وضع داكن
26-04-2024
Logo
الخطبة : 1129 - الحج و مناسكه - المبادئ الأساسية في خطبة الوداع .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

العقائد و العبادات و المعاملات :

أيها الأخوة الكرام، في الإسلام فضلاً عن العقائد التي تعد أساس الدين، في الإسلام عبادات تنظم علاقة الإنسان بربه، وفي الإسلام معاملات تنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإذا صحت العبادات ارتقت المعاملات، وكان ارتقاء المعاملات مؤشراً على صحة العبادات، والعبادات تهدف أول ما تهدف إلى السمو بالإنسان نفساً، وقولاً، وعملاً، عن طريق إحكام الصلة بالله عز وجل، والاهتداء بهديه، والتنعم بقربه، والتقلب في رحمته، والارتشاف من عذب شرابه، وقطف ثمار فضله، ومن هذا المنطلق شُرعت العبادات الشعائرية، كالصلاة والصيام والحج.

الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة :

الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة مالية، بدنية، شعائرية، وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار، ينتقل فيها المسلم ببدنه وقلبه إلى البلد الأمين، الذي أقسم الله به في القرآن الكريم، يذهب إلى هناك ليقف في عرفات، وليطَّوَّف ببيت الله الحرام، الذي جعله الله رمزاً لتوحيده، ولوحدة المسلمين، ففرض على المسلم أن يستقبله كل يوم خمس مرات في صلواته، قال تعالى:

﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾

( سورة البقرة )

ثم فرض عليه أن يتوجه إليه بشخصه، فرض علينا أن نتوجه إليه في صلواتنا خمس مرات في اليوم، ثم فرض علينا أن نتوجه بأشخاصنا وأن نطوف به في العمر مرة واحدة.

البيت العتيق هو أول بيت وُضع للناس :

البيت العتيق أول بيت وضع للناس
إن هذا البيت العتيق هو أول بيت وُضع للناس، هو أول بيت أُقيم في الأرض لعبادة الله، ومجدِّدُ بنائه الخليل إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل، وهما الرسولان الكريمان اللذان جعل الله من ذريتهما هذه الأمة المسلمة، واستجاب دعوتهما الخالصة، وهما يُشيدان هذا البناء العتيد، قال تعالى:

﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) ﴾

( سورة البقرة )

قال صلى الله عليه وسلم:

(( أنا دعوة إبراهيم وبُشرى عيسى بن مريم ))

[ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر]

الحج برهان على أن تلبية دعوة الله بدافع محبته ومرضاته: :

أيها الأخوة الكرام، والحج برهان عملي يقدمه المؤمن لربه ولنفسه على أن تلبية دعوة الله بدافع محبته، وابتغاء رضوانه، أفضل عنده من ماله، وأهله، وولده، وعمله، ودياره، ومما تتميز هذه العبادة أنها تحتاج إلى تفرغ تام، فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام.
إذاً لا بد من مغادرة الأوطان، وترك الأهل والخلان، وتحمُّل مشاقِّ السفر، والتعرض لأخطاره، وإنفاق المال في سبيل رضوانه، وإذا صحّ أن ثمن هذه العبادة باهظ التكاليف فإنه يصحُّ أيضاً أن ثمرة هذه العبادة باهرة النتائج، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:

((من حجَّ فلم يرْفُثْ ولم يفْسُقْ رَجَعَ من ذنوبه كيومَ ولدته أمه))

[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

وقال أيضاً:

(( الحج يهدم ما قبله ))

[مسلم عن عمرو بن العاص]

وقال أيضاً:

(( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ))

[أحمد وابن خزيمة والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي عن جابر]

وقال أيضاً:

(( الحجاج والعُمَّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم ))

[أخرجه ابن ماجة في المناسك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(( تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ))

[رواه الترمذي والإمام أحمد عن ابن مسعود ]

(( أن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ))

[أخرجه أحمد في المسند عن بريدة]

التلبية هي :

1 ـ استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلب المؤمن أن خلِّ نفسك وتعال:

يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، وهموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحرم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ويقول: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".
هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلبه، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال، تعال يا عبدي، لأريحك من هموم كالجبال، تجثم على صدرك، تعال يا عبدي لأطهرك من شهوات تُنغِّص حياتك.

 

إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمته مسؤول ؟

***

تعالَ يا عبدي، وذق طعم محبتي.. تعال يا عبدي، وذق حلاوة مناجاتي.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات، تعال لأريك ملكوت الأرض والسماوات، تعال لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات، تعال لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات، تعال لأملأ نفسك غنىً ورضىً شقيتْ بفقدهما نفوس كثيرة، تعال يا عبدي لأخرجك من وحول الشهوات إلى جنات القربات، تعال لأنقذك من وحشة البعد إلى أُنس القرب، تعال لأخلصك من رُعب الشرك وذل النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعز الطاعة.

2 ـ نقل العبد من الدنيا المحدودة و الهموم الطاحنة إلى شرف الذكر و جنة القرب:

" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ".
تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة، ومن عملك الرتيب، ومن همومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنة قربي، تعال يا عبدي وحُطَّ همومك، ومتاعبك، ومخاوفك عندي، فأنا أضمن لك زوالها، تعال يا عبدي واذكر لي حاجتك، وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها:
" إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عُمارها، فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني، وحقَّ على المزور أن يكرم الزائر "..
فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشمت المشقات، وتحملت النفقات، وزرتني في بيتي الحرام، ووقفت بعرفة تدعوني، وتسترضيني.
" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
تعال يا عبدي، وزرني في بيتي، لتنزاح عنك الهموم، ولتعاين الحقائق ولتستعد للقاء.

 

((إن عبدًا أصححت له جسمه وأوسعت عليه في الرزق فأتى عليه خمس حجج لا يأتي إلىَّ فيهن لمحروم ))

[ أبو يعلى عن أبي هريرة]

3 ـ الطواف حول الكعبة و معاهدة الله على ترك المعاصي و الإقبال على الطاعات:

في الطواف حب وطاعة لله
تعال يا عبدي، وطُف حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه، تعال يا عبدي، وقبِّل الحجر الأسود، يميني في الأرض، واذرُف الدمع على ما فات من عمر ضيعته في غير ما خُلقت له، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات على الإقبال على الطاعات والقربات، وكن لي كما أُريد لأكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أُريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.

 

 

4 ـ التعرض لنفحة من نفحات الله يوم عرفات تطهر القلب من كل درن و شهوة:

تعرّض لنفحات الله في عرفات
" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".
تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم اللقاء الأكبر، تعال لتتعرض لنفحة من نفحاتي تطهر قلبك من كل درن وشهوة، وتُصفي نفسك من كل شائبة وهمٍّ، هذه النفحات تملأ قلبك سعادة وطمأنينة، وتشيع في نفسك سعادة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، عندئذ لا تندم إلا على ساعة أمضيتها في القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
تعال لعرفات يوم عرفة، لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات، ولك وحدك سخرت الأرض والسماوات، وأنك حُمِّلت الأمانة التي أشفقت منها الجبال والأرض والسماوات، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني، وتعمل عملاً صالحاً يؤهلك لجنة الخلد.
تعال إلى عرفات يوم عرفة، لتعرف أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء.

 

 

 

بعد أن يذوق العبد حلاوة المناجاة مع الله تصغر الدنيا في عينيه ويصبح أكبر همه الآخرة :

7 بعد أن يذوق المؤمن في عرفات، من خلال دعائه، وإقباله، واتصاله، وروعة اللقاء، وحلاوة المناجاة، ينغمس في لذة القرب، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه، وتنتقل من قلبه إلى يديه، ويصبح أكبر همه الآخرة فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله إليه مما يكرهه هو محض عدل، ومحض فضل، ومحض رحمة، ويتحقق من قوله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾

( سورة البقرة )

وبعد أن يفيض الحاجُّ من عرفات، وقد حصلت له المعرفة واستنار قلبه، وصحت رؤيته، يرى أن السعادة كلها في طاعة الله، وأن الشقاء كله في معصية الله، وأنه عندئذ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويخوفهم مما سوى الله، إذا أنابوا وتابوا، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾

( سورة إبراهيم )

عندئذ يُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار، ليكون الرمي تعبيراً مادياً، وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان، ورفضاً لوساوسه وخطراته.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: " اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى ".

الهدي هدية إلى الله تعالى تعبيراً عن شكره على نعمة الهدى التي هي أثمن نعمة :

حينما يتجه الحاج لسوق الهدي، ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله تعبيراً عن شكره لله على نعمة الهدى، التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة لا ترضي الله، ورغبة تبعد عن معصية الله، والتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس في سبيل مرضاة رب العالمين، قال تعالى:

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ(37) ﴾

( سورة الحج )

طواف الإفاضة و طواف الوداع :

ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينتقل منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان، وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صحَّ أن الحج رحلة إلى الله، فإنه يصحُّ أيضاً أنها الرحلة قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

طاعة رسول الله عين طاعة الله وإرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله :

وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحب بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ))

[رواه البيهقي بلفظ " كمن زارني في حاتي " وضعفه وقال: إن طرقه كلها لينة لكن يقوي بعضها بعضاً، وانظر الفوائد المجموعة للشوكاني ص131] [أخرج الدار قطني عن ابن عمر]

وقد عُلِّقت في مكان بارز من الحجرة الشريفة الآية الكريمة:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) ﴾

(سورة النساء)

وقد أشار القرطبي إلى أن الآية تصدق على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد القاسمي في تفسيره أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله، وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتم التوبة إلى الله ولا تُقبل إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى:

﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾

(سورة التوبة)

بضمير المفرد الغائب.
ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) ﴾

(سورة النساء)

ومن قوله تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

(سورة آل عمران)

شعور المسلم بالسكينة و السعادة حينما يزور مقام النبي عليه الصلاة والسلام :

زيارة النبي تغمر القلب بالسكينة
أيها الأخوة المؤمنون، لعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:

(( من جاءني زائراً، لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ))

[رواه ابن خزيمة في صحيحه والبزار والدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

وإذا شئت الدليل القرآني على ما يشعر به المسلم من سكينة وسعادة حينما يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو أو بآخر، فهو قوله تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

( سورة التوبة )

وقال الرازي في تفسيره: " إن روح محمد صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية، صافية، مشرقة، باهرة، لشدة قربه من الله، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جلّ وعلا، فإذا ذكر أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم "، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) ﴾

( سورة الأحزاب )

من ذكر النبي الكريم بالحب والتقدير فاضت آثار من قوته الروحانية على روحه :

أيها الأخوة الكرام، رُوي أن بلالاً ـ رضي الله عنه ـ سافر إلى الشام، وطال به المقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى وهو في منامه وهو في الشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً، فأقبل الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وجعل يضمهما، ويقبلهما فقالا له: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه، ولما بدأ بقوله: الله أكبر وتذكر أهل المدينة، وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
لقد صدق أبو سفيان رضي الله عنه ـ طبعاً أسلم ـ حينما قال: " ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))

[ متفق عليه عَنْ أَنَسٍ]

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.

خطبة النبي الكريم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية :

أيها الأخوة الكرام، لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة، تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة، كيف لا وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم الشارد المعذب ليرشد ويسعد، قال تعالى:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123) ﴾

( سورة طه )

إن الله جل وعلا ربى محمداً صلى الله عليه وسلم ليُربي به العرب، وربى العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليُربي بهم الناس أجمعين، هكذا أراد الله لهم، قال تعالى:

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78) ﴾

( سورة الحج )

من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :

1 ـ أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز وعلى أية حالة تكون:

أيها الأخوة الكرام، من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز، وعلى أية حالة تكون، وفوق أي مستوى تتربع، قال النبي عليه الصلاة والسلام:

 

(( أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغت ؟ اللهم فاشهد ))

[من خطبة الوداع راجع شرح النووي على صحيح مسلم، والبداية والنهاية لابن كثير]

2 ـ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها وبوعده ووعيده لن ينفعها إيمانها شيئاً:

بند آخر، النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها، مؤمنة بوعده ووعيده، مؤمنة بأنه يعلم سرَّها وجهرها، لن ينفعها إيمانها شيئاً، لأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها ومصلحتها، ولا تُبالي بشيء في سبيل غايتها ربما بنــت مجدها على أنقاض الآخرين، ربما بنت غناها على فقرهم، ربما بنت عزها على ذلهم، ربما بنت حياتها على موتهم، لذلك قال الرسول الكريم في خطبة حجة الوداع:

 

(( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم إنما المؤمنون إخوة، لا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ))

سبعمئة ألف دعوى في قصر العدل، اغتصاب بيوت، اغتصاب شركات، اغتصاب أراض، لا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه.

3 ـ المال قوام الحياة وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس:

ينبغي أن يكون المال متداولاً بين الناس
بند ثالث من بنود خطبة حجة الوداع، المال قوام الحياة، وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس، وأنه إذا ولد المالُ المال من دون جهد حقيقي يسهم في عمارة الأرض، وإغناء الحياة، تجمَّع في أيدٍ قليلة، وحُرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويُلجأ إلى العنف، ولا يلد العنف إلا العنف، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، تسعون بالمئة من ثروات الأرض يملكها عشرة بالمئة من سكان الأرض، وتسعون بالمئة من سكان الأرض لا يملكون إلا عشرة بالمئة من ثروات الأرض، هذا التفاوت المخيف في مستوى المعيشة بين دول الشمال ودول الجنوب لا يمكن أن يسلم من العنف، ولا يؤدي هذا إلا إلى مزيد من العنف لأن العنف يلد العنف، هذه سلسلة لا تنتهي:

 

(( ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوع، وإن لكم رؤوس أموالكم لا تُظلمون ولا تَظلمون، قضى الله أن لا رباً وأول رباً أبدأ فيه - أي أسقطه - ربا عمي العباس بن عبد المطلب ))

4 ـ النساء شقائق الرجال:

البند الرابع، النساء شقائق الرجال، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث إنها مكلفة كالرجل بالعقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، مساوية له من حيث استحقاقُها الثواب والعقاب، وأنها مساوية له تماماً في التشريف، والتكريم، والمسؤولية، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع:

 

(( اتقوا الله بالنساء واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد...))

ثم يُتابع خطبته فيقول:

(( أيها الناس لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونـه من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، وقد تركتُ فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما فلـن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة رسوله، وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت فجعل يُشير بإصبعه المسبحة إلى السماء ثم إلى الناس وهو يقول: اللهم فاشهد ))

طرح أي قضية خلافية الآن يعد جريمة بحق هذه الأمة لأن الغرب وضعنا في سلة واحدة:

أيها الأخوة الكرام، الطرف الآخر يتعاون تعاوناً مذهلاً، وفي تاريخه حروب لمئتي عام، يتعاون مع بعضه بعضاً وبينه وبين الآخر خمسة بالمئة من القواسم المشتركة، والمسلمون يقتتلون والدماء تسيل فيهم كما ترون وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة، هذه وصمة عار في حق الأمة، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض ))

[ رواه البخاري ومسلم عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ]

سمى الفتن بين المسلمين التي تنتهي بالقتل وإسالة الدماء سماها النبي عليه الصلاة والسلام كفراً، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
فيا أيها الأخوة الكرام، كلمة أقولها لكم من أعماق أعماقي طرح أي قضية خلافية الآن يعد جريمة بحق هذه الأمة، لأن الغرب وضعنا جميعاً في سلة واحدة، وينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد، هناك قواسم مشتركة بين فئات المسلمين لا يعلمها إلا الله، وبإمكانك أن تدعو إلى الله في القواسم المشتركة خمسين عاماً دون أن تثير أية مشكلة، لذلك ابحثوا عن القواسم المشتركة، ابحثوا عن التوافق، ابحثوا عن أن هذه الأمة إلهها واحد، ونبيها واحد، وقرآنها واحد، وآلامها واحدة، وآمالها واحدة، وأعداؤهم طرف آخر يكيد لهم ليفقرهم، وليضلهم، وليفسدهم، وليذلهم، وليبيدهم.

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور