وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الجاثية - تفسير الآية 21 الله عز وجل بيَدِهِ كلّ شيء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الواحدة والعشرون من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى:

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[سورة الجاثية]

 أوَّلاً إذا توهَّم الإنسان لِثانِيَة واحِدَة أنَّه يمْكنُ أن يُعامِلَ المحْسِنُ كالمُسيء والمستقيم كالمنحرف، والذي له دَخل حلال مع الذي له دخْلٌ حرام والكاذب مع الصادِق ؛ إذا اسْتويا هؤلاء فهذا الاسْتِواء يتناقض مع وُجود الله، ويتناقض مع كمالِهِ، ويتناقضُ مع عدالَتِهِ، وأقْسِمُ بالله العظيم لو لم يكن في كاتب الله إلا هذه الآية لَكَفتنا جميعًا.
 ربُّنا عز جل يُطَمئِنُنَا ؛ أنَّه لا يمْكن أن يُعامَلَ المؤمن كالكافر، أو الكافر كالمؤمن، لا يُعامَل المستقيم كالمنحرِف، والصادق كالكاذب والمخلص كالخائن، والرحيم كالقاسي، والذي يكْسِبُ المال الحلال مع الذي يكْسِبُ المال الحرام ؛ هذه آية ولكن يقول قد يقول أحدكم: المستقيم له أجر، ولعلَّ الأجْر في الآخرة، وليس في الدنيا ! نحن نقول له الآية تقول:

 

﴿مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 محياهم في الدنيا، قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾

 

[سورة النحل]

 وقال تعالى:

 

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾

 

(سورة طه)

 معنى ذلك أنَّ المؤمن حياته في بيْتِهِ، وحياته في عمله وصِحَّته وأولاده وأهْلُهُ، وسُمْعتهُ ومكانته ؛ هذه مُتَمَيِّزَة، لذا ورد انَّه إذا رُئِيَ أولياء أُمَّتي ذُكِر الله بهم ! حينما قال الله عز وجل عن بعض الطُّغاة:

 

﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)﴾

 

[سورة الدخان]

 هذا الكلام في علم أصول الفقه قاعدة اسْمُها العِلم المُخالف ؛ هؤلاء الذين أساءوا حينما ماتوا ما بكَت عليهم السماوات والأرض، فالذين أحْسنوا إذا ماتوا ما الذي يكون ؟ تبْكي عليهم السماوات والأرض، والأرض تتبارَك بالمؤمن.
 أيُّها الإخوة، أن يستوي المؤمن وغير المؤمن ؛ هذا غير ممكن، ويتناقض مع كمال الله، إنسان مُسيء، ويغُشُّ الناس، ويحْتال عليهم ويعتدي عليهم، ويبني حياته على فقرهم، أَتُريد من الله عز وجل أن يُعامل المؤمن كغير المؤمن ؟! مؤمن مستقيم، ومؤمن يخاف الله، وفي قلبه خَشية وخوف، ويبْحث عن الدِّرهم الحلال، ويُنفقُهُ في الوجه الصحيح، فهذا خلاف من يسلب أموال الناس، لذلك الآية الكريمة:

 

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾

 

[سورة السجدة]

 وقال تعالى:

 

﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)﴾

 

[سورة القلم]

 وقال تعالى

 

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾

 

[سورة القصص]

 وقال تعالى:

 

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾

 

[سورة العلق]

 وقال تعالى:

 

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26)يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)﴾

 

[سورة الحاقة]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)﴾

 

[سورة آل عمران]

 فهذه مسافة كبيرة جدًّا بين المؤمن وغير المؤمن، لذلك يتوهَّم الإنسان ويقول: شيءٌ يُحَيِّر ! هذه الآية تدفع عنك الحَيرة، لا يمكن أن يُعامَل المحْسِن كالمُسيء، إنسانٌ دَخلُهُ حلال، وبِمالٍ قليل ينتفِعُ به انتِفاعًا كبيرًا، وبِمالٍ كثير يُدمَّر المال ولا يُنتفَعُ به، وإنسانٌ اختار زوْجةً صالحة مؤمنةً متديِّنة يسْعَدُ بها وتَسْعَدُ به، أما من تزوَّجها لِجَمالها فقط أذَلَّهُ الله تعالى، ومن تزوَّجها لِمالها أفْقرَهُ الله، ومن تزوَّجها لِحَسَبِها زادَهُ الله تعالى دناءة.
 وإنسان بنى دَخلَهُ على إفساد أخلاق الآخرين، صاحب دار سينما جمَّع ثروةً طائلة قبل خمسة وعشرين عامًا، وجمَّع خمسة ملايين، وأُصيب بِمَرض خبيث، وله ابن أخت هو تلميذي، فقال لي: رأيْتُهُ يبكي، فقال له: ما لك تبكي ؟‍‍‍! فقال له: جَمَعْتُ هذا المال لأتمتَّع به في خريف عمري، وهذا المرض قد عاجلني، فهذا جَمَع المال على حِساب أخلاق الشَّباب، وعلى حساب دينهم، وتوجُّههم إلى الله عز وجل، فالمال الحلال له عند الله حِساب، والحرام له حِساب، والمُحْسِن له حِساب والمسيء له حِساب، والعابِد له حِساب وغير العابد له حِساب، والأمين له حِساب، والخائن له حِساب، أما حينما تتوهَّم أنَّه قد يسْتوي الخائِن والأمين، والصادق والكاذب، والأب الكامل والأب المُتَفَلِّت، والأمّ الحنون، والأم المتفلِّتة، والمعلِّم الذي يُلْقي درْسهُ بإخلاص والمعلِّم الذي لا يلقي درسه بإخلاص، والطبيب الذي ينْصحُ المريض، والطبيب الذي لا ينصحُ المريض ويبْتزّ ماله، والمحامي الذي يعلمُ أنَّ هذه القضِيَّة سلفا فيأخذُها ويُماطِل الموكِّل إلى ما شاء الله، والمحامي الذي ينْصح الموكِّل.
الله عز وجل عنده لِكُلّ إنسانٍ درجة، فإذا كان على وَجه الأرض خمسة آلاف مليون إنسان، فهذا يعني أنَّه يوجد خمسة آلاف مليون درجة، والدليل قوله تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19)﴾

 

[سورة الأحقاف]

 فأنت لك عند الله تعالى درجة بمَعرفتِكَ واسْتقِامَتِكَ، وبإخلاصك، بِأُبوَّتِكَ الكاملة، وبُنُوَّتِكَ الكاملة، والإنسان العاق غير الإنسان البارّ، فلذلك أيُّها الإخوة هناك معايير دقيقة، قال تعالى: فو ربِّك لنسألنَّهم أجمعين عمَّا كانوا يعملون أنت إذا أنفذت نملة وأنت تتوضَّأ فهذه لها عند الله ثمن، وما أكْرمَ شابٌّ شَيْخًا لِكِبَر سِنِّه إلا سخَّر الله له مَن يُكْرِمهُ عند سِنِّه، وبُرُّوا آباءَكم تبُرُّكم أولادكم.
أيُّها الإخوة الكرام، عليكم أن لا تتوهَّموا ولو ثانِيَة أنَّ المُحْسِن يُعامَل كالمُسيء، قال تعالى:

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 لِمَ لم يقل أم حَسِبَ الذين كفروا واجْترحوا السيِّئات ؟ طبعًا الحسَنَات تحتاج إلى إيمان، أما السيِّئات فلا تحتاج إلى إيمان لأنَّ غير المؤمن سيَكذب ويسرق ويزني ويحتال على الناس، ويظنُّ نفسهُ ذَكِيّ وهو أحمقهم، قال تعالى:

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 اجْتِراحُ السيِّئات يعني أنَّك لسْتَ مؤمنًا، والإمام الغزالي يقول: يا نفسُ لو أنَّ طبيبًا منعَكِي مِن أكْلةٍ تُحِبِّينها، فلا شكَّ أنَّك تمْتَنِعين، أفيَكون الطبيب أصدَقَ عندك من الله ؟ فما أجهلكي، فكلُّ إنسانٍ يرتَكِب معْصِيَة فهذا مدموغ، قال تعالى:

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 ثمّ قال تعالى:

 

﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 تدخل إلى بيت ثمنهُ ثلاثين مليون فإذا بالدَّاخِل جحيم لا يُطاق، ونَكَد، وبغْضاء، وخُصومة، والأب في جهة والزّوجة في جهة أخرى، وبالمقابل تجد بيتًا متواضِع وفي الجبل والدّخل محدود جدًّا، وأهله في نعيم مطلق، فعند الله كلّ شيءٍ بِحِسابه قال تعالى:

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

[سورة الجاثية]

 فالذي يموت بالمسجد، والذي يموت بِلَيلة القَدر، ويموت وهو يتلو القرآن يموت بين أهلِهِ مُعَزَّزًا مُكَرَّما، وآخر تجد قد مات بالمرحاض ! وقد يموت ولا يدري به أحد، ويموت وهو يركِّب الدّش ! فالإنسان يأتيه ملك الموت بِطَريقةٍ يُلَخِّص حياته كلَّها، ومرَّةً كنتُ بِتَعْزِيَة وأمامي شيخ عالم، وبعدها خرج من التَّعزِيَة، فما مشَى رجل لا يعرفه ولا يعرف اسمه، وبيت هذا الرَّجل إلى جانب التَّعزِيَة، فأراد أن ينقلَهُ إلى بيتِهِ، فهذا الشيَّخ أوصله هذا الأخ إلى بيتِهِ، فصَعِدَ الطوابق الأربعة، ودخل بيتهُ، ودخل إلى غرفتِهِ، ونزع العمامة، واسْتلقى في الفراش، وسُلِّم أمرهُ إلى رب الأرض والسماء ! فهذا لو أراد أن يأخذ التَّاكسي لما وصل إلى بيتِهِ !! فالله سخَّر له إنسان لِيُوصِلَهُ إلى بيتِهِ، ويموت على سريره.
 وبالمقابل كنتُ مارًّا بالحريقة فوَجَدتُ إنسانًا مُلقى ميِّتًا على الأرض، فرجعتُ من العَمَل بعد ثماني ساعات وهو على حاله الأولى ! فهذه الآية يجب أن تبقى في أذْهاننا وعقولنا، وكلّ شيء بِحِساب دقيق، فالمال فيه بركة، والزَّوجة الصالحة مُسْعِدَة، تَسْعَدُ وتُسْعِدُ، قال تعالى:

 

﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)﴾

 

(سورة البقرة )

 هذه الآية محْوَرِيَّة، وإحْدى دعائِم العقيدة وهو أنَّ الله بيَدِهِ كلّ شيء ويُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.

 

تحميل النص

إخفاء الصور