وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 006 - التواضع 1 الكبر يتناقض مع العبودية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون... لازلنا في الحديث النبوي الشريف، ففي صحيح مسلم من حديث عياضٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخَرَ أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد))

 النبي عليه الصلاة والسلام يحذِّر المتكبِّرين، يحذِّرهم بالحرمان من دخول الجنة، في شرح هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر))

 

( صحيح مسلم: عن " ابن مسعود " )

لأن الكبر يتناقض مع العبودية، فمَن كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر لا يكون عبداً لله عزَّ وجل، هناك تناقضٌ بين العبودية لله عزَّ وجل وبين الكبر.

 ففي صحيح مسلمٍ أيضاً، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر ))

 ويقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي:

 

(( العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته))

 

( من رياض الصالحين: رواه مسلم )

 أي أن الكبرياء لله عزَّ وجل، العزة لله، أن يأخذ العبد صفاتٍ تتناقض مع عبوديته، فهذا يستحق أن يعذَّب.
 إن هذه الأحاديث يشرح بعضها بعضاً، ويقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( لايزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن " سلمة بن الأكوع " )

  إذاً:

 

(( إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد ولا يبغي أحدٌ على أحد ))

 

(من الأذكار النووية: عن " عياض " )

 و..

 

(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر))

 لأن الكبر يتناقض مع العبودية.
 و..

 

 

(( العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته ))

 

( من رياض الصالحين: رواه مسلم )

 و..

 

(( لايزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن " سلمة بن الأكوع " )

 هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هل كان مع كلامه ؟ هل كانت أخلاقه في مستوى كلامه ؟ كان عليه الصلاة والسلام يمر على الصبيان فيسلِّم عليهم، طفل صغير: السلام عليك، كان عليه الصلاة والسلام يمر على الصبيان فيسلم عليهم. وكانت الأمة ـ الطفلة الصغيرة ـ تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، أي إذا بنتٌ صغيرة ؛ ابنته، أو ابنة ابنته أمسكت بيده وسارت يتبعها حيث شاءت.
 وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاث. لعق الأصابع من السنة، وفيه تواضع، أي أن تبقي في الصحن شيئاً من الطعام هذا فيه كبر، أما إذا الواحد اكتفى يضعه في مكان ليأكله ثانيةً، أما إذا دخل لمطعم، وترك شيء ليلقى في القمامة، هذا فيه شيء من الكبر، فكان عليه الصلاة والسلام يلعق أصابعه الثلاث.
 أنا قرأت لكم أحاديثه الشريفة في التواضع، والآن أقرأ لكم شمائله في التواضع، أي كان عليه الصلاة والسلام في مستوى كلامه، ليس هناك مسافةٌ بين أقواله وأفعاله، سرُّ تأثيره في الناس أن المسافة بين أقواله وأفعاله معدومة، يعني يقول للناس ما هو متخَلقٌ به، ويتخلَّق بما يقوله للناس، وكان صلى الله عليه وسلم في بيته في خدمة أهل بيته، أي إذا دخل بيته هو واحدٌ من أهل البيت، يمكن أن يعينهم على قضاء حوائجهم، يمكن أن يخصف نعله، أن يحلب شاته، أن يكنس أرضه، أن يوصغ الإناء للهرة، هو في خدمة أهله، على ما هو عليه من مقامٍ عظيم هو في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، عليه الصلاة والسلام ما انتقم لنفسه قط، يعني من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقم لنفسه، إذا غضب غضب لله.
 وكان عليه الصلاة والسلام يخصف نعله، ويرقَع ثوبه، ويحلب شاته، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما. ويبدأ مَن لقيه بالسلام، ويجيب دعوة مَن دعاه ولو إلى أيسر شيء. لو دعاك إنسان إلى كأس من الشاي، من واجبك أن تجيبه تواضعاً لله عزَّ وجل، أما هذا الذي يقول: لم يعرف قدري، جئت إليه ولم يقدم على الغداء إلا صنفاً واحداً، هذا فيه كبر. كان عليه الصلاة والسلام يجب من دعاه ولو إلى أيسر شيء. وكان صلى الله عليه وسلم هيِّن المؤنة، أي شغلته خفيفة، المطعم ما فيه طعام يأكل سندويش، ما عندكم شيء ؟ فإني صائم، ليس له أعباء كبيرة، الآن لو واحد ضيف دخل عندك، فإذا قصرت معه ينتقدك، وإذا لم تقدم له المقبلات قبل الأكل ينتقدك، وإن لم يكن هناك كأس عصير تقول: لا يعرف ترتيبنا، هذا ليس بضيف هذا عبء، أما الضيف خفيف الظل مثل العصفور، لا تبخل بشيء مما عندك، هكذا المؤمنين، أمرنا ألا نبخل بالموجود، وألا نتكلف المفقود، فلو عندك ثلاثة برتقالات ضعهم في صحن ولكن لا تكبر الصحن لأنهم يضيعوا، صغر الصحن يظهروا، أمرنا ألا نبخل بالموجود، وألا نتكلف المفقود، كان هين المؤنة.
 والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

(( أعظم النساء بركة أقلَّهن مؤنةً ))

 

( من شرح الجامع الصغير )

 طلباتها خفيفة، لازمك شيء ؟ لا والله شكراً الله يعطيك العافية، أتريدين شيء على العيد ؟ لا والله عندي، هذه المرأة المؤمنة الصالحة، أما الأخرى تعطيه قائمة تجده نخَّ تحتها، لا يكفي معاشه لمعاشين أخريان..

 

(( أعظم النساء بركة أقلَّهن مؤنةً ))

 

( من شرح الجامع الصغير )

و..

 ((إن أعظم النساء بركة أقلهن مهراً ))

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن " السيدة عائشة " )

 كان عليه الصلاة والسلام هين المؤنة ليِّن الخلق، أي اعتذرت له يقبل منك، بيَّنت عذرك يسامحك، تأخرت على الموعد يقول لك: طوَّلت علي، ومشي الحال، أما إذا غلطت معه غلطة يظل يعايرك فيها سنتان أو ثلاثة، حقود، أعوذ بالله، غلط معك، قال هذا البدوي: يا رب أنا ربك وأنت عبدي قال:

 

(( لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته ))

 ما صار شيء، ما قصد أن يكفر، لكن من شدة فرحه هكذا قال، ربنا يعلمنا كذلك، ما قال له دكتور لأنه نسي بل قال له أستاذ، أعوذ بالله قامت القيامة، نسي يقول له دكتور، هؤلاء معقدين ويحتاجون إلى مصحَّات نفسية.
 كان هيِّن المؤنة ليِّن الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بسَّاماً. أحياناً واحد رب عمل يضن على عماله بابتسامة، تجده عبوساً قمطريرا، قل لهم: السلام عليكم، الله يعطيكم العافية، إن شاء الله مرتاحين ؟ هل يلزمكم شيء ؟ هذه كلمات ما كلَّفتك شيء، لكنها أدخلت على قلبهم السرور، أحياناً الإنسان بكلمة لطيفة، ابتسامة، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق، هذه الابتسامة لها ثمن، إذا إنسان ـ حسب الظاهر ـ مصيرك بيده، وعبث، لا يجعلك تنام الليل، والله ما عملت شيء، لماذا تجهَّم بوجهي ؟ ابتسم يا أخي ابتسم..

 

 

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)﴾

 

( سورة عبس )

 في عبَّاس وفي بسَّام، كن بسَّام. كان طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلةٍ، كذلك هناك تواضع لمستوى التذلل، لا، يتواضع من غير ذلةٍ، يعتز بالله من غير كبرٍ، جواداً من غير سرفٍ. واحد له راتب ألف وخمسمائة يمشي مع رفاقه، حمَّسوه، أدخلوه على مطعم، فأطعمهم بثمانمائة ليرة، ما هذا الكلام ؟! عندك خس أولاد وأمهم، إذا حمَّسوك ودفعت ثمانمائة على غذاء، ومعاشك ألف وخمسمائة غير معقول هذا الكلام، هذا ليس جود، ضيَّعت أهلك، ضيعت أولادك، وكذلك ولم يشبعوا.
 جواداً من غير سرفٍ، رقيق القلب رحيماً، أبعد القلوب عن الله عزَّ وجل القلب القاسي. رقيق القلب، خافض الجناح للمؤمنين، أي أنه يتواضع لأصحابه كأنه واحدٌ منهم، قال لسيدنا عمر:

 

(( يا أخي لا تنسنا من دعائك ))

 سيدنا رسول الله، سيد الخلق وحبيب الحق، يطلب من سيدنا عمر أن يدعو له..

 

 

(( يا أخي لا تنسنا من دعائك ))

 كان عليه الصلاة والسلام يحب إخوانه وأصحابه كما يحبونه، مرةً طرق بابه أسامة بن زيد، فهشَّ له وبش وخرج إليه قبل أن يحكم ثيابه، من شدة فرحه به، كما تحبه يحبك، في محبة متبادلة، المحبة لا تكون إلا من طرفين، ما في محبة من جانب واحد، هذه مستحيلة، ربنا عزَّ وجل قال:

 

 

﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

 

( سورة المائدة: من آية " 54 " )

 خافض الجناح للمؤمنين، ربنا عزَّ وجل هكذا أمرنا، قال:

 

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾

 

( سورة الشعراء )

 يعني تواضع لهم، تواضع للمؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

(( تواضعوا لمن تعلمون ))

 

(من شرح الجامع الصغير )

 أنت لولا فضلي عليك ما كنت مؤمناً الآن، ما هذا الكلام، الفضل لله عزَّ وجل، لولا أن هديتك لكانت حالتك الآن بالويل، ما هذا الكلام ؟ يريد أن يريه فضله عليه، لولا إقناعي لك أين كنت الآن ؟ لا، المؤمن لا يتكلَّم عن أعماله الطيبة أبداً، لا ينسى فضل الناس ولا يذكر فضله، هذه خذوها قاعدة: " لا تنس فضل الناس ولا تذكر فضلك "، أي شيءٍ فعلته مع الناس كأن لم يكن، وأي شيءٍ فعلوه معك يجب أن تذكره دائماً، هكذا أخلاق المؤمن.
لين الجانب لهم. أي أن اللهم صلي عليه مع أنه سيد الخلق وحبيب الحق، جمع الكمالات البشرية كلها، ومع ذلك ما نسي فضل أصحابه، فبالهجرة لما وجدوا عليه في أنفسهم وجمعهم وخطب بهم وقال:

 

(( أما إنكم لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم به، أتيتنا مكذباً فصدقناك، أتيتنا طريداً فآويناك، أتيتنا مخذولاً فنصرناك ))

 بماذا بدأ عليه الصلاة والسلام ؟ بدأ بفضلهم عليه، ثم قال:

 

 

(( يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟ ألم تكونوا عالةً فأغناكم الله بي ؟ ألم تكونوا أعداءا فألف بين قلوبكم))

 

( من صحيح البخاري: عن " عبد الله بن زيد بن عاصم " )

 إذا واحد له فضل عليك لا تنسَ فضله، ذكّره بفضاله، لا أنسى لك هذا الفضل حتى الموت
 لين الجانب لهم، فسيدنا خالد قال له:

 

(( خالدٌ بن الوليد سيفٌ من سيوف الله))

 

( من الجامع الصغير: عن " عبد الله بن جعفر " )

 سيدنا معاذ:

 

(( والله إني أحبك يا معاذ ))

 

(من تخريج أحاديث الإحياء )

 سيدنا أبو عبيدة:

 

(( أمين هذه الأمة))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 سيدنا ابن الزبير:

 

(( حواري هذه الأمة ))

 سيدنا عمر:

 

 

(( لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر ))

 

( من كنز العمال )

 سيدنا سلمان:

 

(( سلمان منا أهل البيت ))

 

(من الجامع الصغير: عن " عمرو بن العوف " )

 سيدنا بلال:

 

(( أنفق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن " أبي هريرة " )

 فما في صحابي جليل ما خصَّه بصفة تليق به ويستحقها، أحياناً الإنسان الأضواء كلها مسلَّطة عليه، والتعتيم كله على الآخرين، أما النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً إقراراً بفضل أصحابه سلَّط عليهم الأضواء.
 لين الجانب لهم، أي يقبل عذر المعتذر، يقبل توبة التائب، يعفو عمَّن أساء إليه، وقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( ألا أخبركم بمن يحرم على النار ؟ أو تحرم عليه النار ؟ تحرم على كل قريبٍ هينٍ لينٍ سهل ))

 معاملته سهلة، يريد جارك منك عشرة سنتيمتر للحائط، أبداً ولا سانتي الآن سأشتكي عليك، طول بالك، هذا أخ بالله مسلم مضطر لعشرة سانتي من بيتك، ولا ميلي، بالدفع اثنتا عشر ألف وثلاثمائة وستة وسبعون ليرة، الست ورقات قبل الثلاثة آلاف المبلغ كله، طول بالك، ولا قرش، كان عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( تحرم عليه النار ؟ تحرم على كل قريبٍ هينٍ لينٍ سهل))

 

 

(( رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، وسمحاً إذا اشترى، وسمحاً إذا قضى، وسمحاً إذا اقتضى ))

 

(من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )

 أي في بيعه وشرائه، ودفعه وقبضه سهل.
 وقال عليه الصلاة والسلام ولازلنا في شرح حديث التواضع، الحديث المقرر:

 

(( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخَرَ أحدٌ على أحد ولا يبغي أحدٌ على أحد ))

 

(من شرح الجامع الصغير: عن " عياض " )

 يعني أردت أن أجمع لكم بين أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام، كيف أن أفعاله في مستوى أقواله، فأنت أحياناً تلتقي مع إنسان له حديث رائع لكن معاملته سيئة، تقول: آه، ليت أفعاله كأقواله، وأحياناً تلتقي مع إنسان أعماله طيبة لكنه جاهل، تقول ليت علمه كأفعاله، لكن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين القال والحال.
وقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراعٌ أو كراعٌ لقبلت ))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 حياناً إنسان يصافحك ويشد المصافحة، ويعطيك شيء وتكون سكرة، الله يجزيه الخير، أحب يكرمك بهذه السكرة، في شخص ينزعج، سكرة أحب أن يكرمك بها، ملبَّسة واحدة، وهكذا كذلك عمل لها ضجيج، أستاذ تفضَّل، أهلاً وسهلاً، الله يجزيك الخير، الله يكرمك كما أكرمتني.

 

(( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراعٌ أو كراعٌ لقبلت ))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

في شخص تأتيه هدية أول شيء يقيِّمها كم تساوي هذه ؟ إذا ما كان سعرها قد المقام ينزعج، يا أخي مطلية هذه، ليست فضة ولكن مطلية فضة، طلعت رخيصة، النبي قال:

(( لو أهدي إليّ ذراعٌ أو كراعٌ ))

 إذا واحد قدمت له مُقْدِم على عيد الأضحى، قرع الباب تفضلوا خذوا، ما هذا ؟ مقدم فقط واحد لحاله، ألا تنزعج ؟ إذا القطعة لم تكن كيليان أو ثلاثة تنزعج، فقط كيلو ؟ مقدم !!

 

(( ولو أهدي إليّ ذراعٌ أو كراعٌ لقبلت ))

 اللهم صلِ عليه، أرأيت إلى التواضع ؟ كيف أحبه أصحابه، كيف ما استطاعوا يناموا من أجله، كيف كما قال الكفار سحرهم ؟ بتواضعه، برحمته، بإنصافه.
 وكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة العبد، إذا واحد عنده معمل، وعنده عامل أحب أن يتقرَّب منك ويعزمك على الغذاء، وما عنده شيء يليق بالمقام، أكلة واحدة اعتنى فيها، ودعاك، فيجب أن تجيبه، ويجب أن تكون رضيّ النفس، وأن تكون مسرور بهذه الدعوة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة العبد. وهنا في كذلك ويركب الحمار، في حصان وفي حمار، والآن في سيارة فخمة وفي هوندا مثلاً، صحت هذه اركب فيها، وراء وراء، على الواقف على الواقف، إذا الإنسان أعطى نفسه هالة كبيرة، كأن الله عزَّ وجل يقطع عنه الإمداد. لكن إنسان ليس له حق إذا كان يمثل الدين أن يبهدل نفسه، إذا كان موطن نظر، في أعمال يمكن الناس ينتقدونه بها، إذا كان بهذا التواضع أمام أناس لا يعرفون الله عزَّ وجل، انظر هذه نقطة دقيقة ـ إذا تواضعت أمام أناسٍ لا يعرفون ما التواضع فازدروك وازدروا مكانتك الدينية والعلمية هذا صار في ضرر أكبر من الميزة.
فاللهم صلِ عليه رأى أحد أصحابه يمشي متبختراً أمام الكفار فقال:

 

 

(( إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن.))

و..

 

 

(( التكبر على المتكبر صدقة ))

 

( من كشف الخفاء: للإمام العجلوني )

 يعني صار في أعراف بين المجتمع، أن يكون اللباس مقبول وليس فيه خطأ كبير.
 الفضيل بن عياض سئل عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وأن تنقاد له، وأن تقبله من أي إنسان. أن تخضع للحق خضوع نفسي، وأن تنقاد له بأعمالك، وأن تقبله من أي إنسان، في شخص إذا كان المتحدث أصغر منه سناً يراها إهانة له، هذا غلط، العالم شيخٌ ولو كان حدثاً، والجاهل حدثاً ولو كان شيخاً، غلط، خذ الحكمة ولا يهمك من أيّ مكان خرجت.
والتواضع كما قال بعضهم: ألا ترى لنفسك قيمة. في شخص يعبد نفسه، دائماً يعطي لنفسه حجم كبير، كبير جداً، فإذا واحد ما قدم له مراسم التقدير، والتبجيل، والاحترام ينزعج، لعرف قيمتي، ما عرف حجمي في البلد، ما عرف مكانتي العلمية، ما عرف حجمي المالي، ما عرف وزني ـ وزنك مائة كيلو ما هو وزنك ؟ ـ دائماً هذه الكلمات تدور على ألسنة المتكبرين. التواضع من تعاريفه ألا تجد لنفسك قيمة، يعني أنت من عباد الله. فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
 ولكن أتمنى ألا تفهموا فهم آخر ما أردته أنا، الإنسان كذلك يذل نفسه أمام الناس، ويبهدل حاله، ويلبس لباس ذري، يتذلل أمام واحد كافر هذا خلاف التواضع، التواضع مع المؤمنين، والدليل سيأتي قوله تعالى:

 

﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾

 

( (سورة المائدة: من آية " 54 " )

 مدعو لحفلة يجب أن يكون لباسك مقبول، أنا لا أقول فخم ولكن مقبول، حذاء بلا جوارب وتقول: أخي الشغلة بالقلب، هذا لا يصح، النبي عليه الصلاة والسلام كان لديه ثياب جديدة يلبسها أيام الجمع والأعياد وحين استقبال الوفود، وكان أصحابه يفعلون ذلك، يجب أن يكون عندك لباس مقبول، أنا أقول مقبول بالضبط، دُعيت لعقد قران، دعيت لحفلة ما في عليك مأخذ، نظيف وليس غالي، قد يكون أرخص نوع من الأقمشة ولكنه نظيف، نظيف فيه تناسب معقول، ما فيه مأخذ خطير، هذه السنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:

 

(( حسنوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا شامةً بين الناس ))

 التواضع لا يكون بالهرجلة، ولا بالتذلل، ولا بالخنوع للناس، التواضع سيأتي في الدرس القادم فيه تفصيلات دقيقة جداً عن التواضع. الآن نحن بالنصوص.
 وقال الجنيد: التواضع هو خَفْضُ الجناح ولين الجانب. خفض الجناح يعني أنت نفسك هينة على عامل، على أجير، على صغير، على صبي، على مستخدم، على آذن، على حاجب، هذا مؤمن وقد يكون أرفع عند الله منك..

 

 

(( ربَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه))

 

(من الجامع الصغير: عن " ابن مسعود " )

 إذا كنت تعرف الله عزَّ وجل ترى نفسك خلف الناس. وقال أبو يزيد البسطاني: التواضع ألا ترى لنفسك مقاماً ولا حالاً. في أحد الصالحين وأظنه من التابعين وهو الحسن البصري حج، فقال وهو في عرفات: لولا أنني في عرفات لظننت أن الله غفر للناس جميعاً، ولكن أنا جالس معهم يمكن لا يغفر لي الله عزَّ وجل، لولا أنني في عرفات لظننت أن الله غفر للناس جميعاً. هذا من التواضع.
 أحد العلماء الكبار في الشام قديماً يضع لفة يسمونها أغباني، فقال له واحد: سيدي أين لفَّتك البيضاء ؟ قال له: أنا ليس بعالم يا بني هؤلاء علماء ذو اللفات البيض، أنا ليس عالم. وهو من كبار العلماء، في أشخاص يعطي حجم أقل من حجمه، والناس يعظمونه تعظيم كبير جداً لتواضعه..
وانظر إلى الأكحال وهي حجارةٌ لانت فصار مقرُّها في الأعينِ
* * *
لما الحجر الكحل لان وضع في العين.
 وابن عطاء الله السكندري يقول: التواضع هو قبول الحق ممن كان. يعني طفل يعلمك أحياناً، لو أنك قرأت القرآن وغلطت غلطة، وردَّك طفل، فقل له: الله يجزيك الخير، طفل أحياناً غلطت بحركة، غلطت بحكم، إذا واحد ردَّك بحكم بالتجويد مَن أنت ؟ القرآن فوق الجميع. من حفظ حجة على من لم يحفظ، من علامة تواضعك أنه إذا واحد ردَّك بالتجويد، بحكم بالتجويد، بحركة بالقرآن، بحديث لست مصححه، أو لم تدققه وقال لك: هذا الحديث هكذا، فلا يجب ألا تنزعج وتنفعل، تجرأ علي، ما عرف مكانتي، بل قل له: الله يجزيك الخير، يعني من قال إني عالم فهو جاهل، ونصف العلم لا أدري.
 الإمام مالك رضي الله عنه ـ وهو إمام دار الهجرة ـ يعني لا يفتى ومالكٌ في المدينة، كان أعظم إمام، جاءه وفد من المغرب، وفد من عشر أشخاص يحملون خمسة وثلاثين سؤال من أهل المغرب للإمام مالك، طبعاً قطعوا المسافات الطويلة، وأشهر حتى وصلوا عنده، السؤال هذا أجابهم عنه، وهذا أجابهم عنه، أجابهم عن سبعة عشرَ سؤالاً والباقي قال: لا أعرف، فقالوا: أنت الإمام مالك ؟ قال: قولوا لمَن أرسلكم الإمام مالك لا يعرف. بهذه البساطة..

 

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)﴾

 

(سورة الإسراء

 فمن قال: أنا أعرف كل شيء فهو كاذب، فإذا شيء ما لك متأكد منه، ليس متأكد من تفسير الآية، ما لك متأكد من صحة الحديث، ما لك متأكد من الحكم الفقهي لا تلقه بسرعة، زعزع مكانتك العلمية وقل: لا أعرف أفضل لك ألف مرة من أن تلقي كلاماً غير صحيح، من أن تلقي كلاماً ثم تضطر أن تعتذر.
 فابن عطاء الله السكندري يقول: التواضع هو قبول الحق ممَّن كان والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر فهو كمَن طلب الماء في النار. العز في التواضع والذل في الكبر.
 وقال إبراهيم: الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة.
سيدنا عروة بن الزبير رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت
ـ يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا. غير معقول !! أنت أمير المؤمنين وعلى عاتقك قربة ماء !!
ـ فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوةٌ، فأردت أن أكسرها.
جاءه وفود من أنحاء البلاد وعظَّموه، وبجَّلوه، وأطاعوه فشعر أنه إنسان في درجة عليا فأراد أن يكسر نفسه.

ومرة أثناء خطابه قطع الخطاب وقال:
ـ يا ابن الخطاب كنت ترعى غنماً على قراريط لبني مخزوم.
ـ فقال له ابن عوف: ما هذا الكلام ؟ أي ما معنى هذا الكلام ؟ ما علاقته بالخطبة ؟
 ـ قال: حدَّثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين، ليس بينك وبين الله أحد، فأردت أن أعرِّفها قدرها. أي كنت أرعى غنماً لخالاتٍ لي من بني مخزوم على قراريط، هذا هو عمر بن الخطاب.
 ركب زيد بن ثابت مرةً، فدنا بن عباس ليأخذ بركابه، فقال:
ـ مه يا ابن عم رسول الله ؟
ـ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا.
ـ فقال: أرني يدك، سيدنا ابن عباس. فأخرجها إليه فقبلها.
ـ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل البيت، أهل بيت رسول الله هؤلاء منسوبون له.
 يروون قصَّة أن سيدنا عمر لما جاءته الحلل ـ الأقمشة ـ وزعها بين أصحابه، فبعث إلى معاذ بن جبل حلَّةً مثمَّنة، فباعها واشترى بثمنها ستة أعبدٍ واعتقهم، فبلغ ذلك عمر، كان عمر يتمنى على سيدنا معاذ أن يلبسها، هو باعها واشترى بثمنها أعبداً وأعتقهم لوجه الله، في المرة الثانية بعث له حلَّة ثمنها أقل، يبدو أن معاذ كان عصبي المزاج ـ سيدنا معاذ ـ فعاتبه معاذ، فقال عمر: لأنك بعت الأولى بعثت لك بهذه. سيدنا معاذ يبدو أنه ثارت ثائرته وقال: وما عليك ادفع لي نصيبي، وقد حلفت بالله لألقينها على وجهك، فقال عمر: هذا رأسي بين يديك ولكن ارفق بي ـ لا تقوي الضربة ـ ولكن ارفق بي. طبعاً الصحابة أجلاء، أي حلف يمين، وهذا الحديث وارد بموضوع الأيمان، أي إذا واحد حلف يمين يجب أن ينفذه، فخشيةً من سيدنا عمر أن يحنث بيمينه قال له: هذا رأسي بين يديك ولكن ارفق بهذا الشيخ، لا تقوي الضربة.

سيدنا الحسن مرَّ على صبيانٍ معهم كِسَر خبزٍ ـ خبز يابس ـ فاستضافوه، فنزل فأكل معهم سيدنا الحسن، ثم حملهم إلى منزله، انظر الأدب. واحد ضيَّفك، اقبل ضيافته وكافئه، لا ترفضها، فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم. أي لهم فضل علي لأنهم أطعموني كل ما عندهم، هذا الذي عندهم، ونحن نجد أكثر مما أعطيناهم.
 أحد الصحابة في ساعة غضب عيَّر بلالاً بسواده ثم ندم، ويبدو أن النبي عندما سمع الكلام قال له:

 

(( إنك امرئٌ فيك جاهليَّة ))

 أنت جاهل. فهذا الصحابي ألقى بنفسه على الأرض، أي وضع رأسه على الأرض، وحلف لا يرفعه حتى يطأه بلالٌ بقدميه، تكفيراً لكلمة ( يا ابن السوداء ) لا يرفع رأسه حتى يطأه بلالٌ بقدميه، فلم يرفع حتى فعل بلالٌ ذلك.
عندما قالت السيدة عائشة له: هذه قصيرة، على صفية. فقال:

 

 

(( يا عائشة لقد قلتِ كلمةٍ لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ))

 أين نحنا ؟ كلمة قصيرة تفسد مياه البحر.
 أحد أصحاب سيدنا عمر بن عبد العزيز قال: قوَّمت ثياب عمر ـ أي ثمَّنتها ـ باثي عشر درهماً، كل ثيابه ؛ العباءة، مع الجلابية، مع القلنصوة باثني عشر درهماً، وكانت قباءً ـ ثوب ـ وعمامةً، وقميصاً، وسراويل، ورداء، وخفين، وقلنصوة، الكل باثني عشر درهم، يقول لك: هذه الكرافة لوحدها ثمنها اثني عشر درهم، هل أنت داري بهذا ؟ لا والله لا أدري، هذه البذلة سان لوران، هذه السباط رد شوذ، مثلاً يبقى يريك ما عنده، هكذا قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( قيمة المرء متاعئ))

 سيدنا عمر بن عبد العزيز قيِّمت ثيابه باثني عشر درهماً.
 أحد التابعين قال: التواضع ألا ترى لأحدٍ إلى نفسك حاجة، أي لا أحد بحاجة لك، إذا رأيت الناس بحاجةٍ إليك تحس باعتزاز، ما أحد بحاجة لك، والعوام لهم كلمة مشهورة: أنه النبي مات والله من بعده دبَّر الأمور، فمَن أنت ؟ سيد الخلق توفاه الله والأمور من بعده سارت كما ينبغي.
و احد كان في الطواف، قال: كنت في الطواف، فرأيت رجلاً بين يديه أناسٌ يمنعون الناس لأجله، أي يمشون حوله حلقة، يبدو إنسان غني أو عظيم، أو له مكانة، فأحب يطوف براحة بدون ازدحام، فجاء سبعة رجال أقوياء أشداء جعلوا حوله دائرة، وطاف بينهم في راحة، ما في ازدحام، ما في يد واحد إفريقي يضعها عليك فتشعر وكأن كتفك انهد، في هدوء، ثم رأيته بعد ذلك بمدةٍ على جسر بغداد يسأل الناس ـ يشحذ ـ فتعجبت منه !! فقال لي: إني تكبرت في موضعٍ يتواضع فيه الناس ـ بالطواف ـ فابتلاني الله بالذل في موضعٍ يترفع فيه الناس. أي أنه أبى أن يطوف مع الازدحام، أبى أن يطوف مع الناس، أبى أن يكون واحداً منهم، أراد أن يطوف طواف خاص فيه راحة، في موضوع التواضع تكبَّر فأذله الله في موضع الاعتزاز.
 سيدنا عمر بن عبد العزيز بلغه أن ابنه اشترى خاتماً بألف درهم ـ ابنه ـ فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فِصَّاً ـ أي خاتم ـ بألف درهم، فإذا أتاك كتابي هذا فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن.
 والله سمعت أنه في عرس كلَّف عشرين مليون، كم شاباً يتزوج بثمن هذا العرس ؟ عرس كلَّف عشرين مليون. قال له: بع الخاتم، وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتم بدرهمين ـ يكفي درهمان ـ واجعل فِصَّه حديداً صينياً، واكتب عليه: رحم الله امرئ عرف قدره فوقف عنده، والله أعلم.
 أحد العلماء يقول: التكبُّر شرٌ من الشرك. النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ))

 

 

(( لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك ـ ما الذي هو أكبر من الذنب ـ العجب العجب ))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 العجب أكبر من الذنب. فالعالم يقول: الكبر أكبر من الشرك. لماذا؟ لأن المتكبِّر يتكبَّر عن عبادة الله، أما المشرك يعبد الله ويعبد غيره، أما المتكبر يتكبر في الأصل عن عبادة الله.

اسمعوا كم آية بالقرآن للمتكبرين..

 

﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)﴾

 

( سورة الزمر )

﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)﴾

(سورة الزمر )

﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)﴾

( سورة غافر )

 فهذه بعض أقوال العلماء، وبعض شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، وبعض أقواله في التواضع، وهذا الدرس ينبغي أن يترجم إلى واقع، أن يترجم إلى أخلاق، أن يترجم إلى مُثُل لا أن يبقى في الكتاب، وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتحدَّث عن تعريف التواضع، وعن درجات التواضع بشكلٍ تفصيلي. على كلٍ أذكركم بقول النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه الإمام مسلم:

 

(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر ))

 

( من صحيح مسلم: عن " ابن مسعود " )

 والآن إلى بعض ما في السنة النبوية.
 نصوص من السيرة النبوية جمعتها بهدفٍ واحد، هو أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش مع قومه، لم ينسحب من قومه، لم يبتعد عنهم، لم ينسلخ منهم، لم يرَ أنه من جهة غير جهتهم، فنشأ النبي عليه الصلاة والسلام بين قومه في مكة، يعيش فيها كما يعيشون، يأكل ما يأكلون، يشرب كما يشربون، يلبس كما يلبسون، يخضع لأحكام البيئة وتقاليدها في الأخذ والعطاء، والبيع والشراء، والسفر والإقامة، ويشارك القوم في أفراحهم وأتراحهم، وفي شغلهم وفراغهم، وفي كل ما تمليه عليهم ظروف الحياة.
 فإذا لم تكن مع الناس كيف تهديهم ؟ إذا لم تحسَّ بإحساسهم كيف تهديهم ؟ إذا لم تعان ما يعانون كيف يعنيك أمرهم ؟ فإذا أردت أن تأخذ بيد الناس إلى الله عزَّ وجل يجب أن تعيش واقعهم، أن تعيش آلامهم، أن تعيش مشكلاتهم، أن تعيش صراعاتهم، أن تعيش قضاياهم، أن تعيش مآسيهم، فإذا ابتعدت عنهم وعشت في برجٍ عاجي، هذا الابتعاد عن المجتمع لا يعينك على تفهم قضاياهم، ولا على الأخذ بيدهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان قدوةً لنا. فمع أنه عاش مع قومه، وعناه ما يعنيهم، وتفهَّم قضاياهم لكنه ما انزلق في وحولهم أبداً، حافظ على نقائه، وعلى صفائه، وعلى طهارته التي كانت سبباً في تكريم الناس له.
 الشيء المهم: يعني هذا الشاب الذي هو النبي عليه الصلاة والسلام صار علماً بين الناس، لا ينادَى ولا يذكر إلا بالأمين، صار اسم الأمين علماً عليه فوق اسمه، فكان صادقاً لا يكذب، وفياً لا يغدر، ناصحاً لا يغش، أميناً لا يخون، عرفه الناس طاهر النفس، واسع الحلم، رحيم القلب، جَمَّ التواضع، عرفوا فيه كرم العشرة، حسن الجوار، رجاحة العقل، علو الهمة، زاهداً في الدنيا، أي أنه عاش مع الناس ولم يهبط إلى وحولهم، شيء دقيق جداً إما أن تعيش مع الناس في أخطائهم، وسقطاتهم، وانحرافاتهم، وترُّهاتهم، ووحولهم، وإما أن تبتعد عنهم متكبِّراً، لا، فالموقف الصعب أن تكون بين هذا وذاك، أ، تعيش معهم من دون أن تسقط معهم، أن تفهم قضاياهم من دون أن تنجرف معهم، أن تحس بمشكلاتهم من دون أن تكون أنت أحد مشكلاتهم.
 فكانت قريش تعظِّم صنماً اسمه (بوابة) تحضره وتعظمه، وتنسك له النسائك، ويحلق أهل قريشٍ رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يوماً إلى اليوم وذلك يوماً في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عمَّاته غضبن عليه يومئذٍ أشدَّ الغضب وجعلن يقلن له: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً، ولا تكثِّر لهم جمعاً ؟ فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء، ثم رجع إلينا مرعوباً فزعاً، فقلن له: ما دهاك ؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم. ماذا حصل ؟ قال: كلما دنوت من صنم تمثَّل لي رجل أبيض يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسَّه. فما عاد إلى عيدٍ من أعيادهم قط في حياته، اللهم صلِ عليه، أي أنه ما لمس صنم.
وعن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان صنمٌ من نحاس يقال له (أُساف، ونائلة) يتمسَّح به المشركون، إذا طافوا بالكعبة، فطاف عليه الصلاة والسلام يوماً وطفت معه، فلما مررت بالصنم مسحت به، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تمسَّه ". ثم طفنا فقلت في نفسي: لأمسَّنه حتى أنظر ماذا يكون، فمسحته فقال عليه الصلاة والسلام

(( ألم تنهى ؟))

قال زيد: فو الذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنماً قَطُّ حتى أكرمه الله بالنبوة.
 أي أن النبي الكريم عاش مع قومه ولكنه ما عبد صنماً، ولا استلم صنماً، ولا توجَّه إلى صنم، ولا شرب خمر، ولا سقط مع قومه. عاش معهم من دون أن يسقط معهم، هذا الموقف الدقيق أن تبتعد عن الناس القضية سهلة ـ تنعزل ـ وأن تكون معهم في سقطاتهم القضية سهلة، لكن البطولة أن تبتعد عنهم من دون أن تسقط معهم.
 فقرتان قصيرتان، شهد النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سن العشرين ( حلف الفضول )، وهو حلفٌ تداعت فيه قريش إلى نصرة المظلوم، في دار رجلٍ من أشرافهم يقال له عبد الله بن جدعان، فتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً إلا نصروه، وكانوا معه حتى يردَّ إليه حقه، فكان هذا الحِلف أكرم حلفٍ وأشرفه سمع به العرب، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت ))

أي مجتمع الجاهلية تداعوا إلى حلف لنصرة المظلوم فالنبي قَبِلَ وشارك في هذا الحلف.
لما الكعبة هدمت، شارك النبي عليه الصلاة والسلام في بنائها، وشارك في نقل الحجارة، فلما اختلف أشراف قريش على الحجر الأسود مَن يمسكه بيده، وكادوا يقتتلون، وكادت تنشب بينهم حربٌ ضروس، ثم اتفقوا على أن يحكِّموا أول داخلٍ عليهم، فدخل عليه الصلاة والسلام، وكان شاباً راجح العقل فقال: ائتوني بثوب، فجاءوه بثوب، وأمسك بالحجر بيده الشريفة ووضعه في الثوب، وأمر كل رئيس قبيلةٍ أن يمسك بطرف الثوب، فنقلوا هذا الحجر من مكانٍ إلى مكان، وبهذا تفادى النبي بهذا التصرُّف الحكيم حرباً طاحنةً كادت تودي بقريش.
فالقصد الكعبة ساهم في بنائها، ما انعزل عن المجتمع، كان إيجابي، بحلف الفضول شارك فيه، بالطواف حول الكعبة، طاف بها ولم يمسَّ صنماً، أريد أن أقول لكم من خلال هذه المواقف، كذلك بالتجارة كان له موقف بالتجارة، وكانت التجارة مهنةً شائعةً في مكَّة، فاشتغل النبي بها كما يشتغل بها غيره، وكان له فيها شريك يسمى السائب بن أبي السائب. وكان صلى الله عليه وسلم يستريح إليه ويثني على أخلاقه، ويضرب به المثل لأصحابه، كان يقول:

(( نعم الشريك السائب لا يشارى ولا يمارى ))

(من مجمع الزوائد )

 جاءه السائب يوم فتح مكة، فالنبي أكرمه، واستقبله، وعرف له مكانته، وتلقَّاه فرِحاً وهو يقول:

 

(( مرحباً بأخي وشريكي كان لا يداري ولا يماري ))

 اشتغل بالتجارة، وله شريك، وكان وفياً له، وأثنى عليه، وأكرمه. وساهم في بناء الكعبة، ووقف موقف حكيم تفادى بهذا الموقف حرب ضروس، وشارك في حلف الفضول، وكان مع قومه في أفراحهم وأتراحهم، في حلِّهم وسفرهم، في سلمهم وحربهم، كان مع الناس.
 إذا كنت مع الناس وتفهمت قضاياهم ومشكلاتهم، عندئذٍ يمكن أن تأخذ بيدهم إلى الله عزَّ وجل، أما إذا ابتعدت عنهم، وانسلخت منهم، واستعليت عليهم، عندئذٍ أصبح بينك وبينهم هوّةً كبيرة وبهذا لن تستطيع أن تمدَّ لهم يد العون.

 

تحميل النص

إخفاء الصور