وضع داكن
28-03-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 025 - أحكام الحسد في أمور الدنيا والآخرة وحب العلو.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم... الحديث اليوم حديثٌ موجز، وقد تكون البلاغة في الإيجاز، وإيجاز النبي عليه الصلاة والسلام من نوع الإيجاز الغني، فقد قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))

( رواه البخاري ومسلم )

 وكلكم يعلم أن أعلى درجات الحديث ما اتفق عليه الشيخان ؛ الإمام البخاري، والإمام مسلم.
 في رواية أخرى أوردها الإمام احمد في مسنده، يقول:

 

((لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير))

 الحقيقة الإيمان قد يوجد، ولكن قد يكون غير كافٍ لنجاة صاحبه، فأي إنسانٍ أقرَّ بوجود الله فهو مؤمن، ولكن يا تُرى هذا الإقرار وحده يكفي ؟ لا يكفي، فإذا قال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم... " قد يكون مؤمناً ولكن لا يؤمن الإيمان الذي يجعله يرقى في درجات القرب، لا يؤمن الإيمان الذي ينجيه من عذاب الله، الإيمان واسع جداً، دائرةٌ واسعةٌ جداً، فإذا أقررت أن الله تعالى موجود فقد دخلت فيها، ولكن لابد من التحرك إلى مركزها، في مركزها الأنبياء، حول الأنبياء الصديقون، كبار المؤمنين، فلا يؤمن أحدكم بمعنى أنه لا يبلغ الدرجة الكاملة من الإيمان، أو الدرجة المنجية من الإيمان، أو الدرجة التي ترقى به في الإيمان إلا إذا فعل كذا وكذا.

 

 

(( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ))

 هذا الكلام فسَّره المفسرون، فمن جملة ما قالوا: المقصود من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن، والحقيقة هذا قيد. وهناك مَن يفسِّر هذا الحديث تفسيراً أوسع، حتى يحب لأخيه في الإنسانية ما يحب لنفسه، المؤمن يتميّز دائماً بأن انتماءه إلى كل البشر، لكن بين أن تنتمي إلى الإنسانية، وتبغض ما تفعله الإنسانية، وبين أن تنتمي إلى جهةٍ معينةٍ وتبغض غيرك لا لشيءٍ إلا لأنه غيرك، فالمؤمن نظرته واسعةٌ شاملة.
 الآن، هذا الحديث يعد قاعدة أصولية في الإيمان، أي أنك لن تكون مؤمناً على النحو الذي يرضي الله، لن تكون مؤمناً في الدرجة التي تنجو بها من عذاب الله، لن تكون مؤمناً في المستوى الذي يقبله الله عزَّ وجل إلا إذا أحببت لغيرك، لأخيك إن في الإنسانية، وإن في الإسلام، وإن في الإيمان، وإن فيمَن حولك، على كلٍ كلَّما وسَّعت الدائرة فأنت أرقى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه الله رحمةً مهداة، ونعمةً مُزجاة.
 وقد تجدون أنتم بعض الدول المتقدمة التي تهيئ لشعوبها مستوىً معيشياً مرتفعاً جداً وراقياً جداً، ولكن هذا على حساب بقية الشعوب، أنت لا ترضى عن هذا المجتمع الذي يعيش أفراده على مستوى رفيع على حساب أنقاض شعوب أخرى، هذه نظرةٌ ضيقة، لا ترضى عن مجتمعٍ إلا إذا قام على العدالة، والمساواة، وتكافؤ الفُرَص.
الحقيقة قبل أن نتابع الحديث له إضافة:

 

 

(( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه ))

 إذا كنت تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، فأنت في المستوى الذي يرضي الله عزَّ وجل.
 النبي عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه يقول:

 

 

((أحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ))

 فهذا الذي يُسْأل عن شاب من أجل الزواج، سيسأله السائل: بالله عليك، أنشدك الله هل ترضاه لابنتك ؟ والله الذي لا إله إلا هو لو قال له: نعم، أو بلى أرضاه لابنتي، وهو في الحقيقة لا يرضاه لابنته، فقد غشَّ الله ورسوله، وقد غشَّ عامة المسلمين انطلاقاً من هذا الحديث، أتزوجه لابنتك ؟ أتقبله لابنتك ؟ ادرس الوضع، لو جاءك هذا الخاطب يريد ابنتك هل تقبل به، أم أن لك اعتراضاتٍ كثيرة على أخلاقه، وعلى دينه، وعلى سلوكه ؟ إن كنت لا ترضاه لنفسك، لا ينبغي أن تقول بسذاجة، وأن تلقي الكلام على عواهنه، وألا تدقق في الأمر: نعم إنسان آدمي. ما معنى آدمي ؟ هذه الكلمة لا معنى لها، أي منسوب لبني آدم، أي أنه على رجلين يمشي، هذا معنى آدمي، هل ترضاه لابنتك فعلاً ؟ هذا الحديث دقيق.
 هذا الطعام الذي تبيعه هل تأكله أنت ؟ نفسك هل تستسيغ أن تأكله ؟ إنك تشهد كيف يصنع، وكيف يطبخ، وكيف يعالج بالمواد، وتبيعه في مطعم هل تأكله أنت ؟ هذا الشيء الذي تركبه عند الناس، هل تفعله في بيتك ؟ هل تمدد هذه التمديدات في بيتك ؟ شيء دقيق جداً، هذا مقياس يدخل معنا في المصالح، في المهن، في الحرف، في الصناعات، هذا الشيء الذي تصنعه تقبله لنفسك ؟ تشتريه أنت بهذا المستوى ؟ لذلك هذا الذي يتوهَّم بأن الدين صلاةٌ وصيام وحجٌ وزكاة، وانتهى الأمر، فقد وقع في وهمٍ كبير، الدين أعظم من ذلك، الدين يقوم على هذه العبادات لأنه يقوم على أسسٍ أخلاقية، إذاً كما يقول عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( أحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ))

 ذات مرَّة التقيت مع خياط، لفت نظري دخله الكبير، عنده بيتان ؛ بيت للضيوف في كل الغرف والأسرة والمرافق، فسألته: هل أنت ورثت هذين البيتين ؟ قال: لا والله هذا من جهدي ومن عملي، قال لي شيخٌ نصحني: أن أخيط الثوب كما أخيطه لنفسي. قلت: والله هذه نصيحةٌ ثمينة، وقال: بفضل هذه النصيحة أقبل الناس علي، أن أخيط الثوب كما أخيطه لنفسي، هذا سؤال، لا تلتفت إلى الربح السريع، لا تلتفت إلى أن تصبح غنياً في وقتٍ قصير، التفت إلى نصيحة المسلمين، أصحاب المهن، أصحاب الصناعات، أصحاب التجارات، أصحاب الخبرات، هل ترضى أنت لبيتك هذا ؟ لو طبَّقنا هذا الحديث، والله لا أزيد ولا أبالغ، لحلَّت كل مشكلاتنا، الدرس الماضي قلت لكم: " عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ".وفي هذا الدرس:

 

 

(( أحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ))

 لذلك المؤمن يراقب الله عزَّ وجل، لو أتاه طفلٌ صغير ليشتري لحماً يعطيه اللحم الذي يأكله هو، هذا الطفل ليس بإمكانه أن يراقبه، ولا أن يقيِّم عمله، ولا أن يوجِّهَه، ولكن القصاب المؤمن لا يعطيه إلا الشيء الذي يرضى الله عنه، حتى إنهم قالوا: إن عظمة الدين أن كل علاقةٍ بين اثنين الله بينهما، أخطر شيء، وأعظم ما في الدين أن أيَّة علاقة بين اثنين، فبين الزوجين ؛ الزوج يتقي الله في زوجته، والزوجة تتقي الله في زوجها، والبائع يتقي الله فيمن يبيعه، والمشتري يتقي الله فيمن يشتري منه، أحياناً يكون بائع مغدور، أعطاك صنفاً مكان صنفٍ خطأ، أخطأ معك في الحساب، البائع قد يغفل عن مصلحته.
 أخ كريم من إخواننا، اشترى حاجة من بائع، ولم يدخل في علم هذا البائع أن الأسعار قد ارتفعت إلى أربعة أمثال، نظراً لارتفاع الرسوم، فبعد أن اشترى هذه الحاجة عاد إليه وقال له: إنني سأعلمك أن الضرائب قد ارتفعت أربعة أمثال على هذه الحاجة، عندئذٍ قال له: أعطني الفرق إذاً، بعد يومين بفضل الله عزَّ وجل، عاد كل شيءٍ إلى ما كان عليه، فالإنسان امتُحِن، فالمشتري يتقي الله فيمن يشتري منه، والمشتري المؤمن يتمنَّى أن يربح أخوه عليه، كيف يعيش إذاً ؟ الصانع يتقي الله فيما يصنع، المزارع يتقي الله فيما يزرع، فهناك أدوية مؤذية، هناك تعالج بعض المزروعات بأدوية لها آثار في الصحة، فأية علاقةٍ بين اثنين الله بينهما، حتى لو تعاملت مع طفلٍ صغير، حتى لو تعامل الصغير مع الكبير، الضعيف مع القوي، القوي مع الضعيف، الخبير مع الساذج، قال عليه الصلاة والسلام:
" غبن المسترسل ربا ".
 المسترسل الغشيم ـ باللغة الدراجة ـ فغبن المسترسل حرام، إذاً:

 

 

((" أحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً))

 وفيما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلَّم عن أفضل الإيمان قال ـ استمعوا ـ قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( أفضل الإيمان أن تحب لله، وتبغض لله، وأن تُعْمِل لسانك في ذكر الله. قال: وماذا يا رسول الله ؟ قال: أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وأن تكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تقول خيراً أو تصمت ))

 موطن الشاهد مرة ثالثة:

 

 

(( وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ))

 بل إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل دخول الجنة، وهو نهاية الآمال، منوطٌ بأن تحب للناس ما تحب لنفسك، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد، قال يزيد بن أسد القشيري: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( أتحب الجنة يا يزيد ؟ ))

 ـ قلت: نعم.
ـ قال

 

(( إذاً فأحب لأخيك ما تحب لنفسك))

 وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث رواه سيدنا أبو ذر، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

(( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم ))

 لأن سيدنا عمر رضي الله عنه عيَّن والي ـ أعطاه كتاب التولية ـ وقال له: " خذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك، إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك، وسلَّمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً استهنا بقوتك وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك، وإن جمعت الجرمين جمعنا عليك المضرَّتين ـ العزل والتأديب ـ وإن وجدناك أميناً قوياً زدناك في عملك ورفعنا لك ذكرك وأوطأنا لك عقبك "..

 

 

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ﴾

 

( سورة القصص )

 قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

(( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم ))

 الإنسان لو تأمَّر على اثنين وكان ضعيفاً يستحي، القوي منهما يجره إلى خانته، والضعيف منهما يستحي، إذاً يقع في الظلم وهو لا يدري، لكن الذي يتولَّى أمر اثنين يجب أن يكون حازماً، قوي الشخصية، وقَّافاً عند حدود الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يستحي من الناس إلى الدرجة التي يسكت فيها عن الحق..

 

 

(( لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ))

 وقد روي عن عليٍ رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( يا علي، إني أرضى لك ما أرضاه لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جُنُب، ولا وأنت راكع، ولا وأنت ساجد ))

 موطن الشاهد أن..

 

 

(( يا علي، إني أتمنى لك ما أتمناه لنفسي، وأكره لك ما أكرهه لنفسي))

 أما هذا الذي يقوله الناس ماذا تريد من وجع الرأس ؟ يصطفلوا، كلمة يصطفلوا، ما دخلك، عليك من نفسك، هذه إذا قالها الإنسان وفق من يحبه، ومع مَن يستمع إليه، فقد خان الله ورسوله، لأن الدين هو النصيحة.
 يروى أن أحد المؤمنين اسمه محمد بن واسع، كان يبيع حماراً له، قال له رجل: أترضاه لي ؟ قال: لو رضيته ما بعته، أي أنه انحرج.
 أنا أعرف شخص حكى لي قصة لا تزال مؤثرة في نفسي، عنده مركبة ـ سيارة ـ فيها عيب خطير، فذهب وباعها وقال لي: بعتها وهو فرحٌ، وكأنه انتصر على مَن اشتراها، قال لي: " لبَّسناها لواحد " بالضبط وأنا أحفظها تماماً، وكان وقتها في بطرطوس سيارات تباع مباشرةً، فذهب إلى هناك واشترى المركبة التي تروق له، يعني اختارها اللون المناسب، والقوة المناسبة، وجاء بها إلى الشام، بعد أن أجرى معاملات تسجيلها، زارني وقد رأيته واجماً، قال لي: ضُرِبَت سيارتي ضرباً قاسياً جداً، وهو متألم، خامس يوم من شرائها، كان في حي المخيم صار في حادث لكنه حادث وجيع، فقلت له: تذكر ما قلت لي بالأمس، يجب أن تحب للناس ما تحب لنفسك، إذا أعلنت عن عيبها لا مانع، هناك مَن يشتريها على عيبها، حينما تخفي العيب إذاً أنت رضيت أن تكون هذه لإنسان وأنت لا ترضاها لنفسك. قال وهو يبيع حماراً: أترضاه لي ؟ قال: لو رضيته لم بعته. أي فيه عيوب.
النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه النعمان بن البشير قال:

 

 

(( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))

 هذا الحديث يستنبط منه قطعاً: أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن، ويريد للمؤمن ما يريد لنفسه، ويؤلمه ما يؤلم أخاه.
الآن، دخلنا في موضوع أساسي ومتعلق بهذا الحديث، الإنسان إذا تمنى أن يكون متفرداً عن الناس، أن يصل إلى مرتبة لا يرقى إليها أحد، قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى:

 

 

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

 

( سورة القصص )

 العلو في الأرض أن تتمنى أن تكون دائماً فوق الناس، أن تتمنى أن تكون أعلى من مستواهم، تنزعج لو أن أحداً اقترب منك، أو كاد أن يصل إلى مستواك ؛ إن في العلم، وإن في العمل الصالح، وإن في الغنى، وإن في الزواج تحب أن تكون فوق الناس، قال:

 

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

 وقد قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فهل يدخل في هذه الآية ؟ يعني يتمنى أن يلبس شيء متميز، هذه كوبونة، خير إن شاء الله ؟ يحب إن ارتدى شيء لا أحد يكون بمستواه، إذا رأى اثنان يلبسون مثله يقول لك: معطت. يشمخ بأنفه ويقول لك: معطت، فسئل النبي عليه الصلاة والسلام: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فهل يدخل في قوله تعالى:

 

 

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

 أجاب النبي عليه الصلاة والسلام إجابةً دقيقةً، قال:

 

 

(( الكبر بطر الحق وغمص الناس ))

 

( الجامع لأحكام القرآن )

 يعني أنت حينما ترى أنك إذا تعارض الحق مع أهوائك وشهواتك، فأنت أكبر من أن تنصاع للحق، لو جاءتك نصيحةٌ من طفلٍ صغير كبرت عليك نفسك. ذات مرة الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه كان يمشي في الطريق، ورأى طفلاً صغيراً على وشك أن يقع في حفرة فقال:
ـ يا غلام إياك أن تسقط.
 ـ قال له هذا الطفل: بل أنت يا إمام إياك أن تسقط، إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطت سقط العالم معك.
قدوة لأنه، مثل أعلى. كل الناس متعلقون بك، كل الناس يعجبهم ما تصنع، فإذا سقطت من عين الله سقط الناس معك بمعنى أنك أحبطت طموحهم، وأربكت تصوّرهم، وأوقعتهم في خلل، فمن علامة المتواضع أنه يقبل النصيحة من أي إنسان ولو كان صغير الشأن.
 بطر الحق رد الحق، ألا ترضى بهذا الحق، هذا الحق يتعارض مع ما أنت عليه، إذاً ترفضه، أو ترى أنك أكبر منه، أو ترى أنك أكبر من هذا الناصح. وغمص الناس أي أن تظلمهم. قال بعض العلماء: المسلم الحق، والمؤمن الحق إذا رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهد في إصلاحه، أي أنه قد يرى أخاه في وضع لا يرضي الله، يقول لك: ما دخلني لا أريد إزعاجه، لا، أنت مخلص ولكن على انفراد بدون تشهير، التشهير صار فضيحة، في نصيحة وفي فضيحة، يجب أن تختار النصيحة لا أن تختار الفضيحة، فبقدر الإمكان بينك وبينه قل له: يا أخي هذه لا تجوز، هذا التعامل لا يجوز، هذه العلاقة لا تجوز، هذه النزهة لا تجوز، هذا الموقف لا يجوز، أنت بهذا ضعضعت ثقة المسلمين.
 بعض السلف الصالح كان يقول: أهل المحبة لله نظروا بنور الله وعطفوا على أهل المعاصي، مقتوا أعمالهم ولم يمقتوهم. لأنك إذا عرفت الله عزَّ وجل يجب أن يتسع صدرك لكل الناس، أبو حنيفة النعمان ـ كما قلت لكم سابقاً ـ له جار مغني، والغناء كما تعلمون حرام ولاسيما إذا كان من امرأة، قولاً واحداً بالإجماع، لو أن المرأة قالت: أشهد أن لا إله إلا الله فصوتها عورة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمرها إذا أخطأ الإمام في الصلاة أن تصفِّق لا أن تقول: سبحان الله. كرجال: سبحان الله أما المرأة تصفق لأن صوتها عورة وهي في الصلاة، وهي تقرأ القرآن فكيف إذا غنَّت، وكسَّرت صوتها، وألانته ؟ طبعاً. فأبو حنيفة النعمان له جار مغني كان طوال الليل يقول:
أضاعوني وأي فتىٍ أضاعوا ليـوم كريهةٍ وطعان خلـفي
 فلما في أحد الأيام لم يسمع صوته، أيقن أنه موقوف، فذهب وشفع له عند صاحب السجن وخلَّصه، وهو في طريق العودة قال له: يا فتى هل أضعناك ؟ وكانت توبته على يده، فالداعية إلى الله عزَّ وجل نَفَسَه طويل، وأفقه واسع، وصدره رحب يتسع حتى للعصاة، ولكن لا يمقتهم بل يمقت عملهم.
 وسيدنا عمر عندما دخل عمير بن وهب على سيدنا رسول الله وقال: " والله دخل عمير على النبي صلى الله عليه وسلم والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحب إلي من بعض أولادي ". هذا أخوك في الله، كان منحرفاً، كان عاصياً، فلما عاد إلى الله دخل في قلبك.
 الآن في موضوع ثالث، الآن، إذا رأيت فضيلةً دينيةً في إنسان هل هناك ما يمنع أن تتمنى أن تكون فيها ؟ قيل: لا، بل بالعكس يجب، يجب أن تغار في هذا المجال، لقوله تعالى:

 

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

 

( سورة المطففين )

ولقوله تعالى:

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

( سورة الصافات )

 فالتنافس في أمر الآخرة محمود، الآن موضوع آخر، لو أن إنسان سبقك في أمور الدين يجب أن تغار منه، يجب أن تغبطه، أو يجب أن تحسده كما قال النبي:

 

(( لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً، ورجلٌ آتاه الله مالاً))

 

( الجامع لأحكام القرآن )

 الأول ينفق من علمه والثاني من ماله، والحسد هنا كما قال شُرَّاح الحديث بمعنى الغبطة، أي أنك تتمنى أن تكون في مستواه من دون أن تزول النعمة عن أخيك، أما الحسد تتمنى زوالها عن أخيك لتتحول إليك، هذا صفةٌ ذميمة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

((لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار ))

 

( الجامع لأحكام القرآن )

 وقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لو أن لي مالاً لفعلت فيه كما فعل هذا ـ قال ـ فهما في الأجر سواء ))

 

( مختصر تفسير ابن كثير )

 أحياناً تجد غني مؤمن ينفق ؛ على اليتامى، والأرامل، وعلى الشباب، وفي موضوع الزواج، وموضوع المعالجات الجراحية، كلما قصده إنسان لبَّاه، يعمل ليلاً نهاراً في خدمة الخلق، أنت أحياناً تقول: ليتني غنياً مثله، تتمنى أن تكون مثله، تقول: آه لو أنني أملك كما يملك لأنفقته كما ينفق، قال: من تمنى ذلك فهما في الأجر سواء، لأنه نية المؤمن خيرٌ من عمله، ونية الكافر شرٌ من عمله، أحياناً الكافر يقول لك: آخ لو معي مال لعملت ملهى.
قال: أما إذا رأيت أحداً فاقك في الدنيا، فلا ينبغي أن تتمنى أن تكون مثله، لقوله تعالى: قارون خرج على قومه في زينته بأبهى حلة:

 

﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

 

( سورة القصص )

 بالمناسبة أنا أقول لكم الآن: قل لي ماذا تتمنى، أقل لمك مَن أنت بالضبط، ماذا تتمنى ؟ فأحياناً المؤمن يتمنى أن يكون إيمانه عالي، صلاته متقنة، إقباله جيد، ذكره يقظ، يفهم القرآن كله، أن يكون عالماً، أن يكون داعيةً، أن يسخِّره الله في خدمة الخلق، قل لي ماذا تتمنى أقل لك مَن أنت، وهناك إنسان إذا أراد أن يحلم، يحلم ببيت، يقول لك: مساحته كذا، مركبة ماركة كذا، موديل كذا، فعلى هوى الخيال، خيالك إلى أين يسير ؟ اعلم أنك معه، فقل لي ماذا تتمنى أقل لك مَن أنت، أما قوله تعالى:

 

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

 

(سورة النساء: من آية " 32" )

 فُسِّر هذا بالحسد..

 

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

 حتى إن الإمام الغزالي يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان. أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني، هذا الذي أنت فيه هو أكمل ما يكون بالنسبة إليك، هذا الذي يرضيك.
إذاً يجب أن تحزن أيها المؤمن لفوات الفضائل الدينية، وينبغي ألا تحزن لفوات الدنيا، فسيدنا الصديق لم يندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط.
 الآن، في عندنا خاتمة لهذا الموضوع بعض المواقف المشرفة من بعض العلماء، قال محمد بن واسع لابنه: أما أبوك يا بني فلا كَثَّر الله في المسلمين مثله ـ لماذا يدعو على نفسه؟ ـ قال: كان لا يرضى على نفسه فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله ؟ أي أنه يتمنى أن يكون الناس أرقى منه، هذا المؤمن.
إلا أنه في حالة خاصة إذا الإنسان خصه الله بشيءٍ تفوق به، وذكره للناس ليقتدوا به، أو ليتحمَّسوا، أو ليغاروا، قيل هذه على حسب النية، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يقول:

 

 

(( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ))

 أنا لا أفتخر لكنني أعلمكم الحقيقة.
 سيدنا ابن مسعود قال: ما أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني. طبعاً لنيته أن يتعلم الناس منه
 ابن عباس يقول: إني لأمر على الآية في كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.
 الإمام الشافعي يقول: وددت أن الناس يتعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي. منكر لذاته. وددت أن الناس يتعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي، يعني من دون أن ينسب إلي.
 هذا الحديث مرةً ثانية يعد من أصول طريق الإيمان، يعد من قواعد الإيمان، الحديث رواه مالك بن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

 

(( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "))

 هذا الحديث العظيم لا تختصره، إذا كان في تفاحة كبيرة أخي خذ هكذا النبي قال، الشغلة أعمق من ذلك، على تفاحة سهلة عليك، خذ أخي هكذا قال النبي ـ حتى يحب ـ خذ أنا أحببتها والله ولكن خذ كلها أنت، الحديث أعمق من ذلك، بمصلحتك، أنت نجَّار، أنت كهربجي، أنت صانع صاحب مهنة، الشيء الذي ترضاه لنفسك اصنعه للناس، الشيء الذي تشتهي أن تأكله بعه لهم، الشيء الذي تلبسه بعه إيَّاهم، إلا إذا كان في بضاعة مستواها متدني وسعرها رخيص جداً وأبلغت ذلك، أما بالأصل ينبغي أن تحب للناس ما تحب لنفسك.
* * *
 الآن، كمقدمة قبل أن نتحدث عن عَلَمٍ من علماء الإسلام، الحقيقة أنا أحب في هذا الدرس ـ درس الأحد ـ أن أعطيكم نماذج من صفوة البشر، اليوم مع أحد أولياء الله الصالحين هو من أهل القُرب، قد نجد أهل العلم، وقد نجد أهل الجهاد، وقد نجد أهل السخاء والبر، والآن مع عَلَمِ من أعلام القرب بشر الحافي كلكم تسمعون به.
 رجل كان مسرفاً على نفسه، غارق في المعاصي والشرب، والقيان والغناء، وما إلى ذلك، يروى أنه طرق بابه، الذي طرق الباب طبعاً فتح له خادمه، قال له: قل لسيدك إن كان حراً فليفعل ما يشاء، وإن كان عبداً فما هكذا تصنع العبيد !! هذا كان في حالة سكرٍ، وغيبوبةٍ، وشرابٍ، ومعصيةٍ، بلغت هذه الكلمة من نفسه مبلغاً بليغاً، فصحا من سكرته، ولحق بهذا الطارق حافياً، حتى سُمِّيَ بشر الحافي، هذه القصة سمعتها، والآن مع بعضٍ من قصصه وأقواله.
 هذا الإنسان يُكْنَى أبا نصر، قال لي بشر بن الحارث الحافي: أحدثك عن بدو أمري قال: بينما أن أمشي رأيت قرطاساً على وجه الأرض فيه اسم الله ـ يعني ورقة عليها اسم الله ـ تعالى فنزلت إلى النهر فغسلته، وكنت لا أملك من الدنيا إلا درهماً فيه خمسة دوانق، فاشتريت بأربعة دوانيق مسكاً، وبدانقٍ ماء وردٍ، وجعلت أتتبع اسم الله تعالى في القرطاس وأطيِّبه، ثم رجعت إلى منزلي، فنت فأتاني آتٍ في منامي فقال: يا بشر كما طيَّبت اسمي لأطيبنَّ اسمك، وكما طهَّرته لأطهرنَّ قلبك.
يعني..

 

 

﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

 

(سورة الحج )

 أحياناً تباع ليس في بلادنا بل في بعض بلاد الغرب أحذية، في أسفلها كلمة ( الله) أو في أسفلها صورة الكعبة، فالإنسان يجب أن ينتبه لأنه:

 

﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

 له كلمة رائعة جداً ونحن في أمس الحاجة إليها، يقول هذا العارف بالله: أنا عشت إلى زمنٍ إن لم أعمل فيه بالجفاء لم يسلم ديني. أي في زمن الفتن، والاختلاط، إذا كان لطيف كثير ؛ هذه صافحتها، وهذه ابتسمت في وجهها، وهذه استحيت منها، وهذا سحبك على غذاء فيه غناء، وفيه طرب، وفيه نساء، أخي أنا أستحي طبعي أستحي، إن كنت تستحي فقد ذهب دينك، فنحن في زمنٍ لا ينفع معه إلا بعض الجفاء، أخي والله استحيت فصافحتها، خير إن شاء الله ؟ استحيت فذهبنا معهم وطلعت السهرة غير مظبوطة، كلمة استحيت، إذا قلت استحيت راح دينك. فقال: نحن في زمنٍ إن لم نعمل فيه بالجفاء لم يسلم ديننا. يعني كلمة ( لا ) لصديق يحرجك رائعة جداً، لزوجةٍ طائشةٍ أرْوَع، لشريكٍ يريد أن يأكل مالاً حراماً أشد روعةً، كلمة (لا).
 في بعض مناجاته كان يقول بشر الحافي: لقد شَهَرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني يوم القيامة. فالقضية ليست سهلة أن تكون مشهوراً، أن يشار إليك بالبنان، أن يعرفك الناس جميعاً، قال: لقد شهرني ربي في الدنيا، فليته لا يفضحني يوم القيامة. وما أقبح مثلي يظن في ظنٌ وأنا على خلافه. في نقطة مهمة جداً، إذا أنت مظنّة صلاح، الناس يظنونك شيء ممتاز، يظنون فيك الورع، والأمانة، الصدق والاستقامة، والتقوى، والصلاح، والإقبال، والأحوال، والانضباط في بيتك، وفي عملك، وفي سفرك وفي حضرك، فمن الفضيحة الكُبرى أن تكون في مستوى أقل من ظن الناس فيك، فكان يقول: ما أقبح مثلي يظن في ظنٌ وأنا على خلافه. قال: إنما ينبغي أن أكون أكثر مما يظن بي. لهذا كنت أقول لكم دائماً أربع أدعية أتفاعل معها تفاعلاً عجيباً، بعض هذه الأدعية:

 

 

((اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك ))

 

 

((أعوذ بك أن أتزين للناس بشيءٍ يشينني عندك ))

 

 

(( أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني منه ))

 

(( أعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك ))

 كان يقول هذا العارف بالله: غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه، وإخفاء مكانه عنه. أي أن كثرة الظهور تقسم الظهور، فإذا كنت خافياً عن الناس، والناس ما عرفوا مكانك، فهذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها.
له دعاءٌ رائع يقول: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، فربما سترت على ما تكره. فلان الله ساتره، لكن على المعاصي ساتره، البطولة أن يسترك الله على الطاعات. اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، فربما سترت يا رب على ما تكره.
 وكان يقول: يا أخي بادر بادر، فإن ساعات الليل والنهار تذهب الأعمار . أبلَغ كلمة قالها سيدنا عمر بن عبد العزيز: الليل والنهار يعملان فيك ـ انظر لصورتك قبل خمسة وعشرين سنة، ثلاثين سنة، والآن تجدها اختلفت اختلاف كبير جداً، من فعل هذا فيك ؟ تعاقب الليل والنهار. الليل والنهار يعملان فيك، أنت فاعمل فيهما الصالحات حتى يكون الوقت مستثمراً وليس منفقاً.
 ماتت أخت بشر، فأشار إشارة لطيفة لكنها ليست قاعدة، قال: إن العبد إذا قصَّر في طاعة الله سلبه الله مَن يؤنسه، أحياناً ربنا عزَّ وجل من تكريمه للعبد أن يجعل عمر زوجته مقارباً لعمره، أحياناً تموت قبله، تختلف حياته، إن تزوج أهله يصيره ضده، أولاده ضده، وإن لم يتزوج ما في مَن يخدمه، ما في مَن يؤنس وحشته، ما في مَن يسكن إليه، فمن إكرام الله للعبد أن يجعل عمره متقارباً مع عمر زوجته.
 يقال أن بشر بن الحافي لقيه رجل فجعل يقبله ويقول: يا سيدي يا أبا نصر. فلما ولَّى تغرغرت عينا بشر بالدموع وقال: رجلٌ أحب رجلاً على خيرٍ توهمَّه، لعل المحبَّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله. هذا الإنسان ظن فيه الصلاح وأحبه نفد، لعل المحب قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله.
ذات مرة وقف بشر على بائع فاكهة، ونظر إلى هذه الفاكهة ملياً فقيل له: أتشتري منها شيئاً ؟ قال: لا والله، ولكنني نظرت في هذا الذي يطعم هذه الفاكهة كيف يعصي الله ؟ فهذه الشفافية ، يأكل برتقال، وتفاح وما شاكل ذلك، يشتري ومعه مال، يضع الفاكهة على طاولة، ويأكل ويدعو الناس إلى الطعام، كيف يعصي الله ؟ كيف تتقوى على معصيته برزقه؟
 مرة واحد قال له: ما لي أراك يا بشر مغموماً ؟ منقبض ؟ قال: ما لي لا أكون مغموماً وأنا رجل مطلوب. إذا واحد مطلوب لا ينام الليل، الله عزَّ وجل طالب الإنسان، في وقفة وتحقيق دقيق، يحاسب على كل حركةٍ وسكنةٍ، وعلى كل نظرةٍ، وعلى كل درهمٍ أنفقه وكسبه، قال له ما لي أراك مغموماً ؟ قال: ما لي لا أكون مغموماً وأنا رجل مطلوب في عدالة الله عزَّ وجل.
ألا تعرفوا الذي طاف حول الكعبة وقال:
ـ يا رب اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل.
ـ واحد وراءه قال له: سبحان الله ما أشد يأسك من رحمة الله ؟!
ـ قالله: ذنبي عظيم.
ـ قال له: ما ذنبك ؟
 دخل لبيت وقتل الرجل، وطلب من زوجته أن تعطيه كل ما تملك، أعطته دنانير ذهبية، فقتل ابنها الأول، فلما رأته جاداً في قتل الثاني أعطته درعاً مذهبة، تسلَّمها وتأملها وأعجب بها، فإذا عليها بيتان من الشعر..

 

إذا جار الأمير وحاجـباه وقاض  الأرض أسرف في القضاءِ
فويلٌ، ثم ويلٌ، ثم ويلٌ لقاضي  الأرض من قاض السـماءِ
* * *

 وقع مغشياً عليه من وقته، وتوجَّه إلى الكعبة، ويقول: رب اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل. قال له: لماذا لا أكون مغموماً وأنا رجل مطلوب.
 قال بعضهم: كنت عند بشر إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة ـ فالإنسان كلما كان جباناً في الفتوى فهي فضيلة، الفتوى خطيرة جداً، جسر إلى جهنم ـ أطرق ملياً، ثم رفع رأسه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أخاف أن أتكلم، اللهم إنك تعلم أني أخاف أن أسكت، اللهم إنك تعلم أني أخاف أن تأخذني فيما بين السكوت والكلام. إن تكلم بجهل فقد وقع في غضب الله، وإن كان يعلم وسكت، أريح له، أيضاً وقع في غضب الله، وإذا أحب أن يحير الآخرين، لا حكى ولا سكت، فالقضية دقيقة جداً، قال له: اللهم إنك تعلم أني أخاف أن أتكلم، وإنك تعلم أني أخاف أن أسكت، وإنك تعلم أني أخاف أن تأخذني فيما بين السكوت والكلام.
 مرة دخل إلى بيته وتأمل ملياً، وقال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، فقلت: ما الذي سبق منك حتى خصك الله بهذا الهُدى، تفكرت في فضل الله علي، وحمدته على أن جعلني من خاصَّته، وألبسني لباس أحبائه. فأعداء الله بشر مثل حكايتنا ؛ يزنون، ويشربون الخمر، ويعتدون، وينغمسون في الملاهي، ويتحدَّون، فنعمة الهدى لله عزَّ وجل أعظم نعمة، مادام الله عزَّ وجل قد ألبسك ثوب أحبائك، وخصَّك بالهدى، لذلك اقرأ الآية، اقرأها ألف مرة ما في مانع:

 

 

﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾

 

( سورة النساء )

 قال له أحدهم: يا بشر أحب أن أخلو معك. قال: إذا شئت. فبكرت يوماً، فرأيته قد دخل قبةً فصلى فيها ـ بشر ما رآه ـ صلى فيها أربع ركعات، لا أحسن أن أصلي مثلها، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الذل أحب إلي من الشرف ـ من المكانة العلية ـ وإنك تعلم أن الفقر أحب إلي من الغنى، وإنك تعلم أني لا أؤثر على حبك شيئاً. فلما سمعته أخذني الشهيق والبكاء، فلما سمعني قال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن هذا هنا ما تكلَّمت شيئاً. في أناس يحبوا ترونهم يبكوا، يناجوا ربهم عزَّ وجل، والله صار لي أحوال اليوم تجنن، قرأت قرآن بكيت لشبعت، يحب أن يتعرف الناس لمكانته عند الله عزَّ وجل، ولكن هذا من علامة القرب إخفاء أحواله مع الله عزَّ وجل، قال له: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن هذا يسمعني لما تكلمت.
أحمد بن حنبل كان معاصر له، سُئِل مسألة في الورع فقال: أنا ؟! أنا أجيب عن هذه المسألة أستغفر الله ؟! أحمد بن حبنل، لا يحل لي أن أتكلم في مسألةٍ في الورع وأنا آكل من غلَّة بغداد. يبدو أن فيها شبهة، فبشر يصلح أن يجيبك عنها، فإنه كان لا يأكل من غلة بغداد، ولا من طعام السواد، هو الذي يصلح أن يتكلم في الورع. هذا كلام أحمد بن حنبل..
 له كلمة بشر رضي الله عنه: ليس من المودة أن تحب ما يبغض حبيبك. شخص الله يبغضه لمعصيةٍ، لانحرافٍ، لتهاون في صلاة، فإذا أحببته فليس هذا مودة مع الله عزَّ وجل، ليس هذا من المودة مع الله أن تحب ما يبغض حبيبك.
يقول بشر: بحسبك أن أقواماً موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن أقواماً أحياء تعمى الأبصار بالنظر إليهم.
 بالمناسبة عَوِّد نفسك تذكر الصالحين، وفي رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، والتابعون، والعلماء الأجلاء الصالحون، في ذكر الصالحين تتنزل الرحمة، تسر، يتغير حالك، تتمنى أن تكون مثلهم، تنطلق إلى السعي في طريقهم، تتشوق أن تكون في مستواهم، تتأسى بهم، تندفع إلى طاعة الله، أما إذا ذكرت اللؤماء، أهل البغي والعدوان، أهل الفسق والفجور ينعقد المجلس، أو يقوم من في المسجد كما قال عليه الصلاة والسلام عن أنتن من جيفة حمار، فعوِّد نفسك أن الصالحين إذا ذكروا تنزَّلت على الناس الرحمة.
قال بشر: أيكون الرجل مُرائياً في حياته، مرائياً بعد موته كذلك ؟ قالوا: كيف هذا يا بشر ؟ فقال: يحب أن يكثر الناس على جنازته. يا ترى إذا مت كم واحد، ماذا يحصل بعد موتي ؟ هل يمشي في جنازتي خمسمائة ألف، نصف مليون ؟ كم واحد يمشي في ؟ هذا يحب الرياء بعد مماته كذلك.
وقال بشر: ما أقبح أن يُطْلَب العالم فيقال هو في باب الأمير.
 توفي بشر رحمه الله تعالى، هكذا تروي الروايات، قال: خرجت جنازته بعد صلاة الصبح، ولم يجعل في القبر إلا في الليل، وكان نهاراً صائفاً، من أيام الصيف كذلك، لم يستقر في القبر إلا إلى العَتَمَة، ولما مات ابن حنبل، قال ابن خذيمة: بت من ليلتي فرأيته في النوم، قلت: يا إمام ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي، وتوجني، وألبسني نعلين من ذهب وقال لي: يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي، لأنه دخل السجن ثمانية سنوات لأنه أصر أن القرآن كلام الله القديم. فقال: يا إمام، فما فعل بشرـ الاثنان ميتان كانوا ـ قال: بَخِن بخن مَن مثل بشر، تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدةٌ من الطعام والشراب ويقال له: كل يا بشر يا مَن لم تأكل، واشرب يا مَن لم تشرب، وانعم يا مَن لم تنعم، رحمه الله ورضي عنه.
 فما في شيء الدنيا، كلها زائلة، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، فهذا الإنسان أخلص لله، هذا من أهل القرب، أحياناً شخص أبرز ما فيه أنه عالم جليل، وفي إنسان يعني قدم خدمات كبرى للمجتمع، هذا الإنسان نموذجٌ من أهل القرب، لذلك الإنسان إذا اقترب من الله عزَّ وجل ذاق حلاوةً لا يعرفها إلا من فقدها.

تحميل النص

إخفاء الصور