وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المائدة - تفسير الآية 8 ، العدل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

على الإنسان أن يهب كل ما يملك لله عز وجل :

 أيها الأخوة ؛ موضوعنا اليوم الآية الثامنة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 8]

 الإنسان أيها الأخوة قد يجري اتصالاً هاتفياً ، وهو مضطجعٌ على سريره ، أما لو أنه تلقى نبأً مؤلماً لقعد ، فانتقاله من الاضطجاع إلى القعود دليل أن الأمر مهمٌ ، فإذا كان الأمر أكثر أهميةً وقف ، والإنسان يعبر عن اهتمامه بالأمر إلى أقصى درجة حينما يقف .
 الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ﴾

  قوَّام على وزن فعَّال ، صيغة مبالغة اسم الفاعل ، قائمٌ قوَّامٌ ، القوَّام أشد اتصافًا بالقيام من القائم ، قائم لكنه متهاون ، قائم لكنه متململ ، قائم لكنه متراخٍ ، أما قوّام فهو في أعلى درجات النشاط ، وفي أعلى درجات اليقظة ، وفي أعلى درجات الجاهزية ، قوَّام .
 يقول الله عز وجل :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾

  أي طاقتكم ، نشاطكم، عضلاتكم ، علمكم ، طلاقة لسانكم ، ذكاؤكم ، مكانتكم ، جاهكم ، هذا كله ينبغي أن يوظف لله عز وجل ، وأن تستنفر ، وأن تفرَّ إلى الله عز وجل .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾

 أي أعلى درجات الاهتمام أن تقف ، وأن تكون مستعداً لبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، أن تقف وأن تكون في أعلى درجات الجاهزية ، أن تقف وأنت في أعلى درجات النشاط . هذا معنى .

﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 أي يجب أن تَهَبَ كلَّ ما تملك لله عز وجل

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾

  أحد أصحاب رسول الله ، وكان حِب رسول الله ، أراد أن يشفع عند النبي في امرأةٍ سرقت ، فغضب النبي أشد الغضب ، وكما ورد في الأثر :

((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))

 هذا هو الإسلام .
 يروى أن سيدنا عمر جاءه ملِك من ملوك الغساسنة مسلماً ، رحب به أشد الترحيب، كان الموسم موسمَ حج ، وفي أثناء طواف الملك حول الكعبة بدوي من فزارة داس طرف ردائه ، فالمِلك لم يحتمل هذا ، فالتفت نحوه وضربه ضربة هشمتْ أنفه ، هذا البدوي ليس له إلا عمر ، ذهب إليه ليشكو هذا الملك الغساني جبلةَ بن الأيهم ، فاستدعى عمر جبلة وقال: أصحيحٌ ما ادَّعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال : لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدبت الفتى ، أدركت حقي بيدي، قال عمر : أَرضِ الفتى ، لا بد من إرضائه ، مازال ظفرك عالقاً بدمائه ، قال له : وإن لم أفعل ؟ قال له : يُهشمن الآن أنفك ، وتنال ما فعلت كفك ، قال له كيف ذاك يا أمير المؤمنين - ما هذا الكلام ؟- هو سوقة ، وأنا عرش وتاج ، كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً ؟ قال له : نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، فقال جبله : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني، فقال عمر : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالَمٌ نبنيه ، كلُّ صدع فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾

  لذلك ورد أنَّ عدْلَ ساعة أفضل عند الله من أن تعبد الله ثمانين عاماً .
 ورد أن حجراً ضج بالشكوى إلى الله ، قال : يا رب - قصة رمزية - عبدتك خمسين عاماً وتضعني في كنيف – الكنيف المرحاض - قال : تأدب يا حجر ، إذْ لم أجعلك في مجلس قاض ظالم ، أي مكانك في الكنيف أشرف لك من أن تكون في مجلس قاض ظالم ، إذاً :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾

المسلم يمثل هذا الدين فعليه أن يكون في أعلى درجات الإنصاف والكمال :

 أما الشيء الدقيق في الآية فهو قوله تعالى :

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾

  معنى لا يجرمنَّكم أي لا يحملنَّكم .

﴿ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾

 الشنآن : البغض ،

﴿ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾

 الله يخاطب من؟ يخاطب المؤمنين ، من هم أعداء المؤمنين التقليديين ؟ الكفارُ ، الفجارُ ، الملاحدةُ ، المنافقون .
 كأن الله عز وجل يقول : يا عبادي ، إذا توهمتم أنني أرضى عنكم ، إذا لم تعدلوا مع خصومكم الكفار فأنتم واهمون ، لا يرضيني إلا أن تعدلوا معهم ، ولا يقربكم إلي إلا أن تنصفوهم ، ولا تقرِّبوهم إليَّ إلا إذا أنصفتموهم ، إن لم تنصفوهم فأنتم متوهمون أني أرضى عنكم، إذا أكلتم أموالهم ، واعتديتم على أعراضهم بدعوى أنهم كفار ، فهذا هو عين الخطأ .

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾

  لا يحملنكم بغض قومٍ على أن تظلموهم .

﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

  أنتم إذا عدلتم مع هؤلاء الأعداء أنتم أقرب إليّ ، وإن عدلتم مع هؤلاء الأعداء قرّبتموهم إليّ ، فقد عرفوا عظمة الدين ، لذلك الإنسان المتوهم إذا رأى شخصًا غير مسلم يقول في نفسه : الطُشْهُ بالسعر ولا حرج ، خذ ماله ولا تهتم ، فهذا غير مسلم، هذا هو عين الخطأ ، أعود وأكرِّر الآية :

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

  أي إذا عدلتم مع أعدائكم قربتموهم من الله ، قال : يا أمير المؤمنين أتحبني ؟ يبدو أنّ شخصًا فاجرًا قالها لسيدنا عمر ، قال له : والله لا أحبك ، قال : وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ؟ قال له : لا والله ، حقك واصلٌ إليك ، أحببتك أم كرهتك ، هذا هو الإسلام.

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

 أي إذا عدلتم معهم قرَّبتموهم إليّ ، وعرفوا أحقِّيّة هذا الدين ، وإن عدلتم معهم تقرَّبتم أنتم إليّ ، فأنا لا أرضى عنكم إذا ظلمتم هؤلاء ، لأنكم إذا ظلمتموهم فإنكم إذاً مثلهم ، وأين الإسلام عندئذٍ ؟ وأين عظمة هذا الدين ؟ وأين أحقّيّة هذا الشرع ؟ لذلك يبدو أن الذي يخطئ مع مسلم فالخطأ صغير حجمه ، أما الذي يخطئ مع غير المسلم فالخطأ كبير حجمه ، لأنك إذا أخطأت مع مسلم يقول : فلان آذاني ، أما إذا أخطأت مع غير مسلم فيقول : المسلمون فعلوا معي كذا ، وكذا ، ينتقل من ذمك إلى ذمِّ دينك ، ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام :

((أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك))

 كل مسلم يمثل هذا الدين ، فعليه أن يكون في أعلى درجات الكمال ، أعلى درجات الإنصاف ، أعلى درجات القسط .

على الإنسان أن يتقي الله لأنه من أساء التصرف فقد يسيء إلى أمته كلها :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾

  استنفِرْ ، فِرَّ إلى الله ، شمروا فإن الأمر جِد .

﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾

  في آية أخرى قال :

﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾

[ سورة النساء : 135]

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾

 لا يحملنكم بغض قومٍ على ألا تعدلوا .

﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

 أي أنتم أقرب إليّ ، وأعداؤكم الذين عدلتم معهم يصبحون أقرب إليَّ.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾

  سبحانه وتعالى خبير بعملك ، يعرف حجم عملك ، ويعرف الأهداف البعيدة من عملك ، ويعرف البواعث الحقيقية من عملك ، ويعرف المضايقات التي تعترض عملك ، ويعرف كل ما بذلتَ من أجل هذا العمل من غال ورخيص ، ونفس ونفيس.

﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾

﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾

  أيها الأخوة ؛ هذه الآية لو طبقت فلن تجدوا عداوات ساحقة بين المسلمين وغير المسلمين ، أي إذا ظلَمَ المسلم ، فقد سمعت مرة كلمة أن الأجانب ينظرون إلى الإسلام نظرة سيئة ، لأنهم شاهدوا إساءات مِن قِبَل مَن فَتَحَ بلادهم ، بعدما استقرت الفتوح في أوروبا مسافات طويلة ، ظهر أناس أساؤوا إساءات بالغة ، فالأجانب حملوا هذه الصور القاتلة ونظروا إلى الإسلام نظرة قاسية ، فلذلك المسلم أحيانًا يسيء إلى دينه كله .
 طالب ذهب إلى أوروبا ودرس ، واقترن بفتاة ألمانية ، أحبها وأحبته ، درسا الطب طبعاً ، بعد سبع سنوات ، بعد أن نال الشهادة اختفى ، عاشت معه وأعانته ، وقدمت له كل ما تستطيع ، وأخلصت له ، فلما نال الشهادة في الطب اختفى ، تبعته إلى بلده ، فإذا هو في بلد آخر ، أجرى عقداً مع دولة من دول الخليج ، إحدى دول النفط ، فوصلت إلى وزير الداخلية هناك ، والوزير رفع الأمر إلى الملك ، والملك أصدر أمراً بطرد هذا الطبيب ، لأنه أساء إلى ألف مليون مسلم ، تقول هذه الفتاة : ماذا فعلت له حتى تركني ؟ لقد أحسنتْ إليه واللهِ . أحيانًا إنسان واحد قد يسيء لأمة ، لمَ لمْ تخبرها بأنك ستطلقها إذا انتهت دراستك ؟ وليعلم كل واحد أنّ الزواج على التأبيد ، أخلصت لك كل الإخلاص ، وأنا ما أردت من هذه القصة أن نناقشها ، لكن أردت من هذه القصة أن الإنسان أحياناً يسيء لأمته كلها إذا أساء التصرف .

التدقيق في معاملة الآخرين :

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

 فالمسلم عليه أن يدقق بمعاملته المسلم مرة ، وليدقق مليون مرة في معاملته غير المسلم ، لأنه لو عامله معاملة طيبة ربما جلبه إلى الدين ، رجل معروف يمثل الحزب اليساري في فرنسا أسلم ، فكان يروي منذ أيام سبب إسلامه ، قال : قبل ثلاثين سنة كنتُ جنديًا ورفض مسلم أنْ يقتلني ، في الحرب العالمية الثانية ، لقد رفض أنْ يقتله لأسباب دينيه ، فبقيت هذه الفكرة في ذهنه ثلاثين عاماً ، وحملته بعدها على أن يسلم .
 فالعمل الطيب ربما جرَّ أمة ، والعمل السيِّئ ربما نفَّر أمة . لذلك :

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

تحميل النص

إخفاء الصور