وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الجاثية - تفسير الآية 23 الإسلام بِناء أخلاقي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
 أيُّها الإخوة الكرام ؛ من آيات الله الكريمة ، قوله تعالى :

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 106 ]

 هذا الذي يُعَدُّ عند الناس مؤمنًا ، وهذا المحْسوب على المؤمنين ، والذي يرْتاد بيوت الله ، ما هو الشريك الذي يتلبَّس به معظم الناس ؟ الهَوَى ، والدليل هذه الآية ، وهي الآية الثالثة والعشرون من سورة الجاثيَة ، وهي قوله تعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 23 ]

 يعبُدُ شَهَواتِهِ ، ويعْبُدُ أهواءَهُ ، وهي التي تتحكَّم به ، ويعْبدُها من دون الله ، كيف يكون ذلك ؟ تُوَضِّح هذه الآية آيَةٌ أخرى ، وهي قوله تعالى :

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 أي إذا آثَرْتُم تِجارةً مُحَرّمة على طاعة الله ، والاسْتِثمار المال على طريقة غير مَشْروعة ، أيْ إذا أحْببت المال أكثر من حبِّ الله .
 زوْجَتُكَ تخرُجُ كما تريد ، وهي تُسْعِدُكَ بِطَريقةٍ أو بِأخرى ، وأتن تسْكُتُ عن انْحِرافها لأنَّها أحد أسباب سَعادَتِكَ في الدنيا ، آثرْتَ زوْجتكَ على طاعة الله ، أم أنَّ لك مِن أبيكَ نصيبٌ كبير ولكنَّه حَمَلَكَ على معْصِيَة تُؤْثِرُ نصيبَكَ مِن أبيك على طاعة الله ، والابن أحيانًا تبْحَثُ عن دُنياه ، ولا تبْحَثُ عن آخِرَتِهِ ، وتريد أن تفْتَخِر به ولو على حِساب دينِهِ ، قال تعالى :

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 هناك تِجارات غير شَرْعِيَّة يقول عليه الصلاة والسلام : الاقْتِصاد في المعيشة خير من بعض التِّجار، إذا كانت البِضاعة مُحَرَّمة ، وهناك شُبْهَة ، وأحيانًا يتأجَّر البيت بالليلة عشرة آلاف ، وصاحِبُهُ يعْلمُ عِلمَ يقين لماذا اسْتُأجِرَ هذه اللَّيلة وبِهذا المَبلغ ! وتَجِدُهُ يُصَلِّي ، ويقول لك : التَّأجير حلال !! فهذه المَعصِيَة التِّي تَمَّتْ فيه ، مَن أعانَهُ عليها ؟! صاحِبُ البيت ، لذا آلاف الطُّرُق لِكَسْب المال غير الَشروع ؛ الكَذِب والتَّدليس والغِشّ والاحْتِكار والاسْتِغلال ، وتغيير صِفات البِضاعة ، أو لإعلان أنَّها أجْنَبِيَّة وهي وَطَنِيَّة ، وبِضاعة يابانِيَّة وهي تايْوانِيَّة ، وشَرقِيَّة على أنَّها إنجليزِيَّة وتغيير خصائص البِضاعة ، فهذا كُلُّه يجْلِب مالاً كثيرًا ولكنَّ فيه الغِشّ فالذي يُؤْثِرُ المال على طاعة الله ، أو يُؤْثِرُ زوْجَتَهُ على طاعة الله ، أو أباهُ على طاعة الله ، أو ابنَهُ على طاعة الله، أو عشيرتَهُ على طاعة الله ، أو الذي يسْكُن بِمَسْكَن يُؤجِّره مائة ليرة على النِّظام القديم ، وثَمَن البيت الملايين ، وأنت لك بيتٌ ثاني ، وصاحِبُ هذا البيت ليس لديه سِواه وأنت تعلم علم اليقين حاجته لهذا البيت ، ثمَّ تجد هذا السارق يُصلِّي !! نحن لا نحكم على هذه المعاملات ، ولكن هناك مُؤجِّر ظالم ومستأجِر ظالم ، لو فرضْنا مستأجر عنده بيت ، ويسكن بيتًا بمائة ليرة قبل السَّبعين وصاحِب هذا البيت أرْمَلَة ، وليس لها موْرِد إلا أُجْرة هذا البيت ، فهل يكْفيها أجرةً ؟ مستحيل ، ثمَّ تُصَلِّي بالمسجد ، وتقول أنا صاحِب دين ! أيُّها الإخوة ، هناك نقطة دقيقة ذَكَرتُها في جامِع النابلسي ، وهي قوله تعالى :

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 1 ]

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ :

(( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ))

[ رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ]

 لو صلَّيْتَ الخمس ، وقيام الليل ، وصُمْتَ ، وحجَجْتَ ، ولم تَكُن صاحِب عَهْد ، ولا أمينًا ، فَكُلّ هذه العِبادات لا قيمة لها ، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : بُنِيَ الإسلام على خَمس ، فالإسلام بِناء أخلاقي ، قال تعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 23 ]

 آخر شيءٍ يُشير إلى أنَّك مسلم أنَّك تُصَلِّي ، أما أوَّل شيء فَصِدْقُكَ وأمانتُكَ وإخلاصَك ، فأخلاق المؤمن صارِخَة ، وتَجِدُهُ مُتَمَيِّز ولا يكْذِب ، ولا يخون ، ويُؤدِّي الأمانات إلى أهلِها ، يَفِي بالعَهْد هذا هو المؤمن ، فهذا الذي يتَّخِذُ إلهه هواه ، أقْسَمَ لي بالله شَخص أنَّ بيتًا يزيدُ ثمَنُهُ عن سِتَّة ملايين ، مستأجَر مِن قِبَل إنسانٍ صاحِبَتُهُ أرْمَلَة وليس لها مِن الدُّنيا إلا هذا البيت ، اسْتَطاع أن يُخَلِّصها منه بِمِليون وسبعمائة ألف !! وهو مِن رُواد المساجِد !! فالدِّين المعاملة ، تَجِد إنسانًا حضَر مئات الدُّروس ، وآلاف الخُطَب ، ويقرأ كُتُبًا كثيرة ، ثمَّ يأكل المال الحرام ، فهذا دليل على أنَّه لا يعرف الله أبدًا ، لو ذَهَبتَ إلى قَصر العَدل لوَجَدْت عشرات الدَّعاوى الكّيْدِيَّة ، وكلُّهم يُصَلُّون في المساجِد ، لذا كثرتنا اليوم كَغُثاء السَّيْل ، يقول عليه الصلاة والسلام :
 عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[ رواه أحمد]

 أخٌ يشْتكي على أخْتِهِ ، وأمٌّ ترْفَعُ دَعوى على ابنِها ! شيءٌ لا يُحْتَمَل ، فهذا المُجْتَمَع المُفَكَّك لا يسْتَحِق أن يسْتَخْلِفَهُ الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾

[ سورة الرعد الآية : 11 ]

 فلمَّا يفْهم الإنسان أنَّ الدِّين صلاةٌ بالمَسْجد ، وصَوم وحجّ وزكاة ثمَّ يأكل أموال النّاس بالباطل ، ويفْعَلُ ما يشاء فهذا يكون قد اتَّخَذَ إلهه هواه ، وهو بِهذه الحال مُشْرِك ، قال تعالى :

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 106 ]

 فالمال أغلى عليه مِن الله ، وكذا زوْجَتُهُ ، فأنت لو قلتَ الله أكبر مائة ألف مرَّة وأطَعْتَ مخلوقًا وعَصَيْتَ خالقًا لم تَقُلْها أيَّ مرَّة ! صارتْ هذه عادات ، فأنت آثَرْت المال والزَّوجة والشَّأن على الله عز وجل ، وجلسْتَ في مكانٍ لا ينبغي أن تجلسَ فيه ، قال تعالى :

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 إنَّك حينما تؤْثِرُ شيئًا من هذه الأشياء على طاعة الله فأنت اتَّخَذْتها إلهًا وعَبَدتها من دون الله ، وقد أشْرَكتَ بالله عز وجل .
 الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 23 ]

 أضلَّه الله على عِلْم ، فالعِقاب يتضاعَف هنا ، فهو يعْلم أنَّها مَعْصِية وأنَّه قد أكَلَ أموال اليتامى ظُلمًا ، فهذا الذي يجعل أموال اليتامى في تِجارته المشكوك فيها ، فإن ربِحَ في التِّجارة أدْخَلَ ماله ، وإنْ خَسِر في التِّجارة قال لليتامى : سبحان الله ! هذا تقدير الله !! قال عليه الصلاة والسلام : لا تجعل ماله دون مالِكَ ! المعنى الدقيق أدْركَهُ النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذه الحقيقة لا يكْشِفُها إلا الله ، فأنت تاجِر ، ولكَ مائة صَفْقَة اخْتَرتَ صفْقة فيها مُغامرة وتاجَرتَ بأموال الأيتام ، أما الصَّفْقات الثابت رِبْحُها تُدْخل فيها مالك ! لذلك هناك أشخص لهم شأن كبير عند الناس أمَّا عند الله فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنًا .
 أيُّها الإخوة ، عَظَمة هذا الدِّين في اسْتِقامة المؤمن ، وفي صِدْقِهِ ، وفي إخلاصِهِ ، وفي تطبيقِهِ ، ومُؤاثرتِهِ لِجانب الله عز وجل ، والمؤمن الليرة مثل المليون إذا كانت في معصِيَة الله .
 فالله إما أن يُضِلَّهُ على عِلم ديني ، أو دُنْيَوي ، تَجدُه دكتور ويشْرب الخمْر ، ويزْني ، ويحْمِل شهادة عُليا ، كان عندنا أستاذ في الجامعة يَحمِل شهادة عالية ، وله شأن عندنا ، فإذا بي أراه دخل قاعة التَّدريس في رمضان ، وفي يَدِهِ فِنْجان القهْوة !! قال تعالى :

﴿ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 23 ]

تحميل النص

إخفاء الصور