وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0326 - كسب المال3 ( الكسب الحلال ) - التَّقْنين الإلهي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

تِسعة أعشار المعاصي تتأتَّى من كسْب المال وإنفاقه :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدَّثْت في خطبتين سابقتين عن المال ، وكيف أنّ المال مالُ الله ، وكيف أنّ يد الإنسان عليه يدٌ مستخلفةٌ فيه ، وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى جعلهُ قوام الناس ، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى نهى عن التبذير ، وهو إنفاق المال في المعاصي ، ونهى عن الإسراف ، وهو إنفاق المال في المباحات ، بِشَكلٍ يتجاوَز الحدّ المعقول ، والحدّ الطبيعيّ ، وكيف أنَّ المؤيّد القانوني لهذه الأحكام إلقاء الحَجْر على السفيه الذي ينفق مالهُ فيما لا ينبغي ، وانطلقنا في هذه الخُطب مِن أنَّ تِسعة أعشار المعاصي تتأتَّى من كسْب المال وإنفاقه ، وكيف أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟))

[ سنن الدارمي عن معاذ بن جبل]

 وانْطِلاقًا من أنَّ كلّ شهْوةٍ أوْدعها الله في الإنسان جعلَ لها مصْرفًا نقيًّا طاهرًا شريفًا ، فحينما زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النّساء شرَّعَ الزواج وحرَّم الزنا ، حينما زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة ، أوْدَعَ الله في الإنسان حبَّ المال لِيَرْقى بهذا الحبّ إلى الله عز وجل في كَسْبِهِ مِن وَجْهٍ حلال ، وفي إنفاقه في وَجْهٍ حلال .

 

ارتقاء الإنسان بالشهوة صابراً و شاكراً :

 الشَّهْوَة أيّها الأخوة الأكارم ؛ ترتقي بالإنسان مرَّتَين ؛ إنْ ترك وَجْهها المحرّم يرتقي بها صابِرًا ، وإن أخذ ما أُبيح له منها يرتقي بها شاكرًا ، وكذلك المال ، وموضوع الخطبة اليوم ؛ إنَّها خُطبٌ متسلْسلة ، ذكرْتُ لكم أنّ الموضوعات الكبرى التي تمسّ حياة المؤمن موضوعات العبادة ، وقد أمْضَينا فيها خُطبًا كثيرة ، ولأنّ الإنسان في الدنيا مُبتلى ، ولأنّ التكليف قد يتناقض مع طبيعة الإنسان التي تميلُ إلى الراحة ، وإلى كسْب المال ، وإلى إطلاق الشهوات ، كانت موضوعات الصّبر ، ولأنّ الإنسان في الأصْل وقتٌ كانت موضوعات الوقت ، ولأنّ البيت المسلم قِوام المجتمع الإنساني كانت موضوعات البيت المسلم ، وليس في الفساد ما هو أخطرُ على المؤمن من المال والنّساء ، لذلك هذه الخُطَبُ تَتَمَحْوَرُ حول موضوع واحد ، ألا وهو المال كسْبًا ، وإنفاقًا ، ووظيفةً ، وحقيقة ، وعلاقة المرء بالجنس الآخر ؛ ما هو مشروع وما هو محرّم .

الكسب الحلال :

 موضوع اليوم ؛ الكسْبُ الحلال ، روى الإمام الدَّيلمي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

(( طلب الحلال واجب على كل مسلم ))

[الدَّيلمي عن أنس]

 النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطقُ عن الهوى ، ينطق عن الله ، إن هو إلا وحيٌ يوحى ، وروى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه :

(( طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة ))

[البيهقي عن ابن مسعود]

 كيف فُسِّرَ هذا الحديث ؟ فسَّرَهُ بعض العلماء على أنّ مرتبة طلب الحلال فريضة بعد فريضة الصلاة والصوم والحجّ والزكاة ، تأتي بعدها في المرتبة ، وأخْطرُ ما يتوهَّمُهُ الناس أنَّ فرائض الدِّين هي الصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، مع أنّ فرائض الدِّين كثيرة جدًّا ، بل إنّ كلَّ حديث صحيح فيه صيغةُ أمْرٍ هذا فرْضٌ من فرائض الدِّين ، فهذا التوهُّم من أنَّه من صام وصلّى وحجّ وزكّى أدَّى فرائض الدِّين ، وقَعَ في وَهْمٍ كبير ، إنّ طلبَ الحلال فرْضٌ من فرائضِ الدِّين ، ولكنَّها فريضة بعد الفريضة ، ما معنى بعد الفريضة ؟ أيْ لا يجوز أن تُهْمِلَ الفريضة الأولى من أجل الفريضة الثانيَة ، لذلك قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الجمعة: 9 ]

 البيعُ والشّراء فريضة ، ولكنْ بعد فريضة الصلاة والصوم والحجّ والزكاة هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام .
 مَعْنًى آخر من معاني هذا الحديث ؛ طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة ، أيْ أنّ هذه الفريضة يجبُ أن تُؤدَّى بِشَكلٍ مُتتابِع ، إذا قامَت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فلْيَغْرسْها ، وأُذكِّركم بِمَوضوع قديم هو أنّ كسْب الرّزْق حِرْفةُ الرّجل ، مِهْنتُهُ ، وظيفتهُ ، صِناعتهُ، زراعتهُ ، تِجارتهُ ، مرتبتُـه ، يمكن أن تنقلبَ هذه الحِرْفة إلى عبادة بِسِتَّة شُروط هذا شيءٌ ذكرْتُه قديمًا ، وكثيرًا ، إذا كانت هذه الحِرْفة في الأصْل مَشْروعةً ، وإذا كانت معالجتها بِطَريقةٍ مشروعة ؛ لا كذبًا ، ولا غشّا ، ولا تدليسًا ، ولا شيئًا مِن معاصي الله عز وجل أُدْخِلَت على هذه الحِرْفة ، واِبْتَغَيــْت بها أن تكتفِيَ عن حاجة الناس ، وأن تكْفِيَ أهْلكَ وأولادك ، وأن تنفق من هذا الكسْب ابتغاء رِضْوان الله عز وجل ، ولمْ تشْغَلْكَ هذه الحِرْفةُ عن صَوْم ، ولا عن صلاة ، ولا عن مَجْلسِ عِلْمٍ ، أو طاعةٍ ، أو عبادة ، هذه الحِرْفة بالذات انقلبَتْ إلى عبادة يمكن أن تلقى الله بها ، لذلك الأُبُوَّة المِثاليّة عملٌ تلقى الله به ، من جاءَتْهُ بِنتان فأحْسنَ ترْبيَتَهُما فأنا كفيلُه في الجنّة ، تربيَة الأولاد ، ولا سيّما البنات عملٌ تلقى الله به ، البنوّة المِثاليّة عملٌ ، قابل الله في بِرِّهِما كما قال عليه الصلاة والسلام ، الزّوْجة المِثاليّة ؛ اِعْلَمي أيَّتها المرأة ، وأعْلِمِي من دونكِ من النّساء أنّ حُسْن تبعُّل المرأة زوجها يعدلُ الجهاد في سبيل الله ، الزوجة الصالحة عملها في بيتها ، ورعايتها لأولادها عملٌ تلقى الله به ، وحِرفتُكَ إذا أخْلصْت فيها ، وأتْقنْتَها ، واتَّقَيْت الله فيها ، ونوَيْت خِدْمة المسلمين ، وأن تكتَفِيَ بِنَفْسِكَ ، وأولادك ، وأهلك ، وأن تنفقَ من كسْبِكَ الحلال في سبيل الله تعالى ، ولم تشْغلْك عن صِيامٍ ، أو صلاةٍ ، أو مجلسِ علمٍ ، أو عن طاعةٍ ، انْقَلَبَتْ هذه الحِرْفة إلى عبادة .

 

مشروعية الكسب :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ أخرى في القرآن الكريم ، يقول الله عز وجل :

﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[ سورة الجمعة: 9 ]

 ابتغوا من فضْلِ الله تَعْني مَشْروعِيَّة الكَسْب ، بل تعني فرْضِيَّة الكسْب الحلال، لكنّ الفقهاء بيَّنُوا هذه الآية على وُجوهٍ عِدَّة ، فكَسْبُ الرّزق هو أمْرُ إباحةٍ ، لِمَن كان مكْتَفِيًا ، أو لِمَن لا يُطيق العمل ، من كان مكتفِيًا ، أو لا يُطيق العمل ، أمْرُ كسْب الرّزق أمْر إباحةٍ بالنّسبة لهذا الإنسان ، أما القادر الذي ليس عنده ما يملكُه فأمْرُ كسْب الرّزْق فرضٌ عليه ، أن تسأل الناس وأنت قادرٌ على كسْب الرّزْق ، هذا حرامٌ بإجماع العلماء ، ثلاثة أحكام ، قد يكون أمراً وابتغوا من فضله ، وقد يكون هذا الأمْرُ أمْر إباحةٍ لِمَن كان مكتفيًا ، وعنده الكثير ، أو لِمَن لا يُطيق العمل ، وهو أمْرُ وُجوبٍ لِمَن كان قادرًا على كسب الرّزق ، وليس عندهُ شيء، وسؤال الناس مع القُدْرة على الكَسْب محرَّمٌ بإجماع الفقهاء والعلماء .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ ثالثة ، يقول الله عز وجل :

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾

[ سورة البقرة : 267]

 أنت مأمورٌ أن تنفقَ مِن طيِّب ما كسبْت ، هناك قاعدةٌ أُصوليّة أنَّه ما لا يُتَوَصَّل إلى إقامة العبادة إلا به فهو عبادة ، وما لا يُتَوَصَّل إلى القيام بِواجبٍ إلا به فهو واجب ، وما لا يُتَوَصَّل إلى أداء سنّة إلا به فهو سنّة ، الوسائل من جنس الأهداف ، لذلك حينما أمرنا الله عز وجل قال تعالى :

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾

[ سورة البقرة : 267]

 أيْ عليكـم أن تكتسبوا رزقًا حلالاً كي تنفقوه في سبيل الله ، وتحقِّقوا هذا الأمْر الإلهي ، كأنَّ في هذا الأمْر أمْراً مُنْطوٍ به ؛ اِكْسَبوا حلالاً ، وأنفقوا من طيّبات ما كسبتم .

 

ترتيب فريضة كسب المال على أربع درجات :

1 ـ كسْبُ ما لا بدّ منه كي تُقيم به أودك :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ العلماء رتَّبوا فريضة كسْب المال على أربع درجات ؛ الأولى كسْبُ ما لا بدّ منه ، كي تُقيم به أودك ، هذه فريضة عيْنِيَّة ، مِن أجل أن تأكل ، ومن أجل أن تحيا ، لقد منحَكَ الله نِعمة الحياة ، وأمرك أن تعبدهُ في الحياة ، فالذي يُسبِّبُ لك بقاء الحياة ، هذا فرْضٌ عَينيّ يقع في المرتبة الأولى .

 

2 ـ أن تكتسب ما تؤدِّي به دَينَكَ :

 وفي المرتبة الثانية عليك أن تكتسبَ ما تؤدِّي به دَينَكَ ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد في مسنده :

(( الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ ))

[ رواه أحمدعن أبي أمامة ]

 لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مات أحدُ أصحابِهِ ، أوّلُ سؤالٍ يسألهُ : هل عليه دَين ؟ فإن قالوا : نَعَم ، وهو صحابي ، وقد خاضَ بدرًا ، وأحدًا ، والخندق ، وجاهد في سبيل الله ، يقول عليه الصلاة والسلام : " صَلُّوا على صاحبكم ، لأنّ الدَّين مَقضِيّ " بالمناسبة لا يجوز للمؤمن أن يقترضَ قرضًا ليس عندهُ ما يُغطِّيه ، إنّه إن فعَلَ هذا فقد أكلَ أموال الناس بالباطل ، "الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ" .

 

3 ـ أن تكْتسِبَ ما تنفقُ على عِيالِكَ :

 المرتبة الثالثة عليك أن تكْتسِبَ ما تنفقُ على عِيالِكَ ، وهذا فرْضٌ عَينيّ أيضًا ، هؤلاء الأولاد ، وهذه الزّوْجة التي حبسْتها لك ، وهؤلاء الأولاد الذين أنْجَبتهم ، مَن لهم غيرك ؟ إذا أهْملْتَ أنت رِزْقهم ، طعامهم ، وشرابهم ، وكِسْوتهم ، وتربيَتَهم ، من لهم سِواك ؟ لذلك ورد في بعض الأحاديث أنَّ درهمًا تنفقهُ في سبيل الله ، ودرهم كذا ، ودرهم كذا ، الدِّرْهم التي تنفقه على عِيالك أفْضلُ من هذه جميعًا ، لأنّ الفقير أنت له وغيرك له أما أولادك وأهلك فليس لهم إلا أنت ، فلذلك واجبٌ يقع في المرتبة الثالثة أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على عيالك ، ماذا قال الله عز وجل :

﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾

[ سورة الطلاق :6]

 بالمناسبة لما قال الله عز وجل :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

[ سورة التغابن : 14]

 قال العلماء : هذه عداوَة مآل لا عداوَة حال ، أي يكفي أن تحْمِلك الزوجة على ما لا تُطيق ، يكفي أن تطالبَك بما ليس متيسِّرًا لديك ، يكفي أن تدفعَك لأكل المال الحرام ، يكفي أن تحملك بالضّغط منها على أن تأخذ ما ليس لك ، أو على أن تكسبهُ بطريقةٍ غير مشروعة ، يكفي هذا كي تسبّب لك العذاب الأليم ، أما الصحابيّات رِضوان الله عنهم فكانت إحداهنّ تقول لِزَوجها : اِتّق الله فينا يا فلان ، نصبرُ على الجوع ، ولا نصبرُ على الحرام ، فلذلك قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

[ سورة التغابن : 14]

 أسْكِن زوجتك المسْكَنَ الذي تسكنهُ أنت ، في حدود إمكاناتك ، وفي حدود طاقتك، وفي حدود دخلك ، وفي حُدود ما تقدرُ عليه ، ولسْتَ مطالبًا من أجل أن ترضيَ أهلك وأولادك أن تتحمَّل معْصِيَة الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾

[ سورة البقرة : 233]

 أي القاعدة الشرعيّة أن تُطْعم أهلك مِمّا تأكل ، و أن تلبسهم مِمَّا تلبس ، لا تكلّف نفسك ما لا تُطيق ، لا تحمل نفسك على الحرام ، هذا هو الموقف الشرعي ، أما من كان موسَّعًا وقتَّر على عِياله فليس مِنَّا كما قال عليه الصلاة والسلام :

((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله))

[مسند الشهاب للقضاعي عن عائشة]

ليس من أُمّة سيّدنا محمّد .

 

4 ـ أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على والدَيك المُعْسِرَين :

 الشيءُ الرابع عليك أن تكسبَ مالاً تنفقهُ على والدَيك المُعْسِرَين ، وهذا واجبٌ عيني ، هذا الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا رسول الله أريد الجهاد معك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ألكَ أبوان ؟ قال : نعم ، فقال : اِرْجِع ففيهما جاهِد ، فسّر بعض علماء الحديث قَوْل النبي عليه الصلاة والسلام اِرْجِع ففيهما فجاهِد ، أيْ اكْتَسِب ، وأنفق عليهما من كسْبِكَ الحلال ، هذا معنى فيهما فجاهد ، لبِّ حاجتهما ، أنفق عليهما من كسْبك الحلال ، وحينما قال الله عز وجل :

﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾

[ سورة لقمان: 15 ]

 قال علماء التفسير : ليس من المُصاحبة بالمعروف أن تتْركهما يجوعان ، وأنت قادِرٌ على الكسْب ، مِن معاني وصاحبهما في الدنيا معروفًا ، ليس من المصاحبة بالمعروف ، أن تتْركهما جياعًا ، وأنت قادرٌ على كسْب المال ، كلامُ الله عز وجل دقيق ، الشيء بالشيء يُذْكر ، حينما قال الله عز وجل :

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

[ سورة النساء : 19]

 قال المفسّرون : ليسَتْ المعاشرة بالمعروف للزوجة أن تمْتَنِعَ عن إيقاع الأذى بها بل أن تحْتَمِلَ الأذى منها ، هذا معنى الآية .

 

أقوال الإسلام فيمن فتح على نفسه باب السؤال :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أما هؤلاء الذين لا يعملون ، أما هؤلاء الكسالى ، أما هؤلاء الذين يتكفَّفُون الناس ، أما هؤلاء الذين فتحوا على أنفسهم باب السُّؤال فماذا قال الإسلام عنهم ؟ سيّدنا عمر رضي الله عنه الخليفة العظيم ، وعِملاق الإسلام كما يقولون ، كان إذا رأى غلامًا فأعْجبَهُ سأل عنه : هل له حِرفة ؟ فإن قيل : لا ، سقطَ من عَيْنِهِ ، للإمام عليّ كرّم الله وجهه قول دقيق ، يقول هذا الإمام الجليل : " قيمة المرءِ ما يُحْسنُه " أنت ماذا تحْسن في الدنيا ؟ هل لك حِرفةٌ تتْقنها ؟ لك اختصاص عالٍ ؟ لك مهارةٌ ؟ لك خِبرةٌ ؟ لك ميزةٌ ؟ قيمتُك تنبعُ مِمَّا تُحسِن، قيمةُ المرء ما يُحسن ، وإتقان العمل من صلب الدِّين ، إنّ الله يحبّ من العبد إذا عمِل عملاً أن يتقنَهُ ، لذلك إذا فهِمْنا أنّ الدِّين في أصلِهِ عملٌ ، وأنَّ إتقان العمل جزءٌ من الدِّين كُنَّا في حالة غير هذه الحالة ، النبي عليه الصلاة والسلام أمْسَكَ بيَدِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرآها خَشِنة ، فأمْسك يدهُ ، ورفعها بين أصحابه ، وقال : " إنّ هذه اليد يحبّها الله ورسوله " هذا الذي يسعى على كسْب رزق أولاده ، هذا الذي يُقدِّمُ عملاً يخدم به المسلمين .

((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله ؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ))

[حديث صحيح بشواهده، ابن ماجه وأبو نعيم في الحلية والحاكم وابن حبان عن جابر]

 اِنْتَقِ حرفةً تنفعُ بها المسلمين ، لا تنتق حِرفةً أساسها إيذاء المسلمين ، لا تنتق حرفةً أساسها ترويع المسلمين ، انْتق حرفةً تنفعُ بها المسلمين ، لذلك قيل : إذا أردْت أن تعرف مقامَكَ فانْظر فيما اسْتعملَكَ ، ما وظيفتك في الحياة هي عطاءٌ أم أخذٌ ؟ هي بثّ الفضيلة والأمْن والمنفعة أم سلب هذه الأشياء ؟ هناك أبواب كثيرة لِكَسب الرّزق الوفير ، ولكن أساسها إيقاع الأذى بالمسلمين ، أساسها إفسادُ عقيدتهم ، أساسها إفسادُ علاقاتهم ، أساسها إيقاعهم في فتنة عَمياء ، ليس هذا كسْبًا للمال ، وليس هذا ذكاءً ، وليس هذا عقلاً ، ولكنّه حُمقٌ يظهر في وقتٍ لاحقٍ ، يوم لا ينفعُ النَّدَم .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الخليفة الراشد رأى جماعةً من اليمَن ، قال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكّلون ، قال : كذبْتُم ، المتوكِّلُ من ألقى حبَّةً في الأرض ثمّ توكَّل على الله تعالى ، والإمام ابن مسعود الصحابيّ الجليل رضي الله عنه كان يقول : إنِّي لأكرهُ الرّجل فارغًا، لا في عمل الدنيا ، ولا في عمل الآخرة ، ففي الدّنيا مقصّر ، مهْمِل ، كسُول ، فَوْضَوي ، يميلُ إلى الراحة ، وفي الآخرة مقصّر ، ابنُ مسعود يقول : إنِّي أكرهُ هذا الرّجل لأنّه فارغٌ لا مِن عمل الدنيا ، ولا من عمل الآخرة .
 والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سُئِلَ ما تقول في رجلٍ جلسَ في بيته ، أو في مسجِدِه ، ويقول : لا أعملُ شيئًا حتى يأتِيَني رزقي ؟ سيّدنا عمر رأى رجلاً في المسجد يقرأ القرآن في وقت العمل ، قال : إنَّما أُنْزل هذا القرآن لتعملَ به ، أفاتَّخَذْت قراءته عملاً ؟! اقْرأْهُ في الليل ، وفي الصباح بعد صلاة الفجر ، قال تعالى :

﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾

[ سورة الإسراء: 78]

 وقْتُ كسْب الرّزق ، فأجاب الإمام أحمد عن هذا السؤال قال : هذا رجلٌ جاهلٌ في أبسط حقائق العِلْم ، قال عليه الصلاة والسلام : " جعل الله رزقي تحت ظلّ رمحي " وقال عليه الصلاة والسلام :

(( لَوْ تَوَكَلْتُم على اللّه حق توكله ، لرزقكم كَمَا يَرزُقُ الطَيْر ، تَغْدُو خِمَاصاً وتروحُ بِطَانًا ))

[الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي : حسن صحيح ]

 تغدو أي تذهب إلى كسْب رزقها قبل الشّمس ، وتروح أي تعود إلى أعشاشها بعد الغروب ، تَغْدُو خِمَاصاً وتروحُ بِطَانا ، هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا تنْسوا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((اليدُ العليا خير ))

[البخاري عن عبد الله بن عمر]

 وما فتح رجلٌ باب مسألة إلا فتَحَ الله عليه باب فقْرٍ .

 

وجوب كسب الرزق حتى من قِبل الأنبياء و المرسلين :

 أما الأنبياء والمرسلون فهم القدوة لنا ، فمِمَّا هو ثابتٌ أنّ جميع الرّسُل كانوا يعملون لِكَسب العَيش ، ماذا قال الله عز وجل ؟ قال تعالى :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾

[ سورة الفرقان : 20]

 كلامٌ دقيق جدًّا ، إلا أنّهم يأكلون الطعام أيْ هم بشرٌ مفتقرون في بقائهم إلى تناوُل الطعام ، هؤلاء الذين عبدوا أنبياءهم من دون الله تعالى وقعوا في ضلال مُبين ، هذا الذي تظنّه إلهًا هو بشر ، يحتاج إلى الطعام كي يبقى حيًّا ، قال تعالى :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾

[ سورة الفرقان : 20]

 هم مفتقرون إلى طعامٍ يقيمُ أوَدَهم ، ومفتقرون إلى كسْب الطعام ، إلى أن يمْشوا في الأسواق لِكَسب الرّزق ، هذا معنى ، والمعنى الثاني الذي أوْرده الإمام القرطبي ، قال : هذه الآية أصلٌ في تناوُل الأسباب ، وطلب المعاش لأنّ الأنبياء قُدوَة ، ومُثل عليا ، الله سبحانه وتعالى جعل حياتهم تشريعًا ، فحينما يرْعى النبي الغنَم ، هذا دليل قطْعي على وُجوب كسْب الرّزْق ، الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ))

[البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ ]

 وقد فسَّر الإمام بن حجر رحمه الله تعالى هذا الحديث بأنّ النبي داود عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام كان خليفة الله في الأرض ، قال تعالى :

﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة ص : 26]

 كان يبدو أنَّ هذا النبي متيسِّرٌ له الرّزق الوفير ، ولكنّه أراد أن يأكل من عمل يديه ، لأنّ هذا أفضلُ أنواع الكسب ، هكذا قال الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري على صحيح البخاري .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا فيما رواه مسلم أن نبي الله زكريا كان نجّارًا ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام :

(( كان زكريا نجاراً ))

[مسلم عن أبي هريرة]

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

(( ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغَنَم ، فقال أصحابُه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : نعم ، وأنا كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكّة ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 لقد رعى الغنم ، ثمّ رعى الأُمَم ، وكان سيّد البشر ، وحبيب الحقّ ، وسيّد ولد آدم .
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

التقنين الإلهي :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرّة ثانيَة ربّنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة الذاريات : 55]

 ما نُعانيه من انْحِباسٍ للأمطار هو تَضييق إلهي ، وتقْنين إلهي ، وقلتُ لكم كثيرًا: إنَّ التَّقْنين الإلهي ليس تقْنين عَجْزٍ ، بل تقنين تأديب ، والإنسان إذا قنَّن قد يقنِّن تقنين عَجْز ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى إذا حبس الأمطار فلِعِلَّة في البشر ، لا بدّ من أن نتوب من ذنوبنا ، لا بدّ من أن نخرج من معاصينا ، لا بدّ من أن نحرّر هِمَمَنا ، لا بدّ من أن نخرج من مظالمنا ، كلٌّ مِنَّا في بيته ، لِيُجري حِسابًا دقيقًا ، كيف يكسبُ ؟ وكيف ينفقُ ؟ هل في بيته معصيَة ؟ هل في بيته مخالفة ؟ لأنّنا إذا صلَّينا صلاة الاستسقاء ، ولم يُسْتَجَب لنا معنى ذلك أنَّنا لمْ نفْقه هذه الصلاة على حقيقتها .
 مرَّةً ثانية : لا تُقبلُ صلاة الاستسقاء إلا بعد التوبة النصوح ، بعد الخروج من المظالم ، والمعاصي ، وبعد تحرير الهمّة ، وبعد الصّيام المديد ، وبعد التذلّل والخُضوع ، وبعد التوبة ، وكان السلف الصالح ما إن ينتهوا من صلاتهم حتى تُفتحَ أبواب السماء كأفواه القرب .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عَوْدةٌ إلى الله تعالى ، مراجعة للحسابات ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور