وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة النساء - تفسير الآية 171 ، الغلو في الدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة النساء آية هي الآية الواحدة والسبعون بعد المئة وهي تبدأ بقوله تعالى:

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾

 وللنبي عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يقول:

 

((إياكم والغلو في الدين !! فإنه أهلك من كان قبلكم ))

 الغلو في الدين.
 يعني أنّ الغلو في الدين كان سبباً لهلاك الأقوام السابقة، فما هو الغلو في الدين ؟.
 أيها الإخوة ؛ قلت لكم من قبل، إن في الدين كليات ثلاث.
 - كلية العقيدة...
 - كلية القلب...
 - كلية السلوك...
 فالإنسان له عقل، وغذاؤه العلم، وله قلب وغذاؤه الذكر، وله سلوك وصحته الانضباط بالشرع.
 هذه الكليات الثلاث، إذا نمت كلية واحدة نمواً غير طبيعي، فنموُّها هذا على حساب الكليتين الأخريين، فهذا هو الغلو في الدين.
 يعني أن تعتمد على الفكر وحده وتهمل القلب والسلوك، أو أن تعتمد على القلب وحده وتهمل الفكر والسلوك، أو أن تعتمد على السلوك وحده وتهمل القلب والعقل.
 حينما ينمو جانبٌ على حساب جانبٍ آخر نمواً سرطانياً، هذا هو الغلو في الدين، فهذا الذي يظن أن الفكر كل شيء، ويهمل الذكر كغذاء لقلبه، وقع في الغلو، وهذا الذي يعمل ليلاً ونهاراً، ويهمل إغناء عقله بالحقائق، وإغناء قلبه بالذكر، وقع في الغلو.
 هذا نوع من أنواع الغلو، لذلك نحن أمام تطرف، وأمام تفوق، فإذا نمت الجوانب الثلاثة نمواً متوازياً، فنحن أمام التفوق.
 وكان أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، كانوا متفوقين، معنى أنهم كانوا رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، فإنّ لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل.
 أحد الرسل، أرسلَهُ عاملُ عمر بن الخطاب على أذربيجان، فقَدِم المدينة ليلاً، وكره أن يطرق باب أمير المؤمنين في الليل، فتوجه إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ظلامٌ دامس، في هذا المسجد سمع رجلاً يناجي ربه، يقول: يا رب: هل قبلت توبتي لأهنئ نفسي ؟ أم رددتها فأعزيها، فقال هذا الرسول: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر، فقال الرسول: يا سبحان الله، ألا تنام الليل يا أمير المؤمنين، فقال عمر: إني إن نمت ليلي كله، أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، إن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله بالليل.
 ثم تابعا إلى أن أذن الفجر، فصلَّيا، ومن باب التكريم أخذ عمر بن الخطاب هذا الرسول إلى بيته، وقال: يا أم كلثوم ؛ ماذا عندك من طعامٍ لضيفنا ؟ قالت: واللهِ ما عندنا إلا خبزٌ وملح، فقال: هاته، فأكل سيدنا عمر مع الرسول الخبز والملح، وكان قد خيره ؛ أتأكل عندي في البيت، أم مع فقراء المسلمين، طبعاً مع فقراء المسلمين هناك اللحم، أما في بيت خليفة المسلمين خبزٌ وملح، فظنّ هذا الضيف أنّ طعام أمير المؤمنين متميّز.
 وذات مرة سيدنا عمر في عام المجاعة خاطب بطنه، وقال: قرقر أيها البطن أو لا تقرقر، فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين، فلما انتهيا من تناول الطعام، دعا سيدنا عمر، فقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا، وأسقانا فأروانا.
 ثم التفت إلى هذا الرسول، قال يا هذا: ما الذي جاء بك إلينا ؟ ولماذا قدمت ؟ قال: معي علبةٌ فيها حُلْوٌ من أذربيجان، هديةٌ من عاملك، قال: أو يأكل عامة المسلمين هذا الطعام ؟ قال: لا، هذا طعام الخاصة، الطبقة الغنية، قال يا هذا: أَوَ أعطيت فقراء المدينة كلهم مثل ما أعطيتني ؟ قال: لا: هذه لك وحدك، عندئذ طلب عمر من رسول عامل أذربيجان أن يبلِّغ عامله أن يأكل مما يأكل منه عامة المسلمين، قائلاً له: كيف يرضيك أمر المسلمين إن لم تأكل مما يأكلون ؟، وأَمَر الرسول بهذه العلبة أن توزع بين فقراء المدينة، وقال: حرامٌ على بطن عمر أن يذوق حلاوة لا يأكلها فقراء المسلمين.
 الغلو في الدين، مرةً أخرى أيها الإخوة ؛ أن ينمو جانب على حساب جانب، لا بد من التفوق، فكان أصحاب رسول الله متفوقين، لأن الجوانب الثلاثة، نمت عندهم نمواً متوازياً.
 أما حينما ينمو جانب على حساب جانب، فهذا هو التطرف، والتطرف يكون عبئاً على المسلمين، وليس في خدمة المسلمين.
شيءٌ آخر، هناك من يأخذ فرعاً من فروع الدين ويجعله أصلاً، هذا أيضاً تطرف، هناك من يتعصب لفئةٍ أو لجماعةٍ، أو لشخص، أو لعصرٍ، هذا إذاً تطرف، وغلو في الدين، التعبير الحديث "تطرف"، أمّا التعبير القرآني " غلو في الدين "، أن تتعصب لفئةٍ، أو لجماعةٍ، أو لرجلٍ، أو لعصرٍ، أو لحقبةٍ، مع أن الدين للإنسان بمثابة الهواء له لا يستطيع أحدٌ أن يحتكره، ولا جماعةٌ، ولا فئةٌ، ولا أمةٌ، ولاشعبٌ وبلدٌ، ولا مصرٌ، ولا عصرٌ، ولا حقبةٌ.
 دين الله لا يحتكر، دين الله لعباد الله، فمن تعصب، ومال لجهةٍ وكفَّر الباقين، فقد تطرف، وغلا في الدين.
 إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك الذين من كان قبلكم، هذا ورد عن رسول الله. إخوانا الكرام ؛ لقد قال الشيطان:

 

﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

( سورة الأعراف: 17 )

 في الآية شيءٌ دقيق:

 

﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

 أي إنّ الشاب لمجرد أن يتوب إلى الله عز وجل، ويسلك الطريق الصحيح يأتيه الشيطان، موسوساً، محمساً، داعياً إياه إلى المعصية، حينما كان غارقاً في المعاصي تركه الشيطان، فمتى أقبل عليه الشيطان ؟ حينما انطلق إلى الرحمن.

 

 

﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

 يعني أنا على الطريق إليك فإذا سلك أحدٌ هذا الطريق، لأقعدن في الطريق ولأوسوسنّ له، هذه أول مهمة للشيطان.
أحيانا يقول لك شخص: يا أخي كنت غارقًا في المعاصي، ولم أعاني مِن مشكلة ! طبعاً، فلما اتجهت إلى الله اتجاهاً صحيحاً بدأت المشكلات ؟ هذا ابتلاء.

 

 

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)﴾

 

( سورة العنكبوت: 2 - 3 )

 ماذا تعني:

 

﴿ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾

 يعني من أمامهم، فأكبر دعوة للشيطان، يقول لك: التحديث عنوان الحياة، ونحن في عصر العلم، وهذه كلها تقاليد بالية، هذه عادات الآباء والأجداد، وقد كانوا جهلة.
 فالدعوة إلى إحلال التحديث بما فيه من فسق وانحلال واختلاط وأكل مال حرام وشهوات مستعرة، حينما يحل التحديث محل الدين الصحيح، فهذه دعوةٌ شيطانية، هي:

 

 

﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾

 أما:

 

﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾

 حينما ينشأ مجتمع على عاداتٍ بالية وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، أو أشياء لا ترضي الله عز وجل، كسب المال حرام، وإنفاق المال، وكذلك العلاقات الاجتماعية في تفسُّخ وانحلال، فالدعوة إلى التمسك بالقديم البالي المخالف للسنة أيضاً دعوة شيطانية.
 كم جهة في الحياة عند الناس ؟ نعتقد أنّ هناك ستة جهات ؛ أمام، خلف، يمين، يسار، فوق، تحت.
 الآن أول جهة الأمام، الدعوة إلى تبنِّي الأشياء المستجدة، والبدع محل الدين الأصيل.
 ثم:

 

﴿َمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾

 الدعوة إلى التمسك بالتقاليد البالية المخالفة للدين، وهذا أنْ يصمد الشابُ مع زوجته أمام جمع غفير من النساء الكاسيات العاريات، ثم يقول: نحن تربينا على هذا، وهكذا نشئنا، وهكذا العادات، وإلاّ تكلَّم الناس علينا.
 الدعوة إلى الجديد.

 

 

﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾

 الدعوة إلى العادات البالية المخالفة للشرع.

 

 

﴿َمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾

 

 أمّا:

﴿َعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾

 فنجمِّدها قليلاً، لكن:

 

﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾

 الدعوة إلى المعاصي ؛ الزنى، والسرقة، وشرب الخمور، والملاهي، إلخ...
 أما:

 

 

﴿َعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾

 الشيطان يأتيك من قبل الدين، عن طريق الغلو، فالغلو في الدين، مَن المنتفع منه، الشيطان، المسلمون حينما يتفرقون، ويتخاصمون، ويتفتتون، ويضعفون، مَن الرابح الوحيد في هذه المعركة ؟ الشيطان، ومن المنتفع ؟ الشيطان، لذلك:

 

 

﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾

 الغلو في الدين.
 يأخذ فرعًا فيضخِّمه ويجعله أصلاً، أو يأخذ أصلاً فيضخمه ويجعل منه الدين كله، أو يتعصب لجماعة، أو لفئة، مهمته تفتيت الأمة الإسلامية هذه دعوة شيطانية، سأقول مبدئياً: لا ينتفع منها إلا الشيطان.
 يطالعنا سؤال سألنيه أحدٌ، جهة " فوق " ما ذكرها القرآن الكريم، وجهة تحت ما ذكرها القرآن الكريم، قال:

 

 

﴿لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾

 فقط.
 إذًا جهة فوق لمَ أغفلها القرآن الكريم ؟ وكذلك جهة تحت.
 قال العلماء: جهة فوق هي السماء !! ولا يستطيع الشيطان أن يأتيك من جهة السماء، يعني إذا اتجهت إلى الله أحرقت الشيطان، إذا اتجهت إلى الله عز وجل لا يستطيع الشيطان أن يقترب منك، ولا أن يلقي في قلبك أو نفسك شيئاً، ولا أن يوسوس لك، لمجرد أن تتصل بالله عز وجل.

 

 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)﴾

 

(سورة الفلق: 1 - 2 )

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) ﴾

(سورة الناس: 1 - 2 -3 - 4 )

 يوسوس، فإن قلت: يا رب خنس، فالشيطان ضعيف، وسواس خناس، يوسوس، فإذا استعذت بالله عز وجل خنس.

 

﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) ﴾

 

( سورة الأعراف: 200 - 201 )

 لذلك فالقرآن الكريم أغفل جهة فوق، لأن جهة فوق تعني الاتصال بالله عز وجل، والإنسان حينما يتصل بالله عز وجل لا يستطيع الشيطان أن يقترب منه.
 هذا طيب، وجهة تحت، لماذا أغفلها الله عز وجل ؟ لأنّ جهة تحت تعني العبودية لله عز وجل، الإنسان حينما يفتقر إلى الله، لا يستطيع الشيطان أن يوسوس له، إذاً أنت محصن من جهة العبودية لله، ومن جهة القرب من الله، جهتان لا يستطيع الشيطان أن يأتيك منهما، لكن:

 

﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾

 

 شيء حديث، أجهزة حديثة، اتصالات، لقاءات، حفلات مختلطة، مثلاً، وسفور، وعمل المرأة في الحقل العام، أشياء لم تكن من قبل.

﴿َمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾

 تقاليد بالية، الأخذ بالثأر مثلاً، كلها أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.

﴿َعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾

 من طرف الدين وناحيته، لذلك الشيطان يستطيع أن يصل إلى الإنسان وأن يقض عليه مضجعه، وأن يهلكه عن يمينه، أحياناً بالوسوسة، وأحيانًا بالابتداع، وأحيانًا بالحقد على بقية المسلمين، أو بالتفرقة بينهم، وأحيانًا بالتعصب لجهة، أو لجماعة، أو لفئة، أو لشخص، وتكفير من سواهم.

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾

 إذاً يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، الكلام لأهل الكتاب، والمقصود الآن المسلمون، وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:

((إياكم والغلو في الدين !! فإنه أهلك من كان قبلكم))

 الغلو في الدين خطِرٌ خطرًا مدمِّرًا.
 يعني أن تضخم فرعاً فتجعله أصلاً، أو أن تضخم أصلاً فتجعله ديناً، على حساب الفروع الأخرى، أو على حساب الكليات الأخرى، وبهذا يتمزق الإسلام، ويتطرف الناسُ فيه، والتطرف عبءٌ على الدين وليس في خدمته.

 

تحميل النص

إخفاء الصور