وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة ابراهيم - تفسير الآية 5 أيامٌ لله عز وجل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله تعالى في سورة إبراهيم في الآية الخامسة:

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾

[سورة إبراهيم]

 في هذه الآية كلمتان هما مركزا الثِّقل فيها ! أيام الله ما تفسير أيام الله ؟ وهل في حياة كل مؤمن أيامٌ لله عز وجل ؟ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

((أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، و أحبوني بحب الله، وأحبوا آل بيتي بِحُبِّي..." ))

 فالإنسان حتى يمتلأَ قلبُهُ بِحُبِّ الله ؛ هناك فِعْلٌ إرادي وهو أن يُذَكِّر نفسه بِأيام الله، فما هي أيام الله؟ اليوم الذي نجاه الله من مُشْكلة مُحَقَّقة، اليوم الذي يسَّر الله له الزواج من تلك المرأة الصالحة، واليوم الذي بنى في البيت، واليوم الذي شفاهُ الله من هذا المرض الخطير، واليوم الذي نجاه الله من هذا العدوّ الشرير.
 لا يوجد مؤمن إلا وفي أيامه عشرات بل مئات الأيام التي أكْرَمَهُ الله بها، قد ينجحُ في امْتِحان صعب، قد ينال درجَةً عِلْمِيَّة عالِيَة، قد يُوَفَّقُ في وظيفةٍ جيِّدة، قد يشتري بيْتًا بِسِعْرٍ مُعْتَدِل فإذا به الآن هذا البيت بالمَلايين، قد يُؤَسِّس عمَلاً تِجارِيًّا يتنامى، قد يلوحُ له شبَحُ مُصيبة يُنَجِّيهِ الله منها، قد يَمْكُر به عدُوّ خصِم فَيُدافِعُ الله عنه، لا يوجد مؤمن إلا وفي أيامه أيام، هذه الأيام سمَّاها الله أيام الله، قال تعالى:

 

﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾

 

[سورة إبراهيم]

 والإنسان تفتر هِمَّتُهُ، ويضعفُ إيمانُهُ وتضْعف صِلَتُهُ بالله عز وجل، عليه أن يذكر أيام الله، فأيام الله بالنِّسْبة إلى قَوْمِ موسى يومَ أنْجاهُم من فِرْعَون، كان يُذَبِّحُ أبناءَهم ويسْتحيي نِساءهم كما قال تعالى، وأيام الله بالنِّسْبة إليك تختلف من كلّ واحِد بالنِّسبة لِحياتِه، فلَعَلَّ زواجَهُ مِن أيام الله، ولعلّ سُكْناهُ في هذا البيت مِن أيام الله، ولعلَّه لما الْتقى بهذا الإنسان في المسجد كان هذا اللِّقاء يومًا من أيام الله، ولعلَّه يوم قرأ هذه الآية يوم من أيام الله وتعرَّف إلى الله معرِفَةً لم يكن يعرفها من قبل، فالإنسان كلَّما ضعُفَت هِمَّتُه وضاقَت نفْسُهُ، وصلته بالله عز وجل بِإمكانِهِ أن يُذَكِّر نفْسَهُ بِأيام الله.
 قال تعالى:

 

﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)﴾

 

[سورة النساء]

 هذه للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي لِكُلّ مؤمن، ألَسْتَ الآن مَوجودًا ؟! فأنت الآن بِنِعْمة قد لا تعرفُها، وهي نِعْمة الإيجاد، أنت كائِن موجود، لماذا أوْجَدَك الله تعالى ؟ لِيَرْحَمَكَ، قال تعالى:

 

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

 

 فأنت تتمتَّع بِنِعْمة عُظمى وهي أنَّك مَوجود.
 ألم يمدّك الله بالصِّحة ؟ ألم يمدّك بالمال ؟ ألم يُهيِّء لك مأوًى تأوي إليه مساءً ؟ أليْس َلك زوْجة ؟ أليْس لك أولاد ؟ أليس معك قوت يومِك ؟ هذا مِن نِعَم الله عز وجل، لذلك نِعْمة الإيجاد، ونِعْمة الإمْداد ونعمة الهُدى والرَّشاد، بل إنّ نعمة الهُدى والرَّشاد هي أكبر نعمة على الإطلاق، لذلك حينما تقرأ في الفاتحة قوله تعالى:

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)﴾

[ سورة الفاتحة ]

 إذا كنتَ فِعْلاً على الصراط المستقيم، ويسبق هذا معرِفَة الربّ الكريم، فهذه نِعْمَةٌ لا تعدلها نعمة، لن تعرف قيمة الهُدى إلا إذا رأيْتَ الضلال، والعقيدة الزائِغَة، والسُّلوك المنحَرِف، وشرب الخَمر، والعُدوان على الأعراض، لن تعرفها إلا إذا الْتَقَيْتَ مع أشْخاصٍ تائِهين شاردين مُعَذَّبين وأشْقِياء بِبُعْدِهم عن الله عز وجل.
 قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46)﴾

 

[ سورة الزخرف ]

 سؤال الآن ! لماذا الظلمات جمْع والنور مفرَد ؟! لِمَ لَمْ يُجمع النور ؟ أو أن يأتي لفظ الظلمات مفردًا ؟ قال: لأنّ الباطل يتعدَّد، لكنَّ الحقّ واحِد، هناك ضلالات فِكْرِيَّة وسُلوكِيَّة، وظلمات المعاصي، وظلمات الشِّرْك وظلمات أكْل المال الحرام، فَكُلّ مَعْصِيَةٍ هي ظُلْمَة إن أخْرَجْتَ يَدَكَ لم تَكَد تراها ! ظُلمات ؛ الغَفْلَة ظلمات والظُّلْم، وهدم حُقوق الناس وأن تعْتَقِد عقيدَةً زائِغَة ظُلمات، أما الحق فلا يتعَدَّد وهو واحِد، فلو الْتَقَيْتَ مع أهْل الحق في الأرض كلِّها فلن تجِدَ فرْقًا واحِدًا بينك وبينهم ؛ فالمبادئ والأهداف هِيَ هِيَ، وكذا الانْضِباط والعِفَّة والصِّدْق والأمانة والرَّحمة، وخِدْمَة الآخرين، النور واحِد.
 ثمَّ قال تعالى:

 

﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾

 

[سورة إبراهيم]

 لذلك قال الشاعِر:

 

كُنْ عَن هُمومِكَ مُعْرِضًا  وَكِلِ الأمور إلى القضا
وابْشِر بِخَيْرٍ عاجِـــلٍ  تنْسى به ما قدْ مضـى
فَلَرُبَّ أمْرٍ مُسْخِــــطٍ  لك في عواقِبِه رِضـا
ولَرُبَّما ضاق المضــيق  ولرُبَّما اتَّسَع الفضــا
الله يفْعَلُ ما يشــــاء  فلا تكن مُعْتَرِضـــا
الله عَوَّدَكَ الجميــــل  فَقِفْ على ما قد مضى

***

 المؤمن أيها الإخوة ربَّاني، معنى ربَّاني أي أنَّ علاقته بِرَبِّهِ طيِّبَةٌ جدًا أساسُها طاعَتُهُ وعملُهُ الصالِح، وأساسُها خِدْمَتُهُ للخَلْق، طاعتُهُ لله وعملُهُ الصالِح، تَجعل هذه الأعمال كلُّها علاقة المؤمن بالله تعالى طيِّبَة، يحبُّ الله عز وجل ويُحِبُّ خلْقَهُ، ويحبُّ خِدْمَتَهُم والدَّمْعة مِن على خُدودِهم، ويرسُم البَسْمَةَ على أفْواهِهِم، أساس حياتِه العَطاء وليس الأخْذ، أما الكافر فحياتُهُ يَبْنيها على الأخْذ، يمصّ الناس، ويأخذ الأموال بالحيلة والقَهر، فالمؤمن لا يُسْعِدُهُ إلا العطاء من مالهِ ووقْتِهِ وجُهْدِهِ وصِحَّتِهِ وخبرته ومكانَتِهِ، وكلَّما بالغَ في العَطاء أكْرَمَهُ الله تعالى بالسَّعادة، وألقى على قلبِهِ السَّكينة، لذلك يقول الإنسان أثناء الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام: اللهمّ صلِّ على أسْعَدِنا محمّد لأنَّه صلى الله عليه وسلَّم جاء الحياة فأعْطى ولم يأخذ، والطُّغاة أخَذوا ولم يُعْطوا، والأنبياء أعْطَوا ولم يأخذوا، ونحن نأخذ ونُعْطي، لذلك يا مَن جئتَ الحياة فأَعْطَيت ولم تأخذ، ويا مَن قدَّسْتَ الوُجود كلَّه ورعَيْت قضِيَّة الإنسان، ويا مَن زكَّيْتَ سِيادَة العَقْل، ونهنسْت سيادة القطيع، ويا مَن هيَّأك تفَوُّقك كي تكون واحِدًا فوق الجميع فَعِشْتَ واحِدًا بين الجميع، دخل عليه عمر وهو صلى الله عليه وسلم مُضطجِع على حصير، وقد أثَّر على خدِّه الشريف فَبَكى عُمَر، فقال: لمَ تبْكي يا عمر ؟ فقال: رسول الله ينام على الحصير، وكِسْرى ملِكُ الفرس ينام على الحرير، فقال:

((يا عمر: إنَّما هيَ نُبُوَّة ولَيْسَت مُلْكًا ))

 فكان إذا سقى القوم كان آخرهم شُرْبًا، وإذا جلسَ جلسَ حيث ينتهي به المَجْلِس وكان إذا دَخَلَ عليه مَن لا يعْرِفُهُ ينظر ويقول: أيُّكُم محمّد ؟ لا علامة تدلّ عليه من بين أصْحابِهِ، كان مُتَوَاضِعًا عليه الصلاة والسلام، ولماذا أحَبَّهُ أصْحابُه هذا الحبّ الذي لا يوصَف ؟ يقول: ما رأيْتُ أحدًا يُحِبّ أحدًا كَحُبّ أصحاب محمدٍ مُحَمَّدًا ! وقع أحد الصحابة في قبْضة قُريش، وأرادوا صَلْبَهُ وقتْلهُ، اسمُه خبيب ابن عديّ، سأله أبو سفيان: أَتُحِبُّ أن يكون محمّد مكانَكَ ؟! وأنت مُعافًى في بيتِك ؟ اُنظروا ماذا قال هذا الصحابي وهو على وشك الموت: والله ما أُحِبُّ أن أكون في أهلي، وولدي، وعندي عافِيَة الدنيا ونعيمُها، ويُصابُ رسول الله بِشَوْكَة ! هكذا أحبّ أصْحابُ النبي عليه الصلاة والسلام محمَّدًا صلى الله عليه وسلَّم، عندها قال أبو سفيان: ما رأيْتُ أحدًا يُحِبّ أحدًا كَحُبّ أصحاب محمدٍ مُحَمَّدًا !
 ونحن أيُّها الإخوة، إن لم نتعاوَن، ويحبّ بعضنا بعضًا، خدمنا بعضنا بعضًا، والله في عَون العَبد ما كان العَبْد في عَون أخيه، ومَن نفَّس عن مُؤمنٍ كربَةً نفَّس الله عنه كُربَةً مِن كُرب يوم القيامة، لذلك إذا أردْتَ أن تكون سعيدًا فأسْعِدِ الناس، قرأتُ كلمة في مجلَّة أربع كلمات: إذا أرَدْتَ أن تسْعَدَ فأَسْعِدِ الآخرين تكن أنت أسعدهم، أكْرِمهم وأعْطِهِم من وقتك وصِحَّتك ومالِك.
 إذًا قال تعالى:

 

﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾

 

[ سورة إبراهيم ]

 مِحْوَر درسنا اليوم ؛ أيَّام الله، يومٌ نجَّاك الله مِن عَدُوّ، ويوم يُسِّر لك فيه شِراء بيْت، والزواج ورزق أولاد، وأعطاك درجة عِلْمِيَّة، فَكُلَّما ضاقَتْ نفْسُك واضطرب فُؤادُك، وفتُرت عبادك ذَكِّر نفْسَك بِأَيام الله كما أمرَ الله سيِّدنا موسى وقومه بني إسرائيل.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور