وضع داكن
23-04-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 117 - بعض الحكم العطائية4 - اجتهادك فيما ضُمِن لك وتقصيرك فيما طُلِب منك..........
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

طلب العلم الشرعي طريق الإنسان إلى الجنة :

 أيها الأخوة الكرام:

(( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 فأنت حينما تأتي إلى بيت من بيوت الله لتطلب العلم الشرعي، ولتتعرف إلى الله، وإلى موقعك في الحياة، لتتعرف إلى مهمتك في الحياة، لتتعرف إلى العمل الذي يرضي الله، ويسعدك في الدنيا والآخرة، وعندما تكون في الطريق إلى بيت من بيوت الله، فأنت في طريق إلى الجنة، وهذه إشارة:

((... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ... ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 فالحياة متعبة، وفيها هموم كثيرة، وحينما تدخل بيتاً من بيوت الله، فالله عز وجل هو المَزُور، وحُقّ على المزور أن يكرم الزائر، وإكرام الله لك شيء يفوق الخيال، يكرمك بالطمأنينة التي يفتقدها معظم الناس، وبالأمن الذي يحتاجه كل الناس، وبالفهم الذي عزّ على كثير من الناس، وبالتوازن، فالإنسان حينما يلجأ إلى الله، ويدخل بيتاً من بيوت الله ويلتمس فيه العلم، فإنما يسلك بهذا طريقاً إلى الجنة، وهذه إشارة، واللهُ عز وجل وصف المؤمنين بأنهم يعبدون الله خوفاً وطمعاً، رغباً ورهباً، فالداعية الذي يملأ قلوب طلاب العلم خوفاً، فهذا لم ينجح في دعوته، والداعية الذي يملأ قلوب طلاب العلم طمأنينة ساذجة من دون مضمون من التزام أو عمل صالح أيضاً هذا لا يبني نفوس إخوانه بناءً صحيحاً، ولابد أن ترجوه وأن تخافه.
 ورد في الأثر القدسي: "يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ فقال الله عز وجل: أحب عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي" ذكرهم بآلائي من أجل تعظيمي، وذكرهم بنعمائي من أجل محبتي ، وذكرهم ببلائي من أجل أن يخافوني، فلابد من أن يكون في قلب المؤمن تعظيم وحب وخوف في وقت واحد، تعظيم من آلائه، وحب لنعمائه، وخوف من بلائه.

طلب العلم حاجة عليا في الإنسان :

 أيها الأخوة، طلب العلم هي الحاجة العليا في الإنسان، الذي يؤكد أنك إنسان طلبك للعلم، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، الذين يعلمون سلموا وسعدوا في الدنيا والآخرة، والذين لا يعلمون هلكوا في الدنيا والآخرة.
وقبل أن نتابع الحديث عن بعض الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري، أتمنى أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة: بقدر ما يشتد الخطر على المسلمين تشتد الحاجة إلى معرفة حقيقة الدين، وبقدر ما تستعر الفتن بقدر ما نحتاج إلى إيمان كبير، ونحن في ظرف استثنائي حيث الفتن ترقص، والفتن في الطريق، وفي أي مكان تجد فتنة، وإن أردت أن تشتري حاجة وجدتَ عليها صورة امرأة شبه عارية، وأينما ذهبت فالفتنة مستعرة، وأينما تحولت فالكسب غير مشروع، وأينما التفتَّ فالعلاقات غير إسلامية، وأي بيت دخلته ففي الأعم الأغلب ليس بيتاً إسلامياً، وأية علاقة أقمتها فهي في الغالب ليست علاقة إسلامية:

(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

الدين الإسلامي دين الله :

 أيها الأخوة، حقيقة أضعها بين أيديكم: لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله، ولولا أن هذا الدين دين الله لانهار منذ ألف عام، لشدة ما حوله من خصوم ومؤامرات وكيد، ولكن دين الله شامخ كالطود، وكلما ازداد أعداؤه ازداد قوة، وهؤلاء الذين يحاربون الدين يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.
 أخواننا الكرام، يمكن أن تقرأ آية ثلاثين سنة دون أن تنتبه لها.

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾

[ سورة الصف : 8]

 دعك من نور الله، وتصور إنسانًا توجه إلى الشمس ونفخ ليطفئها، هذا يلزمه مصح عقلي، وهي شمس، فكيف إذا أراد أن يطفئ نور الله؟

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾

[ سورة الصف : 8]

 ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره، فهذا الدين دين الله، والله سبحانه وتعالى قادر على أن ينصره بأية وسيلة، قادر على أن ينصره من قبل أعدائه من دون أن يشعروا، ومن دون أن يريدوا.

كل إنسان قادر على نصرة هذا الدين :

 حدثني أخ رئيس مركز ثقافي إسلامي في بلد غربي قال لي: هل تصدق أن لديّ إحصاءً دقيقاً أنه قد أسلم في بريطانيا عشرون ألف بريطاني بسبب كتاب سلمان رشدي، فهل تصدقون؟ رجل ساقط قذر وصف بيت النبوة بأنه بيت دعارة، لقد وصل إلى هذا المستوى، والعالَم كله معه، ومع ذلك عشرون ألف بريطاني أسلموا بسبب هذا الكتاب، فالله عز وجل قال:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 112-113 ]

 لا تقلق على دين الله إنه دينه، والأمر كله بيده.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة الزمر: 63 ]

 وأعداء الدين في قبضة الله، في أية لحظة يلغي وجودهم، فإذا سمح لهم أن ينالوا من الدين فلحكمة قد لا نعرفها، لا تقلق ولا تحزن ولا تضعف، ولو كانت الهجمة على الدين شرسة، ولكن أنت مسلم عاقل هل سمح الله لك أن تنصر دينه أم لم يسمح؟ وهل منحك شرفًا أن تدعو إليه أم لم يمنحك؟ وهل سمح لك أن تكون جنديًا بالحق وأعطاك شرفًا أن تنصر دينه؟ وكل رجل، وأنتم أمامي جميعاً، كل منكم قادر على أن ينصر هذا الدين بطريقة أو بأخرى، فإذا كنت صادقاً فصدقك دعوة إلى الله، وإذا كنت أميناً فأمانتك دعوة إلى الله، وإذا كنت متقناً لعملك فإتقانك أيضًا دعوة، وإذا كنت أباً كاملاً فأبوَّتك دعوة، وإذا كنت امرأة صالحة فصلاحك دعوة إلى الله أمام مثيلاتك.
فلا تظن أن الدعوة هي إنسان يحمل الدكتوراه، ويعتلي منبرًا، ويلقي خطبة رائعة تهتز لها النفوس، لا، هؤلاء محترفون بالدعوة، وكل مسلم يمكن أن يكون داعية كبيرًا وهو صامت، باستقامته، وبإتقان عمله، بأبوته، وتربية أولاده، وصدقه، وأمانته، وحسن معاملته، وخلقه الحسن، أذكِّركم بحقيقة دقيقة، بقدر ما يكون أعداء الدين شرسين، وأقوياء، وأغنياء، وخبثاء، يجب أنْ نكون متسلحين بالعلم.
 ومن أروع ما قاله سيدنا عمر كلمة هي: لست بالخب ولا الخب يخدعني. أي لست من الخبث بحيث أَخْدَع، ولا من الغباء بحيث أُخْدع.

الدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة :

 الحقيقة الثانية: نحن في أمس الحاجة إلى دعاة إلى الله، ومرة قرأت مقالة ليس لها علاقة بالدعوة إطلاقاً، بل لها علاقة بالتموين، وهي في مجلة تموينية تابعة لوزارة التموين، قرأت المقالة فوجدتها منهجاً في الدعوة، المقالة هي أن باعة يغشون الناس، يبيعون بضاعة سيئة بأسعار غالية، فيسيئون معاملة الناس، فماذا تفعل وزارة التموين؟ أمامها طريقان، الطريق الأول طريق القمع، والطريق الثاني طريق التدخل الإيجابي.
 وطريق القمع أن ترسل الوزارة بعض الموظفين إلى هذه المحلات، وتكتب الضبوط، وتغلق المحلات، وتختمها بالشمع الأحمر، وتنقل الغشاشين إلى السجن، فهذه طريقة القمع.
 والطريقة الثانية طريقة التدخل الإيجابي، ونظرياً حتى أكون دقيقاً، إنه شيء غير عملي، بل هو نظري، وذلك بأن نفتح مؤسسة، ونبيع الناس أحسن البضاعة بأقل سعر، وبأطيب معاملة، فهؤلاء الباعة الغشاشون إن لم يقلدوا المؤسسة يموتون من الجوع، وهذا طريق آخر.
 ولو طبق الدعاة إلى الله - المسلمون النشطون إن صح التعبير - هذا المبدأ بتدخل إيجابي لا تهاجم هذا الإنسان، ولا تنتقد، ولا تجرح، ولا تطعن، ولا تقم بحملة، بل حسبُك أن تسكت، وطبق الإسلام، وادعُ إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأظهر ما في الإسلام من عظمة، وما فيه مِن قيم ومبادئ، ترَ الآخرين إن لم يقلدوك انزاحوا من دربك، من دون مشكلة، من دون فتنة، وتعصب، ومن دون مشاحنات، و خصومات، فالجميع سوف ينتهي، وهذا هو أسلوب التدخل الإيجابي، فأنت في بيتك كن قدوة فقط، تجد أفراد الأسرة قلدوك واحداً واحِداً، من دون عنف، وضمن دائرتك، أنت موظف في دائرة كن صادقًا، وأميناً، وخفيف الظل، أدِّ صلواتك بسرعة، مثل موظف في محل يقول: أنا ذاهب إلى الصلاة، فتجده يتغيب ساعة ونصفًا أو ساعتين، وعندما يُسأل يقول: لقد كنت أصلي، فأنت كرَّهت معلمك بالصلاة، غِبْ ربع ساعة وارجع فوراً، وصلِّ السنة والفرض وارجع فوراً، فلن تجد أية مشكلة، فكن إيجابياً، وإيجابيتك هي الدعوة إلى الله عز وجل.

على الإنسان أن يكون داعية إلى الله باستقامته وبعمله الصالح :

 أول نقطة هي يجب أن تكون داعية إلى الله بطريقة أو بأخرى باستقامتك، فاستقيموا يُستقَم بكم، وبعملك الصالح يُقتدى بك، وببيانك الواضح، وأسلوبك اللطيف.
 كنتُ في أمريكا العام الماضي، فجاءني سؤال من أخت كريمة، هو: أنا لا أفهم لم نهى النبي عن مصافحة الرجال؟ ونحن في موقف حرج نضطر أن نصافح، لم هذا التحريم وما حكمته؟ وهل من الممكن أن نتجاوز هذا الأمر؟
خطر في بالي أن هذا السؤال له جوابان: جواب فقهي، وجواب دعوي، الجواب الفقهي تقول: لا يجوز أن تصافح المرأةُ الرجلَ، وفعلاً هذا لا يجوز، لحديث أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ تَقُولُ:

(( جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ نُبَايِعُهُ، فَقَالَ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ ))

[ ابن ماجه عن أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ]

 وهنالك جواب آخر، إنه جواب دعوي، فقلت: الملكة في بريطانيا بحسب القانون البريطاني، لا يصافحها إلا سبعة رجال، لعلو مكانتها وقداستها، والمرأة المسلمة كالملكة، لا يصافحها في نص القرآن الكريم إلا سبعة رجال، الحكم واحد، والجواب ممنوع أن تصافحي إلا المحارم، والثاني هو الجواب نفسُه، ولكن الثاني فيه تلطف، فإنسان يعيش في بلد متفلت، والمصافحة شيء بسيط، والإسلام نهى عنه، فيمكن لك أن تنقل الدين نقلاً رائعاً، مبسطاً، محبباً، فلذلك فإنّ العالم الإسلامي اليوم في أمس الحاجة إلى الدعاة، أكثر مما هو بحاجة إلى علماء متبحرين في العلم، ولكن لا يحسنون نقل الحق إلى الآخرين، فبقدر ما تكون مخلصاً لله عز وجل فسيعطيك الله الأسلوب، والطريقة، والبيان المقنع الواضح، الذي يحبب الناس بك.

على الداعية أن يكون قدوة بأخلاقه وحرفته واستقامته :

 أيها الأخ الكريم، نقطة مهمة، يجب أن يحبك الناس، بكونك صادقاً، بكونك أميناً، وواضحاً، فكل واحد منكم يجب أن يكون قدوة، ومثلاً، وداعية، وبطريقة أو أخرى ما من إنسان إلا وحوله أناس يرونه كبيراً، فكل واحد منكم بأسرته، أنت لك مسجد، ومرجعية دينية، وأنت محسوب على المؤمنين، ومحسوب أنك شيخ، فلو أن أحدهم له درس علم يقول لك والده: أصبح ولدنا شيخاً.
 فأنت محسوب على المؤمنين، لذلك هؤلاء الذين حولك هم أمانة في عنقك، وبإمكانك أن تتعلم، وأن تُعَلِّم، وبإمكانك أن تَفْهَم، وأن تُفَهِّم، وأن تتلقى، وأن تُلقي، وأن تأخذ وأن تعطي.
 وفي درس الجمعة البارحة تُوجد آية كريمة:

﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾

[ سورة البقرة: 63]

 فهناك معنى غفلت عن توضيحه في درس البارحة، وهو أنك تأخذ من أجل أن تعطي، فإنسان تلقى العلم فلِم تلقاه؟ من أجل أن يُلقي.

﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي ﴾

[ سورة البقرة: 151-152]

 كما هديناكم اهدوا غيركم، وهذا المعنى دقيق، كما أرسلنا فيكم رسولاً فاذكروني أذكركم، فكل رجل منكم يجب أن يكون داعية إلى الله عز وجل، ونحن في أمس الحاجة إلى الدعاة إلى الله، ولا سيّما في زمن الفتن والشهوات والضلالات والشبهات والخصومات، وفي زمن ضياع الحق، وسيطرة قوى الشر في العالم، وكلها ظروف صعبة، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى الدعاة، وكلُّ رجل منكم يجب أن يكون داعية، وأن يكون قدوة، بأخلاقه وحرفته واستقامته، وهناك قصص كثيرة، واللهِ إنها مشرفة من إخواننا بسبب مواقفهم الأخلاقية والدينية، ومواقفهم الواضحة، وحولهم أناس كثيرون، هذه هي النقطة الثانية.

ارتقاء الإنسان عند الله باتساع دائرة اهتمامه :

 لا تقلق على هذا الدين، ولكن اقلق هل سمح الله لك أن تنصره؟ وهل منحك شرفًا أن تكون جندياً له؟ وإلا ما قيمة هذا الانتماء؟ وما قيمة هذا التلقي؟ وربنا عز وجل حينما قال لك:

﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾

[ سورة البقرة: 63]

 فلماذا ينبغي لكم أن تأخذوا؟ من أجل أن تعطوا، فالحياة أخذ وعطاء، والحكمة التي بين أيدينا وهي الحكمة الخامسة من حكم ابن عطاء الله السكندري وهي مشهورة جداً: "اجتهادك فيما ضُمِن لك وتقصيرك فيما طُلِب منك، دليل على انطماس البصيرة منك "، والناس يجتهدون فيما ضمن لهم، مقصرون فيما طُلِب منهم، فالهمُّ كله من الدنيا، والجهد كله من أجل الدنيا، وطاقة الإنسان كلها من أجل الدنيا، وعقله، وذكاؤه، وحيلته كلها كذلك، فمن أصبح وأكبر همِّه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قُدِّر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة.
 انظر ما الذي يهمك؟ وما الذي يقلقك؟ وما الذي تسعى إليه؟ هل الدنيا أم الآخرة؟ فحينما تفتح عينيك في الصباح ما الذي يأتيك أوَّلاً أهموم الدنيا أم طلب معرفة الله عز وجل؟
 تخيل سيدنا عمر طُعِن وهو يصلي، فأصابته غيبوبة، فلما صحا أول كلمة قالها: هل صلى المسلمون الفجر؟ لم يطمئن على صحته، يا ترى أنا مصاب بشيء خطر؟ فكيف كان التحليل؟ لا، قال: هل صلى المسلمون الفجر؟ قل لي ما الذي يهمك أقل لك من أنت.
 وهناك إنسان تهمه الدعوة، وإنسان يهمه إخوانه، وكل إنسان له عند الله مكانة بحسب اهتماماته، ولعل النبي عليه الصلاة والسلام همُّه أمر الخلق جميعاً، ولذلك فهو أعلى إنسان، لأنه شَغَلَ اهتمامه بالخلق جميعاً، وهو أرحم الخلق بالخلق، وكلما اتسعت دائرة اهتمامك ارتقيت عند الله.
 وهناك شخص والعياذ بالله تهمُّه نفسه، يأكل بمطعم، ولا يوجد في بيته طعام، فأكَل ولم يهمَّه أحد، فهذا وحش وليس أباً، إذْ يهمه أن يأكل وحده، ولا يعبأ بمن أكل ومن لم يأكل، وإنسان آخر تهمه زوجته وأولاده ، وإنسان اهتمامه يشمل أقرباءه، أخاه وأخته وزوج أخته وأولاده المتزوجون وأخواته، فاهتمامه أكبر، وكلما اتسعت دائرة الاهتمام ارتقيت عند الواحد الديّان.

قيمة الإنسان عند الله بقيمة عمله الصالح :

 ولذلك فالإنسان حينما يضمن له الرزق.

﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة الزخرف: 32]

 دقق في قوله تعالى:

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾

[سورة النجم:39]

 فليس لك إلا ما سعيت، والآية دقيقة، ولو أن الله جل جلاله قال: للإنسان ما سعى، وله ما لم يسعَ، لا يمنع أن يكون له ما لم يسعَ، أما حينما قال الله عز وجل:

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾

[سورة النجم:39]

 فليس له حينئذٍ إلا سعيه، وقيمتك عند الله بقيمة عملك الصالح.

﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾

[ سورة المؤمنون: 100]

 فالإنسان يندم على أهم شيء في الدنيا، حينما يغادرها يندم على أهم شيء فيها وهو العمل الصالح، وقيمتك عند الله بعملك الصالح، وكلما ارتقيت عند الله قدر الله على يديك العمل الصالح.

من أحبّ ألا يموت فليترك صدقة جارية :

 ذات مرة ألقيت خطبة من فضل الله تعالى كانت ناجحةً، رجعت فيها إلى تفسير القرطبي، هناك آية شرحها شرحًا رائعًا، فنقلت ما في التفسير إلى الأخوة الكرام، وكان لها أثر بالغ، وبعد نزولي من المنبر قلت: هذا الإنسان قد مات من ألف عام، وانتفع الناس بتفسيره حتى اليوم، وأدركت معنى الصدقة الجارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له، فالصدقة الجارية، مسجد أُسس، أو ميتم، أو مستشفى، أو معهد شرعي، أو سبيل مثلاً، أو كتاب قيّم، أو شريط مؤثِّر، أو ابن صالح، وهذا هو الذي يبقى مستمرًا بعد أن تفنى، فمن أحب ألاَّ يموت وذلك سهلٌ عليه - بالمعنى العميق - فليترُكْ صدقة جارية.
 ومرة من باب الطرفة سألت طلابي: من يذكر لي اسم تاجر عاش في دمشق عام ألف وثمانمئة وخمسة وستين وله علامة تامة؟ فكروا وفكروا وفكروا فلم يعرفوا أحدًا، فقلت لهم: وأنا لا أعلم مثلكم! كم مرة نذكر اسم سيدنا خالد؟ وسيدنا عمر، وسيدنا الصديق، وسيدنا صلاح الدين، وعمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام النووي، والإمام البخاري....؟ مئات ألوف المرات تذكر كل يوم هذه الأسماء، لأنهم تركوا علمًا، وعملاً، وبطولة.
 فصلاح الدين الأيوبي ردّ بشجاعته وإيمانه وبجنود قِلة سبعًا وعشرين حملة أوربية، وكان مسلماً، وشريفًا، ورحيمًا، ولم يفتك، ولم يقتل قتلاً تعسفياً، ولذلك يأتي الناس من أطراف الدنيا ليزوروا قبره، ويقفوا أمامه بكل أدب واحترام.
 وقد ترى أحياناً جنازة لا يوجد فيها أحد أبداً، فبشَّارُ بن بردٍ حينما مات - مع العلم أنه كان شاعراً - ما مشى في جنازته أحد ولا إنسان، إنّه شاعر هِجاء، وغَزل، له ترتيب معين، فالإنسان قيمته عند الله بقيمة عمله الصالح، فاجتهادك فيما ضُمِن لك، وتقصيرك فيما طُلِب منك، دليل على انطماس البصيرة منك.
 وليس لديك الوقت لتعرف طريق سعادتك، إذا لم يكن لديك الوقت لتعرف طريق سلامتك، وإذا لم يكن لك الوقت لتعرف منهجك في الحياة، لديك وقت لأي شيء؟ تخيل طبيبًا أحضر معه بورد، وفتح عيادة بالدَّيْن، وعليه مليونا ليرة، ومعه أعلى شهادة ومتخصص، وكاتب على الإعلان أنه يفتح من السابعة حتى التاسعة، وجاءه مريض الساعة الثامنة، فقال له: إنني مشغول ليس لدي وقت! فلماذا إذاً أنت تفتح ولماذا أنت متفرغ؟ جاء ضمن وقت العيادة، وأنت بحاجة إلى المال، وعليك دين، وتقول ليس لديك وقت؟ مستحيل، وهل لديك عمل أهم من عملك؟ هذا عملك.
 فالإنسان يمكن ألاَّ يكون لديه وقت ليحضر مجلس علم، أو ليعرف الحقيقة، أو ليعمل عملاً صالحاً، أو ليفهم القرآن، فكلمة ليس لدي وقت، أو أنا مشغول، أنا أعجب لها أشد العجب، فإنسان يأتي إلى المسجد على راحته، و ليس لديه أي شيء، لقد شعر بالملل، فيأتي إلى المسجد، لوجود درس لطيف وممتع، فنحن نلهو ونسمعه؟ فإذا جاءه شخص تافه تلغي الدرس وتؤجله، وإذا استمر الهاتف وقتاً يقول لك: لن ألحق، فالدرس قد بدأ، وإذا كان هناك عمل يمكن إنجازه بعد شهر ألغى الدرس وانشغل، وهذا الذي يأتي من دون تصميم، طالب علم من الدرجة العاشرة، وليس من الدرجة الأولى، فمن الدرجة الأولى ينظِّم حياته وفق دروس العلم، لأنّ هذا الوقت لله عز وجل.
فالله عز وجل له عمل في الليل لا يقبله في النهار، ولله عمل في النهار لا يقبله في الليل.

العمل الذي يمتص كل وقت الإنسان خسارة محققة :

 نقطة ثانية، العمل الذي يمتص كل وقتك خسارة محققة، ولو كان دخله بالشهر مليونًا، فإذا امتص العمل كل وقتك فقد ألغى وجودك، وألغى إنسانيتك، فتجد الإنسان يركب سيارته، ويصل إلى منطقة الحجاز، فيقف عند الإشارة، وزوجته إلى جانبه، فانحنى وأصيب بأزمة قلبية حادة، ولحكمة بالغةٍ بالغة كان صديقه في سيارة ثانية فصرخت زوجته، فنزل الصديق وحمل صديقه ووضعه في المقعد الخلفي، وصفَّ سيارته، وأخذه مع زوجته لإسعافه إلى مشفى راقٍ بالعناية المشددة، وبعد يومين وجد نفسه مرتاحًا، فطلب مسجلة وقال على شريط التسجيل: المحل الفلاني ليس لي إنما هو لأخوتي، والدكان الفلانية لأحد الورثة، فيبدو أنه اغتصب كل أموال والده، وحرم أخوته، فلما جاءته هذه الأزمة الشديدة، أراد أن ينجو من عذاب الله بإرجاع الحق لأصحابه، فكي يسرع ولا يتأخر قام باعترافه على شريط تسجيل، وبعد أسبوع انتهت هذه الأزمة، وعاد وكأن ليس به شيء، أين الشريط أعطوني إياه أخذه وقام بكسره!
 جاءت أزمة ثانية بعد ثمانية أشهر وكانت القاضية، فالأُولى جعلها الله إنذارًا مبكرًا، فأحياناً ربنا عز وجل يعطي إنذار مبكراً، فذهب إلى الحج وعاد، ولديه مطعم يباع فيه خمر فتاب، وعندما تاب هبطت غَلّته للثلث، وتحمل حوالي ثلاثين يومًا، ثم أرجع الخمر، بعد اثني عشر يوماً مات، لقد مات عاصيًا، فقضية الإنسان أن يعامل الله عز وجل، وربنا عز وجل إذا تبت إليه فلا تنتظر أن تصبح مليونيرًا بعد ساعة، بل انتظر رضاه عنك فقط، فالطاعة لها ثمن، ومن المضحك أنك عندما تطيعه تأمل أن تصبح غنيًا فوراً، لا، لو كان الأمر كذلك لأطاعه أعداؤُه لينالوا المال، فأطِعه ولا تعلق أي عطاء دنيوي على طاعته، ويكفيك فلاحاً أنك مطيعٌ له فقط، فهو بحكمته البالغة يعطيك أو لا يعطيك، فاجعلْ اجتهادك فيما ضمن لك، ولا تجعل الدنيا أكبر همك، ولا مبلغ علمك، وتقصيرك فيما طُلِب منك، مطلوب منك أن تعرفه، وأن تعمل عملاً صالحاً، وأن تستقيم على أمره، فاجتهد فيما هو مضمون..
 ذات مرة عندما كنا صغارًا في المدارس، كنت في ثانوية هي الثانوية الأولى في القطر، ثانوية التجهيز الأولى، فهذه المدرسة مهيأة أن يكون الطلاب جميعاً داخليين، فالقسم الخلفي الذي هو الآن ابن خلدون كان مطعمًا كبيرًا، فيه طباخون ماهرون، والطابق العلوي كان مهاجع للنوم، وغرف مطالعة للدراسة، وفيها أضخم مكتبة في دمشق، إنها التجهيز الأولى، فإذا أتيح للطالب أن يكون في هذه الثانوية من حلب، أو من حمص، أو من الحسكة، أو من دير الزور، أو من أي مكان فكأنه ذهب بعثة، وكانت تقبل طلابًا من المحافظات، وفيها مسجد، ومستوصف، ومطبخ راقٍ، وقاعات مطالعة، ومهاجع، وهذا الشيء كان قديماً في سنة الثلاثينات، واسمها التجهيز الأولى، كان هناك نظام دقيق في المدرسة، طباخون مهرة، وتوقيت دقيق، ووقت للراحة، وللنوم، و للمطالعة، وللطعام، فالطالب الداخلي في هذه الثانوية مطلوب منه أن يدرس، وما سوى ذلك مضمون له، فطالب من الطلاب ترك قاعة الدراسة وترك المطالعة، ونزل إلى المطبخ، وأخذ يسأل: هل قشّرتم البصلات؟ وهيأتم السَّلطة؟ والشوربة؟ فقالوا له: اذهب لعملك، فهذا ليس عملك، وفي الساعة الثانية ستجد الطعام جاهزًا بأعلى درجة، لقد ترك مهمته الأساسية في الدراسة وطلب العلم، وحشر أنفه مع البصل، فهذا معنى الحكمة، "اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل انطماس البصيرة منك، وهو مطلوب منك أن تعرفه".

من طلب العلم تكفل الله له برزقه :

 والله أيها الأخوة، هناك أشياء نعدها مستحيلة، يقول الناس: من رابع المستحيلات، وأشخاص يقولون: من سابع المستحيلات، أن تطلب العلم بإخلاص ثم لا تيسر أمورك في الدنيا، وقال: الإمام أبو حنيفة سبب طلبه للعلم أنه قرأ حديثاً: " من طلب العلم تكفل الله له برزقه " وطبعاً لن يجد ليرة ذهب تحت وسادته كل يوم، لكن الله سوف ييسر له عملاً دخله ووقته معقول، الإنسان عمله ثماني عشرة ساعة، وبعض الأعمال ست ساعات أو أربع ساعات، أو خمس ساعات، ودخلها جيد، فكل إنسان طلب العلم، فالمكافأة له من الله عز وجل أن ييسر له عمله، فدوامه معقول، إذْ يتيح له أن يطلب العلم، وجهده معقول، وهذا معنى: " من طلب العلم تكفل الله له برزقه " فهو خلقك لتعرفه، فهل مِن المعقول أنْ يمنعك من أن تعرفه؟ وهل مِن المعقول أن يشغلك بالدنيا لدرجة أنه لا يسمح لك أن تعرفه؟ فهذا شيء فيه تناقض، خلقك لتعرفه، ولتسعد به، فأنت حينما تطلب العلم الشرعي، وأن تكون طالب علم، ومستقيماً على أمره، ييسر لك عملك، ولك معاملة خاصة، فأنا لا أقول هذا من باب التعالي، شخص يقول لك: أنا لي معاملة خاصة، لا، لكن أقول لك من باب القانون الإلهي، ومن باب سنّة الله في خلقه، إذا طلبت العلم بإخلاص فلك معاملة خاصة، فقل لي: هل معك دليل من القرآن؟ فمن معه دليل على هذه الفكرة؟ إذا طلب الإنسان العلم الشرعي واستقام، وطلب مرضاة الله عز وجل، فله معاملة خاصة، ومستحيل أو من سابع المستحيلات أن يعامل كما يعامل بقية الناس، الدليل:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 فالدنيا والآخرة مفروغ منها، سواء محياهم، أي زواج المؤمن كزواج الفاسق؟ لا، فهل عمل المؤمن كعمل الفاسق؟ لا، وهل تجارة المؤمن كتجارة الفاسق؟ لا، وهل وظيفة المؤمن كوظيفة الفاسق؟ لا، وهل إذا سافر المؤمن كسفر الفاسق؟ لا، هناك فرق كبير، يجب أن يكون هذا المعنى صارخاً لديك.

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 هذه الآية أكبر دليل، واللهِ أيها الأخوة: إن هذه الآية لو تقرأها في اليوم ألف مرة فلن ترتوي منها، ولك معاملة خاصة، واللهُ عز وجل لا يحكمه شيء، ويوجد ظروف صعبة، لكنك مستثنى، ويوجد ضيق شديد، وأنت مستثنى، وكساد شديد ولا تصيبك خسارة، وصعوبات بالغة ولا يمسك شيء، وعقبات، وأنت في عافية، وضيق خانق أو انقباض وأنت في سلامة.

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

سعادة الإنسان و تيسير أموره باستقامته :

 أخواننا الكرام، أحياناً يحلو لي أنْ ألتقي بأخ طاهر مسلم، أعرف أنه كان يعاني من أزمة صعبة، فأقول له: طمئنِّي، فيقول: والله كل شيء انحل، والله عشرات المئات، بل مئات المرات أطمئن على أخ أعرف أنه كان يعاني أزمة شديدة، إما صحية، أو مالية، أو اجتماعية، أو أسرية، فلما اصطلح مع الله عز وجل أزيحت.
 فاسمحوا لي بمثل أضربه كثيراً، إنسان انحرف ، فالله عز وجل يقيض له كابوسًا، ولا يوجد قوة تزحزحه عنه، والكوابيس أنواع، كابوس مادي، وكابوس معنوي، واجتماعي، وأسري، وصحي، ومهما حاول لا يستطيع، لأن الله سلطه، في حالة واحدة يزاح عنه هذا الكابوس إذا استقام.
 وهذا ملخص الملخص، وينحرف الإنسان فيأتيه كابوس، ويستقيم فينزاح عنه، فسعادتك بيدك، وتيسير أمورك بيدك، وحل مشكلاتك بيدك، بقوانين إلهية، وأكبر قانون:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[سورة النساء: 147]

من استقام على أمر الله سعد في الدنيا و الآخرة :

 قصة أختم بها الدرس، ويمكن عمر هذه القصة خمس وعشرون سنة، أول ما دَرَّسْت في هذا المسجد كان لنا درس وحيد، في يوم الأحد، ولم يكن هناك درس يوم الجمعة، وهذا في عام أربعة وسبعين، وفي نهاية درس من الدروس قال لي أخ: أنا بعثني فلان لعندك، فقلت: أهلاً وسهلاً، وهل يمكن أن أزورك في البيت؟ قلت له: تفضل، وكان منزلي بالعفيف، فأخذته معي إلى المنزل، تفضل، قال لي: أنا مهندس خيوط، درست في رومانيا، ومعي مرض الصرع، وقال لي: تأتيني هذه الحالة بالأسبوع ثلاث مرات، أو أربعًا، أو مرتين وقد حدث ذلك لي مرة في السيارة، ومرة أمام الموظفين، ومرة بالبيت أمام أولادي، وأنا من أشقى الناس، فهل عندك حل لهذا المرض؟ قلت له: أنا لست طبيبًا! أنا رجل أحضّر درسي، وألقيه على الإخوان، والحل يجب أن تذهب إلى الطبيب، قال: لا أنا أريد الدين، ما رأي الدين بهذا الموضوع؟ هل لي في الدين حلّ؟ ويبدو أنّ معاناته شديدة، مرض ليس له دواء، ويكون راكباً في السيارة يرمى في الأرض، ويظهر الزبد من فمه، أمام موظفيه أحياناً، وهو شاب جميل الصورة، ويتضح أنه ذكي، وأنا تورطت وقلت له: واللهِ أنا معلوماتي أن الله عز وجل لا يرسل لإنسان شيئًا مزعجًا بلا سبب، والدليل قوله تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[سورة النساء: 147]

 والله كأنني ألقيت عليه قنبلة، قال: إذا أنا استقمت وأرضيت الله أشفى من مرضي؟ قلت له: أنا هذه معلوماتي.

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

 

[سورة النساء: 147]

 وأنت معذب، وشيء صعب جداً، أما بحسم القرآن، الله ليس له مصلحة أن يعذب إنسانًا بلا سبب، وهذا ما ظهر مني بالكلام معه، وأنا اعتبرتها ورطة، قال: ماذا أفعل؟ من شدة تحرقه أخذ ورقة؟ قلت له:غض بصرك، فكتبها، قال: أنا ألعب بالطاولة، قلت له: لعب الطاولة حرام، فكتبها، قال: أنا أسكن عند جيران، قلت له: الاختلاط حرام، قال: سأبحث عن بيت، قال: زوجتي سافرة، قلت: يلزمها حجاب، وأذكر أنه قدم له منديلاً هدية، فبقي موضوع البيت، يسكن في غرفة عند جيرانه، واختلاط، مطبخ واحد، وحمام واحد، والله تيسر له منزل خلال أسبوع، ذهبت لزيارته في البيت، وأخذت له المنديل، فأنا بعد أن قلت له قوله تعالى:

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

 

[سورة النساء: 147]

 كأنني ندمت على هذا الكلام، فلو جاءته النوبة بعد ساعة، ماذا ستقول له؟ هذا سيستقيم حسب كلامي، مرض عضال، لو جاء بعد ساعة، ماذا أقول له؟ والله انتظرت إلى الأحد الثاني، فجاء وسلم عليَّ، فقلت له: طمئنِّي؟ فوالله الذي لا إله إلا هو قال: هذا أول أسبوع لم أصب بأي شيء إطلاقاً، ممتاز، والأحد الثاني قال: الحمد لله لم أُصب بشيء، وفيما أذكر سبعة أسابيع أسأله، ويجيب: بأنه لم يصب بشيء، والحمد لله، هو ملتزم تماماً، وما قلته له اعتبره قانونًا، وتأمن له البيت خلال أسبوع، من صدقه، وحجب زوجته، وترك الطاولة، وغض بصره، وترك الاختلاط، وفي الأحد الثامن لم يأتِ إلى الدرس، خير إن شاء الله، أنا قلقت، قلت: إن الحالة عادت له، فجاء الأحد التاسع طمأنني، قال: لقد عادت، ولكن لا تقلق على مبدئك، أنا زرت صديقًا، وجاءت زوجته وجلست معنا، وضحكنا قليلاً، وذهبت من عنده فعاودتني في الطريق والله، ولقد رأيته من عدة سنين في حلب، وسلمت عليه، وقد عامل الله بصدق، والشيء ليس سهلاً، فهذا الصرع تخرش في الدماغ، ومرض العمر أحياناً، والله سألته قال: الحمد لله، ويبدو أنه التزم تماماً، وقال:جاءته نكسة، ولكنه عرف السبب، وقال: لا تقلق على مبدئك، كلامك صحيح، ولكن أنا أخطأت هذه الجمعة، وعاودتني هذه الحالة.
 فإذا عاملت الله بهذه الطريقة وأنت مخلص أنا لدي قرآن.

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[سورة النساء: 147]

 أخ من إخواننا والله أحترمه كثيراً، وأحبه كثيراً، قال: أخطأت خطأً، وإنه خطأ في عمله، كان عليه ألاَّ يفعل هذا، لديه ابن في الصف الرابع الابتدائي من طلاب معهدنا، قال له: بابا أنت لماذا فعلت هذا؟ يجب ألاَّ تفعل هذا الشيء، قال: خجلت، فهذه البضاعة التي يجب ألاَّ يبتاعها، رأسمالها مئة وعشرون ألفًا، وربحها مئة وعشرون ألفًا، قال: فرميتها بالمقطع وألغيتها كلها، باختياره ألغى صفقة بمئتين وأربعين ألفًا، والله عز وجل يرقى به ويعوض عليه، فقد عامل الله بصدق، والله هو الغني، وهو القدير والمعطي، وإذا أعطى أدهش.

التوحيد والإيمان الحق ألا ترى مع الله أحداً :

 أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في هذه الحكمة: اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك دليل انطماس البصيرة منك، والعكس يجب أن تجتهد فيما طلب منك، وترتاح وتطمئن فيما ضمن لك، الله عز وجل ضمن لك.
 مرة دخل أخٌ كبير في السن، عمره حوالي ثمانين سنة، ولدي قطعة كاتو قدمتها له مع فنجان من الشاي، فأمسك الشوكة أول قطعة يقطعها دعا دعاء، واللِه اقشعر جلدي منه، قال: سبحان من قسم لنا هذا، ولا ينسى من فضله أحداً، أنا تأثرت عند قوله " ولا ينسى من فضله أحداً "، والله خلقك، ولك عنده حق، ويجب أن يرزقك، ويكرمك، ويهيئ لك زوجة صالحة، ويهيئ لك مأوى تسكن فيه، لا تقلق، هو خلقك وهو أعلم بما تحتاج، ولكن أنت كن له كما يريد ليكون لك كما تريد، قال: عبدي كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، ولا تكلف خاطرك وتقول لي ماذا يلزمك، كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلمني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.
 لعل الله عز وجل يرحمنا جميعاً بهذه الحقائق، وما مِن إله إلا الله، ولا محرك إلا الله، ولا فعال إلا الله، ولا قوي ولا غني إلا الله، ولا رافع ولا خافض إلا الله، ولا معز ولا مذل إلا الله، ولا معطي ولا مانع إلا الله، وهذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والإيمان الحق ألا ترى مع الله أحداً، ولو كنت تجد أمامك مليون شخص فلا ترى مع الله أحداً.

التولي و التخلي :

 أخ من إخواننا الكرام متفوق باختصاصه تفوقًا كبيرًا، اختصاص إلكتروني، فطُلب لعمل، ويبدو أن صاحب المعمل شديد، وشدّد عليه بأن يراعيه، قال: قلت له كلمة خطأ، قلت له: أنا لست بحاجة إليك، وأنت بحاجة إلي، وأنت بالخيار، قال له: حسناً تعال، قال: أنا كل عمري أحل العطل في الجهاز المعقد، فالله آتاه تفوقًا كبيرًا، قال: في ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو ساعة، أو ساعتين، وقد عملنا في هذه المشكلة ثمانيَ ساعات، ولم يتضح لي شيء، وثاني يوم ثماني ساعات ولم يتضح لي شيء، وصاحب المعمل يحاسب على الإنجاز، وليس على عدد الساعات، وثالث يوم ثماني ساعات لم يتضح شيء معه، أقسَمَ بالله ثمانية أيام، وكل يوم ثماني ساعات، يأتي الساعة الثامنة ويذهب الساعة الثالثة، ولم يعرف أين العطل، قال: أنا أعتذر سآتيك بعد يومين، راجعت نفسي، ماذا تكلمت بشيء خطأ؟ فالله لم يفتح علي، فاستعرض فوجد هذه الكلمة أنه قال: أنا لست بحاجة إليك، وأنت بحاجة إلي، إنْ أعجبك سأعمل وفي ذلك تكبُّر، قال: تبت إلى الله، ودفعت صدقة، وذهبت في اليوم التاسع فخلال ربع ساعة انحلت، قضية كمبيوتر معقدة.
 فالإنسان عندما يعتدُّ بخبرته وبعلمه، فهذا نوع من الشرك، وإذا افتقر إلى الله عز وجل فالله يتولاه، وعند الله عز وجل باب الانكسار، باب ليس عليه ازدحام أبداً، أما باب الاعتداد فعليه ازدحام شديد، ومعظم الناس يعتدُّون بعلمهم، وثقافتهم، وخبرتهم، ومالهم، ونسبهم، وحسبهم، وتفوقهم، ومؤلفاتهم، أما المؤمن الصادق فيعتد بالله، وليس بنفسه، ودائماً وأبداً نهاية الدرس إذا قلت الله يتولاك، وإذا قلت أنا، يتخلى الله عنك، وأنت لست أكرم على الله من الصحابة، الذين قالوا: نحن في معركة حنين، فأخجلهم الله.

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 25]

 والصحابة الكرام، أعلام الأمة، الذين اختارهم الله لنبيه، وفيهم رسول الله، ولوا مدبرين!

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 25]

 وفي بدر قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 123 ]

 فآخر كلام تقول أنا يتخلى عنك أم تقول الله فيتولاك؟ فأنت بين التولي والتخلي، وهذا الدرس درس بدر وحنين يقع معك في اليوم عشر مرات وتسمع من بعضهم يقول: هذا اختصاصي، ولا تفلح فيه أنت، وهذا الشيء أعرفه، قال يا رب: عليَّ الجبر وعليك الهندسة، طالب ضعيف بالهندسة ولكنه متفوق بالجبر، فرسب بالجبر فقال يا رب: أيضاً عليك الجبر، حتى طلاب العلم أحياناً يقولون: هذه مادة أنا أفهم فيها فلا ينجح، لي صديق دراسته غير معقولة، لكنه كان يؤثر الدراسة على الصلاة فجاء سؤال في التاريخ مؤتمر برلين أين عقد؟ فقال: عُقِد في باريس، لم ينتبه للاسم، وهو مكتوب برلين، فأين سيعقد برأيك؟ فأحياناً الإنسان تنطمس بصيرته في الامتحان، ويتحدث بكلام مضحك ليس له معنى إطلاقاً، وإذا وفق الله إنساناً فإنّه يعطيه أوضاعًا عالية.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور