وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة غافر - تفسير الآية 77 الدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية السابعة والسبعون من سورة غافر وهي قوله تعالى:

﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)﴾

[سورة غافر]

 بعض المؤمنين يَظنّ أنَّ الدنيا دار جزاء، فهو ينتظِر مِن أيِّ مُسيءٍ أن يُعاقَبَ في الدنيا، وينتظِر مِن كلّ مُحسِنٍ أن يُكافىء في الدُّنيا، وقد يأتي بِشَواهِد كثيرة، وهي أنَّ فلانًا أحْسَنَ فأكْرَمَهُ الله وفلانًا أساء فعاقَبَهُ الله تعالى، لو تحدَّث هذا أمام الناس لفاجأهُ بعضهم أنَّ فلانًا يرتكب كلّ المعاصي والآثام وهو في أتمِّ الصِّحة والقوَّة، وأغْنى إنسان ! كيف تُفسِّر هذا ؟! والحقيقة كلُّنا، وأنا منهم ؛ نتحدَّث كثيرًا عن إنسان أكل مالاً حرامًا فأتلفَ الله ماله وأتلفهُ، وإنسان اسْتقام على أمر الله فأكْرمه الله هذا الكلام نقوله في المساجِد فيلقى قَبُولاً، فلو جلستَ إلى مجلسٍ عام وليس هؤلاء المستَمِعون على شاكلَتِك، فإنَّهم يفاجئونك، فلو أنَّ هذا المِقياس كانَ صحيحًا، ففلانٌ من الناس يقتَرِفُ كلّ المعاصي، ولا يعترف بالدِّين، ومع ذلك مِن أقوى الناس، ومن أغْنى الناس، وفيما يبْدو لهذه العَينِ مِن أسْعَدِ الناس، فكيف نُوَفِّق بين القِصص التي نُلقيها على مسامِعِكم وبين حالاتٍ كثيرة لا يتبيَّن أنَّ المؤمن يسعَدُ في الدُّنيا ولا أنَّ الكافر يشقى في الدنيا؟! الجواب هو هذه الآية.
 أيها الإخوة، حينما نوقِنُ أنّ هذه الدنيا دار ابْتِلاء، وبينما الآخرة دار جزاء، والدنيا دار تَكليف، والآخرة دار تَشْريف، وحينما نوقِنُ أيضًا أنَّ الله تعالى يكافئ بعض المُحسنين تشْجيعًا لِبَقِيَّة المحسنين، ويُعاقبُ المسيئين ردْعًا لِبَقِيَّة المسيئين نتوازَنُ، فإذا رأيتَ إنسانًا غارقًا في المعاصي والآثام، ويزداد قوَّةً ومنَعَةً وغِنًى ؛ ماذا نقول ؟ هذا أرجأهُ الله إلى الدار الآخرة، وإذا رأينا إنسانًا مُستقيمًا يُعاني من مُشكلات كثيرة فإنَّا نُفسِّرُ ذلك أنَّ الله تعالى أرجأ إكرامَهُ إلى الدار الآخرة، فالفِكرة أنَّ الدنيا دار ابْتِلاء، وأنّ الآخرة دار جزاء، والدنيا دار تكليف، والآخرة دار تَشريف، والدنيا دار عمل، والآخرة دار نعيم، وفي الدنيا عملٌ ولا جزاء، وفي الآخرة جزاءٌ ولا عمَل، ثمّ إنَّ الله تعالى تَرْبِيَةً لنا ومَعونَةً لنا ؛ يكافئ بعض المحسنين تشْجيعًا لِبَقِيَّة المحسنين، ويُعاقِبُ بعض المُسيئين ردْعًا لِبَقِيَّة المسيئين، أما الحِساب الخِتامي، قال تعالى:

 

﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

 

[سورة آل عمران]

 ويقول الله عز وجل:

 

﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)﴾

 

[سورة غافر]

 وَعَد أهْل النار بالنار ووعَدَ أهل الجنَّة بالجنَّة ووعْدُهُ حق، قال تعالى

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

 

[سورة النور]

 وقال تعالى:

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

 

[سورة النور]

 وُعود الله تعالى حقّ، وقال تعالى:

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

 

[سورة النور]

 ولكن حينما ترى حالات يصْعب تفسيرها، فكيف تُحَلّ ؟ تُحَلّ بأنَّ الدنيا ليْسَت دار جزاء ولكنَّها دار ابْتِلاء، ففي البلاد الأجنبية أحيانًا يطغى فيهم الإنسان ويموت ويخرج في الجنازة، ولم يشْهد لها التاريخ مثيلاً ! فالنبي عليه الصلاة والسلام الذي هو نبيُّ الحق وحبيب الحق، قد لا يرى بِعَينِهِ مصير الآخرين، فقد تموت ولا ترى مصير الكفار، قال تعالى:

 

﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)﴾

 

[سورة غافر]

 فهذا أحد الإخوة اتَّفق مع شخص على أن يُقرضه ثلاثمائة ألف ليرة فقال الآخر: وما الضَّمان ؟ فقال: مزرعي ! أُسَجِّلُها باسمك، وحينما أسَدِّد لك المبلغ تُرجِعُها إليّ، فوافق الدائن، وأعطاه ثلاثمائة ألف، وحينما أراد المديون أن يعطيه مبلغه، ويُرجع له هو مزرعته رفض ! وقال له كلّ واحِدٌ له حقَّه، والمزرعة ثمنها مليون ليرة ! فصاحب المزرعة ماتَ مِن شِدَّة القهْر ! وقبل أن يموت أوْصى ابنه أن يمشي بِجَنازَتِهِ إلى أمام دُكَّان المُغْتَصِب، وأن يوقف الجنازة ويدخل أمام الناس لِيُسَلِّمَهُ هذه الرِّسالة ؛ التي يقول فيها: أنا ذاهب إلى دار الحق، وسأتقاضى عند أحكم الحاكمين، فإن كنتَ بطلاً لا تأتي إلينا، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾

 

[سورة الغاشية]

 وأنا معي آلاف الشَّواهد أنَّ المُسيء يُعاقب في الدنيا، والمحسِن يكافئ في الدنيا، ولكن أقول لكم أيضًا أنَّ الدّنيا ليست دار جزاء فأنت قد تجد إنسانًا مُسيئًا ولم يُعاقب في الدُّنيا، والعكس بالعكس، وهذه لِحِكمةٍ أرادها الله، فأحيانًا يكون الإنسان ضِمن العِناية المُشَدَّدة، وأذكر أنَّه جاءَتني رِسالة يقول صاحبها: نرجو قِراءة الفاتحة لِأخٍ شابٍّ هو في العناية المُشَدَّدة، أنا أقول لكم: لمَّا يسوق الله لإنسان بعض الشَّدائد لِيَعلَم عِلم يقين أنَّه في العناية المُشَدَّدة، فإن لم يكن في العناية المُشَدَّدة أطْلقه قال تعالى:

 

﴿لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(165)﴾

 

[سورة الأعراف]

 فلمَّا نسوا ما ذُكِّروا به، لذا الإنسان إذا ساق الله له بعض الشَّدائد فلْيَفرح لأنَّه في العناية الإلهيَّة المُشَدَّدة، وهذا معناه أنَّه مطلوب لِرَحمة الله وعِزَّتي وجلالي لا أقبضُ عبدي المؤمن وأنا أُحِبُّ أن أرحمهُ إلا ابتَلَيْتُهُ بِكُلِّ سيِّئة كان عملها سُقْمًا في جسَدَهِ، أو إقْتارًا في رزقِهِ، أو مُصيبَةً في مالهِ وولدَهِ، حتَّى أبلغَ منه مثل الذَّر، حتَّى إذا بقيَ عليه شيء شَدَّدْتُ عليه سَكرات الموت حتَّى يلْقاني كَيَوم ولَدَتهُ أُمّه ! فالله سبحانه وتعالى إذا تفضَّل علينا وأكرمنَا ساق لنا بعض الشَّدَائد حتَّى يُطَهِّرَنا مِن كلّ درن، فإذا وصَلنا إلى سفير القبر ونحن أطهار كيَوم ولَدَتنا أُمُّنا فَتِلك أفضل حال المؤمن، ونحن الفائزون، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: حمَّة لا بارك الله فيها..." اعْتَقِدوا
أيُّها الإخوة إن كنتم مؤمنين أنَّ كلّ المصائب التي يسوقها الله للمؤمن حصْرًا مصائب تكفير وتَطهير ومغفرة، ومصائب الكفار مصائب قصْمٍ وردعٍ، قال تعالى:

 

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155)﴾

 

[سورة البقرة]

 فالدنيا ليْسَت دار جزاء بل هي دار عمل إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى رحمةً بنا، وتشْجيعًا وردْعًا يُعاقِب بعض المسيئين ردْعًا لِبَقِيَّة المسيئين ويكافئ بعض المُحسنين تشْجيعًا لبعض المُحسنين، ولكنَّ الحساب الخِتامي، والرَّصيد قوله تعالى:

 

﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

 

[سورة آل عمران]

 وما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِسَ البحر ؛ وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي علِقَ بالمخيَط هو الدنيا، والبحر هو الآخرة، فالله أكرمَكَ بالصِّحة والبيت والزوجة، ولكنَّ الإكرام الحقيقي في الآخرة، وهو العطاء الدائم، ولو أنَّ الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سَقى منها شرْبة ماء فالنبي عليه الصلاة والسلام ما ركب طائرة ولا يخت، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم ير إلا الصَّحراء، ولكنَّه رأى كلّ شيء، قال تعالى:

 

﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)﴾

 

[سورة النجم]

 فهذا عبد الله ابن المبارك كان يمشي وحوله إخوانه يحفونه بالمعونة والإجلال، وكان بهيَّ الطَّلعة، وجميل المنظر، وكان أمامه ذِمِيّ يعرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ))

 

 

[ رواه مسلم ]

 فقال له يا سيِّدي: أيَّة جنَّةٍ أنا فيها وأيُّ سِجن أنت فيه ؟! فأجابه ابن المبارك: أيُّ جنَّة أنا فيها لو قِستَها بالجنَّة ؟ ولو قِسْتَ حالتَكَ بالنار فأنت في جنَّة ! فالله تعالى أعدَّ لنا ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خطر على قلب بشر، والنُّقطة الدقيقة في هذا الدرس أنَّك إن رأيتَ إنسانًا عاصِيًا قَوِيًّا فلا يغرنَّك هذا، قال تعالى:

 

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)﴾

 

[سورة آل عمران]

 حديث: أهلا بِمَن خبَّرني جبريل بِقدومه..." فالأصل الاستقامة، قال تعالى:

 

﴿إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

 

[سورة الواقعة]

 فالذين كانوا في القاع في الدنيا تجدهم في الأعلى، والعكس بالعكس فالعبرة أن تكون مُطيعًا لله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

 

[سورة النور]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور