وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة فصلت - تفسير الآيات 6-7 الإخلاص سببُهُ التَّوحيد.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، ورد في الحديث الشريف أنَّ فضل كلام الله على كلام خلقه كفَضل الله على خلقه ! فكم هي المسافة بين مخلوقٍ ضعيفٍ فقير حادثٍ جاهِلٍ، ومُفتَقِرٌ في وُجودِهِ إلى إمْداد خارجيّ، وبين خالقٍ عظيم أزليّ وقويّ، وفْرْدٍ صمَد، كم هي المسافة بين الخالق والمخلوق ؟ هي نفسها بين كلام الله وكلام خلقه ! كلام الخلق يُعَبِّر عن ضَعفِهِم، وعن مَحْدودِيَّتِهِم، وعن تَطَوُّرهم، وعن خلل أصاب عُقولهم، وكلام خالق الكون كلامٌ مُطلق لا يأتيه الباطل من بين يدَيه ولا مِن خلفِهِ، فما دام فضل كلام الله على كلام خلقه كفَضل الله على خلقه، وهذا القرآن كتاب الله ينبغي أن نفهمَهُ سورةً سورة، وآيةً آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وحركةً حركة، مثلاً قوله تعالى في الآية:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)﴾

[سورة فصلت]

 ألا ينبغي أن يكون الفعل ؛ اسْتقيموا على ؟! فهنا جاءَتْ إلى ! فهل جاءَتْ هذه هكذا ؟! فالإنسان قد يستقيم خوْفًا من القانون، ويستقيم خوفًا من الفضيحة، وحِفاظًا على مكانَتِهِ ويستقيم لأنَّه كبير العائلة ؛ فهذه استقامة ولكن لا تُؤَدِّي إليه، ولا تصِل بِصاحِبِها إليه، فهي اسْتِقامة ولكنَّها لِعِلَّةٍ أرْضِيَّة وشِرْكِيَّة، ولِعِلَّة إرْضاء زَيد أم عُبَيْد، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يُريدنا أن نسْتقيم إليه، وأن تصِلَ اسْتِقامتنا إلى بابه، وأن تكون اسْتِقامتُنا طريقًا سالِكًا إليه، ولا تكون اسْتقامتنا إليه إلا إذا أخْلصناها له تعالى، فكلّ هذه الآية مَبْنِيَّة على كلمة استقيموا إليه، وهناك أمثلة كثيرة، فباللُّغة العربيَّة الفِعل أحْسَنَ يتعدَّى بِإلى، وكلّكم يعلم أنَّ الأفعال ثلاثة أنواع فِعل لازِم يكتفي بِفاعِلِه، وفِعل مُتَعَدٍّ يحتاج إلى مفعول به، وفِعل قاصِر ؛ لا هو لازِم، ولا هو مُتَعَدٍّ فاللاَّزِم كَغَضِبَ فلان وحَزِنَ فلان ؛ هذه أفعال لازِمة، والمُتَعَدِّية مثل أكل فلانٌ تفاحةً، وكسر فلانٌ قلمًا، أما القاصِر كأن تقول: بَحَثَ عن ونظَرَ إلى، ووجدَ في، ووقَّعَ عن، فالفِعل القاصِر بين اللاَّزِم والمُتَعَدِّي فربُّنا عز وجل في القرآن جعل الفِعل أحسَنَ يتعدَّى بالباء، ومعروف أنَّ هذا الفِعل يتعدَّى إلى ؛ تقول: أحْسَنتُ إليه، قال تعالى: وبالوالدين إحسانًا.." أي أحْسِنوا بالوالِدَين، والباء تُفيد الإلصاق، أي أنَّ الله عز وجل وجَّهَنا إلى أنَّه لا ينبغي أن يكون إحْسانُكَ لِأبوَيْك بالواسِطَة، فالواجِب أن تُحْسِنَ إليهما مُباشَرَةً، وأن تُؤَدِّي حاجاتهما بِيَدِك، وأن تذهب إليهما بِنَفسِك، وأن تطلب رِضاهما كلَّ يوم، فكما قلتُ قبل قليل
 ينبغي أن نفهمَ كتاب الله سورةً سورة، وآيةً آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وحركةً حركة، فكلمة استقيموا إليه أصل الكلمة استقام على أمر الله، لأنَّ الاستقامة طريق، وأنت على هذا الطريق، أما هناك إلى وهو لانتِهاء الغاية، تقول ذَهَبتُ مِن دمشق إلى حلب، فحَلَب نِهاية الغاية، فقوله استقيموا إليه تعني وُجوب وُصول استقامتك إليه، ولن تصِلَ إليه إلا إذا أخْلصْتها، فأنت لا تسْرق لا إلى أنَّ القانون يُعاقِب على السَّرِقة، وأنت لا تفعل هذا الفِعل لا لأنَّك تخاف على سُمعَتِك ؛ إنَّك تفعل هذه الأعمال الطَّيِّبَة ابْتِغاء وَجهِ الله تعالى، وترضي بها الله عز وجل وهذه هي النِّيَّة الطَّيِّبة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام
فعن عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْهم عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ * ))

[ رواه البخاري ]

 رجُلٌ في مكَّة المُكَرَّمة أحبَّ امرأةً، وعرضَ الزَّواج منها فأبَتْ ! فلمَّا أصرَّ عليها اشْتَرَطَت أن يُهاجِرَ إلى المدينة، وبعدها يتزوَّجُها، هي اسْمُها أُمُّ قَيس، فرَضِيَ وهاجر إلى المدينة وتزوَّجَها، فسمَّاهُ الصَّحابة مُهاجِر أُمِّ قيس ؛ لأنَّه هاجر مِن أجل الزَّواج لأمِّ قيس، ومِن هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ * ))

[ رواه البخاري ]

 فأحيانًا يأتي الإنسان إلى بيت الله لا يبتغي إلا وَجه الله، وأحيانًا يَعِدُ إنسانًا في المسجد لِقَضاء حاجة، فهذا الدُّخول صار مَشوبًا لِقضاء حاجة، لذلك يقول الإمام الفُضَيل: لا تُقْبَلُ الأعمال إلا بِشَرطين: الإخلاص والصَّواب، فالصَّواب ما كان مُوافقًا للسُّنة، وخالصًا ما ابْتُغِيَ به وَجهُ الله، فالإنسان أحيانًا يُراقب نفْسَه، والإنسان العاقل هو الذي يتأمَّل ذاته فالذي يُقيم الوليمة لِيَتباهى بِبَيْتِهِ، بِطَبْخ زوْجته ! ويُقَدِّمُ هدِيَّةً كي تظهر أنَّها مِن فلان، فالمؤمن نواياهُ طيِّبة، فإذا قدَّم هَدِيَّة فَمِن أجل أن يُعين أخاه على الزَّواج مثلاً، لذا هناك اسْتِقامات ليْسَت إلى الله تعالى، تصِلُ بك إلى زيدٍ أو عُبَيد، وكلَّما ارْتقى الإنسان إلى الله حرَّر نواياه من الشِّرْك والخلْق، فالمُخلِصُ هو الذي لا يبتغي بِعَمَلِهِ إلا وجْه الله عز وجل.
 الآن قد يسأل السائل ؛ هذه النِّيَّة الطَّيِّبَة مِن أن تأتي ؟ ومن أين نأخذُها ؟ الجواب: أنّ هذه النِّيَّة الطيِّبة هي مُحَصِّلة إيمانك كُلِّهِ، مرةًّ سأل أحدهم طبيبًا، فقال له: لي عندك طلبٌ صغير ؛ فقال له: علِّمني كيف تَكتب الوَصْفة ! فابْتسَمَ هذا الطبيب وقال: إنَّ كتابة الوَصْفة هو مُحَصِّلة دِراسة أربعًا وثلاثين سنة !! فأيضًا النِّيَّة العالِيَة هذه مُحَصِّلة الإيمان كُلِّه، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)﴾

 

[سورة الإنسان]

لذلك يا مُعاذ أخْلِص دينَكَ يكْفِكَ القليل مِن العَمَل.
قليل العمل وكثيرهُ ؛ هذا ينفعُ مع الإخلاص، أما مِن دون إخلاص فلا ينفعُ لا كثير العمل ولا قليلهُ.
 الآن أصِلُ إلى نقطة دقيقة وأخيرة ؛ وهي أنَّ الإخلاص سببُهُ التَّوحيد فأنت إن وحَّدْتَ الله تُخلص له، وعدم الإخلاص سببهُ الشِّرْك، فأتن يضْعُف إخلاصك مِن ضَعف تَوحيدِك، ويزداد إخلاصك مِن ازْدِياد توحيدِك، فكأنَّ مُؤَشِّر التَّوحيد والإخلاص يتحرّكان معًا ؛ إذا ضَعُف الإخلاص ضَعُف التَّوحيد، وإذا ازْداد التَّوحيد ازْداد الإخلاص، وهناك إخلاص يحتاج إلى إخلاص، وإخلاص عبادة القلب، ولا يطَّلِعُ عليه بشرٌ فَيُفْسِدُهُ، ولا مَلَكٌ فيُفْسِدُهُ، وهو بينك وبين الله، لذا عليك بِعبادة الله بالجوارِح، أما القلب فعبادتُهُ إخلاص العبادة، لذا قال تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7)﴾

[سورة فصلت]

 لِتَكُن اسْتِقامتكم واصِلَة إليه.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور