وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الرعد - تفسير الآيات 8 - 11 العليم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .

الكَون لا يَحْمِل العَبَثِيَّة والصُّدْفَة :

 أيها الأخوة الكرام ، الآية الثامنة من سورة الرعد وما بعدها وهي قوله تعالى :

﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال(9)﴾

[سورة الرعد]

 ما الفرق بين أن يقول الله : يعلم الله ما تحمل كل أنثى وبين أن يقول : الله يعلم ؟ الفرق كبير جِدًّا كالفرق بين أن تقول : نعبد الله ، وبين أن تقول : اللهَ نَعْبُدُ ، التَّقديم والتأخير يُعطي معنًى جديدًا ، إذا قلْتَ : يعلم الله ما تحمل كل أنثى فهذا يعني أنَّ غير الله كذلك يعلم ، أما إذا قلتَ : الله يعلم فهذا يعني أنّه وحْده الذي يعْلم ، لكن قد يقول لك : لكنَّ الآن قد عرفوا ، تذْهب إلى الطبيب فيقول لها : ذَكَر أم أُنثى ، أين الآية ؟
 الله تعالى لم يقل : يعلم مَن تحمل ، وإنَّما قال : ما تحْمل ، فَمَاذا قال العلماء ؟ البُوَيْضَة والحُوَيْن المنوي يَحْمِلان مِن المُوَرِّثات ما يزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة ، وهذا الرَّقَم أذْكُرُهُ بِدِقَّة ، عُرِفَ منها حتَّى الآن ثمانمئة ، أسْمع بالمَجَلات والصُّحف عن الهَنْدَسة الوِراثِيَّة، هذه البُوَيْضَة في نواتِها كروموزومات ومُوَرِّثات ، هذه المُوَرِّثات تَحْمِل في طيَّاتِها خمسة آلاف مليون معلومة مُبَرْمجَة تُسْهِم في تَخليق الجنين ، هذا الجنين له شامة على خدِّه الأيْسَر ، وذاك شعْرُهُ جعد ، والآخر شعره ناعم ، وهذا أنفه أفْطَس ، وذاك مُنْحَن ، خمسة آلاف مليون صِفة كلُّها مُتَوَضِّعَة سَلَفًا على الكروموزومات ومُبَرْمَجَة زَمَنِيًّا ، هذه هي التي يعلمُها الله ، لذلك الله عز وجل يقول :

﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) ﴾

[سورة الرعد]

 هذا الجنين ما مصيرُهُ ؟ مُصْلِحٌ كبير أم مُجْرِمُ كبير ؟ لا نعرف ! غنيّ أم فقير ؟ الله يعلم ما تحْمِل كلّ أنثى ، أَهُوَ مسلم أم كافر ؟ فاسق أم تقيّ ؟ كلّ هذا لا نعرفهُ ، هل سيكون عنصراً إيجابياً في الأمَّة ؟ ممْكِن ، هل سيَقود أُمَّة ؟ مُمْكِن . قال تعالى :

﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) ﴾

[سورة الرعد]

 المرأة إن لم تُنْجِب ، وقوله تعالى :

﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) ﴾

[سورة الرعد]

 إذا أنْجَبَت أولادًا كثيرين ، قال تعالى :

﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) ﴾

[سورة الرعد]

 كلّ هذا وِفْق قرارٍ ووِفْق حِكْمَةٍ مطلقة ، فالكَون لا يَحْمِل العَبَثِيَّة والصُّدْفَة ، قال تعالى:

﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49)أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾

[سورة الشورى]

 كل هذا بِحِكْمَة ، وبعضهم عبَّرَ عن الحِكْمَة فقال : إنَّ الشيء إذا وَقَع لو لم يقَع لكان نَقْصًا في حِكْمة الله ، ولَكَان الله تعالى مُلامًا على عدم وُقوعِهِ ، ولِهذا عبَّر الإمام الغزالي عن هذا الموضوع فقال : ليس في الإمكان أبْدَعُ مِمَّا كان ، فالذي هو كائِنٌ أبْدَعُ ما يكون ، وليس في إمْكاني أبْدَعُ مِمَّا أعْطاني ، فأنسَب شيء لِوَضْعِك أن يكون لك أولاد ذُكور أو إناث أو لك أولاد وإناث ، أو دون أولاد .

النوايا والخواطِر والطُّموحات مَكْشوفة عند الله عز وجل :

 ثم قال تعالى :

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)﴾

[سورة الرعد]

 فعالِمُ الغيب أيْ عَلِمَ ما كان ، وعَلِمَ ما يكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ‍‍! لذلك كما قال تعالى :

﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)﴾

[سورة الرعد]

 همَسَ وأضْمر شيئًا بِقَلْبِهِ أو فكَّر بِشَيء ، فالواحد يذهب لأوروبا ويدخل للمركز الإسلامي ، ويأتي بِامرأة فرنسية ، والعقْد شرعي مئة بالمئة ، ولكنَّه ينوي أن يتزوجها أربع سنَوَات، وعندما ينتهي من الدِّراسة يُطَلِّقُها ، ويأتي نظيفاً إلى بلده ، ويأخذ فتاة بالشام ، فالظاهر لا شيء يَكْشِف هذه الحقيقة ، أما الله فيعلم ما في قلب هذا المجرِم ، لذلك مَن تَزَوَّج امْرأةً على صداقٍ وفي نِيَّتِهِ ألا يُؤَدِّيه لها لَقِيَ الله وهو زانٍ ، فكيف لو تزوَّج على نيَّة مُؤَقَّتَة ؟! هل يوجد أب يقبل أن يُزَوِّج ابنتَهُ على أربع سنوات ؟ مَن يعْلم ؟ قال تعالى :

﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾

[سورة الرعد]

 تجد له منزلاً يصنع فيه الموبقات ، ويقول لزوجته : كنت بالمصنع ، يسْتخفي في هذا المنزل ، وقال تعالى :

﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)﴾

[سورة الرعد]

 أي يتحرَّك بالنَّهار ، قال تعالى :

﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾

[سورة الرعد]

 مُراقَب أشَدّ المُراقبة ، وفي سِرِّكَ وعَلَنِك ، وفي سُكونِك وحركتِك ، فأنت إن فَهِمْتَ هذه المَقولة تسْتقم ، أدقُّ النوايا والخواطِر والطُّموحات كلّ هذا مَكْشوف عند الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾

[سورة الرعد]

 كل شيء مُسَجَّل ، قال تعالى :

﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)﴾

[سورة ق]

من أقام أمر الله تولى الله حفظه ورعايته :

 ثمَّ قال تعالى :

﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾

[سورة الرعد]

 فأنت تعيش ضِمْن هذه الدائرة ، ولكن حولك دائرة لها قِوى مُخيفَة ، فالحاصل أنَّ هناك دائرتين ؛ دائرة أنت فيها ولك عليها سُلطان ، ودائرة مُحيطة بك لا سلطان لك عليها ، فالدائرة التي أنت فيها ، عن هذه الدائرة أنت تُحاسَب ، فإذا أَقَمْت أمْر الله في هذه الدائرة ، الله جلّ جلاله تولَّى عنك وحفظك مِن القِوى الشِّريرَة في الدائرة التي تُحيط بك ، أما إن أهْمَلْتَ ما أنت عليه قادِر في هذه الدائرة أوْكَلَكَ الله إلى القِوى الشِّريرَة المُحيطة بك ، قال تعالى :

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾

[سورة الرعد]

 هذه الآية أيها الأخوة الكرام تَحُلّ مليون مُشكلة ، أنت بِبَحْبوحة ومُرْتاح لِهذا الدَّخل ، إنَّ هذا الدَّخل لن ينقص إذا أدَّيْتَ زَكَاةَ مالِك ، وتواضَعت ، وأعنت الفقراء والمساكين ؛ فالله أكرم مِن ذلك ، وكذا الأمر إن كُنتَ مَزْعوجًا مِن مسألة فاِبْحَث عن المعاصي ، لن تتغيَّر الحالة إلا بالاسْتِقامة والتَّوبة ، فالآية لها معْنيان مُتَعاكِسان : إذا كنت في بَحبوحة إن لم تُغَيِّر فالله لن يُغَيِّر، وإذا كنتَ في ضيق إن لم تُغَيِّر فالله لن يُغَيِّر ، فكلمة

﴿ مَا بِقَوْمٍ ﴾

 هي الظروف القاهِرَة التي لا تمْلِكُها ، فأنت لا تمْلِك أن تكون بِصِحَّةٍ جيِّدَة طوال الحياة ، وأن يعمل القلب بِشَكل منتَظم ، وكذا الكلية ، والكبد ، والفيروسات ، فأنت لا تملِك لا الصِّحة ، ولا الدَّخل ، ولا الخُصوم ، ولا الأقوِياء، فهذه أمطار صاعقة حطَّمَت مستودعات النَّقل ، وصاعقة أخرى أسالت النَّفط فأحْرَقَ قريَةً كاملة ، وهل يملك مبنى من خمسين طابقاً ألا يتحطَّم في ثانية من الزمن بِزِلزال ؟ صاعِقَة ، وزلزال ، وبركان ، وفيَضَان ، وحروب أهْلِيَّة ، فأنت لا تمْلك شيئًا ، إنَّما تملك نفسَك وبيْتك وأهلك ، فما عليك إلا أن تُغَيِّر هذا والباقي ليس عليك ، فهذه الآية أيها الأخوة تَحُلّ مليون مشكلة .

((عن أبي ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : يقول الله : يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ، يا عبادي ! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي ! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))

[مسلم]

 فالمُختصر المفيد ؛ إذا كنت مُرتاحًا لا تُغَيِّر لا يُغَيِّر ، وإذا كنت مَزعوجاً غيِّر ليُغَيِّر.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور