وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة الشورى - تفسير الآيات 37-40 - 43 الإنسان مخلوق مُخيَّر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الإنسان مخلوق مُخيَّر، وقد أُعْطِيَ منهَجًا دقيقًا، فإذا خرج عن منهَج الله اعْتدى على أخيه، فلأنّ الإنسان مُخيَّر، ولأنّ الإنسان أودِعَتْ فيه الشَّهوات، فإذا تحرَّك بِدَافِعِ من شَهَواتِهِ من دون منهَج من الله عز وجل وقَعَ العُدوان والفساد، فأسباب الفساد والعُدوان أنَّ مخلوقًا مُخيَّرا أودِعَتْ فيه الشَّهوات، فتحرَّك بِدافِعٍ منها من دون منْهجٍ صحيح فاعْتَدى على أموال الناس، وعلى أعراضِهم، ووقَع الخصومات والمُشاحنات.
أن تعتدي على الآخرين ؛ هذا سمّاهُ القرآن الكريم بَغْيًا، يقول الله عز وجل:

﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾

[ سورة الشورى ]

 الشاهد إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، فمن صفات المؤمنين أنَّهم ليْسوا خانِعين، وليْسوا مستسلمين، وليْسوا ضِعافًا، فالله معهم، وهو ينصرهم فَمِن خصائص المؤمن المسلم أنَّه إذا أصابهُ بغْيٌ ينتصر، فإذا كان ضعيفًا يقول: ربِّي إنِّي مغلوب فانتَصِر، إما أن تنتصِر أو تدعوَ الله عز وجل أن ينْصرَكَ.
 النقطة الدقيقة، إذا انتصروا لا ينبغي أن يُبنى على ردّ البغي بغْيٌ، إذْ هناك من يبني على ردّ البغي بغْيًا آخر، قال تعالى:

 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فقَوْلُ عوام الناس: سَأَكِلُ له الصاعَ صاعَين !!هذا خِلاف القرآن، وسأُنَكِّل به، هذا خلاف القرآن، ولكن المنهج القويم، ومنهج العدل قال تعالى:

 

﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾

 

[ سورة الشورى ]

ففي بعض الدِّيانات من ضربك على يدِّك الأيْمَن فأَدِر له الأيْسَر.
 إلا أنَّه أحيانًا يغلبُ على يقينك، أنَّك إذا عفَوتَ عنه قرَّبتَهُ إلى الله وأصْلحته، وأنْهضْتَهُ، وأقلْت عثْرته، ومالك إليك، وإلى دينك، ومال إلى منْهج الله، قال تعالى:

﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾

[ سورة الشورى ]

 العفو هنا مُقيَّد بالإصْلاح، فالعَفْو أحيانًا يُصَغِّرك عند خَصْمِكَ، ويظنُّك ضعيفًا ! فالعَفو مُقيَّد بالإصلاح، فإن غلب على ظنِّك أنَّ عَفْوَكَ على أخيك يُصْلِحُهُ ويُقرِّبه ويجعله يعظِّم الإسلام، يذوب في كرمك، قال: ينبغي أن تعفو عنه وحينما تعفو عنه الله جلّ جلاله هو الذي سيُكافئُكَ، لِتَوضيح المعنى لو قال ملكٌ لِمُواطِن: أنا سأُكافئُكَ، فما معنى أن يقول ملك لِمُواطِن سأُكافئُكَ ؟ ماذا سيُعْطيه ؟ مائة ليرة ! أقلّ عطاء بيت، أو فيلا، أو سيارة، قال تعالى:

 

﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾

 

[ سورة الشورى ]

 إنَّك حينما تعْفو عن أخيك بِنِيَّة أن تُصْلِحَهُ وتأخذ بيَدهِ، فأنت تحْتسِبُ هذا العمل عند الله، وأقرضْتَ الله قرْضًا حسنًا ولأنَّه أحدُ عباده، والخلق كلُّهم عِيَالُ الله، وأحبُّهم إلى الله أنْفعهم لِعِيالِهِ فالآية تُنظِّم علاقتك مع الآخرين عند البغي والعدوان، صار هناك بغي أو تجاوُز أو عُدوان ؛ يجب أن تُفكِّر أن تنْتقِم لِنَفْسِكَ ليس هذا مِن شأن المؤمن، وأن تشْفِيَ غليلك فليس هذا من شأن المؤمن، الغِلّ والحقد والانتقام، المؤمن أرْقى من ذلك إلا أنّ المؤمن يتحرَّك وفْق منهج لو أنَّ هذا السائق الطائش الذي يسْتهين بِأرواح الناس لو عفَوْنا عنه لَزِدْناه طيْشًا وتجاوُزًا، فهذا يجب أن نوقِفَهُ عند حدِّه، ويجب أن تُسْلَب حريَّته وأن يدفَعَ ثمن طيْشِهِ واسْتِهتارِهِ بأرواح الناس، قال تعالى:

 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(2)﴾

 

[ سورة النور ]

 إنسان قصَّر وسبَّب مشكلةً كبيرة، جاء مريض للإسعاف، والطبيب تماهل في إسعافه فمات! لا تقل: هذا قضاء وقدر !! هذا يجب أن يُحاسب، وأن يدفع ثمن إهماله، ويجب أن يُرْدع، لذا لا تقوم حياة منظَّمة من دون عقوبات، والحقيقة الإسلام فيه وازِع، ولكن لا يكتفي به بل هناك رادِع فالوازع داخلي، والرادِع داخلي، والمنهج الكامل يجِب أن يعْتَمِدَ عليهما معًا، فلو اكتفينا بالوازع لصار هناك تسيُّب، ولو بالغنا بالرادع لصار هناك قسْوة، وظلم، وعُنف والعنف لا يلد إلا العنف، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 وقال تعالى:

 

﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35)﴾

 

[ سورة محمد ]

 وقال تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)﴾

 

[ سورة الحج ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 نفس المؤمن عزيزة وقويَّة ويسْتعين بالله، ويتحرّك وفْق منهج الله، قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 الآن حينما تنتصر، قال تعالى:

 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فإذا غلب على ظنِّك أنّ عفْوَكَ على أخيك يُقرِّبه إلى الله تعالى ينبغي أن تعْفوَ عنه، وعندها أجْرك على الله، قال تعالى:

 

﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾

 

[ سورة الشورى ]

 أيها الإخوة، هناك نقطة دقيقة، حينما يأتيك عُدْوان خارجي، وبغي وظُلم، وعُدوان على مالك، وكرامتك، أوَّلاً لماذا المؤمن لا يحْقِد ؟ لأنَّه مُوَحِّد، ويرى أنَّ يد اتلله فوق أيدي كلّ الناس، قال تعالى:

 

﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾

 

[ سورة الأنفال ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 لأنَّك موحِّد فلا تحْقد، الآن تتحرَّك وِفق منهَج، فإذا كان من الحِكمة أن آخذ على يده لن أعْفُوَ عنه، بل أعاقبه بِقَدر ذَنبِهِ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْهم يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا * ))

 

[ رواه البخاري ]

 إذا وقف الناس أمام المعتدي موقفًا عنيفًا فالحياة تنتظِم عندئِذٍ، أما إن جامَلناه، وتركناه على حاله، وأيَّدناه انْتشَر الظلم، قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 أما إن غلب على ظنِّك أن عفْوَكَ يُقرِّبُه إلى الله، قال تعالى:

 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فهذا هو منهجنا ؛ لا يوجد الحِقد، لأنَّ لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن لِيُخْطِئه وما أخطأهُ لم يكن لِيُصيبه، إنسان عنده موظَّف ولمَّا اختلف معه طردَهُ أراد هذا أن ينتقم فسبَّب له مع الجمارك متاعب كبيرة جدًّا، ففي ساعة حِقْدٍ وغضَب قتلَهُ !! وحُكِمَ بِثَلاثين عامًا سِجْنًا، فهو قتله لأنَّه لم يكن التوحيد في قلبه، فالحِقد سببه عدم التوحيد، فهذا هو منهجنا، والله عز وجل قال:

 

﴿يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17)﴾

 

[ سورة لقمان ]

 وفي آية أخرى، قال تعالى:

 

﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فالعلماء قالوا: قد يأتي القضاء والقدر مباشرة، فيجب أن تصبر، فلو أنّ إنسانًا وقَعَ ابنه من الشرفة فوقع ميِّتًا ! لا توجد جِهة تُطالب بِحقِّ ابنك منها أما لو أنَّ سائِقًا دهس ابنه، هذه مسألة أخرى، صبر على قضاء الله وغفر للذي أجرى الله القدر على يده، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فالحقد أساسه الشرك والتوحيد يلغي الحقد، وبقي التصرف وفق هذا المنهج فإذا كان أن تأخذ على يده لِتُصْلِحَهُ ينبغي أن تأخذ بيده، وإن كان عفْوُكَ عنه يصلحه فينبغي أن تُصلِحه، فالمهمّ أن يكون الهدف في مصلحة وأجرك على الله.

تحميل النص

إخفاء الصور