وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الأحقاف - تفسير الآية 19 حجْمُكَ عند الله بحَجْمِ عمَلِكَ الصالِح.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، في القرآن الكريم أنواع مُنوَّعة من الآيات، آياتُ أمْرٍ وآياتُ نَهي، وآياتُ تَحليل، آيات تَحريم، وأخبار الأُمَم السابقة والآيات الكَوْنِيَّة ومشاهِدُ من يوم القيامة، إلا أنَّ نوعًا من الآيات مُرْتَبِط أَشَدَّ الارْتِباط بِحياة الإنسان، إنَّها آيات الكلمات، فالكلمة في القرآن الكريم تعني القانون، والسنَّة الثابتة، فلو أنَّ الإنسان تعامَلَ مع هذه الآيات تعامُلاً حقيقيًّا صحيحًا، وإيجابيًّا لسَعِدَ في الدنيا والآخرة.
من هذه الآيات الكبرى، الآية التاسعة عشرة من سورة الأحقاف، وهي قوله تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾

[ سورة الأحقاف ]

 هذه الدَّرَجات عند الله، أما عند الناس فمالُكَ يرْفَعُ دَرجَتَكَ، ووسامَتُكَ ترفعُ مِن مقامِكَ، وذكاؤُكَ يرْفعُ شأنَكَ، فمقاييس الناس كثيرة ؛ المال والقوَّة والوسامة والذَّكاء والله عز وجل أوْدَعَ في الإنسان قدرات كثيرة ولكن كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى يرفع عباده بعضهم على بعض ؟ عند الله يرفعهم بالعمل الصالح وإن أرَدْتَ الرِّفْعة عند الله فليس أمامك إلا العمل الصالح، فسيِّدنا موسى حينما سقى للمرأتين، سقى لهما ثمَّ تولَّى إلى الظِّل فقال: ربِّي إنِّي لما أنزلتَ إليّ مِن خيرٍ فقير، وغير المؤمن يظنُّ أنَّ الغِنَى غِنَى المال، وأنَّ الفقْر فقْر المال، أما المؤمن فهو يوقِنُ أنَّ الغِنَى هو غِنَى العَمَل الصالح، وأنَّ الفقْر الحقيقيّ أن تأتِيَ الله تعالى يوم القيامة ويداكَ صِفْر من العمل الصالح، فالآن هذه الآية:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾

 

[ سورة الأحقاف ]

 لكل إنسان في أيِّ مكان، وفي أيِّ ومكان درجات مما عملوا، ولكن كيف يُقيَّم العمل ؟ أوَّلاً يُقيَّم باتِّساع رقْعتِهِ، والنبي عليه الصلاة والسلام نشر هذا الدِّين القويم في أرْجاء الأرض، فَمِن الصّين إلى المغرب، وإلى بعض دُوَل أوروبا، ومن أذْربيجان إلى جنوب إفريقيا، فالعمَل يُقيَّم باتِّساع رُقْعَتِهِ ويُقَيَّم أيضًا بامْتِداد أمَدِهِ، فَمِن ألف وأربعمائة عام ودَعْوةُ النبي عليه الصلاة والسلام تسْري في الأفاق، ويُقيَّم العمل من عمق تأثيره، والعمل يزداد عند الله تعالى قيمةً لمّا تشْتدُّ الصوارف عنه، وتكثر العوائق في طريق فالإنسان أحيانًا يأتي لِمَجْلس العِلم، ويأتي للمسجد ويجلس على رُكْبتَيْه، أما الآن فهناك مسلسلات، ومناظر، وطعام وشراب، فلمَّا الإنسان يأتي إلى بيت الله لِيَتَعَلَّم العِلم فقد دافَعَ صوارِف فأحيانًا يُلقي الخوف في قلبِكَ ؛ يقول لك: ليس مِن صالِحِكَ أن تأتي إلى المسْجِد، فهذا عائِق شيْطاني، وهناك صارِف، فَكُلَّما اشتدَّت الصوارف والعمل العائق يشْتدُّ العمل الصالح عند الله تعالى قيمةً، أما أكبر قيمة ينالُها العمل الصالح حينما يموتُ صاحِبُهُ ويسْتمِرُّ هذا العمل، ساهَمَ ببِناء مسْجِدٍ ومات، والمسْجِد تُقام فيه الصَّلوات والأذكار إلى يوم القيامة، أو أسَّسَ ملْهى وماتَ، فهو صدقة جارية له إلى يوم القيامة، لذا أخْطَر الأعمال ما اسْتَمرَّتْ بعد موتِ صاحِبِها، وأعظَم الأعمال ما اسْتَمَرَّت بعد موتِ صاحِبِها،

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو * ))

 

[ رواه الترمذي ]

الدَّرس اليوم ؛ حجْمُكَ عند الله بحَجْمِ عمَلِكَ الصالِح، فكُلَّما ازْدَدْتَ معرفةً بالله، وإقْبالاً عليه، إخلاصًا له قدَّر على يَدِكَ أعمالاً صالحة كثيرة.
 الإمام النَّووي جاء إلى الدنيا وغادَرَها، ولم يَعِشْ أكثر مِن خمسين عامًا ولكن ماذا تَرَكَ ؟ ترك الأذكار، ورياض الصالحين، ومغني المحتاج، وكتُبًا من أجلِّ الكُتُب الآن، فحَجم الإنسان عند الله بحَجم عمله، لذلك العُمر الزَّمني لا قيمة له، والعِبرة بالإنجاز، في هذا العمر ماذا فَعَل؟ هذا نبيُّنا صلى الله عليه وسلَّم عاشَ ثلاثًا وسِتُّون سنة نشَر خِلالها الخير والعطَاء والفضيلة والتُّقى، وكل هذا الخَير للآخرة، لهذا قال تعالى:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾

[ سورة الحجر ]

 أقْسَمَ بِعُمر النبي عليه الصلاة والسلام، ونحن إذا آمنَّا أنَّ حجْمَكَ عند الله بِحَجم عمَلِكَ الصالح، والدليل هذه الآية:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾

 

[ سورة الأحقاف ]

 والعمل قيمتُهُ في نِيَّتِهِ، وقيمته في إخلاصِهِ، وحجْمِهِ، وزمَنِهِ، واتِّساع رُقْعتِهِ، وبُلوغ أمَدِهِ، وفي امْتِداد أثرِهِ بعد موت صاحِبِه، ولكن أعلى عمل صالح على الإطلاق أنْ يُوَفِّقَكَ الله عز وجل لِهِدايَة إنسان ؛ قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)﴾

 

[ سورة المائدة ]

 فأنت إذا ساهَمْتَ في إعانة أخ للتَّزَوّج بِفَتاة مؤمنة، وإنشاء أسرة مؤمنة، ونشر الحق بهم، وينتفع جيرانه وأصحابه وإخوته، وبهذا يكون هذا الإنسان الذي هَدَيْتَهُ إلى الله تعالى أُمَّةً، وكلّ هؤلاء في صحيفَتِهِ، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( أَخْبَرَنِي سَهْلٌ رَضِي اللَّه عَنْه يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ * ))

 

[ رواه البخاري ]

 السؤال الآن، أنّ كلَّ واحِدٍ مِنّا عليه أن يسأل نفسَهُ سؤالاً خطيًا، ومُحْرِجًا وهو: ما العَمَل الذي أُقدِّمُهُ بين يَدَي الله عز وجل يوم القيامة ؟! مرَّةً حضَرْتُ جنازة، والمُتَوَفَّى كان مؤذِّنًا، وكان له شيخ حضر هذه الجنازة وأبَّنَهُ بِكَلمَتين ؛ فقال: يا إخوتي إنَّ أخوكم كان مؤذِّنًا فتَرحَّموا عليه وهذا الميِّت كان ثريًّا، وله أذواق عاليَة في الدُّنيا، وسافر إلى شتَّى بِقاع العالم فأنا لفتَ نظري أنَّ كلّ ما امْتَلكَهُ في الدُّنيا لا قيمة له إلا العمل الصالح، أما سيِّدُنا الصِّديق فتتكلَّم عنه الساعات ولا تنتهي، فأنت حجْمك بِحَجم عمل الصالح، أما أكلنا وجَمَعنا، وسُرِرْنا، وهي لا تجعلك ترقى عند الله فالذي ينفع ؛ هل واليْتَ في الله ؟ وهل عادَيتَ في الله ؟ وهل قَطَعتَ لله ؟ وهل وَصَلْتَ لله ؟ وراعَيْتَ الأيتام ؟ وهل أمرتَ بالمعروف ونهَيْتَ عن المنكر ؟ قال تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾

 

[ سورة الأحقاف ]

وكل واحد يعرف نفسه حقيقة.
 قال له: ما الذي حصَل معك بأمريكا ؟ فأجابهُ أنَّه تزوَّج امرأةً عمرها خمسين سنة !! والهدف منها الإقامة ! فالله يعرف حقيقة النَّوايا، وخلْفِيَّة الأعمال، ومُؤدَّاها، ويعرف كلّ شيء، وما عليك إلا أن تُخْلص له، وتخْدُمَ عباده، وتبتغي بها وجْه الله، وما على الإنسان إلا أن يبْتغي الرِّفْعة عند الله، أما عند الناس فالمال والجاه والقوَّة هي الأصل عند الخلق أما عند الله فالذي يرْفعُكَ هو العمل الصالح والانْضِباط، والإخلاص وأن يكون العمل موافقًا للسُّنة.

تحميل النص

إخفاء الصور