وضع داكن
18-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 23 - القناعات والمواقف والفرق بينهما - الانتقال من القناعات إلى المواقف .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

القناعة و الموقف :

 أيها الأخوة الأكارم ، من حين إلى آخر تتوق نفسي إلى الحديث في موضوع خاص ، فالأحاديث تتجه جهتين إما أن يتجه الحديث إلى إحداث قناعة في الإنسان ، وإما أن يتجه الحديث إلى إحداث موقف في الإنسان ، فرق بين القناعة والموقف ، العلم الشريف ، تفسير القرآن الكريم ، تفسير الحديث الشريف ، أحكام الفقه ، أحكام العبادات ، هذه كلها تحدث في الإنسان قناعةً ، ولكن حديثاً آخر قد يحدث في الإنسان موقفاً فإذا وازنا بين القناعة والموقف فرق بينهما كبير ، قد يقنع الإنسان بشيء ولا يطبقه ، هذه القناعة تكون عليه حسرةً يوم القيامة، لو سألت مسلمي الأرض وهو يزيدون عن ألف مليون مجموعة أسئلة ، أجابوك جميعاً إجابةً صحيحة ، من ربك ؟ الله ربي ، ما دينك ؟ الإسلام ديني ، من نبيك ؟ محمد نبي ، هل تؤمن بالجنة ؟ يقول : نعم وكيف لا أؤمن بها ؟ هل تؤمن بالنار ؟ نعم وكيف لا أؤمن ؟ هذه القناعات ما قيمتها إن لم تنقلب إلى حياة ، إلى سلوك ، إلى تجربة ، هذه القناعات تبقى في الذهن ولكن النفس ما تزال شقيةً بالبعد عن الله ، لا تزال النفس ضائعةً ، لا تزال شاردةً ، لا تزال خائفةً ، لا تزال منافقةً ، لا تزال مستعليةً ، لا تزال تحب ذاتها ، هذه الأمراض الفتاكة يبدأ مفعولها الخطير بعد الموت ، شهوات الدنيا قد تغطي على الإنسان أمراضه النفسية ، منغمس في ملذات الدنيا، في جمع مالها ، والانغماس في ملذاتها هذا مما يغطي على الإنسان خطورة أمراضه النفسية، ولكن إذا جاء الموت وانقطعت الدنيا انقطاعاً تاماً بدأ تأثير هذه الأمراض الفتاكة في النفس ، فذلك لا أعد عملي في الدعوة إلى الله ناجحاً بعدد الحاضرين مهما كثروا .
 قد تلقي على دار سينما نظرةً فتشاهد جمعاً غفيراً مجتمعاً في هذه الدار في دخولهم وفي خروجهم ، فهل اجتماع عدد غفير من الناس دليل أن هؤلاء الناس جميعاً على حق ؟ لا ، هناك أسباب تجمعهم ، ولكن الذي يدفع الداعية إلى الله إلى مزيد من الحماس ، إلى مزيد من البذل والتضحية ، إلى مزيد من الحرص والعناية ، أن يرى مثلاً ممن يدعون إلى الله في مستوى الدعوة ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، لا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل ، لا تلههم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ، هذا الذي يرفع الناس عند الله عز وجل ، فذلك أجد نفسي مدفوعاً من حينٍ إلى آخر في توجيه الحديث إلى إحداث موقفٍ لا قناعة ، القناعة متوفرة والحمد لله ، القناعات متوافرة ولكن البطولة في الذي تنقلب قناعاته إلى سلوك يعيشه في البيت ، ليس يجدي أن تكون قانعاً بالإسلام ، ولا قانعاً بالقرآن ، ولا قانعاً بأحاديث النبي العدنان ، الشيء المجدي أن تكون حياتك ، عملك ، زواجك ، بيتك ، بيعك ، شراؤك ، وظيفتك ، طعامك ، شرابك ، هندامك ، كلامك وفق الشرع ، إن كنت كذلك سمت نفسك ، وإن سمت نفسك كنت قدوةً للناس .

الإسلام موقف أخلاقي :

 الإسلام أيها الأخوة الأكارم لا يحيا بالكتب ، ولا يحيا بالأشرطة ، ولا يحيا بالمؤلفات ، ولا يحيا بالمحاضرات ، ولا يحيا بالخطب ، يحيا فيكم ، أي موقف أخلاقي واحد ، ورع من أحدكم يعدل ألف محاضرةٍ سمعها أو ألقاها ، موقف فيه ورع ، ما الذي يلفت نظر الناس ؟ ما الذي يشدهم ؟ ما الذي يجعلهم يفكرون ؟ أن يروا إنساناً يشتهي ما يشتهون ، ويحب ما يحبون ، ويرغب فيما يرغبون ولكنه عند الشرع الألف والمئة ألف والألف ألف تحت قدمه إذا كان هذا المال فيه شبهة ، والمئة والألف والألف ألف تبذل رخيصة في طاعة الله وابتغاء مرضاته ، لذلك قد تجد أحدنا فاتراً لضعف عمله ، قد تجد أحدنا يستمع ويقول : والله كلام لطيف سمعت مثله كثيراً ، ولكن الذي يضفي عليك حرارة الإيمان كثرة التطبيق ، فلذلك الذي أرجوه أن يأخذ الإنسان هذا الكلام على محمل الجد ، هذا كلام إن صح التعبير مصيري .

عطاء الله ابتلاء و حرمانه دواء :

 خطر في بالي اليوم أن الله سبحانه وتعالى ما جعل الدنيا إكراماً لأوليائه ، ولم يجعلها عقاباً لأعدائه ، قد تجد عدواً لله عنده من الدنيا الشيء الكثير ، وقد تجد ولياً لله لا يملك من الدنيا شيئاً لهوانها على الله سبحانه وتعالى ، لضعف شأنها ، لقلة خطرها ، لزوالها ، لم يشأ الله أن يجعلها مكافأةً لعباده الأتقياء ، ولم يشأ أن يجعل الحرمان منها عقاباً لأعدائه الفجار ، بل أعطاها لأحبابه وأعطاها لأعدائه ، لا شأن لها عند الله لذلك إذا كانت الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا فالطامة كبرى ، المصيبة جليلة ، أردت من هذا الحديث التوجه لا إلى العقول ولكن إلى القلوب ، هذا القلب ربنا سبحانه وتعالى يقول في بعض الأحاديث القدسية :

((عبدي طهرت منظر العبد سنين . . .))

[ورد في الأثر]

 سنوات وسنوات وأنت تعتني بهيئتك ، وصحتك ، وهندامك ، وبيتك ، وغرفة الضيوف ، وغرفة الطعام ، وغرفة الجلوس ، وغرفة النوم ، والمكتبة ، والجناح الشرقي من البيت، والأدوات الكهربائية ، والمركبة :

((...... أفلا طهرت منظري ساعة ))

 هذا القلب على ماذا ينطوي ؟ هل ينطوي على حب لله ؟ تقول : نعم ، ما علامة ذلك ؟ هل يفتقدك الله حيث نهاك ويجدك حيث أمرك ؟ الإنسان إذا ما جلس لنفسه كل يوم جلسة عشر دقائق ، ربع ساعة حاسب نفسه إلى أين أنا ماضٍ أفي طريق صحيح أم في طريق غير صحيح ؟ هل في عملي ما يرضي الله أم في عملي ما يوجب سخط الله عز وجل ؟ لأن الدنيا ساعة اجعلها طاعة ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن ﴾

[ سورة الفجر: 15 ]

 أي الساذج ضيق الأفق ، الجاهل يظن أن المال إكرامٌ من الله عز وجل ، وأن الزواج إكرامٌ ، وأن الصحة إكرامٌ ، و أن الأولاد إكرامٌ ، وأن القوة إكرامٌ ، هو إكرام وليس بإكرام، هذا أجاب عنه الله سبحانه وتعالى قال : كلا ليس عطائي إكراماً ، وليس حرماني حرماناً ، إنما عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، الإنسان يبتلى بالمال إذا أنفقه في طاعة الله انقلب المال نعمةً ، يعطيه زوجةً إذا وجهها ، وأصلح شانها ، وأخذ بيدها إلى الله حتى عرفت ربها على يديه انقلبت الزوجة نعمةً ، الأولاد ، المركبة ، أي شيء إذا استخدمته في طاعة الله انقلب نعمةً ، قبل أن يستخدم في طاعة الله لا يسمى نعمةً يسمى ابتلاءً ، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾

[ سورة التغابن: 15]

 كيف أن هذا المحك الذي يستخدمه الصياغ تأتيهم قطعة ذهبية يحكونها بهذا المحك فيظهر خط أبيض يعرفون أنها من المعدن الرخيص ، إذا بقي الخط أصفر اللون براقاً ، يعرفون أنها من المعدن الثمين ، فهذا المحك ، الزوجة ، الأولاد ، المال محك ، فلا تقل لي ماذا تعرف ، قل لي ماذا تعمل ؟ ماذا تعرف كل منا إذا وافته المنية يعرف كل شيء قال تعالى :

﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 22]

 كل منا وكل من الذين أنكروا وجود الله ، الشعوب التي رفعت راية لا إله ، إذا وافتها المنية تعرف كل شيء ، أي إنسان ، كافراً ، فاجراً ، ملحداً ، فاسقاً ، دالاً ، مهتدياً ، عارفاً ، مؤمناً ، منافقاً ، إذا وافته المنية يعرف كل شيء ، ولكن بعد فوات الأوان ، فالبطولة أن تعرف كل شيء قبل فوات الأوان وأنت في الدنيا ، والقلب ينبض وكل شيء ممكن ، التوبة ممكنةٌ ، أداء ما في عنقك من حقوق ممكن ، استرضاء الناس ممكن ، طلب العفو منهم ممكن، إصلاح المعاملة مع الزوجة ممكن ، إصلاح العلاقة مع الأم ممكن ، إصلاح العلاقة مع الزبائن ممكن ، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[ سورة الحشر : 18-19]

الكبائر و الصغائر :

 أحياناً يصبح حضور مجالس العلم عادة من عوائدنا ، إلى أين ؟ إلى المسجد ، من أين ؟ من المسجد ، والإنسان هو هو ، شيء من الغفلة ، بعض المخالفات ، بعض التقصيرات، بعض الرغبات التي ما أرادها الله عز وجل ، هذه كلها حجاب .
 الشيء الذي يؤلمني أن أكبر معصية في مساهمتها في قطعك عن الله عز وجل كأصغر معصية ، تيار كهربائي عندك غسالة وبراد ومروحة ومسجلة ، وعندك أدوات كثيرة جداً في البيت ، لو فصلت التيار ميلمتراً واحداً كل شيء يتوقف ، ولو فصلته ثلاثة أمتار كل شيء يتوقف، فهذه الصغائر التي تساهل بها المسلمون هي عند الله كبائر لأنهم أصروا عليها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( لا صغيرة من الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ))

[ مسند الشهاب عن ابن عباس ]

التفكر بالموت لضبط النفس و الإيمان بالفناء و الزوال :

 الإنسان إذا جلس صباحاً ، وصلى الصبح ، وقرأ شيئاً من كتاب الله ، وتفكر دقائق في الموت ، هذا الطريق طريق الإيمان له أصول ، لو أنك استيقظت قبل صلاة الفجر وصليت ركعتين لله تعالى ، الله سبحانه وتعالى :

(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ))

[ البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ]

 هذا يريد بيتاً ، هذا يريد زوجة ، هذا طلب من الله أن يجمعه مع أهل الحق ، هذا طلب من الله أن يعينه على إتقان الصلاة ، ألا يوجد لك حاجة عند الله عز وجل ؟ ألست طموحاً ؟ ألا ترغب فيما عنده ؟ ألا تراه أهلاً أن يجيبك ؟ أي إذا أحدكم تمكن أن يصلي ركعتين قبل أذان الفجر ويسأل الله في هاتين الركعتين حاجاته كلها ما كان منها مشروعاً متعلقاً بالدنيا ، وما كان منها متعلقاً بالآخرة ، ثم أذن الفجر ، وصلى السنة ، والنبي عليه الصلاة والسلام من عادته أن يضطجع على شقه اليمن بين السنة والفرض يفكر في الموت ، هذا الموت الذي لابد منه ، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت .

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته  يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جــــنازةً  فاعلم بأنك بعدها محمــــول
***

 اليوم تصور التغسيل ، غداً مشهد التكفين .

﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾

[ سورة القيامة: 29-30]

 اليوم تصور شراء القبر ، هؤلاء الذين يتولون تجهيز الميت يقتسمون الأعمال، بعضهم يذهب إلى إتمام معاملة الدفن ، بعضهم يذهب لتأمين الطعام ظهراً ، بعضهم يذهب لتأمين الكراسي ، بعضهم يذهب لتأمين المشايخ ، بعضهم يذهب لشراء القبر ، فإذا نقر في الناقور إن كنت في مقبرةٍ ورأيت حفار القبور ينقر أحد القبور ، قال تعالى:

﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾

[ سورة المدثر : 8-10]

 الويل لمن سينزل في هذه الحفرة ، بين السنة والفرض يوم بالتغسيل ، ويوم بالتكفين ، ويوم بشراء القبر ، ويوم بحالة الأهل من بعدك ، تصور ماذا سيفعل ابنك ؟ ابنتك ؟ زوجتك ؟ هل يبقى البيت على ما هو عليه ؟ هل يباع البيت ؟ هل يقتسم البيت ؟ هل يختلف الأولاد ؟ ماذا سيكون من بعدك ؟ هذه الخواطر لابد منها ، لابد من عشر دقائق في موضوع الموت من أجل أن تنضبط النفس ، من أجل أن تملك زمامها ، من أجل أن تؤمن بالفناء والزوال ، إذا أذن الفجر إذا صليت السنة واضطجعت بين السنة والفرض دقائق معدودات وفكرت بالموت الذي لابد منه تهون عليك المصيبة ، تهون عليك الدنيا ، ترضى بزوجتك ، ترضى بأولادك ، ترضى بدخلك ، تندفع للعمل الصالح ، قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾

[ سورة المؤمنون: 99-100 ]

التفكر أعظم عبادة على الإطلاق :

 تصلي صلاة الفجر وبعدها تجلس للذكر ، وقبل أن تذكر فكر ، قال تعالى :

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد : 12]

 فكر بهذا الطعام ، بهذا الطفل الذي رزقك الله إياه ، فكر بهذه المرأة التي جعلها الله سكناً لك ، بهذا الدماغ الذي منحك الله إياه فجعلك تعمل ، عندك خبرات ، إذا فكرت في آيات الله استعظمت الله عز وجل ، خشع قلبك ، تفكر ساعةٍ خير من عبادة ستين عاماً ، والله الذي لا إله إلا هو تفكر ساعة ، نصف ساعة ، ربع ساعة بعد صلاة الفجر خير من عبادة ستين عاماً، ستون عاماً في مكان واحد ، لكنك بالتفكير ترقى كل يوم درجة ، فكر يوماً في العين ، يوماً في الأذن ، يوماً في الشعر ، يوماً في الطفل ، يوماً في الطعام والشراب ، في الشمس ، في القمر ، ليس المهم أن تكثر الموضوعات ، المهم أن تتعمق في موضوع واحد ، ابق في العين شهراً ، ابق في الأذن شهراً ، إذا فكرت كل شيء في أوله صعب ، ولكن مع التدريب والتمرين والمحاولة والخطأ تشعر أن هذا التفكر الذي بدا لك صعباً مرهقاً أصبح سهلاً ، إذا فكرت اذكر الله سبحانه وتعالى ربع ساعة أخرى ، أي امسك مسبحة وقل : الله الله وأنت سابح في الآيات الذي فكرت فيها ، ربع ساعة تفكر وربع ساعة توجه ، وإذا أمكنك أن تقرأ بضع صفحات من كتاب الله وأن تقف عند الأمر ، عند النهي ، عند القانون ، قال تعالى:

﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه : 123]

 هذه الآية تبث في نفسك طمأنينة وثقة وراحة لا يعرفها إلا من فقدها ، قال تعالى:

﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة يونس : 33]

العاقل من عرف الله و تفكر في خلقه :

 مستحيل أن يكون لك مخالفة وتؤمن ، ترفض الحق ، إنك تحب أن تجر الحق إلى مخالفاتك ، تحب أن تبرر أعمالك ، لذلك الفاسق لا يؤمن ، اقرأ القرآن ، الأوامر اكتبها ، ضع تحتها خطاً أحمر ، النواهي اكتبها ، القواعد العامة اكتبها ، أي إذا أحدكم بدأ نهاره بركعتي قيام ليل ، وركعتي سنة ، واضطجاع دقائق في التفكر في الموت ، ثم أداء صلاة الفجر ، ثم التفكر ربع ساعة في آيات الله ، ثم الذكر ، ثم تلاوة بعض آيات القرآن الكريم ، ومدارستها ، والتأمل فيها ، والتدبر ، واستنباط الأوامر والنواهي ، والأحكام والقواعد العامة ، ثم انطلق إلى عمله كيف يكون هذا اليوم ؟ يقول : أنا أسعد الناس ، لأنك في هذا اليوم بأعيننا كما قال تعالى :

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ِ ﴾

[ سورة الطور : 48]

 لا تعجز عن ركعتين قبل الشمس أكفك النهار كله ، أنت في هذا اليوم في ذمة الله بمعنى في عنايته المشددة ، في حفظه ، في رعايته ، في تجليه ، إذا انطلقت من البيت لا تنسى أن إطلاق البصر يفسد عليك دينك ، إذا أطلقت البصر لا تقوى قدماك على أن تقف ظهراً لتصلي ، هناك خجل ، وانكماش ، وبعد ، الشيء الذي يمكن أن يبعدك عن الله سبحانه وتعالى في أثناء النهار إطلاق البصر ، والكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والسخرية ، والضحك ، والخوض في أحاديث باطلة لا جدوى منها ، وأكل المال الحرام ، أكثر الأشياء كسب المال، والتساهل في موضوع النساء ، المال والنساء بابان كبيران من أبواب جهنم ، وسلاحان فتاكان في يد إبليس ، وشبكتان تغريان كل واحد من المؤمنين أن يقع فيها ، فإذا كانت لك هذه الجلسة الصباحية أمكنك في أثناء النهار أن تكون في حفظ الله ، تجد نفسك شديد التفكير ، كلامك دقيق ، قرارك سليم ، رؤيتك رابحة ، عملك صحيح ، موقفك سليم ، مكانتك رفيعة ، هذا السلوك إذا استمر يحدث شيء اسمه التراكم ، تتراكم هذه الأحوال الطيبة ، تتراكم هذه القناعات ، يتراكم التعظيم لله عز وجل ، يتراكم الورع ، المحبة ، إلى أن تغدو في حالة لا تعهدها من قبل حالة الإقبال على الله ، حالة الرضا ، حالة الوقار ، حالة المحبة ، حالة الحلم ، حالة العفو ، البذل ، الثقة ، الطمأنينة ، تعيش أحوالاً ما كنت تعرفها من قبل ، يجب أن تقول : أنا أسعد الناس لا أقول لك تحتقر ، أقول لك لا يمكن أن يكبر في عينيك إنسان من أهل الدنيا ، تراه ضيق الأفق، تراه تائهاً ، شارداً ، ضالاً ، مغبوناً ، مخفقاً ، شقياً ، مادام هذا الإنسان مهما علا شأنه ، مهما كان غنياً ، تراه أنت صغيراً ، الكبير من عرف الله .
 لو رجل قال : من أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة في قلبه وأجراها الله على لسانه ، يجب أن تقول في نفسك : الدنيا جنة ، أحياناً ألتقي بإنسان أقول له : كيف حالك ؟ والله الذي لا إله إلا هو أشعر أن السعادة تشع منه ، يقول : الحمد لله ، الحمد لله على نعمة الهدى .
 سيدنا علي رضي الله عنه قال : " إن من نعم الله الغنى ، وإن أفضل من الغنى صحة البدن ، وإن أفضل من صحة البدن الإيمان " ، معنى هذا أن الإيمان أعلى نعمة يملكها الإنسان ، لما سيدنا عمر كانت تأتيه مصيبة كان يقول : " الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني - مادامت هذه المصيبة لم تطل ديني الحمد لله - والحمد لله إذا لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذا ألهمت الصبر عليها ".

 

من عرف الله ذاق طعم الإيمان :

 أبو بكر في الجنة - الآن في الجنة - حينما قال النبي هذه الكلمة كان في الجنة ، أي في جنة ، وأنا أقول لكم : قد يكون دخلك قليلاً ، كثيراً ، محدوداً ، غير محدود ، متعباً ، مريحاً، قد تكون زوجتك وسطاً ، دون الوسط ، سيئة ، قد يكون بيتك ملكك ، أو تسكن بالأجرة ، صغيراً ، كبيراً ، في حي راق ، في حي شعبي ، تحت الأرض ، فوق الأرض ، في الطابق الرابع، ملحق :
 إذا كنت في كل حال معي فعن حمل زادي أنا في غنى

فأنتم هم الحق لا غيركم  فيـــــــا ليت شعري أنا من أنا
***

 أي من ذاق عرف ، ذاق طعم الإيمان ، الإيمان له طعم إن لم تذقه حاول أن تذقه، حرر دخلك ، كن دقيقاً جداً ، أخ كريم ذكر لي بعض الأغلاط قبل أن يعرف الله عز وجل قلت له : القضية سهلة مادام القلب ينبض فكل شيء له حل ، أخ آخر سألني اليوم ما معنى قوله تعالى ؟

﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾

[ سورة ص: 3]

 أي بدت له هذه الآية غير واضحة ، رجل دخل إلى مدرسة حتى يفتش ، سمع الطلاب جميعاً يقولون : طم بل ك ، ما هذا ؟ دخل إلى الصف وعرفه المدرس أنه مفتش قال له: ما هذا الكلام ؟ قال له : قرآن كريم ، فقال له : أي قرآن هذا ؟ قال له : والله محيط بالكافرين أخذ مقطعاً و أقرأهم إياه ، لكن هذا الوقت ليس وقت خلاص ، أي إذا رجل تورط في قتل إنسان ، وألقي القبض عليه ، وسيق إلى السجن ، وشكلت محكمة لمحاكمته استجوبته وكل محامياً ، والمحامي دفاعه ضعيف ، الأدلة كلها متضافرة في إدانته ، أدين بهذه الجريمة صدر حكم بإعدامه ، استأنف الحكم ، صدر الحكم الثاني بإعدامه نقض الحكم ، صدر أمراً من محكمة النقض بإعدامه ، صدق حكم الإعدام ، سيق إلى المشنقة ، وضع على خشبة المشنقة ، الجنود يحيطون به من كل مكان ، هل هذه الساعة ساعة خلاص ؟ هل يوجد أمل بالمليون واحد ؟ لا يوجد ، كل الإجراءات تمت ، والحكم مصدق ، والمشنقة جاهزة ، والموظف جاهز ، والمنصة جاهزة ، والقرار مكتوب ، ولات حين مناص ، وليست الساعة ساعة خلاص .

 

العاقل من تاب قبل فوات الأوان :

 البطولة نحن الآن في ساعة خلاص ، نحن الآن في ساعة خلاص قد تخلص من عذاب الآخرة الآن ، قد تتوب ، إذا رجع العبد إلى الله تعالى نادى مناد في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، الصلحة بلمحة ، إذا قال العبد : يا رب قد أذنبت ، يقول الله عز وجل : وأنا قد غفرت ، فإذا قال العبد : يا رب لقد تبت ، يقول الله عز وجل : وأنا قد قبلت.
 كلمة قل يا رب تبت إليك ، لو جئتني بملء السموات والأرض ذنوباً غفرتها لك ولا أبالي ، أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء ، إذا ضاقت عليك الدنيا تذكر قوله تعالى:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر : 53]

 هناك أشخاص يقفون عند هذا الحد في هذه الآية اسمعوا التتمة :

﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر : 53-56]

 إياك أن تصل إلى ساعة ولات حين مناص ، هذه أصعب ساعة إذا إنسان صعد به على خشبة المشنقة ، يحب أن يبكي يبكي ، يحب أن يضحك يضحك ، يحب أن يترجى لا يوجد جدوى ، يحب ألا يترجى لا يترجى ، يحب أن يطلب والدته تأتي ولكن الشنق لابد منه، اطلب ما تشاء لابد من تنفيذ الحكم ، هذه الطامة الكبرى .

الكلام المفيد هو الكلام الذي يطبق :

 لذلك الإنسان هذا الدرس يقول أحدهم : والله الدرس جميل ولطيف ، وآيات قرآنية دقيقة ، والمعنى عميق ، والحديث رائع ، وهذا له علاقة بعملنا ، وهذا الحديث من أين جاء به والله ما سمعناه سابقاً ؟ أي هذا الاستمتاع بالأحاديث وأنت على حالك ، واحد كألف وألف كأف. فالذي أرجوه في هذا اللقاء أن يتوجه هذا الكلام لا إلى إحداث قناعات في الدماغ بل إلى إحداث مواقف عملية ، كل واحد له بيت ، له زوجة ، له أولاد ، له بنات ، محل تجاري ، في عملك التجاري هل يوجد علاقة محرمة ؟ هل يوجد علاقة ربوية ؟ بيع بسعرين ، كتمان عيب ؟ هذا في عملك ، ادخل إلى بيتك هل يوجد مخالفة ؟ ابنتك خروجها هل كما يريد الله سبحانه وتعالى ؟ زوجتك هل تصلي ؟ هل تأمرها بالصلاة ؟ هل هناك وليمةٌ انتهكت فيها حرمات الله عز وجل؟ جمعت فيها الأهل والأصحاب على مائدة واحدة ؟ هل تلهو كما يلهو الناس ؟ هل تستمتع كما يستمتعون ؟ هذه البطولة ، امسك دفتراً وسجل التقصيرات ، وحاول أن تتلافاها واحدة واحدة بأقرب وقت ممكن حتى يصبح العلم مباركاً ، يقول لك أحدهم : تباركنا أستاذ ، ما هي البركة ؟ البركة التطبيق ، إذا إنسان كان معه مرض عضال وهناك دواء شاف ، البركة بالدواء ذكره ؟ حفظ اسمه ؟ وضع الوصفة في مكان وجيه في البيت ؟ أم استعمال الدواء ؟ بركة الدواء استعماله ، بركة القرآن الكريم اتباع سنته ، بركة مجلس العلم تنفيذ ما جاء فيه ، لا يوجد بركة أخرى ، تباركنا لا يوجد بركة أخرى ، هذه الكلمة لا معنى لها ، الإنسان عليه أن يكون بالمستوى المطلوب ، واحد اثنان خمسة عشر إذا كانوا في مستوى الدعوة هؤلاء لهم تأثير عجيب ، الأنبياء قلة نبي واحد قلب وجه الأرض بإخلاصه ، وصدقه ، وجهاده ، واستشهاده ، وآلاف المصلحين كلام مزخرف منمق ، نظريات ، شواهد ، كتب مؤلفة ، ما دام الذي يتكلم ليس في مستوى كلامه فكلامه لا يؤثر .
 نحن من حين إلى آخر ندرس السنة المطهرة ، ما هذا النبي الكريم الذي لفت القلوب بعد ألف وخمسمئة عام ؟ إذا ذكرته يتعطر المجلس ، تحس بالشوق إليه لكماله وأنت أيضاً كن على هديه ، اقتف أثره ، اتبع سنته ، اجعل بيتك إسلامياً ، اجعل عملك إسلامياً ، اجعل محلك إسلامياً ، اجعل لباسك إسلامياً ، كلامك ، نظرتك ، الإنسان عندما يطبق يسعد .

العلم وسيلة و ليس هدفاً بذاته :

 نحن أيها الأخوة الأكارم بالعلم ليس العلم هدفاً بذاته ، العلم وسيلة من جعله هدفاً بذاته فقد ضلّ ، العلم وسيلة ، كل الناس هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم ، أي لابد من أن تكون عالماً ، لابد أن تكون عالماً عاملاً مخلصاً يقظاً ، هذا الكلام خطير قال تعالى:

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾

[ سورة النجم : 59-62]

 لا يوجد عمل في الأرض يفوق أن تعرف الله عز وجل ، يوجد عندنا موسم لا تحرجني لا يوجد عمل في الأرض ، لا موسم ، ولا زواج ، ولا شراء بيت ، ولا انتقال من بيت إلى بيت ، لا يوجد عمل في الأرض يفوق أن تعرف الله عز وجل ، لذلك من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ، أنت اشتغل بذكر الله ومعرفته واترك الدنيا وأنا مسؤول، والله الذي لا إله إلا هو لتأتيك الدنيا وهي راغمة ، تأتيك الدنيا من أيسر سبلها ، براحة وكرامة ويسر وسعادة .
 أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه ، ومن خدمكِ فاستخدميه ، الدنيا تضر وتغر وتمر ، الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له ، الدنيا جيفة طلابها كلابها ، خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر ، ترى الآن شخصاً يعمل ليلاً نهاراً وصفهم الله عز وجل قال :

﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴾

[ سورة المدثر : 50]

 عمل مرهق يخرج من بيته قبل أن يستيقظ الأهل ويعود بعد أن يناموا ، يقول لك: الحياة جهاد عملي صعب ، ترى فجأةً انضرب القلب ، عشرة أيام النعوة على الباب ، ما دخل المسجد إلا ليصلى عليه ، ما دخل المسجد ليصلي دخل مرة واحدة ليصلى عليه ، أحياناً نصلي على جنازة لا نعرف يا ترى كان يصلي ؟ كان يعرف الله عز وجل ؟ كان ماله حلالاً أم حراماً ؟ كان يخشى الله ؟ عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ، كل واحد منا لابد من أن يلقى الله .

ليس من يقطع طرقاً بطلاً  إنما من يتقي الله البطل
***

 رجل أنت ، ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، ما سمعت حديثاً من رسول الله إلا علمت أنه حق من الله تعالى ، وما سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها ، وما دخلت في صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها .

بطولة الإنسان ساعة مغادرة الدنيا :

 الذي أرجوه في هذا اللقاء غير إحداث قناعات في الفكر إحداث مواقف في النفس، أن تفر إلى الله عز وجل ، ففروا إلى الله جميعاً ، أن تقوم إليه ، أن تشمر، أحياناً الإنسان إذا أقدم على عمل مهم جداً يشمر ، أيها الناس شمروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن السفر قريب ، وتزودا فإن السفر بعيد ، وخففوا أثقالكم فإن في الطريق عقبة كؤوداً لا يجتازها إلا المخفون ، وأخلصوا النية فإن الناقد بصير ، ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة .
 هناك رجل سبب هدايته أنه كان يعمل في سلك الشرطة ، وكان رئيس مخفر ، له صديق من وجهاء الحي كان غنياً ومترفاً فنشأت علاقة بين هذا الصديق وبين هذا الضابط ، سهرات ، وطعام نفيس ، وساعات فيها ضحك وسرور ونزهات وبساتين جميلة ، والخير موفور، والمال كثير ، وهذا الغني له أربع زوجات كلما كبرت زوجة طلقها وتزوج امرأةً شابة في المباحات ، ليس له معاصي وفق الشرع ، توفي هذا الرجل بعد أيام جاؤوا إلى مخفر الشرطة يطلبون من هذا الضابط أن يرافقهم إلى المقبرة ليكشف عن الجثة بصحبة طبيب شرعي ، لأن هناك إخباراً يفيد بأن هذا الرجل مات تسمماً بالسم وليس موته موتاً طبيعياً ، فهذا الضابط نزل إلى القبر بصحبة هذا الطبيب الشرعي فقال : والله شاهدت منظراً بقيت أسبوعاً أو أسبوعين ترتعد فرائصي منه ، بطن منفوخ رجل بالشرق ورجل بالغرب ، وجه أسود أزرق مملوء بالدود ، ولما الطبيب فتح البطن حصل انفجار ، هذا الضابط قضى مع هذا الإنسان سهرات ممتعة ، وأياماً حلوة ، وأكل معه أطيب الطعام ، وشهد منزله الفخم ، ودخل إلى بستانه الجميل ، وعرف خبايا هذا الرجل ، هذا هو المصير ، قال : والله الذي لا إله إلا هو بقيت أسبوعين أو أكثر لا تشتهي نفسي أن تأكل طعاماً ، هذا هو المصير ، بعد شهر جاءه أناس إلى المخفر يطلبون منه أن يحل منازعةً تمت في المقبرة ، هذه المنازعة عن رجل توفي وأراد أهله أن ينزلوه في قبر مضى على دفن الذي قبله أربعين عاماً فتحوا القبر ، قال : والله الذي لا إله إلا هو بأم عيني رأيته رجلاً ممدداً كأنه نائم ، ثيابه تشبه قميص اللوكس ، جلده هو هو ، خده ، شعره ، ذقنه ، ابتسامته ، هذا كان يحفظ القرآن الكريم ، وكان إمام مسجد بعد أربعين عاماً هو هو ، أما الآخر فبعد أسبوع ، هذا المنظر المتناقض ، هذه المفارقة الحادة ، هذه الحالة التي تدعو إلى القرف والمقت ، وتلك الحالة التي تدعو إلى الرضا والسرور ، هي التي لفتت نظر هذا الإنسان وكانت سبباً في هدايته .
 البطولة عند هذه الساعة ، ساعة نزول القبر ، ساعة مفارقة الدنيا ، من الآن اشتغل ، من الآن يجب أن يبقى الموت في ذهنك دائماً ، طبعاً تتزوج وتشتري بيتاً ، تكسب مالاً وتسعد وتسر ، ولكن عندك طمأنينة عميقة لو جاء الأجل أنت إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض ، واكربتاه يا أبتي ، قال : لا كربة على أبيك بعد الآن غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، أي ساعة اللقاء عند المؤمن أجمل ساعة ، كل هذه الحياة من أجل هذه الساعة .
 بعض الأشخاص يتخذون جدولاً فيه أسماء الأيام عرضاً ، وأما طولاً مثلاً قيام الليل، صلاة الفجر حاضراً ، التفكر بالموت ، التفكر بآيات الله ، ذكر الله ، قراءة القرآن ، غض البصر ، الصدق ، تحري الحلال ، بر الوالدين عموداً ، وكل يوم يحاسب نفسه ، يوم السبت هل صليت قيام الليل ؟ هل ذكرت الله عز وجل ؟ هل فكرت بالموت ؟ هل فكرت بآيات الله ؟ هل تلوت بعض آيات الله ؟ هل كان غض بصري جيداً حازماً أم فيه تراخ ؟ إذا كان هذا الشيء تحقق إشارة تحقق ، وإلا إشارة ضرب ، يمتحن نفسه يلقي نظرة على هذا الجدول كل أسبوع إذا في خطأ يتراجع عنه ، يتوب عنه ، المؤمن مذنب تواب ، كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ، عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارق ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة عودها القناعة .

الاستعداد لشهر رمضان :

 هذا الدرس له اتجاه آخر وكان من الممكن أن نتابع الموضوع في إحياء علوم الدين ، موضوع الحلال والحرام ، وكان من الممكن أن نتابع ما جاء في كتاب شمائل النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن أردت قبيل شهر رمضان المبارك وهذا شهر الطاعة ، شهر الاستنفار ، شهر مضاعفة العبادة ، مضاعفة الجهد ، شهر العمل الصالح ، شهر قراءة القرآن ، لابد من أن تستعد لهذا الشهر قبل مدة ، من أجل أن يكون هذا الوقت استعداداً لهذا الشهر العظيم ، إذا طبقتم سعدتم ، وإن لم تطبقوا يقول أحدكم : والله ما استفدنا شيئاً ، والحقيقة إذا الإنسان ما طبق لا يستفيد شيئاً ، والعلم علمان مطبوع ومنطوق ، المطبوع هو الأساس الذي ينطبع في قلبك ويجري على لسانك ، أما المنقول كالماء المجموعة ، المياه المجموعة قد تكون آسنة ولكن مياه النبع تكون عذبة فراتاً ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى وأن يجعلنا في مستوى شرعه الحنيف .

تحميل النص

إخفاء الصور