وضع داكن
20-04-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - مقومات التكليف - الندوة : 37 - الشهوة - شهوة المال - التمويه في عالم الحيوان
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
ونستمر إن شاء الله في رحلتنا المديدة مع الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق .
أهلاً وسهلاً سيدي الكريم .
بكم أستاذ علاء جزاكم الله خيراً .
الأستاذ علاء :

ملخَّصٌ تذكيريٌّ :

سيدي الكريم ، نحن في رحلة طويلة ، لكنها ممتعة ، هذه الرحلة التي تتحدث عن مقومات التكليف ، أن الله عز وجل استخلف الإنسان على هذه الأرض ، وحمله الأمانة ، وتحميل الأمانة للإنسان ، وهي أثقلُ شيء ، حيث ناءت بالجبال والسماوات والأرضون ، وحملها الإنسان ، كان في هذا التحميل ، وهذا التكليف مقومات ، وبدأنا في المقومات بالكون ، وأفردنا له الكثير ، والعقل ، ثم الفطرة ، ثم حططنا رحالنا عند الشهوة ، وتحدثنا بالتفصيل عن هذا المقوم من مقومات التكليف في أربع حلقات ، وربما نستغرق أكثر من ذلك في هذه المسألة ، تحدثنا عن الشهوة في اتجاهين ، الشهوة التي تتعلق بحب النساء ، الجنس ، والشهوة التي تتعلق بحب المال ، وتملك المال ، الله عز وجل يقول :

 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾

( سورة آل عمران : 14)

إلى آخر الآية الكريمة .
إذاً : زين للناس الحبَّ ، إذاً : المحبة شيء من الفطرة التي أودعها الله في الإنسان .

الدكتور راتب :
في أصل خلق الإنسان .
الأستاذ علاء :
في أصل خلق الإنسان ، وتحدثنا أن الشهوة هي قوة كامنة ، هذه القوة إذا استطعنا أن نؤطرها ، وأن نُجريها في مجاريها الطبيعية ، وفي قنواتها الطبيعية كانت خلاّقة ، ودفعت بالإنسان ، وارتقت به ، و نمت الحياة ، وإذا انفجرت هذه القوة الدافعة خارج حجرة الانفجار النظامية التي كانت معدة للانفجار وللاستغلال أصبحت مهلكة .
تحدثنا سيدي الكريم عن الجنس ، ومررنا عليه بالتفصيل ، ثم تحدثنا في الحلقة السابقة عن المال ، وقلت : إن المال قوام الحياة ، وهو محبب للنفس .
سيدي الكريم ، الله عز وجل أودع في نفوسنا حب المال ، والمال قوام الحياة ، وهو شيء يحب الإنسان أن يكون في مقدوره ، لكن كيف يستعمل هذا الحب ، وهذه الشهوة استعمالاً صالحا ؟
الدكتور راتب :

المال :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

1 – المال قوّةٌ حيادية :

أستاذ علاء ، أول فقرة أساسية في هذا اللقاء الطيب أن المال حيادي ، هو قوة كبيرة يمكن أن يوظف في الخير كما يمكن أن يوظف في الشر ، والشيء الذي يستخدم بطريقتين متعاكستين يسمى شيئاً حيادياً ، لذلك هذا المعنى الجليل تؤكده الآية الكريمة : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ﴾

( سورة الفجر : 15 )

فيقول هو : 

﴿ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

( سورة الفجر : 15 )

هذه مقولته ، قال تعالى : 

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾

( سورة الفجر )

2 – المال يعطيه الله لمَن يحب ولمن لا يحب :

أستاذ علاء ، كلمة ( لا )شيء ، وكلمةُ ( كلا )شيء آخر ، لو أني سألت أخاً كريماً : هل تناولت طعام الفطور ؟ يقول : لا ، أما لو سألته ـ لا سمح الله ـ هل أنت سارق ؟ لا يقول : لا ، يقول : كلا ، لأن كلا أداة ردع وزجر ونفي ، فلذلك الله عز وجل يرد على مقولة الإنسان الواهمة أن كل إنسان أعطاه الله مالاً يتوهم الإنسان أن الله يحبه ، وقد يكون العكس ، لأن قارون أعطاه الله مالاً ، والشيء الذي يعطى لمن يحب ولمن لا يحب لا يعد مقياساً للمحبة ، مادام الله عز وجل قد أعطى سيدنا سليمان الملك ، وأعطى سيدنا عثمان بن عفان المال ، وأعطى سيدنا عبد الرحمن بن عوف المال الوفير ، وأعطى قارون المال الوفير ، مادام الشيء الواحد إذا أعطي لطرفين متعاكسين لا يمكن أن يكون قيمة موجهة في اتجاه خاص .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، أفهم من كلامك بأن المال لا يحمل قيمة كامنة توجه الإنسان باتجاه اليمين أو اليسار ، الخير أو الشر ، وإنما الإنسان هو الذي يوجِّهه .
الدكتور راتب : 

3 – المال مادةُ امتحانٍ وابتلاءٍ :

لكنها حيادية ، يمكن أن ترقى بالإنسان إلى أعلى عليين ، ويمكن أن تهبط بالإنسان إلى أسفل سافلين ، ووقفنا عند الآية وقفة متأنية : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ ﴾

( سورة الفجر : 15 )

وحيثما وردت كلمة( الإنسان )

في القرآن الكريم فهي تعني الإنسان قبل أن يعرف الله في أصل فطرته ، قال تعالى : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ ﴾

( سورة الفجر : 15 )

الابتلاء هو الامتحان ، والله عز وجل يقول : 

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

( سورة المؤمنون)

الأصل أن الحياة الدنيا ابتلاء ، قال تعالى : 

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

( سورة هود : 7)

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ ﴾

( سورة الفجر : 15 )

أي امتحنه بالمال ، قد ينجح ، وقد يرسب ، وقد يرقى بالمال إلى أعلى عليين ، وقد يسقط به إلى أسفل سافلين ، قال تعالى : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾

( سورة الفجر :15 )

على الشبكية أكرمه ببيت فخم ، مركبة فارهة ، زوجة جميلة ، دخل فلكي ، سفر ، رحلات ، تصدر في المجالس ، قال تعالى : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾

( سورة الفجر :15 )

هو يتوهم أن الله يحبه فيقول : 

﴿ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

[ سورة الفجر ]

بالمقابل الإنسان ضعيف الإيمان الذي لم تتضح رؤيته بعد حينما يحرم من المال يظن أنه مهان عند الله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : 

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ )) 

[ الترمذي عن أنس ]

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾

( سورة الفجر )

الرد الإلهي : كلا يا عبادي ، ليس عطائي إكراماً ومحبة ، وليس منعي إهانة وازدراءً ، إن عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء ، عطائي ابتلاء لهذا الإنسان ، فقد يرقى بالمال إلى أعلى عليين ، وقد يسقط بالمال إلى أسفل سافلين .
هذا الذي أوتي مالاً وفيراً ـ والله أستاذ علاء ـ أمامه من فرص العمل الصالح التي يرقى بها عند الناس وعند الله ما لا يوصف ، بالمال بإمكانك أن تؤسس مياتم ، مدارس ، معاهد ، مستشفيات ، أن تزوج الشباب ، أن تحل مشكلات الملايين ، أن تكون محبتك في قلوب جميع الخلق ، بإمكانك بالمال أن ترقى به إلى أعلى عليين .

إنفاق المال تطهير للغني والفقير :

حينما قال الله عز وجل :

 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾

( سورة التوبة : 103)

تؤكد صدقهم في محبة الله .

 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾

( سورة التوبة : 103)

تطهر الغني من الشح ، تطهر الفقير من الحقد ، تطهر المال من تعلق حق الغير به . 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾

( سورة التوبة : 103)

تزكو نفس الغني حينما يرى عمله قد ملأ القلوب محبة له ، وقد مسح الدموع من عيون الأطفال ، وقد حل مشكلات بعض الناس محبته في قلب الناس جميعاً ، يشعر بقيمته في الحياة ، يشعر أنه إنسان أدى دوراً إيجابياً ، كان في مستوى المهمة التي أوكله الله إياها .
إذاً : الغني تنمو نفسه حينما يرى آثار عمله ، ويكون من حوله حراساً له ، وليس يتوهم أنهم سينقضون عليه ، فرق كبير بين المحسن الذي كل من حوله حراس له ، وبين المسيء الأناني الذي يعيش لذاته ، ولا يعبأ بآلام البشر ، هؤلاء يظن الغني أنهم يتربصون به ، وبين أن يكون مطمئناً ، وبين أن تعيش قلقاً ، فلذلك الغني تنمو نفسه ، والفقير حينما يرى أن المجتمع مهتم به مهتم بصحته ، مهتم بمعيشته بأولاده بمسكنه .
الأستاذ علاء :
يتبرأ من الحقد .
الدكتور راتب :

الإنفاق سياسةُ تماسُكِ المجتمعِ :

وفي النهاية ، ولننتقل إلى موضع آخر ، يتماسك المجتمع ، وإذا تماسك المجتمع كان سداً منيعاً لا يخترق .
وقد يحسن أن ننتقل نقلة لطيفة من موضوع ديني إلى موضوع سياسي ، كيف ؟ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ))

[ البخاري ]

كيف ؟ هذا الفقير إذا أطعمته إذا كان جائعاً ، إن كسوه إن كان عارياً ، إن آويته إن كان مشرداً ، إن علمته إن كان جاهلاً ، إن عالجته إن كان مريضاً ، إن أنصفته إن كان مظلوماً ، هذا الضعيف بإمكانك أن تسحقه ، أو أن تهمله ، أو لا تعبأ به ، ولكن حينما تهتم به ابتغاء وجه الله كي يرضى الله ، يكافئ الله الأمة التي تعتني بضعفائها بأن ينصرها على من هو أقوى منها ، أنت إذا نصرت مَن هو أضعف منك كافأك الله بأن ينصرك الله على مَن هو أقوى منك ، لذلك قال تعالى : 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾

( سورة التوبة : 103)

تؤكد صدقهم ، تطهرهم ، تطهر الغني من الشح ، والشح مرض خطير ، وكأنه على مستوى الجسم ورم خبيث ، قال تعالى : 

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

( سورة الحشر)

تطهر الفقير من الحقد ، تطهر المال من تعلق حق الغير به ، وتزكيهم ، تزكي نفس الغني حينما يشعر أنه في قلوب مَن حوله ، تزكي نفس الفقير حينما يشعر أن مجتمعه مهتم به ، تزكي المال ، المال يزداد بطريقتين ، بطريقة القانون الاقتصادي : أنك إذا أعطيت الفقير مالاً أصبح بيده قوة شرائية ، اشترى بها مِن عند الغني مرة ثانية ، فأحياناً الدول القوية والغنية تساعد الدول الضعيفة من أجل أن ترفع قوة شرائها منهم .
الأستاذ علاء :
وتعمل على رفع الدخل عند أفرادها لكي يكون القوة الشرائية لديهم بمستوى بضاعتهم وما ينتجون .
الدكتور راتب :

نموُّ المال وعلاقته بالعناية الإلهية :


شيء آخر ، أن المال أحياناً ينمو بطريقة لا نعرفها أنا أسميها العناية الإلهية ، أنت حينما تعطي من مالك يخضعك الله عز وجل لقانون آخر غير القانون المعروف عند الناس ، يحفظ لك مالك ، ينمي لك مالك .
إذاً : قضية المال حيادي ، إما أن يوظف بالخير ، أو أن يوظف في الشر ، أنا أعجب من هؤلاء الموسرين ، بإمكانهم أن يكونوا في أعلى عليين ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : 

(( لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ )) 

[ البخاري ومسلم ]

كلا يا عبادي ، ليس عطائي إكراماً كما تتوهمون ، عطائي ابتلاء ، المال قيمة موقوفة على طريقة إنفاقه .
الأستاذ علاء :
أو طريقة الاستخدام .
إذاً : أعود سيدي إلى مسألة .
الدكتور راتب :
أحياناً سكين تقطع بها الخضار والفواكه ، وقد يذبح بها إنسان ، السكين حيادية موقوفة على طريقة استخدامها .
الأستاذ علاء :
أعود إلى مسألة التطهر والتزكية ، وهي بمنزلة إعادة المناعة للجسد وللروح ، وبالتالي يستطيع هذا الجسد الذي هو مثال للأمة كما تفضلت التي تترابط كالبنيان المرصوص ، ليعيد المناعة إلى الجسد والروح ، أي على المجتمع بترابطه ، بتزكيته ، بانتفاء الحقد من بين ضلوع أبنائه ، وبالتالي يصبح هذا الجسد في مناعة تأبى الأمراض والأدواء ، وكل ما يصيب الجسد ، وكذلك الروح ، لذلك ننصر بالضعفاء ، والله عز وجل ينصرنا على أعدائنا بضعفائنا إن التفتنا إليهم .
نعود إلى المسألة التي تفضلت بأن المال حيادي ، وكل ما قدمت لنصل إلى مسألة هامة المال حيادي يوظف في الخير ويوظف في الشر .
الدكتور راتب :

الدنيا دار ابتلاء مؤقتة :

لكن لا بد تعقيب ، هو أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، لأنه مؤقت ، ولم يحزن لشقاء ، لأنه مؤقت ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ، الآن الحظوظ والمال موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، وفرق كبير بين الابتلاء والجزاء ، الابتلاء موقوف على طريقة إنفاقه ، أما الجزاء فأبدي ...

الأستاذ علاء :
لماذا يظن الإنسان بأن الحظوظ هي كما تفضلت جزاء في الدنيا ؟
الدكتور راتب :

أوهام بسبب ضيقِ الأفق :

لضيق أفقه ، لأن الله عز وجل يقول : 

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

( سورة الأعراف) 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾

( سورة الأنفال : 36)

لكن أستاذ علاء ، لو أن الإنسان عاش ستين عامًا ، وكان غنياً ، ولم ينجح في امتحان الغنى ، فتكبر ، واستعلى ، ونسي من حوله من الفقراء ، وقال : أنا قوي ، أنا غني ، الدراهم مراهم ، وهكذا ، وإنسان عاش ستين عاماً ، وكان فقيراً ، فنجح في امتحان الفقر ، تجمل وصبر ، وسعى جهده لرفع دخله ، فإذا لم يستطع قنع بما آتاه الله ، الآن تنتهي الستون عاما ، هناك الأبد ، فالذي نجح في امتحان الفقر ملِك الأبد ، والذي رسب في امتحان الغنى مصيره إلى النار ، فلذلك البطولة ليس ما في الدنيا ، هذا المعنى أشار إليه الإمام علي رضي الله عنه قال : << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> ، فلا يسمى الغني غنياً في الدنيا ، ولا الفقير فقيراً ، الغنى والفقر بعد العرض على الله ، لذلك قضية الامتحان ، المال امتحان ، فإما أن يرقى بك إلى أعلى عليين ، وقد تنافس به كبار الدعاة وكبار العلماء ، لأن العلم قوة ، والمال قوة ، يوظف في الخير كما يوظف في الشر .
أستاذ علاء ، ما دمنا في هذا الموضوع لا بد من ملاحظة ، الإنسان في الأصل مخير ، وحينما نتوهم أنه مسير فقد ألغينا الأمانة ، ألغينا التكليف ، ألغينا كل هذه الندوات ، الإيمان هو الخلق ، ألغينا الثواب ، ألغينا العقاب ، ألغينا الجنة ، ألغينا النار ، أنت حينما تتوهم أن الإنسان مسير فقد ألغي كل شيء .
الأستاذ علاء :
كنت أتمنى أن نستمر في هذا الموضوع ، لكن وقت الفقرة العلمية حان ، وإن شاء الله نستمر في هذا في لقاء قادم إنشاء الله ، ماذا اخترت لنا سيدي في الفقرة العلمية ؟
الدكتور راتب :

 

الموضوع العلمي : ظاهرةُ التمويه عند الحيوانات :

 

1 – التخطيطات العسكرية الدفاعية والهجومية عند الحيوانات :


 إنه موضوع في التمويه لا يصدق ، إن الله عز وجل خلق كل نوع من الكائناتالحية في الطبيعة بخصائص تميزه عن غيره ،فبحسب البيئة التي يعيش فيها يستخدم كل كائن هذه الخصائص الفطرية لحماية نفسه ، أو للتربص بفريسته ، فبعض الكائنات يخفي نفسه بتقنية تمويه عالية جداً ،وبعضها يتصنع ويمثل ، وبعضها يسلك التكتيك الذكي ، هذه السمكةنفخت نفسها فلم تستطع السمكة الأخرى أن تلتهمها .
أيها الإخوة المشاهدون ، تتابعون في هذا الفيلم الخصائص الخارقة للكائنات الحية ، وسوف نرى نماذج من خلق الله تعالى في الطبيعة ، التمويه واحد من عناصر الفن العسكري الذي لا يمكن الاستغناء عنه ،فالقدرة على التخفي عن أعين العدو ، والقدرة على الإخفاء في أثناء هجوم العدو مهمان إلى أقصى الدرجات ،العجيب من هذا الأسلوب المسمى بالتمويه ، والذي يستلزم تحضيراً مفصلاً أنه ليس محصوراً لدى الناس العقلاء ، بل هو مستخدم أيضاً من قِبَل الحيوانات العجماوات ، الحيوانات المموِّهة خلقت متناسقة تماماً مع البيئة التي وجدت فيها ،ووضعت تحت حماية خاصة بألوانها ونقوشها ، وبنية أجسامها ، حتى إن أجسام بعض الكائنات متناسقة مع بيئتها إلى حد يصعب تميزها عن النباتات المحيطة بها ،أفعى مع غصن كأنها غصن تماماً .
الإنسان بعقله يستخدم التمويه ، لكن الحيوان لا يملك عقلاً ، ولا يعرف ما الذي يحميه ، قال تعالى :( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) 

2 – هداية الله العامةُ لجميع مخلوقاته :

هداه إلى مصالحه ، الحقيقة أن في هذه المشاهد آيات باهرات دالة على عظمة الله عزوجل ، بعض العنكبوت بنفس لون الزهرة كما رأينا قبل قليل ،وبعض الوحوش بلون النباتات المحيطة بها ، وبعض الفهود والأسود كلها تعيش أجواء البيئة التي هي فيها ،فكأنها جزء من النبات التي هي خلفه ، وهذا شيء عظيم جداً ، ويأخذ بالألباب ، كأن الله سبحانه وتعالى تولى هداية الكائنات إلى مصالحها ، هذه هداية الله العامة لكل الخلق ، كل مخلوق مهيأ ليواجه الأخطار المحدقة به ، كل مخلوق مهيأ كي يتلاءم مع البيئة التي خلق فيها ،من أكبر الوحوش إلى أصغر الوحوش إلى الفراشات إلى الكائنات الدقيقة جداًكلها آتاها الله نوعاً من التمويه كي تنجو من عدوها وكي تصل إلى غذائها .

 

3 – ظاهرة التمويه عند الطائر في أجواء الشتاء والثلوج :

الحقيقة أن المشاهد التي سوف نراها هي في الغابات ، لكن كيف أن هذا النمر ألوانه متناسقة مع البيئة التي يعيش فيها ، الآن سينقض على هذا الغزال ،على كل أحياناً تكون الأرض مجتمعاً كمجتمع الغاب كما نسمع ونرى كل يوم في الأخبار .
الآن تعيش في القطب كائنات عالية الكفاءة في التمويه ، تعيش قريباً من القطب في أبرد مناطق العالم كائنات ماهرة في فن التمويه ،بعد قليل نبحث عن قابلية الطائر الخارقة للتمويه الذي كان سبباً في بقائه في هذا الأقاليم ، الآن الموسم خريف ، المكان صخري ، تساقطت عليه الثلوج ، وطائران قطبيان مختفيان هنا ،هل بإمكان الإخوة المشاهدين رؤية هذين الطائرين ، هما كالبيئة تماماً ، يكاد من المستحيل التمييز بين الطائر والمكان الذي قبع فيه .
الحقيقة بوجود تمويه تام متقن في ريشهما يقلدان به الأرضية الطبيعية ، والآن لندقق أكثر طبقات الثلج ، هذه نسخة مطابقة لريش الطائر الأبيض ، والأرضية الترابية الظاهرة بين الثلوج أيضاً رسمت بعناية فائقة على ريش الطائر ،الأرضية ومظهر الطائر يكاد التمييز بينهما يكون مستحيلاً .
نحن الآن في الشتاء ، الموسم شتاء ، الثلج يغطي كل شيء ، يحصل تغير معجز في جسم الطائر القطبي ، يزول لون ريشه المشابه للأرض ، أما الريش الأسود الذي نراه في مقدمة رأسه فهو محيط بالعين ليحفظها من الإشعاعات العاكسة للثلج ، والتي قد تسبب العمى .
نحن أستاذ علاء ، قد لا نستطيع أن نمشي في الثلج من شدة الانبهار ، الآن الموسم ربيع ،بدأت الثلوج بالذوبان ، بين الثلوج الذائبة تخضر النباتات ، وأما ريش الطائر القطبي فيظهر ريش جديد بلون النباتات المخضرة ،له ريش في الثلج أبيض ، له ريش أخضر في الربيع . 

4 – ظاهرة التمويه عند الطائر في أجواء الصيف :

الآن يدخل بعد قليل في موسم الصيف ، الموسم صيف ، غابت الثلوج تماماً ، واخضر الغطاء النباتي ، وأظهر الطائر القطبي تمويهاً فائقاً أيضاً ، إذا يلاحظ أن جسم الطائر تغيير لون ريشه تغيراً ثالثاً متناسقاً مع الفصل الذي هو فيه ، هذا من خلق الله عز وجل ، ومن عظمة آياته الدالة على وجوده ووحدانيته وكماله ، والطائر ليس عاقلاً ،كل مظاهر التمويه الخارقة تحتاج إلى تفسير طبعاً ، يستحيل على الطائر القطبي بالتأكيد تعيين لون ريشه بحسب وسطه الذي يعيش فيه ، فهو لا يملك ذلك العقل الذي يعرف به الفائدة التي يجنيها التمويه .

5 – رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى :

إذاً : فمن أعطى هذا الطائر قابلية التمويه الفائقة ؟ من يعرف احتياج الطائر إلى تمويه خاص بكل موسم ؟ من هذا الرسام الرائع الذي رسم على ريشه نقش البيئة ولونها ؟ هذه الأسئلة توصلنا إلى حقيقة واحدة ، هي أن هذا الطائر خلقه الله تعالى وقد وهبه الميزات التي هو عليها .
ومرة ثانية ، قال تعالى : 

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾

[ سورة طه ]

والتفكر أسرع طريق ، وأقصر طريق لمعرفة الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله ، لأن التفكر في خلق السماوات والأرض يضعنا أمام عظمة الله .
 

خاتمة وتوديع :

الحقيقة أننا كنا نتمنى أن يكون الوقت أكثر من ذلك لنستزيد من هذا العطاء الجميل ، ونحن في هذه الواحة الطيبة لا يسعنا أعزائي المشاهدين إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، إنشاء الله نلتقي في الحلقة القادمة لنتم ما كنا قد بدأناه في موضوع المال من عناصر الشهوة التي هي مقوم من مقومات التكليف ، شكراً وإلى اللقاء .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور