كل أبٍ حريصٍ على هداية أولاده، فالله جلَّ جلاله يعلّمنا:

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

الإنسان معه منهج دقيق إذا طبَّقه يسَلِمْ ويسعد في الدنيا والآخرة:

 حينما يسقط الإنسان في الدنيا تصبح وصيَّته دنيويَّة، فكم من إنسان على فراش الموت وصَّى أولاده بمتابعة البناء، وبيع الصفقات، وجمع الأرباح، وتوزيع الثروات، وكلها متعلِّقة بالدنيا، أما أب يجعل وصيَّته الأولى تقوى الله عزَّ وجل:

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

 أنت إنسان معك منهج دقيق لو طبَّقته لسَلِمْتَ وسعدت في الدنيا والآخرة، فمنهج الله بين يديك، هذا الكتاب وهذه السُنَّة طريق قويم وصراطٌ مستقيم وحبلٌ متين ونورٌ مبين .

﴿ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

 بالمناسبة هل يمكن أن تأمر إنساناً بما لا يستطيعه ؟ مستحيل، لكن هنا نهي:

﴿ فَلَا تَمُوتُنَّ (132) ﴾

 هل الموت بيدي يا رب ؟! أأنا الذي أقرَّر الموت حتى أنك تنهاني عن ألا أموت إلا وأنا مسلم ؟ هناك معنى لطيف جداً هو إذا كان الموت ليس بيدك فلا بد من أن تكون مسلماً دائماً، حتى إذا فاجأك الموت أخذك وأنت مسلم وهذا هو المعنى . وبما أن الموت ليس بيدك ولا تقدر على ردِّه، وقد أخفى الله عنك ساعة الموت، فيجب أن تكون دائم الاستعداد له فتصوَّر إنساناً يعرف وقت موته، فهو لا يتوب إلا قبل موته بساعة، أو بخمسة أيام، ولكن لا أحد يعرف متى الموت .

إذا كنت لا تملك ردَّ الموت فينبغي لك ألا يأتيك الموت إلا وأنت مُسلم:

 أذكر أن شخصاً ذكر لي همومه المعاشيَّة، وذكر لي أنه سيسافر إلى بلد إعارة في التدريس، وسيقيم هناك خمس سنوات، ولن يأتي إلى هذا البلد، وسيتَّجه كل صيف إلى مكان ؛ صيف إلى بريطانيا، وصيف إلى إيطاليا، وصيف إلى فرنسا، وصيف إلى أسبانيا وسيعود، ثم يتقاعد من عمله الوظيفي، ثم يفتح محلاً تجارياً يبيع فيه التُحَف، وبعد أن يكبر أولاده سيجعل من هذا المكان مكاناً للندوات واللقاءات بينه وبين أصدقائه، ومازال يتكلَّم عن مشاريعه المستقبليَّة ساعةً بأكملها . وكأنني أذكر الذي تكلَّمه يزيد عن عشرين عاماً .
 خرجت من عنده وعدت إلى بيتي، وفي المساء نزلت إلى السوق لأشتري بعض الحاجات، وأنا في طريق العودة إلى البيت رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه، فلا أحد يعلم متى يموت .
 شابٌ مثقَّفٌ يحمل شهادة عُليا، يسهر مع أصدقائه كل سبت، فقال لهم مداعباً: أنا سأعيش طويلاً . فسألوه: لماذا ؟ قال: أنا وزني خفيف، ولا أدخِّن، وأمشي، وأكلي معتدل، ولا أحمَّل نفسي الهموم . وهذا كله كلام صحيح وعلمي، فهذه أسباب طول العمر، والاجتماع كل سبت، فما جاء السبت القادم إلا وهو تحت الثرى، لا أحد يعرف متى الموت فقد يكون بعد ساعة .
 دعيت مرَّة لاحتفال عيد المولد في جامع الحنابلة، وفي دخولي للمسجد رحَّب إنسان بي ترحيباً غير معقول، وجلست، بعد ربع ساعة لاحظت ارتباكاً في الحفل، فسألت عن السبب ؟ فقيل لي: إن هذا الذي استقبلك توفي . ولم يكن به أي شيء، فقبل خمس دقائق يرتدي أجمل حلة، وأبهى ثياب، وهو أحد أعضاء الجمعيَّة التي أقامت هذا الاحتفال، فذهبنا إلى المستشفى فوجدناه قد انتهى، فمن يعلم متى سيموت ؟ الموت يأخذ الشباب، ويأخذ الصغار، والكبار، والأصحَّاء، والمرضى، والأقوياء، والأغنياء، وبالدوحة أمير البحرين مات بعد مقابلة بدقيقتين، فحالات الموت مرعبة ومفاجئة، فإذا كنت لا تملك ردَّ الموت فينبغي لك ألا يأتيك الموت إلا وأنت مُسلم .

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل :

 كنت أشرح هذه الآية بمثل طريف، لو فرضنا أن بطاقة طائرة ثمنها خمسمئة ألف فرضاً، ونظام هذه الشركة أنك إن تخلَّفت عن ركوب الطائرة لا تردُّ لك قيمة البطاقة بشكل مؤكد، والبطاقة بنصف مليون، والشركة هي التي تأخذك من البيت، ولا تنتظر إلا دقيقة واحدة، متى تأتي ؟ من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، فضمن هذين الوقتين تأتي سيارة الشركة، فماذا تفعل أنت ؟ سعر البطاقة خمسمئة ألف، ولن تسترد ثمنها، ولن تنتظر إلا دقيقة، والوقت من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، لا شك أن الحريص على ثمن هذه البطاقة يقف بجانب الباب من الساعة الثامنة صباحاً، هذا معنى الآية:

 

﴿ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

 الموت يأتي فجأةً ؛ فقد يأتي وأنت في السفر، وقد يأتي وأنت في الحضر، أو في الليل، أو في النهار، أو قبل العُرس، مهندس يشرف على بناء، وكان عرسه مساءً، مدَّ رأسه من النافذة أثناء عمله، فسقطت قطعة حجر على رأسه فقتلته فوراً، وقد وزِّعت الحلويات التي اشتريت بأرقام فلكيّة على المعزِّين مساءً، وصُمدت زوجته بثياب العرس في تعزية النساء، فمن يصدِّق قبل العرس أنه سيموت ؟ إنسان بعد أن نال الدكتوراه بأيام جاءه ملك الموت، فالموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل، وهناك قصص كثيرة جداً .
 كان أحد أخواننا يشيد بناء، وبعد أن انتهى كل شيء في البناء لم يبق إلا جهاز كهربائي، فرُكِّب الجهاز وجاء الأثاث، وفي صبيحة اليوم التالي كان من المفترض أن يأتي صاحب البيت، فوافته المنيَّة مساءً ولم يسكن البيت . فقد لا تسكن البيت، وقد لا تستفيد من الشهادة، أو نسافر ولا نعود، أو نعود ولا نسافر مرة ثانية، فالموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

من السُنَّة أن يكتب الإنسان وصيَّة يُصَدِّرها بنصح أولاده من بعده:

 في آية أخرى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) ﴾

( سورة آل عمران الآية: 102)

 وقال:

﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾

 ذكر العلماء: أن من السُنَّة أن يكتب الإنسان وصيَّة يُصَدِّرها بنصح أولاده من بعده .

 

﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾

 هذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد .

 

 

كل عمل ابنك في صحيفتك:

 إنها كلمة قالها الأبناء، ولكن هذه الكلمة مُحَصِّلة توجيهات مديدة وطويلة ومتعدِّدة، فالأب الذي يكون وراء أولاده ومعهم دائماً ينصحهم ويعلِّمهم، هذا والله شهدته مرَّةً إذ هناك أولاد متميزون في تدَيُّنهم، وسبب هذا التميز في التديُّن أن آباءهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تربيتهم وعلى توجيههم، فالله عزَّ وجل يلحق عمل الأبناء بالآباء:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾

( سورة الطور الآية: 21 )

 أي أن كل عمل ابنك في صحيفتك، ولذلك :

(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))

[الترمذي عن أبي هريرة]

 الأعمال الصالحة أولاً منوَّعة، ولكن أجلَّ هذه الأعمال على الإطلاق هي التي تستمر بعد موت الإنسان . فإنسان ترك أثراً علمياً كبيراً جداً، وإنسان ترك علماً، وآخر ترك كتاباً، وثان ترك دعوة، وثالث ترك معهداً، فهذه الدعوات الجليلة التي تستمر بعد موت الإنسان هي من أَجَلّ الأعمال، إنها صدقةٌ جارية لا نهاية لها، فتصور أنه يمضى مئة سنة، وألف سنة، وألفا سنة، وآلاف مؤلَّفة، وكل من استفاد من هذا الكتاب في صحيفتك، وكل من استفاد من هذا العلم في صحيفتك .
 كنت في مؤتمر في القاهرة قبل أيام في الأسبوع الماضي، فألقى مندوب نيجيريا كلمة باللغة العربيَّة الفُصحى، وبعمقٍ شديد، ثم علمت أن هذا المندوب درس في دمشق، ثم صار مُفتي نيجيريا، فتأثَّرت تأثراً بالغاً، إنسان طالب علم درس في دمشق، قد لا يؤبه له، وقد صار مصيره مفتياً لبلد إسلامي كبير، ألقى كلمة كانت رائعة، وقد تأثَّرت تأثراً بالغاً . فهذا الذي يعلِّم طلاب العلم، هذا الذي يرعى طلاب العلم، وهذه نقطة مهمة، فالأعمال العظيمة هي التي تستمر بعد موت صاحبها ؛ وبالمقابل شر الأعمال هي التي تستمر بعد موت صاحبها، فإنسان أسَّس ملهى ومات ـ والأصح قد فطس ـ كل من ارتاد هذا الملهى، وكل من شارف على الزنا في هذا الملهى، أو من شرب الخمر في هذا الملهى في صحيفة الذي أنشأ هذا الملهى . فهذه نقطة مهمة ؛ فالأعمال العظيمة هي التي تستمر بعد موت صاحبها .

 

خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط لا خيار قبول أو رفض :

 حدَّثنا أحد الدعاة إلى الله فقال: إن طالب علم من بلد إسلامي، تعلَّم في معهده، وحصَّل الشهادة وسافر، وطُرق باب هذا العالم بعد عشرين سنة، فإذا سيارة ضخمة جداً فيها مئة طالب علم كلهم طلاب لهذا التلميذ، زار أستاذه وهو في طريقه إلى الحج، فلما رأى الشيخ هذا الطالب الذي علَّمه، وكان من حصيلة هذا الطالب هذا الجَمع الغفير من طُلاب العلم بكى . فالإنسان عليه أن يترك عملاً لا ينتهي عند موته بل يستمر، إنها صدقة جارية، فإنسان أنشأ مسجداً، وإنسان أنشأ معهداً شرعياً، فهذه الأشياء صروح باقية، فالمعاهد قلاع صامدة للعلم، وهناك أعمال والعياذ بالله تستمر بعد موت صاحبها كدور اللهو، ودور الموبقات فهذه كلها تستمر، وإنسان ترك مؤلَّفاً يدعو إلى الإلحاد وأثناء موته يؤمن، والدليل أكفر كفَّار الأرض فرعون حينما جاءه الموت قال:

﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ (90) ﴾

( سورة يونس)

 إذاً نحن خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط لا خيار قبول أو رفض، لأنه مهما كان الإنسان بعيداً عن الدين فحين الموت يُكشف عنه الغطاء :

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾

( سورة ق )

 عرفت الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان:

﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ﴾

الآية التالية هي آية التاريخ :

 هذه ثمرة، فهل عند الإنسان إمكان أن يكون أولاده كذلك، فلو سألهم أجابوا، لو طلب منهم أن يعبِّروا عن إيمانهم لقالوا ؟ هذا من نعم الله الكبرى، قال :

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾

 هذه الآية أيها الأخوة مهمَّة جداً، فهذه آية التاريخ:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ (134)﴾

 أي مضت وانسلخت عن وقتها:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) ﴾

 هذا الذي يستقدم قضايا من التاريخ، ويجعلها سبب خلاف معاصر، هذا إنسان بعيد عن الحقيقة، فكل أمةٍ لها عملها ولنا أعمالنا، فهؤلاء الذين مضوا إن كانوا في أعلى عليين، فهذه مكانةٌ احتلوها بعملهم وإخلاصهم، لا ينفعهم أن نمدحهم، ولا يؤثِّر عليهم أن نذمَّهم، وكل إنسان مضى له عند الله مكانة ثابتة هي مُحَصِّلة عمله، واستقامته، والتزامه، وإخلاصه، فله مكانة لا يرفعها مدح المادحين ولا يخفضها ذم الذامِّين، إذاً كن مطمئناً، فتقييم الأشخاص من شأن الله عزَّ وجل، فما بال بعض المسلمين يستنبئون التاريخ، فلان على حق أم فلان ؟ فلان أعظم عند الله أم فلان ؟ هذا ليس من شأنك بل هذا من شأن الله عزَّ وجل، وفِّر وقتك .

 

نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل :

 قال تعالى:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ (134) ﴾

 أي لها كَسْبُهُا وعملها الذي مكَّنها الله منه باختيارها:

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ (134)﴾

 ولن تُسَأل أمة عن أمة:

﴿ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾

 هل من الممكن أن نوفِّر وقتنا ونتجه نحو المستقبل ؟ قال العلماء: " هناك من يعيش الماضي، وهناك من يعيش الحاضر، لكن نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل " . أخطر حدث في المستقبل هو الوفاة، وأخطر حدث بعد الولادة هو الموت، فالإنسان أمامه حدث خطير هو مغادرة الدنيا، بحسب الظاهر من كل شيء إلى لا شيء، إلى قبر، من بيتٍ فاخر إلى قبرٍ مظلم، ليس معك في القبر إلا عملك إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، فهذا الشيء المُجدي، أما الماضي فما لي وللماضي ؟ ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، الأولى أن يفكِّر الإنسان في مستقبله، والأولى أن يعُد عمره عداً تنازلياً لا عداً تصاعدياً، اركب مركبة واذهب إلى حمص تصلها بمئة وخمسين كيلو متر، وبعدها بمئة وأربعين، مئة وثلاثين، مئة وعشرين، مئة وعشرة، مئة، تسعين، ثمانين، سبعين، ستين، خمسين، أربعين، ثلاثين، عشرين، عشرة، خمسة، حمص ترحِّب بكم، نازلين . فلو أحصينا عمرنا بهذه الطريقة اختلف الأمر .

 

البطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين بل أن تبحث في عملك أنت :

 الآن قضينا أربعين، فكم بقي يا ترى ؟ على المستوى المتوسِّط بالستين، فمعترك المنايا بين الستين والسبعين، فإنسان يموت وعمره خمس وخمسون، أو أربع وأربعون، أو تسع وثلاثون، أما الأغلبيَّة فبين الستين والسبعين، فإذا مضى من عمر أحدنا أربعون سنة، كم بقي له على المتوسط ؟ نصف ما مضى، وصل إلى الخمسين فبقي عشر، ووصل إلى الخامسة والخمسين بقي خمس، وبعد هذا ينتظر الصباح والمساء، فإذا نام لا يستيقظ، وإذا استيقظ لا ينام، يخرج من بيته كل يوم قائماً، ومرَّة واحدة أفقياً، وكلَّما خرج عاد إلا مرَّة واحدة يخرج ولا يعود، والموت مصير كل حيّ، فلذلك:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ (134) ﴾

 مضت ونحن سنمضي، وبعد مئة عام في الأعم الأغلب لن يكون واحد منا في هذا المجلس على قيد الحياة، بل كلنا تحت الأرض بلا استثناء، وهؤلاء الذين في القبور كانوا أشخاصاً، ولهم هموم، ولهم مشكلات، وعندهم أعمال، وعندهم إنجازات، وسكنوا في بيوت جميلة، وأكلوا طعاماً طيباً، وتزوَّجوا النساء أين هم الآن ؟ أحياناً تجد جمجمة مثلاً بمتحف، أو بمخبر علمي طبيعي، فمن صاحب هذه الجمجمة ؟ ماذا كان يعمل ؟ لا نعرف، يوجد في أمريكا حفرة مثل الجب فيها كتلة تساوي خمسة طن كلها جماجم، وكان هناك اعتقاد واهم أن فيها كنوزاً فمئات وآلاف الأشخاص ألقوا بأنفسهم ليخرجوا الكنز، فماتوا ولم يجدوه وجماجمهم تشهد عليهم، وهذا هو الإنسان .

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) ﴾

 هذه المقابر حول دمشق، هذا مات بالثمانين، وبالتسعين، وبالسادسة والثمانين، وبالخامسة والثمانين، وبالخامسة والتسعين، هذا عميد أسرته، وهذا الشاب، وهذا الطبيب، وهذا المهندس، فهذه المقبرة فيها كل الناس، وكل إنسان له عمله، فالبطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين ـ دقِّق في هذا الكلام ـ البطولة أن تبحث في عملك أنت، لأن عملك أنت هو الذي تُسأل عنه بالضبط .

 

الحنيف هو المائل لله عزَّ وجل عما سوى الله:

 قال تعالى:

﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) ﴾

 سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، والعرب من نسل إسماعيل، واليهود من نسل إسحاق، وهو أبو الأنبياء، وقد آمن ببعض الآيات رأى كوكباً قال: هذا ربي، ثم رأى القمر بازغاً قال: هذا أكبر، ثم رأى الشمس، ثم وجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ولم يك من المشركين .

﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا (135) ﴾

 أي أن اليهود قالوا: كونوا هوداً تهتدوا . والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا , قال :

﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) ﴾

 الحنيف هو المائل لله عزَّ وجل عما سوى الله بالضبط، وهذا معنى:

﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾

( سورة آل عمران)

 الإنسان الحنيف قلبه معلَّقٌ بالله وعمله خالصٌ له وسلوكه منضبطٌ بشرعه تعالى .

 

مضمون دعوة الأنبياء واحدة:

 قال تعالى:

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) ﴾

 أيْ أَنَّ فحوى دعوة الأنبياء واحدة، أي مضمون دعوة الأنبياء واحدة:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي(25) ﴾

(سورة الأنبياء )

 توحيدٌ وعبادة:

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (137) ﴾

 توحيدٌ وطاعة، توحيد الإله عقيدةً، والطاعة سلوكاً .

هناك اثنينية إما أن تكون على الحق وإلا فأنت على الباطل حتماً:

 قال تعالى:

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ (137) ﴾

 أي بالتوحيد والطاعة والاستسلام لمنهج رسول الله عليه الصلاة والسلام:

﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا (137) ﴾

 عن هذا المنهج:

﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ (137) ﴾

( سورة )

 هناك اثنينية إما أن تكون على الحق، وإلا لا سمح الله ولا قدَّر فأنت على الباطل حتماً:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ (50) ﴾

(سورة القصص)

 وقال:

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ (137) ﴾

 شقاقٍ عن الحق، ومعاداة للحق، ومُجافاة له، وبُعد عنه:

﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ (137) ﴾

حينما يبتعد الإنسان عن الله عزَّ وجل يختل توازنه:

 عندما يبتعد الإنسان عن الحق أو يودُّ أن يؤذي الحق، ويكيد له، ويسفِّه أهله، ويبتعد عنه ويحيك المؤامرات لأهله ويطعن بهم، هذه معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة بين الحق والباطل .

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ (137) ﴾

 إنه بُعْد، ومعاداة، وبُغض، فمن كان هذا حاله لا بد من أن يقف موقفاً معادياً للحق، فكل إنسان كافر، أو بعيد، أو معرض، لا بد من أن يعادي أهل الحق ولو بالطعن، أو بتقليل الشأن، أو بالغَمز، أو باللمز، أو بالاتهام الباطل، أو بترويج قصَّة لا أصل لها وليست ثابتة، ولكن ليشفي غليله كي يستعيد توازنه .
 ذكرت هذا من قبل: وحينما يبتعد الإنسان أيها الأخوة عن الله عزَّ وجل يختل توازنه، لأن هذا المنهج منهج ربَّاني والإنسان مجبول على هذا المنهج، وهناك توافق عجيب بين هذا المنهج وبين فطرة النفس البشريَّة، فإذا ابتعد الإنسان عن هذا المنهج يختل توازنه، فكيف يستعيده ؟ يستعيده بحالةٍ صحيحة وحالتين مرضيَّتين، الحالة الصحيحة أن يصطلح مع الله فيستعيد توازنه، الحالة المرضيَّة الثانية والثالثة يستعيده حينما يطعن بأهل الحق حتى يرتاح، ويطعن بأهل الحق ليستعيد توازنه، أو يتعلَّق بنظرية فاسدة وبعقيدة زائغة يستعيد بها توازنه، فإذاً ينتج من اختلال توازن الكافر معركة بين الحق والكفر، وهذه المعركة ثابتة أزليَّة أبديَّة، فلذلك:

﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ (137) ﴾

 الله هو الفَعَّال، وهو القدير، فلا تخافوا، يا أخوان إنها كلمة أقولها من أعماقي: لا تقلقوا على هذا الدين ولو رأيتم أهل الأرض كلهم يأتمرون عليه، فلا تقلقوا ولو أن القوى القويَّة في العالم تناهض هذا الدين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يسفِّهوا هذا الدين ما استطاعوا لأنه دين الله عزَّ وجل، فالله كن فيكون، ولكن اقلقوا إذا سمح الله لكم أن تكونوا من أنصاره أم لم يسمح ؟ أمنحكم الله شرف نصرته أم لم يمنح ؟ وهنا القلق:

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور