وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة ص - تفسير الآيات 45 - 47 للأنبياء مهمتان مهمة التبليغ ومهمة القدوة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، آيات سورة ص مُتَنَوِّعة جدًّا، فَمِن هذه الآيات قوله تعالى:

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (45) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (46) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (47)﴾

[سورة ص]

الأنبياء لهم مُهِمَّة كبيرة في الحياة الدنيا، والمهمَّة الصغيرة أن يُبلِّغوا أما المُهِمَّة الكبيرة أن يكونوا قُدْوةً لأتْباعِهِم، فأنت لن تُصَدِّق الحق إلا إذا رأيْتَهُ مُطَبَّقًا في إنسان فالإنسان المسْلم المُتَحَرِّك أمامك، والذي يتكلَّم ويعْمَل، ويُعْطي ويمْنَع ويصِل ويقْطَع، ويرْضى ويغْضَب ؛ كلّ هذا وِفْق منْهَج الله تعالى، فهذا المسْلِم المُتَحَرِّك أقْوى مِن الأفكار النَّظَرِيَّة لذا قالوا: القَول قرآنٌ صامِت، والقرآن كوْنٌ ناطِق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنًا مُتَحَرِّك، فهذه السيِّدة عائشة تصف النبي عليه الصلاة والسلام: كأنَّه قرآن يمشي فوق الأرض...." مائة ألف مُصْلح اجْتِماعي، ومائة كاتِب وألف خطيب، لا يُساوي هؤلاء جميعًا حركة النبي، لأنَّ النبي الكريم لا يُمْكن أن تَجِد مسافةً بين أقوالهِ وأفعاله، هو القُدْوَة، وقد ذَكَرْتُ البارحة أنَِّ معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فرْضُ عَينٍ لأنَّ الله جعلهُ أُسْوَةً لنا، وهنا قال تعالى:

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44)﴾

[سورة ص]

لو أنَّ الله عز وجل أنْزَل الكُتُب من دون أنبياء ؛ أفكار نَظَرِيَّة لا قيمة لها، أما الناس يَرَون رأْيَ العَيْن يُنْكِر ذاته من أجل الآخرين، ويشْقى مِن أجل أن يسعَدوا، ويفْتَقِرُ مِن أجل أن يغْنَوا، هذا الإنسان الذي طبَّق الدِّين مائة بالمائة هو الذي يشُدُّنا إلى الدِّين، ونحن الآن لو أردْنا أن نُطَبِّق هذه القاعدة، لا يوقظنا كتاب عميق، ولا شريط، يوقِظُنا إنسانًا مُطَبِّقًا للأحكام الشَّرْعِيَّة مائة بالمائة، قال تعالى:

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44)﴾

[سورة ص]

فأنت قد تُحِبُّ المُحْسِن ولا تحْتقِر فِكْرَهُ، وأحيانًا تُقَدِّر فِكْرًا عميقًا ولا ترى صاحِبَهُ مُطَبِّقًا لِما يقول: فأنت في شَكّ، وأحيانًا ترى إنسانًا تقول: ليْتَ عِلْمَهُ كأخلاقِه ! له خرافات وشَطَحات، ترى أحدهم مُتَفَوِّقًا في العِلم أما إذا عامَلْتَهُ بالدِّرْهم والدِّينار يُخَيِّبُ عِلْمكَ، أما الأنبياء فالله عز وجل كمَّلَهم مِن كلّ جوانِب شَخْصِيتهم، والحقيقة أنَّه لا ينْصر هذا الدِّين إلا من أحاطَهُ من كلِّ جوانِبِه، فإذا تفوَّقت في العِلم وقصَّرْتَ في العمل تسْقط، وكذا العكس، فأيُّ شيءٍ تُقصِّر فيه يجعلك تسْقط منه.
أيها الإخوة الكرام ؛ ثلاثة خُطوط ؛ خطّ العِلْم، وخطُّ العمل، وخطُّ العِبادة، فإن لم تتحرَّك على هذه الخُطوط مُجْتَمِعةً فلن تتفوَّق، وإن تحرَّكْت على خطِّ واحِدٍ تكون مُتَطَرِّفًا، فالغُلُوّ في الدِّين أن تأخذ فرْعًا في الدِّين وتُضَخِّمَهُ، أو أن تأخذَ كُلِيَّةً مِن كليَّات الدِّين وتَجْعَلها الدِّين كلَّه أما حينما تتحرَّك وِفْق منْهجٍ عِلمي، ووفْق منهجٍ في الذِّكْر والعبادة والعمل فأنت الآن تتفوَّق، ولا ينْصر هذا الدِّين إلا من أحاطَهُ مِن كلّ جوانِبِه، ونريد أن نكون مسلمين كما كان أصْحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كانوا رُهبانًا في الليل فرْسانًا في النَّهار، وبِقَدْر تألُّقِهِم العِلمي بِقَدْر صفائِهِم النَّفسي، فالمنْهج إذًا وسَطي، قال تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾

[سورة البقرة]

أما التَّطَرُّف أن ينْمو جانِبٌ على حِسابٍِ جانبٍ، نحن الآن بِحاجة أن نتحرَّك وِفق كليَّة عِلْمِيَّة، وكليَّة سُلوكيَّة، وكليَّة جمالِيَّة على قدم المساواة مِن أجل أن نتفوَّق، وإلا نقَعُ في التَّطَرُّف، قال تعالى:

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44)﴾

[سورة ص]

ما اتَّخَذ الله وليًّا جاهِلاً، ولو اتَّخذَهُ لعلَّمَهُ، فيَجِبُ أن تعلم، ويجب أن تعْمَل، ويجب أن تتَّصِل بالله تعالى فأنت تتَّصِل بالله مِن أجل أن تسْعَد وأن تعمل مِن أجل أن ترْقى ؛ ففي المجتمعات المادِيَّة هناك مقاييس كبيرة لِتَقييم الناس فَمِقياس الناس مِقياس مُهِمّ جدًّا، ومِقياس السُّلطان والقوَّة، ومِقياس الذَّكاء والفصاحة والوَسامة والنَّسب ؛ هذه كلُّها لم يعبأ الله بها، ولم يذْكرها، إنَّما اعْتَمَدَ مِقياسَين فقط ؛ العِلْم، قال تعالى:

﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾

[سورة المجادلة]

وقال تعالى:

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(9﴾

[سورة الزمر]

هناك قيمة ترقى بها عند الله، أما بالمال ترقى بِهِ عند الناس، وكذا الذَّكاء والسُّلطان، والوَسامة، والنَّسَب، فالقيمة التي اعْتَمَدها الله تعالى في كتابِهِ للتَّفاضل بين خلْقِهِ هِيَ العِلْم، قال تعالى

﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)﴾

[سورة طه]

والقيمة الثانية العمل، قال تعالى:

﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)﴾

[سورة الأنعام]

حجْمُكَ عند الله بِحَجْم عملك الصالِح، وكلَّمات ازْدَدْت عملاً صالحًا ازْدَدْت رُقِيًّا عند الله عز وجل، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ابْتغوا الرِّفْعَة عند الله..." فأنت بالمال والذَّكاء والوَسامة ترْقى عند الناس، أما الرِّفْعة عند الله بالعٍلم أوَّلاً، وبالعَمَل ثانِيًا، وما مِن قيمتين اعْتَمَدهُما القرآن الكريم كَقيمتين مُرجِّحَتين للتَّفاضل بين خلْقِهِ إلا قيمتا العِلم والعمل، لذا إذا أردْتَ أن ترْقى فعَلَيكم بالعَمَل، وإذا أردْتَ الدُّنيا فعليك بالعِلم وإذا أردت الآخرة فعليك بالعِلم، والعِلم لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعْطَيتَهُ كُلَّك، فإذا أعْطَيتَهُ بعضَك لم يُعْطِكَ شيئًا، ويظلّ المرء عالمًا ما طلب العِلْم، فإذا ظنّ أنَّه قد عَلِمَ فقد جَهِل، ولا يوجد كلمة تجْرح كَكَلِمَة: أنا عالم ‍! كلمة فيها تطاوُل، وكِبْر، قلْ أنا طالب عِلم، وربُّنا عز وجل قال

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)﴾

[سورة إبراهيم]

والله تعالى قال:

﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

[سورة البقرة]

وقال تعالى:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)﴾

[سورة البقرة]

وقال تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)﴾

(سورة التغابن)

إذًا سيِّدُنا إبراهيم وإسحاق ويَعْقوب أولي الأيْد والأبصار، لهم أعمال صالحة كالجِبال، ولهم عِلمٌ متين، وعميق ؛ وهذا هو المِقياس، فإذا أردْنا أن نسْعَد أو أن نرْقى علينا أن نرقى عند الله بِطَلب العِلم الشَّرعي والعمل به.
نحن عندنا عِلم بِخَلق الله، وعلم بأمر الله، وعلْمٌ بالله، فالعِلم بِخَلقهِ كالفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا، والفلسفة ولغات، والعلم بأمر الله كالفقه الشرعي، وأحكام الزواج والميراث، والعلم بِخَلقِهِ والعِلم بأمرِهِ يحْتاجان إلى مُدارَسَة، أما العِلمُ به فهذا شيءٌ آخر، فهذا لا يحتاج إلى مُدارَسَة بل إلى مُجاهَدَة ! قال الإمام الغزالي: جاهِد تُشاهِد، وحيثُ ما ورَدَ العِلم في القرآن الكريم فالمَقْصود به العِلْم بالله، وثمَنُهُ المُجاهَدة لذلك أيُّ عِلم مِن هنْدسةٍ وجِراحة قلبٍ أو فلكٍ، وأيُّ عِلم أرضي ليس شرْطًا أن يكون صاحِبُهُ مُنْضَبِطًا سُلوكِيًّا، إلا عِلْم الدِّين فلا يمْكِن أن تكون عالمًا بالدِّين، وبِذات الله إلا إذا كنت مُلْتَزِمًا أمرهُ ونَهْيَهُ.
كلمة أولي الأيدي والأبصار ؛ عَمَل صالِحٌ وعِلم عنه تعالى، قال تعالى

﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (45)﴾

[سورة ص]

سبب إخلاصهم وتفوُّقهم وأعمالهم الصالحة أنَّهم دائِمًا تذكَّروا الدار الآخرة، فهؤلاء لهم خاصَّة هي ذِكْرى الدار، فهي لا تُغادِر مُخَيّلتهم ! ونحن علينا أن نُحاسب أنفسنا وأن نعدّ لهذا اليوم، وأن لا يُغدِر اهْتِمامنا ولو لحظة ؛ فالآخرة لا بدّ أن تدخل في حِساباتِك اليوْمِيَّة، أما نحن حركاتنا وسكناتنا الآخرة بعيدة عن نصب أعيُنِنَا، ولن ننْجو إلا إذا كانت الآخرة نُصب أعْيُنِنَا، فقبل أن أُطَلِّق ؛ هل هيَّأتُ إلى الله تعالى جواب ؟! وقبل أن أمْدَح ؛ هل هيَّأتُ إلى الله تعالى جواب ؟ لذلك قال تعالى

﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (45)﴾

[سورة ص]

تذَكُّر الدار الآخرة سبب تَفوُّقِهم.
قال تعالى:

﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (24)﴾

[سورة ص]

قبل عشرين سنة فيما أذْكر كان الأوائِل بالشَّهادات يُكَرِّموهم تكريمًا فقلتُ هؤلاء الطُّلاب لمَّا درسوا ولم يناموا الليل، وأهْمَلوا كلّ أُمورِهم الخاصَّة حتَّى تفوَّقوا الآن أدَّوا الذي عليهم، ولم يبْق إلا الذي لهم، فإذا الإنسان أمْضى حياته في الطاعة وفي خِدْمة الخلق، وفي طلب العِلم فهذا أدَّى الذي عليه، فإذا جاءه ملك الموت بقي له التَّكريم إن شاء الله تعالى، فالدُّنيا دار تَكليف والآخرة دار تشْريف، والدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، والدنيا دار همّ وحزن، والآخرة دار نعيم، وهنيئًا لِمَن يعْمل للآخرة، والويل لِمن يعمل للدنيا، فأهل الدنيا إذا توقَّفت دقَّات قلوبهم انتهى كل شيء معهم فهذا بائِع خمْر حجَّ، ولما رجع أغلق محلَّه فخفَّت الزبائن، فإذا به يرجع إلى ما كان عليه، وبعد اثني عشرة يومًا وافتْهُ المنِيَّة !! فدرسنا اليوم قوله تعالى:

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (45) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (46) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (47)﴾

[سورة ص]

تذكُّرهم للدار الآخرة سِرُّ تفوُّقِهم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور