وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 34 – 35 الدنيا ساعة اجعلْها طاعةً.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الرابعة والثلاثون والتي بعدها من سورة الأحقاف وهي قوله تعالى:

﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)﴾

[سورة الأحقاف]

 أيها الإخوة، النَّفسُ البشَرِيَّة مُصَمَّمة، ومَفْطورة، ومَجبولةٌ مِن أجل أن تؤْمِنَ بالله، وأن ترْكَنَ إليه، وتنْطَوِيَ تحت ظِلِّه، لذلك معرفة الحق معْرفةٌ تَتِمُّ بالفِطرة، وأطْرحُ عليكم هذه الحقيقة، أسْهَلُ معرفة في الأرض لا تحتاج إلى دليل، ولا إلى وثيقة، ولا تريُّث ؛ هي أن تعْرف ابْنَكَ أيس كذلك ؟ فالأب لا يتردَّد في معرفة ابنِهِ، ماذا قال الله عز وجل:

 

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)﴾

 

[سورة البقرة]

 يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك كفروا به، لماذا كفروا به ؟ بغْيًا، وحسَدًا واسْتِكبارًا، وحِفاظًا على مكاسِبِهم، وعلى مكانتهم، وعلى ثرواتِهِم، وعلى شأنِهِم ، وعلى وجاهَتِهِم، فالأصْل أن تؤمن، والإيمان يتِمُّ بالفِطرة، فكما لا تتردَّدُ في معرفة ابْنِك، فالمُشكلة يوم القيامة قال تعالى:

 

﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى﴾

 

[سورة الأحقاف]

 كلّ أنواع الإنكار والجُحود في الدُّنيا غير مَعقولة، وغير طبيعِيَّة، وغير فِطْرِيَّة، قال تعالى:

 

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23)انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾

 

[سورة الأنعام]

 فالحق قديم، وبالمناسبة الإنسان لا ترْكَنُ نفْسُهُ ولا يسْتَقِرّ ولا يتوازَن إلا إذا أطاعَ الله تعالى، وإلا فالزَّمَنُ يُسَبِّبُ له قلقًا، ماذا يخبئ المستقبل ؟ هناك أمراض، ومُشكلات، ودَمار ثرْوَة أحيانًا، ومتاعِب، أما المؤمن فيقْرأُ قوله تعالى:

 

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 فالله تعالى قال:

 

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾

 

[ سورة الأحقاف ]

 هذه الدنيا أساسُها الصَّبْر، وقد فسَّر بعضهم قَوْل النبي صلى الله عليه وسلَّم أنَّ الإيمان الصَّبْر والسَّماحة فالشَّجاعة صَبْر والإنفاق صَبْر، والصَّلَوات صَبر، والزَّكاة صَبر، وغضّ البصَر صبر، وأن تكتفي بِزَوْجَتِكَ صَبْر، وأن تتحرَّى الحلال صَبْر ، وأن تُربِّيَ أولادك صَبْر، فلو ذَهَبْتَ إلى التَّكاليف الإسلاميَّة لَوَجَدْتها مَبْنِيَّةً على الصَّبْر، لأنَّ كلمة تَكليف تعني أنَّها ذاتُ كُلْفَة، وهو فِعْلُ الشيء خِلاف الطَّبْع، فهذا الجسَد يميلُ إلى النَّظَر، والتَّكليف أن لا تنْظُر، واللِّسان يميل إلى التَّكَلُّم في أعراض الناس، والتَّكليف أن تسْكُت، وهذه اليد تميل أن تلْمسَ الشيء المُحَرَّم، والتَّكليف أن تبْتَعِد، فَكُلّ شيءٍ مُصَمَّم أن تفْعَل خِلافَهُ، فالتَّكليف يتناقض مع الطَّبْع، والطَّبع مُرتبِط بالجسَد فالإنسان بعد أن يصْبِر ترْتاحُ نفْسُهُ، وسيِّدنا يوسف حينما قال: معاذ الله وصبَرَ، وبعض العلماء عدَّ اثْنَي عشرة بنتًا تَدعوهُ، فلمَّا صبر توافَقَ مع فِطْرَتِهِ فارْتاحَتْ نفْسُهُ، فالقضِيَّة دقيقة جدًّا، فالتَّكاليف كلُّها تتناقض مع الطَّبع، فالواحد قد ينام الساعة الثانية صباحًا، والفجْر الساعة الرابِعَة وفي أيام الشِّتاء، والبرْد، فكيف يسْتَيقِظ ؟ فالاسْتِيقاظ يتنافى مع الطَّبْع، ولكن بعد أن يُصَلِّي، ويتجلَّى الله على قلْبِهِ، ويشْعُر أنَّهُ أدَّى واجِبَهُ الدِّيني يرْتاح وينام ويسْتَيقِظ الساعة التاسِعَة بِراحة كبيرة جدًّا، فهذه الراحة هي راحة الفطرة، وراحة تأدِيَة عبادة الله تعالى، فالحياة كلّها صَبر، وخِلاف الصَّبْر أن تسْتَرْسِل مع الغرائِز والمُيول والشَّهوات، وجهنَّم كلُّها سَهْوة واحِدَة، قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ عمل الجنَّة حزن بِرَبْوَة، وإنّ عمل النار سَهل بِسَهوة فالاسْتِرخاء وإطلاق البصر واللِّسان، وأكْل المال الحرام، وتتفلَّت كالدابة، أما المؤمن مُنْضَبِط بِمَنهَج، وعنده اِفْعَل أو لا تفْعَل، وهناك حلال، وحرام، ويجوز، ولا يجوز، وحق وباطل، فالمنْهَج الدِّيني أُعيدُ وأقول يتناقض مع الطب من أجل أن ترقى إلى الله و يتوافق مع الفطرة من أجل أن تسعد به، لذلك قال تعالى:

 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)﴾

 

[ سورة الروم ]

 السيارة المُصمَّمة للطريق المُعبَّد لا تجد فيها صوتاً، و لو انك ركبتَها في طريق وعِرٍ تنزعج جدًّا، لأن هذه المركبة مصمَّمة لغير هذا الطريق، و لما يسلك الإنسان طريق الحق، فيصلِّي الصلواتِ الخمس و يحرِّر دخله من الحرام و يغضُّ بصره عن محارم الله و يجعل بيتَه إسلاميًّا و عملَه إسلاميًّا يشعر أن اللهَ يحبُّه، و اللهُ قويٌّ و بيده كلُّ شيء و غنيٌّ وقويٌّ تطمئِن نفسُه، قال تعالى:

 

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)﴾

 

[ سورة الرعد ]

 لذلك الإيمان هو الصبرُ، و الشجاعة صبرٌ و كظمُ الغيظ صبرٌ و أداء العبادات صبرٌ، قال تعالى:

 

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 واحد يركب مركبةً و نازل في طريق حاد الانخفاض ينتهي بمُنعطفٍ تسعين درجة و السرعةُ كبيرةٌ جدًّا و ليس معه مِكبحٌ و لا يعرف، فهو مبسوط، و لكن حينما يعلم سوف يُولوِل، قال تعالى:

 

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 نحن الآن كلُّنا لنا أعمارٌ، فكيف مضتْ الأربعون و الخمسون و الستُّون، كلمح البصر، إذا الستُّون مضت كلمح البصر، فكيف تمضي هذه الأخرى ؟ الإنسان دائما يسأل سؤالا حرِجا، كم بقيَ لي من عمُر؟ و أعقلُ إنسان من يضع الموتَ بين يديه و يستعد له بالتوبة والعمل الصالح و خدمة الناس والدعوة إلى اللله و نشر الحق و تربية الأولاد، قال تعالى:

 

﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 البارحة جاء رمضان و اليوم هو العاشر، و بعد حين عشرين و بعدها ثلاثين و بعدها العيد، ثم بعد ساعة يأتي الأضحى، و يمرُّ العقدُ الأول و الإنسان يمشي بقطار و في آخر المحطَّة لا بدَّ من أن ينزل فيها، قال تعالى:

 

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 الدنيا ساعة اجعلْها طاعةً، و الحقيقة أن الإنسان لما يواجه الموتَ تُعرَض عليه حياتُه في ثوانٍ كشريط، فهنيئًا لمن لمضى حياته في طاعة الله و في عمل الخير، و الويلُ لمَن أمضاها في المعاصي و الآثام و الدليل لو أن الإنسان آلمه سِنُّه ألما لا يُحتمَل، كم حضر من الولائم في حياته و كم أكلٍ طيِّبٍ ذاقها في هذا السنِّ ؟ لِيذكرْ هذه الطعوم الطيّبة هل يذهب ألمُه الآن، الآن الألم هو الواقع، و الماضي مضى، لذلك الكافر حينما يرى مكانه في النار يقول: لم أرَ خيرا قط، كان يسكن في أجمل بيت و ركب أجملَ سيارة، و كلُّ يوم له عزيمة مكانة ووجاهة، كلّ هذه الطيِّبات نسيَها أمام مصيره الحتمي، و المؤمن يرى مقامه في الجنة فيقول: لم أرَ شرًّا قط.

تحميل النص

إخفاء الصور