وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة البقرة - تفسير الآيات 155-156-157 ، حكمة الله من المصائب التي يسوقها لعباده
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا الصادق الوعد الأمين .

أنواع المصائب :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أخ كريم من إخواننا الكرام ، من هذا المسجد سألني قبل يومين أن أعالج موضوع المصيبة في هذا الدرس القصير ، وهو موضوع كبير ، وأن تعرف حكمة الله من المصائب التي يسوقها اللهُ لعباده هذا جزءٌ من عقيدة المسلم ، وأن تعرف حكمته البالغة من المصائب التي يسوقها لعباده فهذا يعينك على تقبلها ، ويساعدك على أن تستفيد منها .
 لقد قيل : من لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر ، فإذا الله عز وجل ساق لإنسان مصيبة ولم يستفد منها فهو المصيبة كلها ، فهذا الإنسان مصيبة .
 العلماء الأجلاء أفاضوا إفاضات واسعة حول حكمة المصائب ، لكني أسوق لكم كلمة موجزة مركزة حول المصائب .
 أخواننا الكرام ؛ المصائب نوعان في الأصل ؛ نوع يتجه إلى الكفار ، ونوع يتجه إلى المؤمنين .
 فمصائب الكفار نوعان ؛ قصمٌ وردعٌ . بمعنى أن الله سبحانه وتعالى إذا علم أن فلاناً لن يؤمن والدليل :

﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

[سورة هود : 36]

 فإذا علم الله سبحانه أن هذا الإنسان لن يزيده عمره إلا فساداً ، ولن يزيده استمرار حياته إلا انحرافاً ، يقصمه الله سبحانه وتعالى ، وهذه مصائب قصمٍ ، وهذا ما جرى لقوم نوح عندما أغرقهم الله بالطوفان .
vأما مصائب الردع فإذا علم الله سبحانه وتعالى أن هذا الإنسان فيه بقيةٌ من خير ، وفيه أثر من إيمان ، فإنه يرسل له مصيبة لردعه عما هو فيه ، فهذان النوعان هما مصائب أهل الدنيا ، مصائب المنحرفين ، ومصائب الكفار مصائب قصم و ردع .
 لكنَّ المؤمنين لهم مصائب خاصة ، تصور أنّ مؤمنًا مستقيمًا ومبتلًى ، وهناك سيارة تمشي على طريق ، سيارة منضبطة منتظمة جيدة ، والطريق مستقيم ، إذًا أنا أشبِّه هذا المؤمن بالسيارة ، وأقول : هو مؤمن صالح لكنه يسير في عبادته على وتيرة بطيئة ، ودون أي نشاط في محاولة زيادة جهده في عبادة ربه ، واللهُ سبحانه يعلم أن باستطاعته زيادة نشاطه وإقباله على ربه، عندئذ تأتيه مصيبة دفع ، يدفعه الله بها إلى بابه ليزيد من إقباله على طاعة ربه ، تمامًا كالسيارة التي هي صالحة وجيدة ، و لكنها تسير بسرعة بطيئة ، و يعلم صاحبها أنها مجهزة و قادرة على السير بسرعة أضعاف سرعتها الحالية ، و كذلك يمكن أن يزيد في حمولتها ، فزيادة حمولتها رفع في الأجرة التي يتقاضاها ، فيسوق له ما يجعله يضاعف من حمولتها ، وهذه مصيبة رفع ، فكما دفعه الله لبابه ، رفع له من ثوابه .
 فمصائب المؤمنين مصائب دفع ، ومصائب رفع . قال تعالى :

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾

[سورة البقرة : 155-157]

مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع :

 إنّ المستقيم على أمر الله ، والمنضبط إذا أصابته مصيبة يستجيب اندفاعًا إلى الله ، فقد تكون صلاته فاترة ، والتجاؤه فاترًا ، ودعاؤه فاترًا ، وعبادته مفرغة من مضمونها ، لكنه مستقيم ، ماله حلال ، غاض بصره ، بيته إسلامي ، إلا أن همته ضعيفة ، وعبادته يغشاها فتور واضح ، فربنا عز وجل يدفعه إلى بابه دفعاً ، يدفعه إلى بابه مهرولاً ، فيلجأ إلى باب الله عز وجل بمصيبة تلحقه لتردّه إلى الله ضارعًا منيبًا .
vأخواننا الكرام ؛ المؤمن له مستوى في معرفة ربه ، معرفة قدرته ، ومعرفة رحمته ، فحينما تأتيه مصيبة ، ويخاف من آثارها ، ويلجأ إلى الله عز وجل مبتهلاً ، عندئذ يرى أن الله هو الفعّال ، فيوقظه منها ، على خلاف قوانين الأرض ، ثم إنّه يرى أن الله يحبه ، فأية مصيبة يسوقها الله عز وجل للمؤمن تزيده معرفة بربه ، وتزيده حباً له .
 صدِّقْ بأنه لا يمكن لمؤمن بعد المصيبة أن يكون كما كان قبلها ، فهو بعد المصيبة أكثر معرفة بالله ، وأكثر محبة له ، أبداً ، فالمؤمن بعد كل مصيبة أكثر معرفة بقدرة الله ، وأكثر إيماناً ، وأنه هو الإله حقًّا ، فصار أكثر محبة له ، بالرحمة التي يراها من ربه ، لذلك :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة : 216]

 هذه مصائب المؤمنين ؛ مصائب دفع ، ومصائب رفع ، فإذا كنت تتقاضى أجرةً عن كل طن خمسة آلاف ليرة ، وعندك الآن طن واحد بسيارتك ، ومن الممكن أن تأخذ عشرة أطنان، فكما أن السيارة التي تحمل طنًّا واحداً يمكن أن يحمل صاحبها أضعاف حمولتها تلك ، فكذلك المؤمن الذي يريد أن يرفعه الله تعالى ، إذْ يعلم أن هذا المؤمن قادر على بلوغ مرتبة أسمى و أعلى كتلك السيارة التي تزيد حمولتها فتأتيه مصيبة رفع ترفعه ، وتُعلي مقامه عند بارئها .

(( فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ))

[الترمذي عن سعد بن أبي وقاص]

 فإذا كنت مستقيمًا ، ملتزمًا ، مطبقًا لأمر الله ، وجاءتك مصيبة ، فهذه من أجل أن يرفعك الله درجة أو درجات ، وأن يرفع مقامك إليه . وإذا كنت في فتور بعبادتك بحكم الاعتياد ، ودينك صار دينًا شكليًا ، وكنتَ مستقيمًا ، فالله عز وجل يدفعك إلى بابه بطريقة ما ، فمصيبة المؤمنين إما دفع إلى باب الله ، وإما رفع في المقام .

فهم الإنسان للمصيبة يجعله راض عن الله :

 السيارة تسير بسرعة خمسةٍ وعشرين كم في الساعة ، وبإمكانها أن تسير بسرعة مئة كيلومتر في الساعة إن تركتها تمشي على المئة ، فمصائب المؤمن مصائب شدة ، فالأنبياء عندهم كمالات ، وعندهم مشاعر نبيلة ، لا تظهر إلا بالمصائب .
 يخرج عليه الصلاة و السلام من مكة ثمانين كيلومترًا ، ماشيًا على قدميه ليدعو أهل الطائف إلى الإسلام ، ولينقذهم من النار ، لكنهم يسخرون منه ، ويكذبونه ، فيأتيه ملك الجبال ويقول له : يا محمد "صلى الله عليه وسلم" ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبَّقتُ عليهم الجبلين ، فيقول : لا ، ولكنْ : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، يدعو لهم ، ويعتذر عنهم، ولا يتخلى عنهم ، فمصائب الأنبياء تكمل بكمالاتهم ، ومصائب المؤمنين دفع من الله ، ورفع لمقاماتهم ، ومصائب الكفار قصم لهم ، إذا لم يكن فيهم خير ، وإذا علِم أنّ فيهم بقية خير كانت مصيبته لهم ردعًا .
 فمصائب الكفار قصم وردع ، ومصائب المؤمنين دفع ورفع ، ومصائب الأنبياء كشف لحقائقهم ، فهُم أهل الكمالات . وإذا فهِم الإنسان المصيبةَ فهذا الفهم الحلو يجعله يرضى عن الله .
 وبينما كان شخص يطوف حول الكعبة ، قال : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ وكان وراءه الإمام الشافعي ، فقال له : يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال : ما هذا الكلام يا رجل ؟ ومن أنت ؟ قال أنا محمد بن إدريس الشافعي . وقبل أنْ أختم حديثي أقول :

﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

[سورة الرعد : 19]

تحميل النص

إخفاء الصور