وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة يونس - تفسير الآية 61 ، مراقبة الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

الاستقامة على أمر الله في كل شؤوننا :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الحادية والستون في سورة يونس وهي قوله تعالى :

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)﴾

[سورة يونس]

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ﴾

 الشأن الحال في أي شأن

﴿ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ﴾

 يا محمد ،

﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾

 أيها المؤمنين ،

﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾

 في أي شأن أنت في بيتك ، مع أهلك ، في لهوك ، في حزنك ، في بيعك ، في شرائك ، في سرورك ، في غضبك ، وما تكون في شأن ، وما يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم ينسحب على المؤمنين بالتبعية ، لقوله تعالى :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾

[سورة هود]

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ﴾

 إنسان في بيته وحده ، مع أهله ، منطلق يتكلم .

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾

 أي عمل ، عمل جاد ، عمل هازل ، عمل حقير ، عمل دنيء ، عمل جليل ، عمل صغير ، عمل كبير .

﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾

 أيها الأخوة لمجرد أن توقن أن الله معك ، ويراقبك ، ولك بالمرصاد ، لا بد من أن تستحي من الله عز وجل ، لابد من أن تستقيم على أمره .

من ألغى العلم من حياته ألغى وجوده الإنساني :

 أيها الأخوة ؛ يوجد آية بالقرآن الكريم لعلي ذكرتها لكم من قبل ، من أدق الآيات :

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

[سورة الطلاق]

 هذه اللام في اللغة لام التعليل ، أي علة خلق السماوات والأرض وما بينهما من أجل أن تعلموا ، أنت إذا ألغيت العلم ألغيت وجودك ، وألغيت حكمة خلق السماوات والأرض ، إذا ألغيت العلم في حياتك ألغيت وجودك الإنساني وبقيت على وجودك الحيواني ، أنت لك وجود إنساني ولك وجود حيواني ، آكل ، أشرب ، أنام ، أتعب ، أستريح ، هذا الصفات يشترك بها الإنسان والحيوان ، هذا وجود حيواني ، أما أتعلم ، أفكر ، أتأمل ، أتعرف إلى الله ، أطلب العلم ، أطلب الحقيقة ، فهذا وجود إنساني ، لمجرد أن تلغي من حياتك العلم ، طلب العلم ، ومعرفة الله، ومعرفة منهجه ، ألغيت وجودك الإنساني ، وعطلت حكمة خلق السماوات والأرض ، شيء خطير.

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

[سورة الطلاق]

 هذه اللام في اللغة لام التعليل ، أنا دخلت الجامعة لأنال الشهادة ، لام التعليل ، حفرت البئر لأسقي الأرض ، زرعت البزرة لأجني الثمرة ، هي باللغة لام التعليل علة الوجود ، هل تصدقون أيها الأخوة أن علة وجود السماوات والأرض من أجل أن تكون السماوات والأرض مظهراً لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، من أجل أن نعرفه ، فإذا ألغيت معرفة الله واكتفيت بالطعام والشراب ألغيت وجودك الإنساني وبقيت على وجود حيواني .

صفات من شرد عن الله عز وجل :

 لذلك قال تعالى :

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾

[سورة الفرقان]

 الأنعام ليسوا مكلفين ، ليس عندهم حساب ، ليس عندهم مسؤولية ، أودع الله فيهم الشهوات ، وسمح لهم أن ينالوا منها ما شاؤوا من دون حساب ، من دون تكليف .

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾

[سورة الفرقان]

 آية ثانية :

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ﴾

[سورة الأعراف]

 آية ثالثة :

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) ﴾

[سورة الجمعة]

 آية رابعة :

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) ﴾

[سورة المنافقون]

 هذه أبلغ ، أي جماد :

﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾

 آية خامسة :

﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾

[سورة المدثر]

 آية سابعة :

﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) ﴾

[سورة الحجر]

﴿كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)﴾

﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا﴾

 فإذا اقتصرت حياة الإنسان على المتعة والطعام والشراب ألغى وجوده الإنساني ، وهبط إلى المستوى الحيواني .

من أيقن أن الله يعلم وسيحاسب يستقيم على أمره :

 لذلك الآية :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا﴾

 ماذا نعلم ؟ نعلم شيئين :

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) ﴾

[سورة النحل]

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ﴾

[سورة الطلاق]

 لمجرد أن توقن أن الله يعلم وسيحاسب استقمت على أمره ، مستحيل مستحيل أن تستقيم على أمر إنسان لا تحبه إلا إذا أيقنت أنه يعلم وسيحاسب ، أي إنسان ، إذا كنت تاجراً ، استوردت بضاعة نسخة من الوثائق إلى المالية ، والمالية بإمكانها أن تصادر كل المحل التجاري، هل بإمكانك أن تخفي عن المالية هذه الصفقة ؟ نسخة من هذه المعاملة تذهب إلى المالية سلفاً ، وستحاسب ، وقادرة أن تصادر المحل كله ، هل تخفي عنها شيئاً ؟ أبداً أنت مع إنسان عادي ، إذا أيقنت أنه يعلم وسيحاسب تستقيم على أمره فكيف بخالق الكون ؟ هذه الآية أساسية ، الله اختار من أسمائه اسمين فقط .

﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾

﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾

 أي علة خلق السماوات والأرض أن تعلم أن الله يعلم وسيحاسب ، وأنت إذا أيقنت ، مرة ضربت مثلاً ؛ أنت راكب في مركبتك ، والإشارة حمراء ، والشرطي واقف ، والسيارة واقفة ، وأنت مواطن عادي ، هل يمكن أن تسير على الإشارة الحمراء والشرطي واقف والنقيب واقف والسير ممنوع ؟ لا ، مستحيل ، أنت عامل الله عز وجل كما تعامل إنساناً قوياً ، كيف مع القوي تطيع أمره وتخاف من عقابه .

أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيثما كان :

 أيها الأخوة ؛

﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾

 لذلك أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان ، إذا علمت أن الله معك حيث كنت لابد من أن تستقيم على أمره .

﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾

 لو أنقذت نملةً وأنت تتوضأ ، لو نزعت قشةً من المسجد ، ما هذا العمل ؟ ماذا فعلت ؟ وجدت قشة صغيرة ، طولها سنتيمتر وضعتها في جيبك تقرباً إلى الله عز وجل ، هذا العمل فما فوقه ؟ لا يعزب عند ربك :

﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)﴾

 كله مسجل .
 في بعض الدول الغربية ، الساعة الثالثة ليلاً ، لا يوجد أحد ، الإشارة حمراء ، يأتي إنسان من بلاد بعيدة عن النظام الدقيق ، لا يوجد أحد يمشي ، بعد يومين تأتيه مخالفة بخمسين ماركاً ، أنا ما كنت بهذا المكان ! يعطونه الصورة ، تفضل يوجد أجهزة تلتقط المخالفين ، ترى السيارة مع رقمها ، يسكت .

﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾

 ويوم القيامة صدقوني تعرض أعمال الإنسان عليه عملاً ، عملاً ، عرض صورة كاملة ، هكذا فعلت ، فإذا الإنسان أيقن أن عمله مسجل ، أن أقواله مسجلة ، إذا شخص حققوا معه ، يمكن يحسب الكلمة خمس ساعات ، إذا أنت مع إنسان شعرت أن كل كلامك سوف تحاسب عنه ، تراقب كلامك مراقبة تامة .

من استقام على أمر الله نال من خيري الدنيا والآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا أيقنا أن الله معنا فهذا من أعلى درجات الإيمان ، العلماء سموا هذا حال المراقبة ، أن تشعر أنك مراقب من قبل الله عز وجل ، بكل أحوالك ، وما تكون في شأن ، حتى الإنسان أحياناً ، في اللذائذ المباحة التي أباحها الله عز وجل له لا ينسى أن الله أكرمه ، وأن الله تفضل عليه ، وأن الله سبحانه وتعالى سخر له هذا العطاء من أجل إنجاب الأولاد ، ومن أجل تربيتهم ، أي حتى في الساعات التي قد يغيب معظم الناس عن ربهم ، هناك من لا يغيب عن ربه ، يشعر أنه مراقب ، الله يراقبه ، فالإنسان كلما أدرك عظم هذه المراقبة تطامن ، وتأدب ، لهذا أعلى إنسان تأدب الأدب العالي هو النبي عليه الصلاة والسلام ، لماذا ؟ لأنه يشعر أن الله معه دائماً ، النبي الكريم قال مرة :

((عن سعيد بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه : أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : أوصيك أن تستحي الله عز وجل كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك ))

[ البيهقي ، أحمد ]

 شخص منا له أقرباء ، أحياناً يكون هناك عميد الأسرة ، أي شخص كبير في السن، راق ، علم على أخلاق ، لو أن هذا الإنسان زارك هل تستقبله بالقميص الداخلي ؟ مستحيل ، هل تستقبله وأنت منفوش الشعر ؟ مستحيل ، كيف تعامل إنساناً راقياً بأسرتك ؟ الأولى بك أن تتأدب مع الله كما تتأدب مع رجل من علية القوم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الآية أساسية ، أن تشعر أن الله معك ، إذا وصلت أن الله معك ويراقبك ، وسيحاسبك ، استقمت على أمره ، وإن استقمت على أمره نلت خيري الدنيا والآخرة.

تحميل النص

إخفاء الصور