وضع داكن
29-03-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - مقومات التكليف - الندوة : 41 - الشهوة - انفاق المال ثمن الجنة - التمويه عند الطائر الذهبي
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة وترحيب :

أيها سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم : الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم .
بكم أستاذ علاء ، جزاكم الله خيراً .
وصلنا في الحلقة الماضية سيدي الكريم عند مقوم التكليف ، الشهوة ، وقد سبق هذه الحلقة حلقات ، ربما وصلت إلى تسع حلقات أو أكثر عن الشهوة كمقوم من مقومات التكليف التي تحدثنا عن سابقاتها ، وهي : الكون ـ العقل ـ الفطرة ـ ووصلنا إلى الشهوة وبقي أمامنا ـ الاختيار ـ الشرع ـ الوقت .
وفي محطة مطولة عند الشهوة التي تنقسم إلى شهوة الجنس ، أو الشهوة الجنسية ، ومررنا عليها ، وفصلنا هذه المسألة ، ثم مررنا إلى قضية المال ، وبحثنا فيه ، وتبينا بأن لمال قوة كامنة حيادية ، الإنسان هو الذي يوجه المال الوجهة السليمة ، أو غير السليمة ، إذاً : المال بذاته لا يدفع مصيره بذاته ، هو قوة حيادية كما تفضلت ، وإنما الإنسان بمحض اختياره هو الذي يصرف المال في أوجه للخير ، أو في أوجه للشر ، وكذلك يكسب ذلك المال .
وتبينا أن المال من أهم وسائل التقرب إلى الله عز وجل ، لأن فيه قوام الحياة ، ونريد أن نكمل في هذه المسألة التي لم تغتنِ كما نريد دائماً ، وأن الإنسان هو الذي يُسأل عن كسب المال ومصادره ، ثم عن أوجه صرفه ، نعم سيدي الأستاذ .
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

المال قوام الحياة :

1 ـ السلامة والسعادة في القرب من الله :

أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، الحقيقة أن المال قوام الحياة ، ولكن لأن كل السلامة ، ولأن كل السعادة في القرب من الله ، لذلك ربنا جل جلاله صنع لنا وسائل للتقرب إليه ، الله عز وجل خلقنا ليسعدنا ، خلقنا ليرحمنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه ]

الإنسان مخلوق للجنة ، وجيء به إلى الدنيا من أجل أن يدفع ثمن هذه الجنة ، في سنوات معدودة ، وجعل الله عز وجل المال أكبر أداة ، وأكبر وسيلة كي يتقرب الإنسان إلى الله .

2 ـ المالُ محبَّبٌ إلى الإنسانِ :

بادئ ذي بدئ أودع فيه حب المال ، إذا أودع الله في الإنسان حب شيء فإذا أنفقه تقرب إلى الله .
لو أن واحدا منا أمسك بحفنة من تراب ، وأعطاها إلى فقير ، لا يتقرب بها إلى الله ، لأن التراب لا قيمة له ، أما الألف ليرة فلها قيمة .
إذاً : لأن المال قد زُين إلى نفوسنا :

﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾

( سورة الفجر الآية : 20 )

وحقيقة المال أنه محبب للإنسان ، فحينما ينفقه يؤكد صدقه في محبته لله ، المحبة تُدعى ، لكن الله عز وجل حينما طالبنا أن نحبه طالبنا بالدليل .

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾

( سورة آل عمران الآية : 31 )

ما قبل دعوى محبته بلا دليل ، بالكلام ما قبلها .

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 31 )

القضية الدقيقة : أن الله عز وجل مؤمن بذاته مصدر سعادة الخلائق ، فقد رسم للخلائق طريقاً إليه ، هذا الطريق بني على الشهوات ، وعلى رأسها المال والمرأة ، فهذا المال الذي حببه الله إلينا إياه إذا أنفقناه نصل إلى الله ، لذلك رُبّ درهم سبق ألف درهم ، رُبّ درهم أنفق في إخلاص سبق ألف درهم أنفق في رياء ، ودرهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ، لأن المال في الحياة له معنى ، وله مفعول كبير ، وله تأثير ، ومادة الشهوات مادة الرفاه ، مادة السرور ، فلذلك إنفاق المال في الحياة أبلغ من إنفاقه بعد الممات .
الأستاذ علاء :
الجهة العاقلة التي تتصرف ، وتحب هذا الشيء ، وتتخلى عنه في أوجه الخير ، وفي أوجه البر ، عندما تموت تذهب هذه القوة ، ولم تعُد لها الخيرة في أن تصرف أو لا تصرف ، إذاً : صرف المال في أوجه الخير ، والإنسان على قيد الحياة ، وهو متمكن بصحته هي أفضل بكثير من صرفها بوصية بعد وفاته .
الدكتور راتب :

كيف يرمِّم الإنسان خطأه ؟

بل إن الإنسان لو أنه تاب توبة نصوحًا ، ثم زلت قدمه ، كيف يرمم هذا الخطأ الكبير ؟ قال تعالى :

﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾

( سورة هود الآية : 114 )

بعض الإخوة الكرم حينما يصطلحون مع الله ، ويعقدون التوبة النصوح ، لو ـ لا سمح الله ولا قدر ـ وقعت نكسة طفيفة الإنسان إذا أنفق ماله ابتغاء وجه ربه فكأن هذا الإنفاق يرمم هذه الزلة التي وقع فيها ، إذاً : المال له دور فعال في حياة الإنسان .
بل إن الله سبحانه وتعالى حينما قال في مطلع سورة البقرة :

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

( سورة البقرة الآية : 1 ـ 2 )

الإيمان بالمحسوسات لا يقدَم ولا يؤخر :


أستاذ علاء ، أن ترى المحسوسات لا يعد هذا إيماناً ، لذلك فرعون لما رأى الموت قال :

﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾

( سورة يونس الآية : 90 )

لأنه رأى مصيره الحقيقي رأي العين ، هذا لا يسمى إيماناً ، لذلك قال تعالى :

﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾

( سورة الأنعام الآية : 158 )

العاقل يحكمه النص ، وغير العاقل يحكمه الواقع :

إذاً : الإيمان أن تؤمن بالغيب ، وهذه بطولة كبيرة جداً ، معك نص ، المؤمن دفعه النص إلى إنفاق المال ، النص ردعه عن ارتكاب المعاصي ، أحيانا الشهوات محسوسة ، لماذا يستحق المؤمن جنة ربه ؟ بالشهوات ، ملء سمعه وبصره ، أما هو فما الذي ضبطه ؟ كلام ، بالتعبير المألوف حبر على ورق ضبطه .
كنت أضرب مثلاً عدة مرات : إن رجلاً ذهب إلى حمص ليقبض مبلغا كبيرا جداً في أيام الشتاء ، فرأى لوحة صغيرة : الطريق إلى حمص مغلقة بسبب تراكم الثلوج في منطقة النبك ، أربع كلمات ، فرجع إلى بيته ، ما الذي حمله أن يعود إلى البيت ؟ أربع كلمات ، فالعاقل يحكمه النص ، أما لو أن الدابة تمشي على هذا الطريق فإنها تقف عند الثلج ، بشكل عام العاقل يحكمه النص ، والدابة يحكمها الواقع .
يصاب إنسان بالسرطان بعد إدمانه على التدخين ، ثم يرتدع بعد السرطان ، هذا دابة ، أما المؤمن العاقل الموفق الذكي المتفوق فهو الذي يردعه النص ، فالنص الشرعي فيحرّم الدخان ، والبحث العلمي يبيّن أخطاره .
البطولة أن نتعامل مع النصوص ، ما هو الإيمان بالغيب ؟ أنت أمام كلام خالق الأكوان ، دفعك إلى أن تتحرى الحلال ، دفعك إلى أن تكون حليماً ، دفعك إلى أن تكون كريماً ، دفعك إلى أن تكون عفيفاً ، دفعك إلى أن تكون صادقاً ، دفعك إلى أن تكون أميناً ، كل هذه الفضائل ، وكل هذا الانضباط ، وكل هذا العطاء ، وكل هذا البذل ، والتضحية بنص قرأته ، لكنك صدقت مضمونه ، هذا الإيمان بالغيب .
لذلك :

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

( سورة البقرة : 1 ـ 3 )

مثلاً : لو قلنا لإنسان : إن أخذت هذا المبلغ حراماً تُقتل ، لا أحد يأخذه ، ولو كان كافراً ، أما حينما يكون النص فقط لك أن تأخذه ، ولك ألا تأخذه ، ثم تحاسَب بعد حين ، هنا يمتحن الإنسان ، لو أن عقاب المعصية جاء فور المعصية ، ولو أن ثواب الطاعة جاء بعد الطاعة لبطل الثواب والعقاب ، لو أنك تعاملت مع الأشياء ، مع المحسوسات ، لم يعُد هناك إيمان ، وأيّ إنسان مهما يكن بعيداً عن الله حينما يرى نتيجة المعصية طلقة رصاص تأتي في رأسه لا يعصي الله ، أما الإنسان فله أن يعصي الله ما شاء ، ولا يرى شيئاً ، قلبه ينبض بانتظام ، ضغطه طبيعي ، دخله كبير ، مركبته أمامه ، بيته فخم ، هذا الابتلاء ، تستطيع أن تعصيه دون أن ترى النتائج قريبة .
إذاً : الإيمان أيضاً يمكن أن تطيع الله ، وتبقى في دخل محدود ، يمكن أن تطيعه وعندك مئات المشكلات ، متى يكون هذا الامتحان مؤهل لدخول الجنة ؟ أن النتائج ليست قريبة ، بل بعيدة ، لذلك خُلق الإنسان عجولاً ، يريد الشيء أمامه ، أما العاقل فمهُولٌ يبحث عن الجزاء الأبدي .
العاقل أستاذ علاء ، قبل أن يفعل شيئاً يقول : لو أوقفني الله يوم القيامة ، وقال لي : لمَ طلقت زوجتك ، وهي محسنة ؟ وهي جيدة ؟ لمَ أكلت هذا المال الحرام ؟ لمَ احتلت على فلان ؟ لمَ أهنت فلان ؟ هذا كله يفكر فيه إذا وقف بين يدي الله عز وجل .
إذاً : كلمة إيمان ، أن الإنسان فكر في هذا الكون ، واستنبط أن له إلهاً عظيماً ، وأن هذا القرآن له ، وهو الخالق ، وله تعليمات ، فصدق النص ، لذلك له أجر كبير ، أما الإنسان الآخر فيتعامل مع الحسيات ، ما دام بصحة جيدة ، وعنده دوافع شهوانية يمارس الشهوات بلا قيد ، ولا شرط ، ولا ضابط ، ونرى ونسمع كل يوم ما يجري في العالم ، وحينما يقوى الإنسان يطغى .

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

( سورة العلق الآية : 6)

فلذلك الإيمان أن تتعامل مع النص ، مع النص القرآني ، ومع النص النبوي ، فتصدق مضمون هذا النص ، فتنضبط وتحسن ،

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ * وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾

إنّ ألف إنسان لو قيل لهم : لو فعلت كذا تتوب ، لا أحد يفعل ، على اختلاف مللهم ونحلهم ، وانتماءاتهم ، إلا فاقد العقل ، أما الإنسان العاقل فهو الذي يؤمن بنص قطعي الثبوت والدلالة ، ويعلم علم اليقين أن هذا النص واقع به .
كنت أقول : إن الإنسان لو كان في طائرة ، واستهزأ بقانون السقوط ، ولم يقبله ، ونزل بلا مظلة ، القانون إذا كذبنا به ، ولم نعبأ به ، واستهزأنا به فهو مطبق علينا ، سواء آمنا به أم لم نؤمن ، فضلناه أم احتقرناه ، هو مطبق علينا ، حينما لا يقبل الإنسان وحي الله ، حينما يقول : هذا الشيء لا يصلح لهذا العصر ، هذه أفكار ضبابية ، أفكار ما وراء الطبيعة ، هذه غيبيات ، هذا تعبير عن ضعف الإنسان ، لضعفه الشديد اخترع الدين ، هكذا يقول بعض الناس ، هذا الكلام ليس معنى هذا أن الإنسان حينما يرفض هذا المنهج الإلهي أنه لا يطبق عليه ، سيكون تحت مظلته ، وتحت سيطرته .
فلذلك الإنفاق جزء من الإيمان ، أنت خلقت للجنة ثمن الجنة الإنفاق ، هنا الإنفاق عام ، تنفق من علمك ، من خبرتك ، من جاهك ، من وقتك ، من عضلاتك ، من مالك ، لكن المال محبب ، وإنفاقه يعني شيئاً كبيراً ، قد تنفق من وقتك تنام فتستريح ، أما هنا ألفين ليرة خمسة آلاف ليرة أطعمت بها مسكيناً ، قدمت لها مساعدة لإنسان يحتاج إلى عملة جراحية.
فلذلك المال لأنه محبب بل هو من أشد الأشياء المحببة ، لقوله تعالى :

﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾

( سورة الفجر الآية : 20 )

كان إنفاقه برهاناً ودليلاً قاطعاً على محبة الله ، لذلك القرآن عدل في بعض الآيات عن تسمية الزكاة إلى كلمة صدقة ، إنما الصدقات هي الزكاة لأن كلمة صدقة مأخوذة من الصدق ، أي تؤكد صدق الإنسان في محبته لله .

المؤمن بالتعبير المعاصر استراتيجي في سلوكه في الإنفاق ، لأنه يعطي من أجل أن يرضى الله عنه ، يعطي ولا يأخذ ، الطرف الآخر يأخذ ولا يعطي ، وكنت أقول داماً : القوى البشرية كتلتان في الأنبياء والأقوياء ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأنبياء ملكوا القلوب ، والأقوياء ملكوا الرقاب ، والأنبياء عاشوا للناس والأقوياء عاش الناس بهم ، الأنبياء يُمدحون في غيبتهم والأقوياء في حضرتهم .
لذلك الإنفاق أحد أكبر نشاطات المؤمن في الأرض ، لكن الإنفاق في المعنى الواسع يبدأ بنصيحة ، قد تدرس طفلا ، تدرسه بعض العلوم التي تنقصه ، قد تطعم فقيرا ، القضية واسعة جداً .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، هنالك مفهوم شائع ، بأن الكريم الذي ينفق هو مَن يتخلق بخلقٍ من أخلاق الله عز وجل ، ومن صفات الله عز وجل الكريم ، المفهوم يقول : حتى الكريم إن كان مقصراً في بعض العبادات ، ومقصراً في بعض الواجبات ، لكن بإنفاقه الله عز وجل يكرمه ، ويفتح أمامه ، ماذا نقول في هذه المحطة ؟.
الدكتور راتب :

النفقة تغطي النقص الحاصل في الإنسانِ :

لا شك أن الله سبحانه وتعالى رب كريم ، وهو يقدر كل شيء ، وقد يكون الوقت قصيراً جداً في الليل في أيام الصيف ، فالذي لا يقوم الليل لعل الله سبحانه وتعالى يقدر الليل والنهار ، لكنه ينفق في النهار نفقة تغطي تقصيره في قيام الليل .
الإنسان أحياناً بالخلق العظيم ، والخلق السامي ، هذا صاحبه يسبق القائم الصائم ، وهناك أحاديث كثيرة جداً تذكر أن صاحب الأخلاق الرفيعة قد يسبق بهذا الخلق الرفيع العباد بأشواط كثيرة ، لأن الله يحب من عبده أن يقدم له عملا يتقرب به إليه .
لذلك العابد يحب ذاته ، أما المنفق فيحب غيره .
أقول كلمة دقيقة : رأى النبي رجلا يعبد الله في وقت العمل ، سأله سؤالا فيه ملمح كبير ، قال له : مَن يطعمك يا فلان ؟ قال له : أخي ، قال له : أخوك أعبد منك ، الذي يعمل أقرب إلى الله من الذي لا يعمل ، الذي يده عليا أقرب إلى الله من الذي يده سفلى .

لكن لما جاءه شريكان يشتكي الأول على الثاني لقلة جهده ، لكن الثاني طالب علم يتعلم ليعلم الناس ، ليعم الخير ، قال له : لعلك ترزق به ، الوضع اختلف ، العابد لذاته ، أما العالم فلغيره ، هذا حينما تطلب العلم من أجل أن تعلم الناس ، لأن أزمة أهل النار وهم في النار أزمة علم .

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

( سورة الملك الآية : 10 )

العلم هو الحاجة العليا في الإنسان ، وفي الإنسان حاجات سفلى ، هو وبقية المخلوقات سواء ، الإنسان يتزوج ، والحيوان يقترن بأنثاه ، الإنسان ينجب ، والحيوان كذلك ، لكن هناك حاجة عليا عند الإنسان ، هي أن يعرف الله ، وأن يصطلح معه ، وأن يقبل عليه حتى تسمو نفسه .
فلذلك الطريق الأسرع ، وأحيانا يقال لك : طريق سريع ، طريق عريض ، هناك طريق معه وسائل إرشادية ، أسرع طريق إلى الله إنفاق المال .
الأستاذ علاء :
نحن تحدثنا عن المنفق الباذل مع وجود تقصير ، لكن هناك مفهوم سائد : المنفق الباذل في وجوه الخير ولو كان على معصية في وجه آخر يوفقه الله ، هكذا بين العوام .
الدكتور راتب :

المنفق عمله محفوظ ولو كان مقصِّراً :

هذا المعنى دقيق جداً ، أنا الذي أؤمن به أن أي عمل صالح صدر من أي إنسان كائناً من كان محفوظ عند الله ، الله عز وجل أعظم وأجلّ من أن يضيع على إنسان عمله الصالح ، فإن ابتغى به الدنيا أعطاه الدنيا ، وإن ابتغى به الآخرة أعطاه به الدنيا والآخرة .
الأستاذ علاء :
كنت أود أن أبحث في هذه القضية ملياً ، لكن يبدو لي الوقت الفقرة العلمية جاءنا .
الدكتور راتب :
ما أحسن عبد من مسلم أو كافر إلا وقع أجره على الله في الدنيا أو في الآخرة ، ومستحيل على خالق السماوات والأرض أن يضيع على إنسان عمله الطيب .

الموضوع العلمي : عملياتُ التمويهِ عند الحيوانات :

1 ـ اليرقات تصنع لباسا للتمويه :

الحلقة الأخيرة من موضوع التمويه ، هناك كائنات أخرى تخفي نفسها عن طريق صنع زي لها ،الغريب في الأمر أن بينها يرقات ، وجودها بين الحشرات التي خرجت تواً من بيوضها ،هذه القطعة من الفسيفساء المتحركة ليست سوى يرقة صغيرة أمّنت لنفسها تمويهاً رائعاً بزيها المكون من قطع الحجر الصغيرة ،التي نسقتها على جسمها بدقة عالية ، أزياء الورقة ليست نموذجاً واحداً ،فكما أن لها زياً من قطع الخشب الصغيرة كما نرى ،فقد صنعت لنفسها أيضاً زياً فضفاضاً من الأوراق ،ترتدي ثياب تارةً من الأحجار الصغيرة كأنها فسيفساء ، وتارةً من عيدان خشبية ،وتارةً من أوراق الشجار ، هذه الكائنات دودة صغيرة لا تملك أي عقل أو وعي ، ولا تعرف شيئاً بالنسبة للعالم الخارجي قد خرجت تواً من البيضة على الرغم من أنها تحمل على ظهرها هذه الأثقال الكبيرة ،ترى لماذا تفعل هذا الشيء ؟

تفسير هذه الأفعال :


المدافعون عن نظرية التطور يقفون في حيرة من أمرهم تجاه هذا السؤال واحد منهم ألماني يدعى " هلمر " يذكر في كتابه المسمى الديناصورات الهادئة تفسيراً لهذه التصرفات الذكية التي تصدرها الدودة ، من الأصل في هذا الإبداع الذكي الذي أوقع الإنسان في حيرة ، أثر مَن ؟ هذه القمة في الإبداع التي أخذت به الدودة منذ ولادتها ، علينا أن نقبل أن هذه الأساليب كلها لا يسلكها إلا إنسان ذكي جداً للحفاظ على حياته ، فليس للدودة الاستطاعة على التغطية غاية منشدوة ،يرى صاحب هذا العقل أن عملَ هذه الكائنات المموهة مِن قدرة الله تعالى الحاكمة لها .

بطلان نظرية التطور والارتقاء :


ها هنا الحقيقة لو يريد التطويريون الاعتراف بها ، يعني الذين يؤمنون بنظرية داروين ، كل هذه الخصائص الخارقة للكائنات خلقت من قِبَل الله تعالى ،فهي آية له ، وآية على علمه ، وآية على خبرته التي لا حدود لها .
التفكر في خلق السماوات والأرض كما يقال دائماً أوسع طريق نسلكه إلى الله ، بل هو أقصر طريق لمعرفة الله ، لأنه يضعك أمام عظمة الله .

التمويه عند الطائر :

 

1 ـ عمليات التمثيل والتظاهر عند الطائر :

  بعد قليل نشاهد هذا الطائر الذهبي الذي حير الإنسان بصفاته ، بقدرته الفائقة على التمويه ، ومهاراته في التمثيل ممثل من الطراز الأول

  وشجاعته وتضحيته ، هذا الطائر يبني عشه بين الأعشاب والمراعي 

قيود هذا الطائر منقوشة تماماً في بطن الأم قبل أن تبيض ، هذه النقوش حماية خاصة من أي مكروه ، أو من أي مشكلة ، خلقت لتأمين التمويه اللازم للبيض ، وهكذا لا تتميز البيوض عن الأعشاب التي بينها

 وعند اقتراب الخطر من عشها من قِبل جارح أو إنسان ، الآن يقوم الطائر بحركة محيرة جداً 

ينطلق من عشه ثم يمثل دور الطائر الجريح المكسور الجناح ، العملية تمثيلية محضة ، الغريب أنه كلما اقترب منها أحد تبدأ مرة أخرى بهذا التمثيل الدقيق ، تمثل أنها طائر مكسور الجناح ، فإذا توسعت المسافة بينها تنام 

وتكرر خدعة الجريح من حين لآخر ، وهدفها إبعاد عين الغريب المقترب عن العش ، وإذا ابتعد الخطر بما فيه الكفاية ينتهي التمثيل ، ويعود الطائر إلى عشه ، فهو مموِّه وممثِّل .

2 ـ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ :

 لا شك أن هذا الطائر يظهر تصرفاً فائقاً ، أن يلقي عصفور صغير نفسه إلى التهلكة ، أن يقدم نفسه تضحية كبيرة لأجل صغاره

 هذه التضحية لا تفسر بأي شكل كان .
 الداروينية تفترض في مبدئها أنانية كل حي ، ولكن هذا الطائر الذهبي يفسد هذه الفرضية 

 ويوضح لنا مرة أخرى أن صفاته ، وشجاعته ، وتضحيته ، وتصرفاته الذكية إلهام من الله عز وجل إلى كل الكائنات .

 

﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾

 

( سورة المؤمنون الآية : 14 )

 وكلما تأملنا في الطبيعية نواجه الحقائق نفسها ، فالكائنات ذات بنية معقدة في قمة التصميم 

 تبطل زعم المصادفة في نظرية التطور ، كل كائن على حدا دليل على عظمة الله عز وجل ، لكل نوع من الكائنات خصائص فائقة يختلف بعضها عن بعض

  صاحب كل هذه المخلوقات البديعة هو الله تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما سبحانه وتعالى .

 فيا أيها الإنسان العاقل ، ألا تتفكر في خلق السماوات والأرض فتتعرف من خلال هذا التفكر إلى الله الموجود الكامل الواحد إلى إله عظيم

  ورب كريم ، وخالق عظيم ؟ هذا التفكر في خلق السماوات والأرض طريق سريع وعريض يسلكه الإنسان لمعرفة الله جل جلاله ، كل مخلوق له خصائص ، وله طباع ، وله ألوان ، وله عادات 

 وله حالات خاصة هذا من عظمة الله عز وجل بديع السماوات والأرض .
 لذلك الإنسان حينما يتفكر في خلق السماوات والأرض يقف أمام عظمة الله جل جلاله .

﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

( سورة الجاثية الآية : 36 ـ 37 )

﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 191 )

الأستاذ علاء :

خاتمة وتوديع :

أعزائي المشاهدين لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر شكراً جزيلاً الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق ، شكراً لكل ما قدمت ، وإلى اللقاء في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور