- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تِسعة أعشار المعاصي تتأتَّى من كسْب المال وإنفاقه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدَّثْت في خطبتين سابقتين عن المال ، وكيف أنّ المال مالُ الله ، وكيف أنّ يد الإنسان عليه يدٌ مستخلفةٌ فيه ، وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى جعلهُ قوام الناس ، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى نهى عن التبذير ، وهو إنفاق المال في المعاصي ، ونهى عن الإسراف ، وهو إنفاق المال في المباحات ، بِشَكلٍ يتجاوَز الحدّ المعقول ، والحدّ الطبيعيّ ، وكيف أنَّ المؤيّد القانوني لهذه الأحكام إلقاء الحَجْر على السفيه الذي ينفق مالهُ فيما لا ينبغي ، وانطلقنا في هذه الخُطب مِن أنَّ تِسعة أعشار المعاصي تتأتَّى من كسْب المال وإنفاقه ، وكيف أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟))
وانْطِلاقًا من أنَّ كلّ شهْوةٍ أوْدعها الله في الإنسان جعلَ لها مصْرفًا نقيًّا طاهرًا شريفًا ، فحينما زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النّساء شرَّعَ الزواج وحرَّم الزنا ، حينما زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة ، أوْدَعَ الله في الإنسان حبَّ المال لِيَرْقى بهذا الحبّ إلى الله عز وجل في كَسْبِهِ مِن وَجْهٍ حلال ، وفي إنفاقه في وَجْهٍ حلال .
ارتقاء الإنسان بالشهوة صابراً و شاكراً :
الشَّهْوَة أيّها الأخوة الأكارم ؛ ترتقي بالإنسان مرَّتَين ؛ إنْ ترك وَجْهها المحرّم يرتقي بها صابِرًا ، وإن أخذ ما أُبيح له منها يرتقي بها شاكرًا ، وكذلك المال ، وموضوع الخطبة اليوم ؛ إنَّها خُطبٌ متسلْسلة ، ذكرْتُ لكم أنّ الموضوعات الكبرى التي تمسّ حياة المؤمن موضوعات العبادة ، وقد أمْضَينا فيها خُطبًا كثيرة ، ولأنّ الإنسان في الدنيا مُبتلى ، ولأنّ التكليف قد يتناقض مع طبيعة الإنسان التي تميلُ إلى الراحة ، وإلى كسْب المال ، وإلى إطلاق الشهوات ، كانت موضوعات الصّبر ، ولأنّ الإنسان في الأصْل وقتٌ كانت موضوعات الوقت ، ولأنّ البيت المسلم قِوام المجتمع الإنساني كانت موضوعات البيت المسلم ، وليس في الفساد ما هو أخطرُ على المؤمن من المال والنّساء ، لذلك هذه الخُطَبُ تَتَمَحْوَرُ حول موضوع واحد ، ألا وهو المال كسْبًا ، وإنفاقًا ، ووظيفةً ، وحقيقة ، وعلاقة المرء بالجنس الآخر ؛ ما هو مشروع وما هو محرّم .
الكسب الحلال :
موضوع اليوم ؛ الكسْبُ الحلال ، روى الإمام الدَّيلمي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
(( طلب الحلال واجب على كل مسلم ))
النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطقُ عن الهوى ، ينطق عن الله ، إن هو إلا وحيٌ يوحى ، وروى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه :
(( طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة ))
كيف فُسِّرَ هذا الحديث ؟ فسَّرَهُ بعض العلماء على أنّ مرتبة طلب الحلال فريضة بعد فريضة الصلاة والصوم والحجّ والزكاة ، تأتي بعدها في المرتبة ، وأخْطرُ ما يتوهَّمُهُ الناس أنَّ فرائض الدِّين هي الصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، مع أنّ فرائض الدِّين كثيرة جدًّا ، بل إنّ كلَّ حديث صحيح فيه صيغةُ أمْرٍ هذا فرْضٌ من فرائض الدِّين ، فهذا التوهُّم من أنَّه من صام وصلّى وحجّ وزكّى أدَّى فرائض الدِّين ، وقَعَ في وَهْمٍ كبير ، إنّ طلبَ الحلال فرْضٌ من فرائضِ الدِّين ، ولكنَّها فريضة بعد الفريضة ، ما معنى بعد الفريضة ؟ أيْ لا يجوز أن تُهْمِلَ الفريضة الأولى من أجل الفريضة الثانيَة ، لذلك قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
البيعُ والشّراء فريضة ، ولكنْ بعد فريضة الصلاة والصوم والحجّ والزكاة هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام .
مَعْنًى آخر من معاني هذا الحديث ؛ طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة ، أيْ أنّ هذه الفريضة يجبُ أن تُؤدَّى بِشَكلٍ مُتتابِع ، إذا قامَت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فلْيَغْرسْها ، وأُذكِّركم بِمَوضوع قديم هو أنّ كسْب الرّزْق حِرْفةُ الرّجل ، مِهْنتُهُ ، وظيفتهُ ، صِناعتهُ، زراعتهُ ، تِجارتهُ ، مرتبتُـه ، يمكن أن تنقلبَ هذه الحِرْفة إلى عبادة بِسِتَّة شُروط هذا شيءٌ ذكرْتُه قديمًا ، وكثيرًا ، إذا كانت هذه الحِرْفة في الأصْل مَشْروعةً ، وإذا كانت معالجتها بِطَريقةٍ مشروعة ؛ لا كذبًا ، ولا غشّا ، ولا تدليسًا ، ولا شيئًا مِن معاصي الله عز وجل أُدْخِلَت على هذه الحِرْفة ، واِبْتَغَيــْت بها أن تكتفِيَ عن حاجة الناس ، وأن تكْفِيَ أهْلكَ وأولادك ، وأن تنفق من هذا الكسْب ابتغاء رِضْوان الله عز وجل ، ولمْ تشْغَلْكَ هذه الحِرْفةُ عن صَوْم ، ولا عن صلاة ، ولا عن مَجْلسِ عِلْمٍ ، أو طاعةٍ ، أو عبادة ، هذه الحِرْفة بالذات انقلبَتْ إلى عبادة يمكن أن تلقى الله بها ، لذلك الأُبُوَّة المِثاليّة عملٌ تلقى الله به ، من جاءَتْهُ بِنتان فأحْسنَ ترْبيَتَهُما فأنا كفيلُه في الجنّة ، تربيَة الأولاد ، ولا سيّما البنات عملٌ تلقى الله به ، البنوّة المِثاليّة عملٌ ، قابل الله في بِرِّهِما كما قال عليه الصلاة والسلام ، الزّوْجة المِثاليّة ؛ اِعْلَمي أيَّتها المرأة ، وأعْلِمِي من دونكِ من النّساء أنّ حُسْن تبعُّل المرأة زوجها يعدلُ الجهاد في سبيل الله ، الزوجة الصالحة عملها في بيتها ، ورعايتها لأولادها عملٌ تلقى الله به ، وحِرفتُكَ إذا أخْلصْت فيها ، وأتْقنْتَها ، واتَّقَيْت الله فيها ، ونوَيْت خِدْمة المسلمين ، وأن تكتَفِيَ بِنَفْسِكَ ، وأولادك ، وأهلك ، وأن تنفقَ من كسْبِكَ الحلال في سبيل الله تعالى ، ولم تشْغلْك عن صِيامٍ ، أو صلاةٍ ، أو مجلسِ علمٍ ، أو عن طاعةٍ ، انْقَلَبَتْ هذه الحِرْفة إلى عبادة .
مشروعية الكسب :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ أخرى في القرآن الكريم ، يقول الله عز وجل :
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
ابتغوا من فضْلِ الله تَعْني مَشْروعِيَّة الكَسْب ، بل تعني فرْضِيَّة الكسْب الحلال، لكنّ الفقهاء بيَّنُوا هذه الآية على وُجوهٍ عِدَّة ، فكَسْبُ الرّزق هو أمْرُ إباحةٍ ، لِمَن كان مكْتَفِيًا ، أو لِمَن لا يُطيق العمل ، من كان مكتفِيًا ، أو لا يُطيق العمل ، أمْرُ كسْب الرّزق أمْر إباحةٍ بالنّسبة لهذا الإنسان ، أما القادر الذي ليس عنده ما يملكُه فأمْرُ كسْب الرّزْق فرضٌ عليه ، أن تسأل الناس وأنت قادرٌ على كسْب الرّزْق ، هذا حرامٌ بإجماع العلماء ، ثلاثة أحكام ، قد يكون أمراً وابتغوا من فضله ، وقد يكون هذا الأمْرُ أمْر إباحةٍ لِمَن كان مكتفيًا ، وعنده الكثير ، أو لِمَن لا يُطيق العمل ، وهو أمْرُ وُجوبٍ لِمَن كان قادرًا على كسب الرّزق ، وليس عندهُ شيء، وسؤال الناس مع القُدْرة على الكَسْب محرَّمٌ بإجماع الفقهاء والعلماء .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ ثالثة ، يقول الله عز وجل :
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾
أنت مأمورٌ أن تنفقَ مِن طيِّب ما كسبْت ، هناك قاعدةٌ أُصوليّة أنَّه ما لا يُتَوَصَّل إلى إقامة العبادة إلا به فهو عبادة ، وما لا يُتَوَصَّل إلى القيام بِواجبٍ إلا به فهو واجب ، وما لا يُتَوَصَّل إلى أداء سنّة إلا به فهو سنّة ، الوسائل من جنس الأهداف ، لذلك حينما أمرنا الله عز وجل قال تعالى :
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾
أيْ عليكـم أن تكتسبوا رزقًا حلالاً كي تنفقوه في سبيل الله ، وتحقِّقوا هذا الأمْر الإلهي ، كأنَّ في هذا الأمْر أمْراً مُنْطوٍ به ؛ اِكْسَبوا حلالاً ، وأنفقوا من طيّبات ما كسبتم .
ترتيب فريضة كسب المال على أربع درجات :
1 ـ كسْبُ ما لا بدّ منه كي تُقيم به أودك :
أيها الأخوة الأكارم ؛ العلماء رتَّبوا فريضة كسْب المال على أربع درجات ؛ الأولى كسْبُ ما لا بدّ منه ، كي تُقيم به أودك ، هذه فريضة عيْنِيَّة ، مِن أجل أن تأكل ، ومن أجل أن تحيا ، لقد منحَكَ الله نِعمة الحياة ، وأمرك أن تعبدهُ في الحياة ، فالذي يُسبِّبُ لك بقاء الحياة ، هذا فرْضٌ عَينيّ يقع في المرتبة الأولى .
2 ـ أن تكتسب ما تؤدِّي به دَينَكَ :
وفي المرتبة الثانية عليك أن تكتسبَ ما تؤدِّي به دَينَكَ ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد في مسنده :
(( الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ ))
لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مات أحدُ أصحابِهِ ، أوّلُ سؤالٍ يسألهُ : هل عليه دَين ؟ فإن قالوا : نَعَم ، وهو صحابي ، وقد خاضَ بدرًا ، وأحدًا ، والخندق ، وجاهد في سبيل الله ، يقول عليه الصلاة والسلام : " صَلُّوا على صاحبكم ، لأنّ الدَّين مَقضِيّ " بالمناسبة لا يجوز للمؤمن أن يقترضَ قرضًا ليس عندهُ ما يُغطِّيه ، إنّه إن فعَلَ هذا فقد أكلَ أموال الناس بالباطل ، "الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ" .
3 ـ أن تكْتسِبَ ما تنفقُ على عِيالِكَ :
المرتبة الثالثة عليك أن تكْتسِبَ ما تنفقُ على عِيالِكَ ، وهذا فرْضٌ عَينيّ أيضًا ، هؤلاء الأولاد ، وهذه الزّوْجة التي حبسْتها لك ، وهؤلاء الأولاد الذين أنْجَبتهم ، مَن لهم غيرك ؟ إذا أهْملْتَ أنت رِزْقهم ، طعامهم ، وشرابهم ، وكِسْوتهم ، وتربيَتَهم ، من لهم سِواك ؟ لذلك ورد في بعض الأحاديث أنَّ درهمًا تنفقهُ في سبيل الله ، ودرهم كذا ، ودرهم كذا ، الدِّرْهم التي تنفقه على عِيالك أفْضلُ من هذه جميعًا ، لأنّ الفقير أنت له وغيرك له أما أولادك وأهلك فليس لهم إلا أنت ، فلذلك واجبٌ يقع في المرتبة الثالثة أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على عيالك ، ماذا قال الله عز وجل :
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾
بالمناسبة لما قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾
قال العلماء : هذه عداوَة مآل لا عداوَة حال ، أي يكفي أن تحْمِلك الزوجة على ما لا تُطيق ، يكفي أن تطالبَك بما ليس متيسِّرًا لديك ، يكفي أن تدفعَك لأكل المال الحرام ، يكفي أن تحملك بالضّغط منها على أن تأخذ ما ليس لك ، أو على أن تكسبهُ بطريقةٍ غير مشروعة ، يكفي هذا كي تسبّب لك العذاب الأليم ، أما الصحابيّات رِضوان الله عنهم فكانت إحداهنّ تقول لِزَوجها : اِتّق الله فينا يا فلان ، نصبرُ على الجوع ، ولا نصبرُ على الحرام ، فلذلك قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾
أسْكِن زوجتك المسْكَنَ الذي تسكنهُ أنت ، في حدود إمكاناتك ، وفي حدود طاقتك، وفي حدود دخلك ، وفي حُدود ما تقدرُ عليه ، ولسْتَ مطالبًا من أجل أن ترضيَ أهلك وأولادك أن تتحمَّل معْصِيَة الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾
أي القاعدة الشرعيّة أن تُطْعم أهلك مِمّا تأكل ، و أن تلبسهم مِمَّا تلبس ، لا تكلّف نفسك ما لا تُطيق ، لا تحمل نفسك على الحرام ، هذا هو الموقف الشرعي ، أما من كان موسَّعًا وقتَّر على عِياله فليس مِنَّا كما قال عليه الصلاة والسلام :
((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله))
ليس من أُمّة سيّدنا محمّد .
4 ـ أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على والدَيك المُعْسِرَين :
الشيءُ الرابع عليك أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على والدَيك المُعْسِرَين ، وهذا واجبٌ عيني ، هذا الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا رسول الله أريد الجهاد معك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ألكَ أبوان ؟ قال : نعم ، فقال : اِرْجِع ففيهما جاهِد ، فسّر بعض علماء الحديث قَوْل النبي عليه الصلاة والسلام اِرْجِع ففيهما فجاهِد ، أيْ اكْتَسِب ، وأنفق عليهما من كسْبِكَ الحلال ، هذا معنى فيهما فجاهد ، لبِّ حاجتهما ، أنفق عليهما من كسْبك الحلال ، وحينما قال الله عز وجل :
﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾
قال علماء التفسير : ليس من المُصاحبة بالمعروف أن تتْركهما يجوعان ، وأنت قادِرٌ على الكسْب ، مِن معاني وصاحبهما في الدنيا معروفًا ، ليس من المصاحبة بالمعروف ، أن تتْركهما جياعًا ، وأنت قادرٌ على كسْب المال ، كلامُ الله عز وجل دقيق ، الشيء بالشيء يُذْكر ، حينما قال الله عز وجل :
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال المفسّرون : ليسَتْ المعاشرة بالمعروف للزوجة أن تمْتَنِعَ عن إيقاع الأذى بها بل أن تحْتَمِلَ الأذى منها ، هذا معنى الآية .
أقوال الإسلام فيمن فتح على نفسه باب السؤال :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أما هؤلاء الذين لا يعملون ، أما هؤلاء الكسالى ، أما هؤلاء الذين يتكفَّفُون الناس ، أما هؤلاء الذين فتحوا على أنفسهم باب السُّؤال فماذا قال الإسلام عنهم ؟ سيّدنا عمر رضي الله عنه الخليفة العظيم ، وعِملاق الإسلام كما يقولون ، كان إذا رأى غلامًا فأعْجبَهُ سأل عنه : هل له حِرفة ؟ فإن قيل : لا ، سقطَ من عَيْنِهِ ، للإمام عليّ كرّم الله وجهه قول دقيق ، يقول هذا الإمام الجليل : " قيمة المرءِ ما يُحْسنُه " أنت ماذا تحْسن في الدنيا ؟ هل لك حِرفةٌ تتْقنها ؟ لك اختصاص عالٍ ؟ لك مهارةٌ ؟ لك خِبرةٌ ؟ لك ميزةٌ ؟ قيمتُك تنبعُ مِمَّا تُحسِن، قيمةُ المرء ما يُحسن ، وإتقان العمل من صلب الدِّين ، إنّ الله يحبّ من العبد إذا عمِل عملاً أن يتقنَهُ ، لذلك إذا فهِمْنا أنّ الدِّين في أصلِهِ عملٌ ، وأنَّ إتقان العمل جزءٌ من الدِّين كُنَّا في حالة غير هذه الحالة ، النبي عليه الصلاة والسلام أمْسَكَ بيَدِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرآها خَشِنة ، فأمْسك يدهُ ، ورفعها بين أصحابه ، وقال : " إنّ هذه اليد يحبّها الله ورسوله " هذا الذي يسعى على كسْب رزق أولاده ، هذا الذي يُقدِّمُ عملاً يخدم به المسلمين .
((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله ؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ))
اِنْتَقِ حرفةً تنفعُ بها المسلمين ، لا تنتق حِرفةً أساسها إيذاء المسلمين ، لا تنتق حرفةً أساسها ترويع المسلمين ، انْتق حرفةً تنفعُ بها المسلمين ، لذلك قيل : إذا أردْت أن تعرف مقامَكَ فانْظر فيما اسْتعملَكَ ، ما وظيفتك في الحياة هي عطاءٌ أم أخذٌ ؟ هي بثّ الفضيلة والأمْن والمنفعة أم سلب هذه الأشياء ؟ هناك أبواب كثيرة لِكَسب الرّزق الوفير ، ولكن أساسها إيقاع الأذى بالمسلمين ، أساسها إفسادُ عقيدتهم ، أساسها إفسادُ علاقاتهم ، أساسها إيقاعهم في فتنة عَمياء ، ليس هذا كسْبًا للمال ، وليس هذا ذكاءً ، وليس هذا عقلاً ، ولكنّه حُمقٌ يظهر في وقتٍ لاحقٍ ، يوم لا ينفعُ النَّدَم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الخليفة الراشد رأى جماعةً من اليمَن ، قال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكّلون ، قال : كذبْتُم ، المتوكِّلُ من ألقى حبَّةً في الأرض ثمّ توكَّل على الله تعالى ، والإمام ابن مسعود الصحابيّ الجليل رضي الله عنه كان يقول : إنِّي لأكرهُ الرّجل فارغًا، لا في عمل الدنيا ، ولا في عمل الآخرة ، ففي الدّنيا مقصّر ، مهْمِل ، كسُول ، فَوْضَوي ، يميلُ إلى الراحة ، وفي الآخرة مقصّر ، ابنُ مسعود يقول : إنِّي أكرهُ هذا الرّجل لأنّه فارغٌ لا مِن عمل الدنيا ، ولا من عمل الآخرة .
والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سُئِلَ ما تقول في رجلٍ جلسَ في بيته ، أو في مسجِدِه ، ويقول : لا أعملُ شيئًا حتى يأتِيَني رزقي ؟ سيّدنا عمر رأى رجلاً في المسجد يقرأ القرآن في وقت العمل ، قال : إنَّما أُنْزل هذا القرآن لتعملَ به ، أفاتَّخَذْت قراءته عملاً ؟! اقْرأْهُ في الليل ، وفي الصباح بعد صلاة الفجر ، قال تعالى :
﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾
وقْتُ كسْب الرّزق ، فأجاب الإمام أحمد عن هذا السؤال قال : هذا رجلٌ جاهلٌ في أبسط حقائق العِلْم ، قال عليه الصلاة والسلام : " جعل الله رزقي تحت ظلّ رمحي " وقال عليه الصلاة والسلام :
(( لَوْ تَوَكَلْتُم على اللّه حق توكله ، لرزقكم كَمَا يَرزُقُ الطَيْر ، تَغْدُو خِمَاصاً وتروحُ بِطَانًا ))
تغدو أي تذهب إلى كسْب رزقها قبل الشّمس ، وتروح أي تعود إلى أعشاشها بعد الغروب ، تَغْدُو خِمَاصاً وتروحُ بِطَانا ، هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا تنْسوا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((اليدُ العليا خير ))
وما فتح رجلٌ باب مسألة إلا فتَحَ الله عليه باب فقْرٍ .
وجوب كسب الرزق حتى من قِبل الأنبياء و المرسلين :
أما الأنبياء والمرسلون فهم القدوة لنا ، فمِمَّا هو ثابتٌ أنّ جميع الرّسُل كانوا يعملون لِكَسب العَيش ، ماذا قال الله عز وجل ؟ قال تعالى :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾
كلامٌ دقيق جدًّا ، إلا أنّهم يأكلون الطعام أيْ هم بشرٌ مفتقرون في بقائهم إلى تناوُل الطعام ، هؤلاء الذين عبدوا أنبياءهم من دون الله تعالى وقعوا في ضلال مُبين ، هذا الذي تظنّه إلهًا هو بشر ، يحتاج إلى الطعام كي يبقى حيًّا ، قال تعالى :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾
هم مفتقرون إلى طعامٍ يقيمُ أوَدَهم ، ومفتقرون إلى كسْب الطعام ، إلى أن يمْشوا في الأسواق لِكَسب الرّزق ، هذا معنى ، والمعنى الثاني الذي أوْرده الإمام القرطبي ، قال : هذه الآية أصلٌ في تناوُل الأسباب ، وطلب المعاش لأنّ الأنبياء قُدوَة ، ومُثل عليا ، الله سبحانه وتعالى جعل حياتهم تشريعًا ، فحينما يرْعى النبي الغنَم ، هذا دليل قطْعي على وُجوب كسْب الرّزْق ، الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ))
وقد فسَّر الإمام بن حجر رحمه الله تعالى هذا الحديث بأنّ النبي داود عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام كان خليفة الله في الأرض ، قال تعالى :
﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾
كان يبدو أنَّ هذا النبي متيسِّرٌ له الرّزق الوفير ، ولكنّه أراد أن يأكل من عمل يديه ، لأنّ هذا أفضلُ أنواع الكسب ، هكذا قال الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري على صحيح البخاري .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا فيما رواه مسلم أن نبي الله زكريا كان نجّارًا ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام :
(( كان زكريا نجاراً ))
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
(( ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغَنَم ، فقال أصحابُه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : نعم ، وأنا كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكّة ))
لقد رعى الغنم ، ثمّ رعى الأُمَم ، وكان سيّد البشر ، وحبيب الحقّ ، وسيّد ولد آدم .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
التقنين الإلهي :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرّة ثانيَة ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
ما نُعانيه من انْحِباسٍ للأمطار هو تَضييق إلهي ، وتقْنين إلهي ، وقلتُ لكم كثيرًا: إنَّ التَّقْنين الإلهي ليس تقْنين عَجْزٍ ، بل تقنين تأديب ، والإنسان إذا قنَّن قد يقنِّن تقنين عَجْز ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى إذا حبس الأمطار فلِعِلَّة في البشر ، لا بدّ من أن نتوب من ذنوبنا ، لا بدّ من أن نخرج من معاصينا ، لا بدّ من أن نحرّر هِمَمَنا ، لا بدّ من أن نخرج من مظالمنا ، كلٌّ مِنَّا في بيته ، لِيُجري حِسابًا دقيقًا ، كيف يكسبُ ؟ وكيف ينفقُ ؟ هل في بيته معصيَة ؟ هل في بيته مخالفة ؟ لأنّنا إذا صلَّينا صلاة الاستسقاء ، ولم يُسْتَجَب لنا معنى ذلك أنَّنا لمْ نفْقه هذه الصلاة على حقيقتها .
مرَّةً ثانية : لا تُقبلُ صلاة الاستسقاء إلا بعد التوبة النصوح ، بعد الخروج من المظالم ، والمعاصي ، وبعد تحرير الهمّة ، وبعد الصّيام المديد ، وبعد التذلّل والخُضوع ، وبعد التوبة ، وكان السلف الصالح ما إن ينتهوا من صلاتهم حتى تُفتحَ أبواب السماء كأفواه القرب .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عَوْدةٌ إلى الله تعالى ، مراجعة للحسابات ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .