وضع داكن
28-03-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 22 - حكم السؤال عن الشبهات - شمائل النبي صلى الله عليه وسلم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

متى يباح للمسلم أن يسأل حول شبهةٍ ما ؟

 أيها الأخوة الأكارم ، حدثتكم من قبل عن موضوع الشبهات ، وكيف أن الحلال المطلق كالأبيض الناصع ، والحرام المطلق كالأسود الداكن ، وبين الحلال والحرام حالات كثيرة جداً اشتبهت على الناس ، لا يعلمها كثير من الناس ، وأن هذه الشبهات كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))

[متفق عليه عن النعمان بن البشير]

 بينت لكم من قبل أن هناك مسارات للشبهات ، ترجيح السبب المحلل والسبب المحرم ، اختلاط الحلال بالحرام ، هذه المسارات أنهيناها .
 درسنا اليوم متى يباح للمسلم أن يسأل حول شبهةٍ ما ؟ هل يباح له أن يسأل ؟ هل محرم عليه أن يسأل ؟ هل يجوز أن يسأل ؟ هل مندوب أن يسأل ؟ مثلاً يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه : اعلم أن كل من قدم إليك طعاماً ، أو هديةٍ ، أو أردت أن تشتري منه ، فليس لك أن تفتش عنه ، وتقول هذا مما لا أتحقق حله ، فلا آخذه ، وليس لك أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا يتيقن تحريمه ، بل السؤال واجب مرةً ، وحرام مرةً ، ومندوب مرةً ، ومكروه مرةً ، فلابد من تفصيل ذلك ، أي متى يجب أن تسأل ؟ متى يحرم أن تسأل ؟ متى يندب أن تسأل ؟ متى يستحب أن تسأل ؟ متى يكره أن تسأل ؟ السؤال أولاً هذا المال قدمه إليك فلان هناك بحثان ، هناك موضوع متعلق بالمالك ، وموضوع متعلق بالمال نفسه ، فالمالك لا يمكن إلا أن يكون إحدى أشخاص ثلاثة ، أولاً : أن يكون مجهولاً ، ثانياً : أن يكون معلوماً ، ثالثاً : أن يكون مشكوكاً فيه ، ما معنى مجهول ؟ أي لا تعرف صلاحه من فساده ، شخص يركب سيارة عامة معه كيس من العنب قدم لك عنباً ، شخص عادي لا تعرف عن صلاحه شيئاً ولا عن فساده شيئاً ، هذا الشخص غير مشكوك فيه اسمه مجهول ، وشخص تشك في أن ماله حرام ، هناك دلائل ، إذا كان هناك دلائل فهذا بحث مستقل ، وشخص متيقنٌ أنت أن ماله حرام ، مالك هذا المال إما أن يكون مجهولاً ، أو أن يكون معلوماً ، أو أن يكون مشككاً فيه ، فما موقفي إن كان مجهولاً ؟ المجهول هو الذي ليس معه قرينة تدل على فساده وظلمه ، إنسان عادي ليس في عمله ، أو حرفته ، أو تصرفاته ، أو حركاته ، أو سكناته ما يدل على أنه فاسد ، أو أن ماله حرام ، هذا اسمه مجهول ، فإذا دخلت قريةً لا تعرفها فرأيت رجلاً لا تعرف من حاله شيئاً ، وليس عليه علامةٌ تنسبه إلى أهل الصلاح أو إلى أهل الفساد فهو مجهول ، وإذا دخلت بلدة غريباً ودخلت سوقاً ووجدت خبازاً أو قصاباً أو غيره وليس هناك علامة تدل على كونه ذي مال حرام هذا أيضاً مجهول ، لكن أحد العلماء قال : منذ ثلاثين سنةً ما حاك في قلبي شيء إلا تركته ، العلماء بعضهم لا يفرق بين المجهول وبين المشكوك فيه إذا كان هناك شك اترك ، وإذا ما كان هناك إطلاقاً شيء مباح لأن العلماء قالوا : الأصل في الأشياء الإباحة أما التحريم فيحتاج إلى دليل .
فقال هذا : منذ ثلاثين عاماً ما حاك في قلبي شيء إلا تركته ، وتكلم جماعة في أشق الأعمال فقالوا : هو الورع ، قال لهم حسان بن أبي سنان : ما شيء عندي أسهل من الورع إذا حاك في صدري شيء تركته ، أي إذا شيء مشكوك فيه تركه سهل ، أما إذا كان الشيء مجهولاً العلماء قالوا : ليس هناك حرج في أن تأخذ ، أو أن تشتري ، أو أن تعامل شخصاً لا تعرفه ، وليس في حاله أو مقاله أو هيئته أو حركاته أو سكناته ما يدل على أنه فاسد ، هذا اسمه مجهول .
 فالمجهول إذا قدم لك طعاماً ، أو حمل لك هديةً ، أو أردت أن تشتري من دكانه شيئاً ، فلا يلزمك أن تسأله ، السؤال غير مطلوب أخي مالك حلال ، مجهول لا يوجد أي علامة يسمونه علامة ، لا يوجد علامة تؤكد أنه فاسد وذو مال حرام ، ولا يوجد علامة تؤكد أنه صالح، إنسان حيادي ، بل يده - كونه مسلماً - على الشيء ، معنى يده على الشيء أي له دكان أعطاك شيئاً من دكانه قال لك : تفضل ، يده عليه يد الملك ، وهو مسلم ، بل يده وكونه مسلماً دليلان كافيان في الهجوم على أخذه ، مادام هذا الشيء تحت يده إذاً في ملكه وهو مسلم إذاً يعرف الحق من الباطل ، وليس هناك ما يشير إلى فساده أو إلى أن ماله حرام ، إذاً ليس لك أن تسأله إطلاقاً ، ولك أن تهجم على ما في يده بمعنى أن تأخذه وأنت مطمئن من دون تريث ، من دون تردد ، من دون شك ، من دون وجل ، من دون قلق ، وليس لك أن تقول : الفساد والظلم غالب على الناس ، فهذه وسوسة وسوء ظن لهذا المسلم بعينه وإن بعض الظن إثم ، أخي الناس كلهم أموالهم حرام ، هذا كلام باطل لا يوجد معك دليل ، والرجل مسلم ، وهذا الشيء تحت يده ، وقدّمه لك وضيفك ، وهذا المسلم يستحق بإسلامه عليك ألا تسيء الظن به فإن أسأت الظن به في عينه لأنك رأيت فساداً في غيره فقد جنيت عليه ، إذا أسأت الظن بعينه لأنك رأيت الفساد بغيره فقد جنيت عليه ، إذا أكثر الناس فسدوا أكثر الناس مالهم حرام ، هل عندك دليل على أن هذا الإنسان بالذات ماله حرام ؟ هذه جناية عليه ، وأتيت به في الحال نقداً من غير شك ، أي انتقدته وأنت لست شاكاً في ماله .

الابتعاد عن الغلو في الدين :

 الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في غزواتهم وأسفارهم كانوا ينزلون في قرى ولا يردون القِرى ، القُرى غير القِرى ، القِرى الإكرام هذا جناس ناقص ، رجل قال : يقيني بالله يقيني هذا جناس تام ، أي يقيني بالله يحفظني ، المرء تحت طي لسانه لا تحت طيلتانه ، الطيلتان هو الثوب ، وكم من ملك رفعت له علامات فلما علا مات ، هذا كله من الجناس التام .
 الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في غزواتهم وأسفارهم كانوا ينزلون في قرى ولا يردون القِرى - أشخاص عاديون قدموا لهم طعاماً - ويدخلون البلاد لا يحترزون من الأسواق ، هناك شيء منطقي المسلم طبيعي ، التكلف والتعنت والتشدد بغير مكانه هذا غلو في الدين قال تعالى:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾

[ سورة المائدة : 77]

 غلو في الدين ، تزمت ، وكان الحرام أيضاً موجوداً في زمانهم وما نقل عنهم سؤال إلا من ريبة ، سيأتي بعد قليل متى يجب أن تسأل في حالات يجب أن تسأل أهذا المال حلال أم حرام ؟ أي شخص مجهول ، لا يوجد دليل على فساده ولا دليل على صلاحه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يسأل عن كل ما يحمل إليه ، بل سأل في أول قدومه المدينة عما يحمل إليه أصدقة أم هدية ؟ وهذا السؤال مهم جداً إذا قلت له : صدقة لها وجوه ، الصدقات لها أصحابها، لها مستحقوها ، هناك فقراء ، هناك مساكين ، هناك ابن السبيل ، هناك غارمون ، هناك مرضى، هناك طلبة علم ، هناك أبواب محدودة وواضحة جداً لإنفاق الصدقة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قُدم له طبق من تمر فقال : أصدقة هو أم هدية ؟ فإن قيل : صدقة لم يأكل ولا تمرة ، وإن قيل هدية قال : بسم الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قدم المدينة سأل أول مرةٍ عن شيء حمل إليه أصدقة هو أم هدية ؟ هناك سبب لأن أصحابه الكرام المهاجرين كانوا فقراء جداً فصار الأنصار يقدمون لهم ما يعينهم على حياتهم ، لعل هذا الذي قدم هذا المال على نية الصدقة هنا صار التباس ، فالنبي الكريم سأل فغلب على الظن أنه ما يحمل إليهم بطريق الصدقة ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدعى إلى الضيافات فيجيب ، ولا يسأل هذا الطعام صدقة أم لا ، لأن العادة جرت أن الطعام الذي يقدم للناس ضيافةً وليس صدقةً .
 لكن سيدنا الصديق سأل أحد غلمانه عن هذا الطعام من أين أتيت به ويبدو أنه شك ، وسيدنا عمر أيضاً سأل عن الذي سقاه من لبن الإبل : هل هذا من إبل الصدقة ؟ أيضاً سأل غلاماً عنده قدّم له كوباً من الحليب ، وهذا الغلام مشرف على إبل الصدقة ، هنا في موضوع سؤال من أين أتيت بهذا الحليب ؟ أمن إبل الصدقة معه حق أن يسأل صار هناك شك.
 وكل من وجد ضيافةً عند رجل مجهول لم يكن عاصياً بإجابته من غير تفتيش ، أنت في بلد وإنسان رآك عربياً وأنت في بلد أجنبي ، وهذا الشخص عربي أيضاً ، دخلت إلى بيته ولا يوجد شيء يدل على فساده ، دعاك إلى الغداء ، طبيعي جداً لا يوجد خطأ ولا فساد ، قال : حتى لو رأى في داره تجملاً ومالاً كثيراً فليس له أن يقول الحلال عزيز وهذا كثير فهذا حرام ، هنا نقطة لطيفة إذا الإنسان اشتغل بتقوى الله عز وجل يعيش حياة كريمة ، لكن لا يوجد ثراء فاحش ، الثراء الفاحش أن تنتقل بين عشية وضحاها من إنسان فقير إلى إنسان غني جداً هذه النقلة المفاجئة هذه مشكوك فيها ، لأن الطريق المشروع يجعلك تكسب المال بشكل معقول أما النقلة الهائلة من الصفر إلى كل شيء فهذه نقلة مشكوك بها ، ومع ذلك لو دعيت إلى طعام ورأيت في البيت تجملاً ومالاً كثيراً ليس لك أن تقول : الحلال عزيز وهذا كثير فمن أين اجتمع له هذا الحلال ؟ قد يكون هذا الشخص قد ورث هذا المال أو اكتسبه فهو بعيله يستحق إحسان الظن به ، وليس له أن يسأله ، أي إذا شك في الأمر يتلطف في الانسحاب من دون أن يسأله ، إذا الأمر فيه شبهة يتلطف في الانسحاب أما السؤال ففيه إحراج ، والسؤال فيه خدش ، إذا كان الوقوع في أكل طعام غير حلال فإن السؤال ربما يزيده نفوراً .

على الإنسان أن يكون معتدلاً لا قاسياً :

 سألني رجل منذ مدة سؤالاً ، رجل تبرع لجامع بمبلغ من المال ، وهذا الشخص له معاص ، فاللجنة اتخذت قراراً برفض المبلغ ، قلت لهم: هذا غلط ، إذا إنسان تقرب إليكم بمبلغ من المال فإذا قبلتموه لعله يزداد إحساناً ولعله يتوب ، ليس هذا المال هو الحرام ، هناك نقطة دقيقة جداً ليس عين المال هو الحرام ، بل طريقة كسبه ، أي إذا تلقينا مبلغاً من المال للمسجد هذا المبلغ حلال ، ليست الحرمة في عين المال ولكن الحرمة في طريقة كسبه ، مثل أوضح من ذلك لو إنسان بائع أقمشة وقفت عليه امرأة مومس مثلاً ، واشترت منه قماشاً ، هذا المال الذي أخذه ثمن هذا القماش أخذه حلالاً ، طريقة كسب المئة ليرة طريقة مشروعة ، قماش جيد ، سعره معتدل ، ما أخفى عليها العيب ، القياس صحيح ، الكيل صحيح ، أي طبق كل الأشياء الصحيحة في بيع هذه المرأة ، أما هي كيف كسبت هذا المال الحرمة عليها لا على البائع .
إذاً الحرمة في المال ليست في عين المال بل في طريقة كسبه .
 يوجد نقطة دقيقة يقول الإمام الغزالي : ليس الإثم المحذور في إيذاء المسلم بأقل من الإثم في أكل الشبهة ، أي إذا سألته عن ماله وشعر أنك تحقق معه وأنك شاك في صلاحه وانجرح منك هذا الإثم أبلغ من إثم أكل الشبهة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :

((بشروا ولا تنفروا و يسروا ولا تعسروا))

[ مسلم عن أبي موسى الأشعري]

 فالإنسان يجب أن يكون معتدلاً لا أن يكون قاسياً ، ولا يجوز للمسلم أن يسأل غير هذا الرجل من حيث يدري هو به ، ما سألته سألت ابنه : أبوك ماذا يعمل ؟ أنتم هل يوجد لديكم مال حرام ؟ فالابن قال لوالده ، نفس الشيء ، ولا يجوز أن يسأل من يدري شخصاً آخر إذا سألته علم المضيف أنك تسأله ، أيضاً هذا لا يجوز ، هذه تشبه الغيبة والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾

[ سورة الحجرات : 12]

الأكل و إحسان الظن إن لم يكن بد من الأكل :

 ثم يقول الإمام الغزالي : فليعلم أن طريق الورع الترك دون التجسس ، وإذا لم يكن بد من الأكل فالورع الأكل دون أن تتجسس ، نقطة لطيفة جداً يقول الإمام الغزالي : هذا هو المألوف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن زاد عليهم في الورع فهو ضال مبتدع .
 أصحابي علماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء ، من زاد عليهم في الورع فهو ضال مبتدع ، يوجد رجل أراد أن يطوف في مكان أبعد من المكان الذي طاف منه النبي عليه الصلاة والسلام فقال له أحدهم : ويلك تفتن ، قال : كيف أفتن وأنا أطوف البيت ؟ قال له وأي فتنة أعظم من أن ترى نفسك سبقت رسول الله ، النبي الكريم وأصحابه الكرام :

((لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ ))

[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 فإذا توهمت أنك أشد ورعاً منهم فهذا هو الضلال بعينه هكذا يقول الإمام الغزالي ومن زاد عليهم في الورع فهو ضال مبتدع وليس بمتبع .
 صلى الله عليه مرةً أكل طعام بريرة ، قدم له طعاماً فأكله ، فقيل له : إنه صدقة يا رسول الله ، يروون أنه وضع يده في فمه وتقيأ ، أما انظروا الموقف الكامل : قيل له إنه صدقة :

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَقِيلَ تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ قَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ ))

[ مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

 صار التباس ، تمرة أكلها ، قال : هي لها صدقة ولنا هدية ، لأنه تقيأ . . . ليست واردة وهذا الموقف الكامل .

من كان أكثر ماله حراماً فلا تُلبّ دعوته :

 الآن إذا كان مشكوك به ، أحياناً الإنسان يشك بشخص بسبب دلالة أورثت ريبةً فالنذر صورة هذه الريبة ، أما الصور فأن تدله على تحريم ما في يده دلالة إما من خلقته ، أو من زينته ، أو من ثيابه ، أو من فعله ، أو من قوله ، يجوز أن ترى شخصاً وتشعر أن ماله حرام ، يلبس زياً يرتديه أصحاب الملاهي ، دخلت إلى بيته فوجدته كله صوراً عارية مثلاً أشياء واضحة ، البيت ليس طبيعياً معنى هذا أن مصلحته سيئة ولن نفصل في هذه الأشياء وفهمكم كاف .
 هذا صار مشكوكاً فيه إذا إنسان صار مشكوكاً به أيضاً أنت لك حكم ، أحياناً تجد إنساناً ظفره طويل ، وعلكة في حنكه ، طوق في يده ، ووضعه ليس طبيعياً ، ويلبس أحد الصرعات ، ودعاك إلى طعام لا تقبل بهذه الطعام ، قال لك : تعال لأوصلك بسيارتي ، لا تحتاج إلى هذه الركبة ، وضعه ليس طبيعياً ، وضعه خنثى مثلاً ، أو دخلت إلى بيته مثلاً النساء مع الرجال مختلطون ، أنت انسحب بسرعة لأن هذا البيت ليس لك ، وهذه الجلسة ليس لك ، إذا شككت في الهيئة أو الحركة أو اللباس ، أو حامل مجلة منحطة ودعاك ، هذه المجلة كافية وحدها ، هذه المجلة لا يحملها إلا إنسان غير ورع بعيد عن الدين ، إنسان يحمل مجلة ، كتاباً ، فيلماً يحمله بيده ، هذا إنسان مشكوك فيه غير المجهول .
 فقالوا: مثل هؤلاء الترك من الورع ، والهجوم على تلبية الدعوة غير جائز ، لقوله عليه الصلاة والسلام:

(( دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك ))

[الترمذي عن الحسن بن علي]

 لكن هنا نقطة إذا كان الدليل على أن أكثر ماله حرام ، له مصلحة واحدة كلها حرام هذا فيه امتناع قطعي ، له مصلحة حلال لكن له دخلاً حراماً ، إذا غلب على ظنك أن أكثر ماله حرام لا ينبغي أن تأكل منه شيئاً ولا أن تلبي دعوته ، أما إذا كان له مصلحة صحيحة إلا أنه مشكوك في بعض الدخل أنه حرام فعندئذٍ الإقدام جائز والترك أورع .

إن كانت حالة المالك معلومة حلت المشكلات :

 الحالة الثالثة أن تكون حالة المالك معلومةً بنوع من الخبرة والممارسة بحيث يوجب ذلك ظناً في حل المال أو تحريمه ، تعرف أن هذا الإنسان صالح وتقي وورع وانتهى الأمر أو تعرفه أنه سيئ وماله حرام انتهى الأمر ، هذه الحالة الثالثة سهلة ، طبعاً لا يجوز أن تأكل طعاماً إلا عند تقي وألا يأكل طعامك إلا تقي كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا ، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))

[ أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 أي إذا أحدكم عاهد نفسه ألا يصاحب إلا مؤمناً وألا يأكل طعامه إلا تقي حلت مشكلاتنا .

 

حكم اختلاط الحلال بالحرام :

 الآن ننتقل إلى موضوع الحلال والحرام إذا اختلطوا ، كان الحديث من قبل عن مالك المال ، الآن على المال نفسه إذا في اختلاف بين الحلال والحرام هذا البحث طويل إلا أن ملخصه كلمات ؛ إذا كان في السوق بضاعة مسروقة واختلطت مع البضاعة المباعة ولم تستطع تمييزها فشراؤك من السوق حلال ، إذا الحلال اختلط بالحرام من دون تمييز وغلب على ظنك أن أكثر ما في السوق حلال ليس لك أن تسأل ولك أن تشتري ، أما إذا غلب على ظنك أن أكثر ما في السوق حرام أو أمكنك التمييز بين الحلال والحرام فالأولى أن تسأل وأن تتحقق .

* * *

آداب النبي العامة :

1 ـ وقاره العظيم :

 والآن إلى بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، من آدابه العامة صلى الله عليه وسلم وقاره العظيم ، كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس وقاراً ، وأعظمهم أدباً ، وأرفعهم فخامةً وكرماً ، روى أبو داود مراسيله قال : أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه .

((عن حَفْصَةُ ابْنَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ قَدْ وَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ عُمَرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَجَلَّلَهُ فَتَحَدَّثُوا ثُمَّ خَرَجُوا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَسَائِرُ أَصْحَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى هَيْئَتِكَ فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَانُ تَجَلَّلْتَ بِثَوْبِكَ فَقَالَ أَلا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ ))

[ الترمذي عن حَفْصَةُ ]

 هات لي في الشام كلها عالماً من الدرجة العاشرة جالس في المجلس وكاشف عن فخذه هل تليق هذه به ؟ هذه ليست معقولة ، اسمعوا النبي عليه الصلاة والسلام كان كثير الوقار لا يظهر شيئاً من أطراف جسمه الشريف ، يشمر إلى هذا الحد هذا ليس وارداً ، أي إذا كان الإنسان العادي من بعده بألف وكذا سنة ليس معقولاً إلا وأن يظهر بمظهر كامل هكذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فالكلام الحق أنه صلى الله عليه وسلم لا يظهر شيئاً من أطراف جسمه الشريف .

(( عَنْ إِسْمَعِيلَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى الْحَسَنِ نَعُودُهُ حَتَّى مَلأْنَا الْبَيْتَ فَقَبَضَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ نَعُودُهُ حَتَّى مَلأْنَا الْبَيْتَ فَقَبَضَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَلأْنَا الْبَيْتَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ لِجَنْبِهِ فَلَمَّا رَآنَا قَبَضَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ قَالَ فَأَدْرَكْنَا وَاللَّهِ أَقْوَامًا مَا رَحَّبُوا بِنَا وَلا حَيَّوْنَا وَلا عَلَّمُونَا إِلا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَيَجْفُونَا ))

[ ابن ماجة عَنْ إِسْمَعِيلَ]

 أي إذا إنسان دخل إلى مجلس علم وليس له مكان يجب على أخوانه أن يفسحوا له إكراماً له ، دخل شخص متقدم بالسن إذا شاب جالس على الحائط فأجلسه مكانه هذا إكرام كبير، الشاب يتمكن أن يجلس ساعة من دون أن يسند نفسه أما المتقدم بالسن فيحب أن يستريح.
 دخل سيدنا أبو بكر وإلى جانبه علي رضي الله عنه فقام علي ليجلس أبا بكر تبسم عليه الصلاة والسلام و قال : لا يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ إلا أهل الفضل .
 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ]

 فالنبي الكريم وهو سيد البشر لما جاءه أصحابه رفع رجليه ، حتى أنه قيل ما رئي ماداً رجليه قط في حياته ، طبعاً كان بالفراش مضجعاً ومع ذلك ضم رجليه ، إذا أحد زارك وأنت مريض وأنت على السرير ، أي النبي الكريم وهو مستلق على السرير رفع رجليه تحت الغطاء فقال:

(( سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ قَالَ فَأَدْرَكْنَا وَاللَّهِ أَقْوَامًا مَا رَحَّبُوا بِنَا وَلا حَيَّوْنَا وَلا عَلَّمُونَا إِلا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَيَجْفُونَا ))

[ابن ماجه عن عبد الله بن عامر ضعيف الجامع ]

2 ـ يقدم كبير القوم في الكلام :

 وكان عليه الصلاة والسلام يقدم كبير القوم في الكلام وذلك من باب التكريم ، وحفظ المراتب ، وتنويل الناس منازلهم .

(( عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلاً فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَقَالَ لَهُمْ تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ قَالَ فَيَحْلِفُونَ قَالُوا لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ))

[مسلم عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ]

 أي ليتكلم أكبركم ، كان يعرف لكل إنسان مكانته ، إلا أنه مرة دخل على سليمان بن عبد الملك وفد يتقدمهم غلام صغير فغضب هذا الخليفة وقال لحاجبه : ما شاء أحد يدخل علي حتى دخل حتى الصبيان ، فقال هذا الغلام الصغير : أصلح الله الأمير إن دخولي عليك لن يقلل من قيمتك لكنه شرفني ، أصابتنا سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم، ومعكم فضول مال فإن كانت لله فعلامَ تحبسونها عن عباده ؟ وإن كانت لنا فأعطنا إياها ؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا ؟ معكم أموال زائدة إما هذا لله ونحن عباده ، وإما أنه لنا فأعطوها لنا ، وإما أنه لكم ، فقال هذا الخليفة : والله ما ترك هذا الغلام لنا في واحدةٍ عذراً .
 سيدنا عمر بن عبد العزيز دخل عليه وفد الحجازيين يتقدمهم غلام فغضب ، قال: اجلس أنت أيها الغلام وليقم من هو أكبر منك سناً ، فقال : أصلح الله الأمير المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة من هو أحق منك بهذا المجلس ، سرّ عمر من هذه الإجابة ، فالنبي الكريم وهذه سنته المطهرة كان يعرف لكل إنسان مكانته ، كان يقول:

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ]

3 ـ تكريمه لأهل الفضل :

 وأما تكريمه أهل الفضل فقال عليه الصلاة والسلام :

(( البركة مع أكابركم ))

[ البخاري عن ابن عباس]

 أي بالعصر الذي زعزعت مكانة الكبراء ضاع الناس ، الناس بأكابرهم ، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ ))

[ أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ]

أدب النبي مع عمه العباس و أدب العباس مع رسول الله :

 الآن استمعوا أيها الأخوة إلى سيدنا رسول الله كيف عامل عمه العباس ، هو رسول الله:

(( روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس عن أمه أم الفضل أن العباس أتى النبي صلى اله عليه وسلم فلما رآه قام إليه- رسول الله قام إليه - وقبّل ما بين عينيه ثم أقعده عن يمينه ثم قال : هذا عمي فمن شاء فليباهي بعمه ))

[الطبراني عن ابن عباس]

 ويروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه استسقى عام الرمادة بالعباس فقال : اللهم هذا عم نبيك نتوجه به إليك فأسقنا ، فما برحوا حتى سقوا ، فخطب عمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده ، يعظمه ويفخمه ويبر قسمه ، فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلةً إلى الله فيما نزل بكم .
 وكان الصحابة الكرام يعرفون للعباس فضله فيقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه .
 استمعوا أيها الأخوة ، إنه لم يمر العباس بعمر وعثمان وهما راكبان أبداً ، لو صدف أن التقى سيدنا عمر وهو يركب دابته أو حصانه بسيدنا العباس لابد من أن ينزل عمر عن دابته إجلالاً له .

(( ما استرذل الله عبداً إلا حظر عنه العلم والأدب ))

[ابن النجار عن أبي هريرة]

 هذا عم النبي ، فكان سيدنا عثمان و سيدنا عمر وهما خليفتان لم يمر بهما العباس وهما راكبان أبداً حتى ينزلا إجلالاً له ويقولان : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 هذا أدب رسول الله مع عمه العباس فكيف أدب العباس مع رسول الله ؟ استمعوا قيل للعباس أنت أكبر أم النبي ؟ ـ أحياناً الإنسان يكون عنده أخ صغير يتزوج وهو أخ أكبر يأتيه ولد أكبر من عمه هذه واردة ، أو أكبر من خاله ـ فقال : " هو أكبر مني وأنا ولدت قبله "، وفي رواية : "هو أكبر مني وأنا أسن منه ". وذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه ليركب فأمسك ابن عباس رضي الله عنهما بالركاب فقال : تنحى يا بن عم رسول الله ، قال: لا هكذا نفعل بالعلماء الكبراء .
 ويقول عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ))

[أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ]

 ولكن كم أتمنى على ذي الشيبة المسلم أن يستحي من الله ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : " شاب شعرك ، وضعف بصرك ، وانحنى ظهرك ، فاستح مني فأنا أستحي منك ". إذا الإنسان تجاوز الثلاثين أو الأربعين لا يليق به أن يعصي الله أبداً ، لا يليق به أن يمزح مزحاً فاحشاً ، لا يليق به أن يمضي الساعات الطوال على الطاولة ، استحِ مني فأنا أستحي منك .

(( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ))

[أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ]

 أي إذا في قرية كان مدير الناحية شاب مستقيم ما أساء بحياته ، احترامه واجب، مدير منطقة ، محافظ مثلاً ، مستقيم في معاملته ، يقيم الحق ، يبطل الباطل ، واجب أن تحترمه ، إكرام هؤلاء واجب يحتمه النبي عليه الصلاة والسلام .
 يوجد شيء لفت نظري في السيرة:

((عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ قَالَ دَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالُوا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : كَانَ سِرُّهُ وَعَلانِيَتُهُ سَوَاءً ثُمَّ نَدِمْتُ فَقُلْتُ : أَفْشَيْتُ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : فَلَمَّا دَخَلَ أَخْبَرَتْهُ فَقَالَ : أَحْسَنْتِ ))

[ أحمد عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ]

 الذي ترك في نفسي أثراً هذا الجواب

((كَانَ سِرُّهُ وَعَلانِيَتُهُ سَوَاءً ))

 موقف واحد تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها ، شيء معلن ، شيء غير معلن لا يوجد ، شيء للاستهلاك ، شيء حقيقي ، تمثيل لا يوجد ، تزييف لا يوجد ، دجل لا يوجد ، الشيء الذي يقوله يفعله ، والشيء الذي يفعله يقوله ، وما في نفسه على لسانه وما يقوله في قلبه .
 قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

أهمية المشاورة :

 علمنا النبي الكريم المشاورة أي إذا كان مدير مؤسسة ، مدير مدرسة ، مدير ثانوية، مدير معمل ، موظف مهم تحته عشرة موظفين ، إذا استشارهم هذا أسلوب ذكي جداً ، أسلوب يطيب قلوبهم ، فأولاً العلماء استنبطوا حكمة المشاورة ، أولاً : تطيب نفوس أصحابه حتى إذا دخلوا في ذلك الأمر ومضوا فيه كالحرب وأمثالها يكون هذا عن طيب نفوسهم و اختيارهم ، أي إذا كان الأب عمل سياسة تقشف في البيت ، جمع زوجته وأولاده وقال لهم : سوف نشتري بيتاً ثانياً أو نشتري لأخيكم محلاً وسوف نضيق مصروفكم قليلاً ، إذا أخذ رأيهم هم يندفعون معه للتطبيق ، فإذا فرض عليهم هذا من علٍ يتبرمون ، فمن الحكمة والذكاء أن تشاور أصحابك .
نعيد طرحه لأن المشاورة يحتاجها الأب ، المعلم ، كل إنسان له دور قيادي ، لأن المشاورة لها فوائد كبيرة ، والنبي عليه الصلاة والسلام حثنا عليها ، وأمرنا بها ، وربنا قال : شاورهم في الأمر، وإن شاء الله لنا عودة في موضوع المشاورة في الدرس القادم .

حكم تقبيل الضريح والتوسل به :

 أحياناً أخ يسألني سؤالاً إجابته كلمة واحدة لكن أحب أن أراه ، يسألني شاهدت أحدهم يقبل أسفل الضريح ويتوسل بصاحبه إلى الله فهل هذا مباح ومقبول ؟ أتمنى من هذا الأخ الكريم كاتب هذا السؤال أن أجيبه إجابة خاصة له لأن تقبيل الضريح والتوسل برسول الله مقبول؟ قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 35]

 أما بالأموات فالميت انتهى دوره ، رسول الله قال : حياتي خير لكم ومماتي خير لكم ، النبي عليه الصلاة والسلام حياته كمماته:

(( من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ))

[الطبراني عن ابن عمر]

 و تعرض عليّ أعمالكم ، الله عز وجل من باب الإكرام أوكل ملائكة ينقلون إلى هذا النبي الكريم أعمال أمته من بعده ، ما سوى النبي عليه الصلاة و السلام لا يجوز التوسل به، لأن هذا الإنسان مهما كان عند الله عز وجل عالي الشأن انتهت وظيفته ، و الناس يتعلقون بالأموات ، لأن هذا الميت لن يحاسبه لكن هذا الحي سوف يحاسب ، أي إذا رجل له مرشد حي يمنعه عن بعض المعاصي ، يسأله ، يستفتيه أما الميت فالتوسل لا يوجد منه شيء ، فالإنسان عليه أن يتيقن من كل عمل يفعله ، طبعاً إكرام الأولياء واجب ، تقديسهم واجب ، لكن أن يبلغ التقديس بنا أن امرأة تمسك مقام الشيخ و تقول : يا شيخ أريد ولداً ، قولي : يا الله ، أما يجيب المضطر إذا دعاه ، عندما الإنسان يبالغ بالتوسل لدرجة أن هذا الولي جعله إلهاً يسأله اسأل الله عز وجل ، إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، أي الموقف المعتدل هناك من يكفر الأولياء ، و هناك من يجعلهم آلهة ، كلاهما غلط ، أن تجعلهم آلهة هذا شرك بالله عز وجل ، و أن تكفرهم أيضاً هذا تجني عليهم ، أناس علماء قدموا خدمات كبيرة ، و إذا رأيت في كتبهم ما ليس في كتاب الله فهذا مدسوس عليهم ، هم بريئون منه ، العالم لا ينطق إلا بالحق ، فإذا وجدت في كتابه باطلاً أغلب الظن أن هذا الباطل مدسوس عليه ، فالموقف المعتدل لا نكفرهم ، و في الوقت نفسه لا نجعلهم آلهة ، إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله ، لكن ليكن لك في الدنيا مرشد تتلقى منه العلم ، أي المقولة التي تقول: من لا شيخ له فشيخه الشيطان إلى حد ما مقبولة ، فالذي لا يوجد له انتماء إلى أي مرشد تجده يعيش على هواه يحلل و يحرم ، إذا إنسان له رجل يهتدي على يده ، يسأله ، يستفتيه ، يسمع منه ، يفسر له كتاب الله يكون من السعداء ، أما الإنسان يعيش وحده ، يفتي على هواه ، يقول لك : كل المعاصي هذه لابد منها ، و هذه ضرورية ، وهذه العصر يفرضها علينا ، و هذه من أجل التيار العام . . . فعندما الإنسان يعيش وحده أغلب الظن يقع بمعاص كثيرة ، أي الله عز وجل قال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 119]

 كن معهم:

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[ سورة الكهف: 28]

المبالغة و التقليل كلاهما باطل :

 أنا من يومين وقع تحت يدي كتاب قيم ، الكتاب عن علماء الشام في القرن الرابع عشر ، تأريخ لطيف مختصر لكل علماء الشام ، لكن عند بعض العلماء هناك شطحات ، أحد العلماء زارته امرأة مزينة بالحلي و الأساور ، في البيت ماتت و كره موتها في بيته صارت عبئاً ، قال لها: قومي يا ، قامت مشيت و ماتت ببيتها بعد ذلك ، هذه صارت إحياء الميت ، هذه فقط لسيدنا عيسى ، إحياء الميت ، فكيف الكتاب تورط و ذكر هذه القصة ؟ الإنسان دائماً النبي له حد ، فعندما الإنسان يعطي كل إنسان حجمه الحقيقي يكون منصفاً ، قيل : لا تصاحب إلا من ينهض بك إلى الله حاله و يدلك على الله مقاله ، كلام منطقي ، أي يدعوك إلى الله و أحواله طيبة ، أما قومي فقامت و مشت ، كانت ميتة مشت !! هناك أشياء العقل صعب أن يقبلها ، هذه إحياء أموات ، أصبحت هذه معجزة و هذه لسيدنا عيسى ، هذا معناه أنه يوجد سيدنا عيسى ثان على هذا اللون ، فكل شيء له حجم حقيقي ، المبالغة غلط و التقليل غلط ، كلاهما باطل .

تحميل النص

إخفاء الصور