وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة غافر - تفسير الآية 69 العلاقة بين الإعراض والانحراف.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة والسِّتون من سورة غافر، وهي قوله تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)﴾

 

[سورة غافر]

 هناك آيات عديدة في كتاب الله ترْبط بين الإعراض عن الدِّين والانْحِراف السُّلوكي قال تعالى

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾

[سورة الماعون]

 وقال تعالى:

 

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

 

[سورة القصص]

 وقال تعالى:

 

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾

 

[سورة العلق]

 أريتَ إلى سُلوكِهِ ؟ أرأيتَ إن كان على الهُدى أو أمر بالتَّقوى، يستحيل على من يُكذِّب بالدِّين أن يكون مُستقيمًا، التَّفسير أنَّ الإنسان عندهُ عقل وعندهُ فِطرة، لمَّا ينحرِف يخْتَلّ توازنَهُ، وهو يستعيدُ توازُنَهُ الموهوم بالتَّكذيب بالدِّين، فإذا كذَّب بالدِّين أصْبَحَ حُرَّ الحركة، أما إن لم يُكَذِّب بالدِّين أصْبَحَ مُقَيَّد، فهو يُحاوِل أن يستعيد توازُنَهُ بالتَّكذيب بالدِّين وباتِّهام المؤمنين بالانْحِراف، فإذا بلغوا عن مؤمن مستقيم، وعفيف وعِصامي، ونقيّ طاهر، هو يريد أن يكون الناس كلُّهم منحرفين، فإذا كان الناس كلُّهم منحرفون يستعيد توازنَهُ النّفسي، قال تعالى:

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)﴾

 

 

[سورة غافر]

 يُعارضونها، ولا يقبلونها ويُكَذِّبونها ويقيمون الأدِلّة والواهِيَة على نقيضِها، فهؤلاء الذين يُكَذِّبون بالدِّين يرُدُّون آيات الله عز وجل ويفترون على الله الكذب، ويُكابرون بالمحسوس، هؤلاء اُنظُر أين يُصرفون ؟ أين يسهر ؟ وكيف يكْسِب مالهُ ؟ وحال علاقاته الاجْتِماعِيَّة وتَجِدُهُ أنانِيَّ النَّزْعة، ودنيء النَّفس، ومُتَعَجْرف، ومُتَكَبِّر، قال تعالى:

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)﴾

 

[سورة غافر]

 وقال تعالى:

 

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾

 

[سورة العلق]

 فالآية الأخيرة تحوي معنى ضِمني ؛ أي أرأيتَ إلى أمانتهُ ؟ لا أمانة له وإلى اسْتِقامته، لا اسْتِقامة له، وإلى عهْدِهِ، لا عهْد له، فلا صِدقَ ولا أمانة، ولا إنصاف، ولا ورع، فالآيات هذه التي اُسْمِعتموها مُؤَدَّها أنَّ هناك تلازُمًا ضروريًّا بين التَّدَيُّن، والخُلُق القويم، وأنَّ هناك تلازُمًا آخر بين عدَم التَّدَيُّن والانْحِراف، فَكُلّ إنسان يُكَذِّب بالدِّين تَجِدُهُ منحرفًا فلو أنَّ إنسانًا أراد ان ينحرف انْحِرافًا كبيرًا جدًّا كأن يُكذِّبَ بِوُجود الله ‍! يفعل ما يريد فنحن أردنا من هذه الآيات الرَّبط بين التَّدَيُّن الصحيح والخُلُق القويم وبين التَّفَلُّت من الدِّين، والتَّفَلُّت مِن السُّلوك الصحيح يستحيل على مَن دَخلُهُ حرام، ثمَّ يُصَلِّي، فالذي يبْحث عن دَخلٍ حرامٍ ينبغي أن يُكَذِّب بالدِّين، قد يُكَذِّب تَكذيبًا نَظَرِيًّا، وقَوْلِيًّا، وقد يُكَذِّب تَكذيبًا عمَلِيًّا، فالتَّكذيب العملي ؛ لا ينصاع لأوامِر الدِّين، أما التَّكذيب النَّظري كأن يقول لك: هذا الدِّين ليس لِهذا الزَّمَن ‍‍!!! يُحاوِل أن يتفلَّت مِن أوامر الدِّين، قال تعالى:

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)﴾

 

[سورة غافر]

والآيات التي تبدأ بِألَمْ ترَ في الأعمِّ الأغلب نماذِج مُتَكَرِّرة تَجِدُها في كلّ مكان وزمان، فلو كان نموذَجًا انْقرض لما قيل: ألَمْ ترَ ؟ فهذا الكاتب يُخاطِب كلّ المؤمنين.
 ما هي المُجادَلَة ؟ المُجادلة ؛ هي أنَّ الله سبحانه وتعالى أوْدَعَ في الإنسان عقْلاً، هذا العَقْل ينبغي أن يُعْمِلَهُ وِفْق خطَّةٍ إلَهِيَّة، وينبغي أن يُفَكِّر في خلق السماوات والأرض، وينبغي أن يتأكَّد مِن صِحَّة النَّقل ويفْهَمَهُ، وأن يتعرَّف إلى الله مِن خِلال خَلقِهِ، فالعَقل أداة معرفة الله فلمَّا يرفض الإنسان الدِّين وينغَمِسُ في الدُّنيا يفاجئ أنَّ معه عَقل ؛ كيف يستفيد مِن هذا العقل وهو غارق في شَهَواتِهِ، يستخدم العقل اسْتِخدامًا عَكْسِيًّا، فالعَقل أداة معرفة الله تعالى، ينقلب هذا العَقل عند الفاجر والفاسق إلى أداة تَبْرير أعمالِهِ، فإذا قرأتَ كتابًا باطِلاً تَجِدُهُ يُفَلْسِفُ لك المعْصِيَة، يُفَلْسِفُ الاخْتِلاط، وأكل أموال الناس بالباطل، فكُلَّما اتَّجَهَ العقل إلى فلسفة مَعصِيَة، وتسْويغِها للناس، وتَبريرها، معنى ذلك أنَّ هذا العقل أخذ دَوْر مُعاكِس للدَّوْر الذي أراده الله له، مثل آلات التَّصوير الملوَّنة هي صُنِعَت مِن أجل أخذ صورة طبق الأصل، فصانِعها ما أراد بها أن تكون آلة تَزوير، أما الذي يشتريها ويستعملها للتَّزوير ! نقول: هذا الإنسان اسْتَخدم هذه الآلة على خِلاف ما صُنِعَت له، فذلك يدْفع الثَّمَن الباهِظ، وكذا العَقل البشري ؛ إمَّا أن تسْتخدِمَهُ وِفْق ما أراد الله تعالى، وتتعرَّفُ به إلى الله، وإلى منْهَجِ الله وإلى تحقيق مصالِحِك في الدُّنيا، ودَفع المفاسِدِ عنك، هذا هو الاسْتِخدام الطَّبيعي للعقل، أما إذا اسْتَخدَمْتَهُ للتَّبرير، والفلسفة، وتسويغ المعاصي والجرائِم، فهذا الاسْتِخدام مُعاكِس للهَدَف الذي خُلِقَ العَقل مِن أجلِهِ، ومن هنا تأتي المُجادَلَة، فالمُجادلة اسْتِخدام العَقل لِغَير ما أراد الله تعالى ولِغَير ما خُلِقَ.
 فهؤلاء الذين يُجادِلون في آيات الله أنَّى يُصْرفون ؟! يُمكن لِهذا المُنْغَمِس في شَهَواتِهِ أن يبني مَجْدَهُ على أنقاض الآخرين، وحياتهُ على موتِهِم وأن يبني أمْنَهُ على إخافَتِهِم، فأصبَحَ بالأخير نموذَجَين ؛ نموذَج ربَّاني ونموذَج شيْطاني، فالرَّباني هو الإنسان الذي أحبَّ الله، وعبَدَهُ وتخلَّق بالخُلُق الكريم اِقْتِباسًا من الله عز وجل، والإنسان الشَّيطاني هو الذي اسْتَخدم عقْلَهُ لِغَير ما خُلِقَ له، أجْرى شَهَواتِهِ في قنواتٍ قَذِرة غير صحيحة، واسْتَخدمَ لِسانه في الإيقاع بين الناس، وللدَّعوة للباطل ؛ هذه كُلُّها مَلَكات، فاللِّسان مَلَكَة، وكذا الدِّماغ، واليد، والعضلات، والِكر اسْتَخدم هذه كلّها لِغَير ما أراد الله عز وجل، فالمُكَذِّب بالدِّين انسانٌ مُنحرِف، والمُصَدِّق بالدِّين تصديقًا حقيقيًّا هذا مُستقيم، وأوْضَح الآيات هذه الآية:

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5)الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6)وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)﴾

[سورة الماعون]

 قال تعالى:

 

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾

 

[سورة القصص]

 وقال تعالى:

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)﴾

 

[سورة غافر]

 ففي حياتنا طريقان لا ثالث لهما ؛ طريق الحق، وطريق الباطل، والصِّدق والكذب، والاسْتِقامة والانْحِراف، والأمانة والخيانة، والنُّصْح والغشّ، والورَع والتَّفَلّت، والإحسان والإساءة، فالإنسان إن كان على أحد الخَطَّين هو قَطْعًا ليس على الخطِّ الآخر، وإن كان على الخطّ الآخر فهو ليس على الخطِّ الأوَّل، والدَّليل قوله تعالى: قال تعالى:

 

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾

 

[سورة القصص]

هذا هو الدِّين، فإن رفضْتَهُ فأنت على الباطل.
 فهذه الآية وأخواتها في كتاب الله تربِطُ بين التَّكذيب بالدِّين، وبين انْحِراف السُّلوك، والحقيقة أنَّ الإنسان يُكَذِّب لِيَنحرف، وإذا انْحرف كذَّب، لذلك الله عز وجل قال:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)﴾

[سورة الأنعام]

 الغرور والباطل، قال تعالى:

 

﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(113)﴾

 

[سورة الأنعام]

 فإذا كذَّب الإنسان فمَصيرهُ الانحراف، وإذا انْحرف كذَّب، فهذه علاقة قطْعِيَّة ووطيدة بين التَّكذيب والانحراف، وبين التَّديُّن والاسْتِقامة، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾

 

[سورة فصلت]

 فعلامة الإيمان الاستِقامة وتجد نفْسَكَ مع إخوتك المؤمنين، أما المنحرِف فحالُهُ التَّكذيب.
 إذًا درسنا اليوم ذلك الرَّبط بين التَّديُّن الصحيح والخُلُق القويم، وبين التَّكذيب والانْحراف، فكلّ إنسان يُجادِل في آيات الله تعالى يُصْرف إلى المعْصِيَة، وإلى كسْب المال الحرام.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور