وضع داكن
19-04-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - العقيدة والتوحيد - الندوة : 58 - ثمار التوحيد ـ الدلافين
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
ويسعدنا أن نكمل ما كنا قد بدأناه في الحلقة الماضية مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق .
أهلاً وسهلاً سيدي الكريم .
بكم أستاذ علاء ، جزاكم الله خيراً .
الأستاذ علاء :

تذكير وتقرير :

سيدي الكريم ، توقفنا في حلقات سابقة عند مقوم هام من مقومات التكليف ، ألا وهو الاختيار ، وأفردنا له الكثير من الحلقات ، وتشعبت مواضيع هامة عن الاختيار ، وقلنا : إن الاختيار يثمّن العمل ، وأن الله عز وجل أوجده لأنه يتسق وعدله ، ويتسق والثواب والعقاب ، وأيضاً أن الإنسان مخير فيما كلف به ، من هذا الموضوع تبينا أن هنالك ثلاثة أنواع من الإضلال ، الله عز وجل يترك الإنسان في محض اختياره للأشياء فيما كلف بها ، ولكن هنالك الإضلال الجزائي ، والإضلال الحُكمي ، وهنالك الإضلال عن الشركاء ، سيدي الكريم الإضلال عن الشركاء يفضي إلى مسألة واحدة ، وهي التوحيد ، وأن يكون الإنسان موحداً متجهاً بكليته إلى الباري عز وجل ، فماذا عن حقيقة التوحيد ؟
الدكتور راتب :

الدينُ توحيدٌ وعبادة :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء ، جزك الله خيراً ، الإنسان أحياناً كما أنه يميل إلى التفاصيل والأفكار التفصيلية والتشعبات يميل في حين آخر إلى ضغط الحقائق بكلمات ، فإذا أردنا أن نضغط فحوى رسالات السماء مجتمعة لا نستطيع أن نفعل هذا ، كما جاء في القرآن الكريم ، قال تعالى :

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

( سورة الأنبياء )

الرسالات السماوية مجتمعة ، دين الله وحي السماء إلى الأرض ، خطاب السماء إلى الأرض مضغوط بكلمتين توحيد وعبادة ، التوحيد بالتعبير المعاصر منطلقات نظرية ، والعبادة تطبيقات عملية ، التوحيد اعتقاد ، والعبادة سلوك ، التوحيد الجانب العقلي من الدين ، والعبادة الجانب السلوكي من الدين ، فالدين إيمان وعمل ، وفي أكثر من مئتي آية يُذكَر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، منطلق نظري وتطبيق عملي ، فلذلك هذه الآية :

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ ﴾

(سورة الأنبياء )

الآن نقطتان : 

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

(سورة الأنبياء )

أحياناً للتقريب ، قال تعالى : 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾

(سورة الكهف )

النبي صلى الله عليه وسلم بشر ، وتجري عليه كل خصائص البشر ، وانتصر على بشريته ، إذاً : هو سيد البشر ، قال تعالى : 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾

(سورة الكهف )

الآن سيضغط القرآن كله في كلمتين ، أنه
القرآن بأكمله ستمئة صفحة ، ثلاثون جزءًا مضغوط بكلمتين ، قال تعالى : 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

(سورة الأنبياء )

توحيد وعبادة ، حتى إنهم قالوا : التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل ، فحينما تأتي حركتك في الدنيا مطابقة لمنهج الله فقد حققت الهدف من وجودك ، والإله العظيم الذي خلق الإنسان خلقه ليعبده .

حقيقة العبادة :

1 ـ العبادة الشعائرية والعبادة التعاملية :

لكن يفهم الناس أحياناً بسذاجة أن العبادة صلاة ، العبادة أنك أمام منهج تفصيلي ، أقولها كثيراً ، يبدأ بالفراش الزوجية ، وينتهي بالعلاقة الدولية ، منهج كامل ، في طعامك ، في شرابك ، في زواجك ، في تربية أولادك ، في كسب مالك ، في أفراحك ، لا سمح الله في الأتراح ، في السفر ، في الحرب ، في السلم ، منهج تفصيلي ، فلذلك نحن مضطرون إلى أن نفرق بين عبادتين ، بين عبادة شعائرية وعبادة تعاملية . 

2 ـ لا تصح العبادة الشعائرية إلا بصحة العبادة التعاملية :

الحقيقة المُرة التي هي أفضل ألف مَرة من الوهم المريح ، أن العبادات الشعائرية ، ومنها الصلاة والصيام والحج والزكاة لا تقبل ، ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية ، فلما غفل المسلمون عن أن الدين عبادات تعاملية أصبح الدين أجوف ، أصبح الدين إطاراً ، أصبح الدين ثقافة ، أصبح الدين فلكلوراً ، أصبح الدين تراثاً ، الدين منهج تفصيلي ، تعليمات الصانع ، لأن الإنسان أعقد آلة في الكون تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز ، ولهذه الآلة بالغة التعقيد بالغة النفع غالية الثمن كتيب فيه تعليمات التشغيل والصيانة ، إنه القرآن الكريم ، فلذلك الإنسان أحياناً يحب التفاصيل والإسهاب ، لكن أحياناً يحب الموجز ، موجز الأديان كلها توحيد وعبادة .
الأستاذ علاء : 

﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾

(سورة طه)

الدكتور راتب :

موجَز القرآن : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ

موجز القرآن كله ، قال تعالى : 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الأنبياء ]

التوحيد والعبادة ، التوحيد حينما تشعر أن مصيرك ، أن رزقك ، أن صحتك ، أن حياتك ، أن دخلك ، أن سعادتك بيد جهة أرضية ، إذا توهمت ذلك دون أن تشعر تتجه إلى عبادة هذه الجهة الأرضية ، من دون أن تعطيها اسم العبادة ، تخاف منه ، تعصي الله من أجله ، ترتكب الموبقات إرضاءً له ، تتكلم كلاماً لست قانعاً به إرضاءً له .

من صفات الداعية الربّاني : التوحيد الخالصُ :

هناك آية دقيقة جداً يصف الله الدعاة إلى الله ، قال تعالى : 

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾

(سورة الأحزاب)

هؤلاء الدعاة لهم مئات الصفات ، هم حتماً صادقون ، أمناء رحماء ، صفاتهم كثيرة ، هي صفات المؤمنين ، لكن الله أغفلها كلها ، وأبقى صفة واحدة ، قال تعالى : 

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

(سورة الأحزاب)

فلو أن هذا الداعية خشي غير الله لسكن عن الحق خوفاً ممن خشيه ، وتكلم بالباطل إرضاءً لمن خشيه انتهت دعوته ، و ما مِن داعٍ أن نذكر بقية الصفات ، علماء البلاغة قالوا : هذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًا ، بمعنى أنه إذا ألغيت الصفة ألغي الموصوف ، كأن تقول : الطائرة كبيرة ، والباخرة كبيرة ، طائرة غالية الثمن ، واليخت غالي الثمن ، أما إذا قلت : طائرة تطير ، فإذا ألغي طيرانها ألغيت هويتها ، قال تعالى : 

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

(سورة الأحزاب)

الأستاذ علاء :
هنا المفهوم التوحيدي جلي .
الدكتور راتب :

التوحيد راحة ، والشرك عذابٌ :

ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، فأنا حينما أتوهم أن رزقي بيد زيد ، وأن منصبي بيد عبيد ، وأن راحتي النفسية بيد فلان ، وأن مكانتي الاجتماعية بيد علان ، أنا مضطر أن أعبد آلهة كثيرة ، أنا سأتوزع ، سأتمزق ، إذا جاءت التعليمات متضادة ماذا أفعل ، من أرضي ؟ لذلك المؤمن استراح من كل هذه المشكلات ، يعبد رباً واحداً ، ويرضي إلهاً واحداً ، ويعتمد على إله واحد ، ويلجأ إلى إله واحد ، ويتوكل على إله واحد ، وكل عمله من أجل إرضاء هذا الإله الواحد ، هذا معنى قوله تعالى : 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

(سورة الأنبياء )

الأستاذ علاء :
هذه الخلاصة ، وهذا كل ما جاء به الأنبياء ، وما جاءت به الشرائع أودت إلى هذا المعنى ، وإلى هذا المنتهى الذي هو الإخلاص لله بالعبودية ، وألا نشرك به أحدا ، ومتى تحققت هذه القضية فقد تحقق الدين .
الدكتور راتب :
أستاذ علاء ، حينما ترى أن رزقك بيد فلان دون أن تشعر تحاول أن ترضيه بأي ثمن ، لأن الإنسان حريص حرصاً لا حدود له على حياته ، وعلى رزقه ، فإذا أسْلَمنا الله إلى غيره كيف يأمرنا أن نعبده ، إذا أسلَمنا الله إلى عدو لئيم كيف يأمرنا أن نعبده ؟
إنّ علاج حالات الإحباط عند بعض المسلمين الآن هو التوحيد ، لأن توهم ضعيف الإيمان أن أمرنا بيد جهة قوية بعيدة عنا تخطط لتدميرنا ، لإفقارنا ، لإضلالنا ، لإفسادنا ، لإذلالنا ، لإبادتنا ، وهي قوية جداً ، معها أسلحة فتاكة ، والإعلام بيدها ، والأموال بيدها ، والثروات بيدها ، والتحالفات بيدها ، وكأن حرباً عالمية ثالثة معلنة على الإسلام ، فالمسلم إذا كان ضعيف الإيمان يشعر بالإحباط ، لذلك أنا أقول : أخطر شيء في حياة المسلمين أن يهزموا من الداخل ، من الخارج ليست مشكلة كبيرة ، فما مِن إنسان إلا وله ساعة هكذا وساعة هكذا .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، تفضلت في مسألة هامة جداً ، أن الهدف من نزول الدين أن نوحد الله ، وألا نشرك به أحدا ، الآن من هنا جاءت الدروس .
النبي عليه الصلاة والسلام من ولادته حتى وفاته كان موحداً لله ، وفي البدايات قطع اللهُ له الأسباب حتى لا يتوجه إليه ، من وفاة والده ، ثم والدته ، ثم جده ، ثم عمه ، إلى أن توكل التوكل الصحيح على الله عز وجل ، ومن هنا نفهم الهجرة ، وكيف النبي انتقل إلى المدينة المنورة ، ثم أخذ بالأسباب ، وقلت لنا : أنْ نأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، ثم نتوكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، هنا يتحقق التوحيد في هذه القضية ؟
الدكتور راتب :

علاقة التوحيد باتخاذ الأسباب :

الحقيقة التوحيد له معنيان :
المعنى الأول : أن الله وحده هو الفعال .
المعنى الثاني : أن الله جعل لكل شيء سببا ، فحينما آخذ بالأسباب هذا لا يتناقض مع التوحيد ، حينما أرى أن الأمر بيد فلان فقد أشركت ، أما حينما أرى أن الأمر بيد الله ، وقد مرني أن آخذ بالأسباب ، فاتصلت بفلان ، وعرضت عليه مشكلتي ، ووعدني بحلها ، أنا بقيت موحداً ، لأني أرى أن العطاء بيد الله ، هو بشكل آخر لا رافع ولا خافض ، ولا معطي ولا مانع ، ولا معز ولا مذل ، ولا رازق ولا مقتر إلا الله ، يد الله وحدها تعمل ، ولو أن الله أسلَمنا إلى غيرنا أنا أتسائل : كيف يأمرنا أن عبده ؟ لذلك طمأننا وقال : 

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

( سورة هود)

الأمر معرف بـ ( أل )تعريف استغراق ، كله توكيد ،

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

الآن

﴿ فَاعْبُدْهُ ﴾

وما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك ، أنا موجود يا عبدي ، أنا معك ، قال تعالى : 

﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾

( سورة طه)

فرعون الجبار الطاغية قتلُ إنسانٍ أهون عنده من قتل ذبابة ، قال تعالى : 

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾

( سورة طه)

أستاذ علاء ، في القرآن قصص في الحقيقة شيء يلفت النظر ، أن شرذمة قليلة من أتباع سيدنا موسى خائفة مضطهدة مهانة ملاحقة ، فرعون وراءه بجنوده بجبروته وأسلحته كبريائه وبطشه وقسوته ، قال تعالى :

 

﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾

( سورة الشعراء)

إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان معك فمن عليك ؟
سيدنا يونس أستاذ علاء ، إنسان يجد نفسه فجأة في بطن حوت ، الحوت وزنه مئة وخمسون طنًّا ، فيه خمسون طنًّا من اللحم ، وخمسون طنًّا من الدهن ، وخمسون طنًّا من العظم ، وتسعون برميلا من الزيت ، وجبته المتواضعة أربعة أطنان ، والإنسان كله مئة كيلو ، الإنسان يستطيع أن يقف في فم الحوت ، نبي كريم وجد نفسه فجأة في بطن حوت ، هذه مصيبة ، واحتمال النجاة منها كم ؟ صفر ، لا أمل إطلاقاً في قانون الأرض ، قال تعالى : 

﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الأنبياء)

لي تعليق طريف : الحمد لله أن هناك تغطية تحت الماء ، لو كان معه هاتف خلوي لم يجد تغطية ، أنت خارج التغطية ، أيّ مصيبة تنزل بالإنسان لن تكون بمستوى أن يجد نفسه فجأة في بطن حوت .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، وهذا ما عرفناه عندما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام ، ودخل الغار ، وقال سيدنا أبو بكر : لقد رأونا.
الدكتور راتب :
قال عليه الصلاة والسلام : ألم تقرأ قوله تعالى : وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون .
الأستاذ علاء :
ما هذا التوكل الحقيقي والتوحيد والثقة بالله عز وجل ؟
الدكتور راتب :
مثلاً : قال تعالى : 

﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾

( سورة يوسف)

تروي كتب التاريخ أن فرعون رأى في المنام أن طفلاً سوف يقضي على ملكه ، فأمر بقتل كل أبناء بني إسرائيل ، وأيّة قابلة لا تبلّغ عن مولود ذكر تقتل مكانه ، يقتل أبناءهم ، ويستحي نسائهم ، أما الطفل الذي سيقضي على ملكه فرباه في قصره ، قال تعالى : 

﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾

( سورة يوسف)

أنا أقول دائماً : زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، قال تعالى :

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾

( سورة النور )

هذه وعود خالق السماوات والأرض ، فعلى الطرف الآخر أن يعبده ، قال تعالى : 

﴿ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾

( سورة النور )

فإذا أخل الفريق الثاني بما يترتب عليه من عبادة وتوحيد الفريق الأول وهو الذات الإلهية في حل من وعوده الثلاثة ، التوحيد هو الدين ، التوحيد هو الإيمان ، التوحيد أن لا ترى مع الله أحدا ، التوحيد أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن أمرك كله بيد الله ، وأن عليك أن ترضي جهة واحدة ، شيء رائع جداً ، ألغي النفاق ، ألغي الخوف ، ألغي بذل ماء الوجه ، أنت إذا دخلت إلى دائرة فيها أربع طوابق ، ولتكن الهجرة والجوازات ، وأنت تحب تسافر إلى بلد معين ، أنبأك أحدهم أن إشارة المغادرة لهذا البلد بيد المدير العام وحده ، وليس في كل هذه الدائرة موظف من صلاحيته أن يوقع على هذه الزيارة ، فهل تبذل ماء وجهك أمام شرطي ؟ لابد أن تذهب إلى المدير العام الذي بيده التوقيع .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، كما تفضلت التوحيد اعتقاد ، والعبادة سلوك ، نرجع قليلاً إلى العبادة السلوكية ، ومررت على العبادات إن صح التعبير الشعائرية ، وهناك عبادة تعاملية أيضا ، وأن الشعائرية مرهونة بالتعاملية ، ولا قيمة لها ما لم تكن مرهونة ومقرونة بالتعاملية ، وأن يتحقق التعامل الصحيح لكي تقبل من هنا نقول :

(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ))

[ الجامع الصغير عن ابن عباس بسند فيه ضعف ]

رغم الفصل في هذه القضية يظن كثير من الناس أن التعامل غش ، أكل على فلان ماله ، استطاع أن يؤثر في السوق في سمعة فلان ، وأن الله غفور رحيم .
الدكتور راتب :

ثمرة العبادات حسنُ المعاملات :

أستاذ علاء ، الدين توقيفي ، لا يجرؤ أحد على سطح الأرض أن يقول في الدين برأيه ، أنا أعطيك الأدلة نبدأ بالصلاة :
ثمرتها الابتعاد عن كل معصية .

1 ـ الصلاة :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[ مسلم ، الترمذي ، أحمد ] 

2 ـ الصيام :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))

[ البخاري ، الترمذي أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ ))

[ابن ماجه]

رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش .

3 ـ الحج :

(( ومن حج بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، ينادى أن لا لبيك ، ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ))

4 ـ الزكاة :

الزكاة ، قال تعالى : 

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : الآية 53]

ماذا بقي ؟ هذه الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، إن لم تصح العبادات التعاملية الضابط في هذا أن سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن هذا الدين العظيم قال :

(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصِّيَامِ ))

[ أحمد ]

هذا هو الدين ، الدين قيم أخلاقية ، لذلك حينما قالوا : بني الإسلام على خمس ، الإسلام غير هذه الخمس ، فهذه أركان الإسلام ، أما الإسلام فهو مجموعة قيم أخلاقية ، الإيمان هو الخلق ، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ، هذا محور هذه اللقاءات الطيبة إن شاء الله ، التوحيد يفضي إلى الخُلق .
عندنا علائق رائعة جداً بين العقيدة والخلق ، أنا حينما أرى أن أمري بيد الله لا أنافق ، ولا أبذل مال وجهي ، ولا أرتكب معصية من أجل الرزق ، التوحيد يشفي الإنسان من آلاف الأمراض ، كل مشكلات العالم الإسلامي أراها ترجع إلى مرض واحد ، المرض هو الإعراض عن الله ، وضعف التوحيد ، وكل ما نعانيه من مشكلات هي أعراض لمرض واحد ، هو الإعراض عن الله ، أعرضنا عن الله ، تعلقنا بالدنيا ، تنافسنا عليها ، كذبنا ، غششنا ، فعلنا كل الموبقات .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، كنا نود أن نتحدث عن مسألتين : الأولى هي لوازم التوحيد ، ثم ثمار التوحيد ، كما تفضلت أن التوحيد يفضي إلى كذا يفضي إلى الاستقامة .
اليوم ماذا أعددت لنا سيدي في الفقرة العلمية ؟
الدكتور راتب :

الموضوع العلمي : كيف تتعامل الدلافين مع ظاهرة الاحتكاك في الماء :

لازلنا في موضوع الدلفين ، فقرة أخيرة عن الدلفين ، إذا أراد مهندس ما تصميم مركبة بحرية قوية تتحمل الظروف الصعبة فعليه أن يأخذ بالحسبان قوة احتكاك هذه المركبة في الماء ، حينما ترى أن العالم الآن يقلد خلق الله ، الآن السفن العملاقة والغواصات سوف تأخذ من الدلفين بعض خصائص جلده .
فكلما عمل على تخفيف الاحتكاك كلما كانت المركبة أقوى وأسرع ، لذلك عليه أن يختار التصميم المناسب الذي يخفف الاحتكاك إلى أدنى درجة ، ويعطيها القوة ، من المعلوم أن قسماً كبيراً من طاقات المحرك يضيع بلا جدوى من جراء عائق الاحتكاك ، الاحتكاك يستغرق طاقة كبيرة جداً ، وكلما قلّلنا من الاحتكاك كلما أسرعت السفينة ، المركبة الأرضية السيارة إذا ضغطت عجلاتها بالهواء قلّت مساحة الاحتكاك مع الزفت ، فيقلّ مصروفها ، وكلما كانت العجلات بأوسع مساحة مع الأرض الاستهلاك يكون أكبر يحتاج إلى طاقة .
تعالوا معنا لنرى كيف تواجه الدلافين هذه المشكلة ؟ هل من المعقول للإنسان العملاق الذي حصل علوماً شتى يرجع إلى تقليد مخلوق خلقه الله منذ ملايين السنين ؟ تحب الدلافين السباحة السريعة ، والسباحة السريعة تواجه بقوة احتكاك كبير ، ولكن ليس هناك أي مشكلة بالنسبة للدلافين من جراء هذا الاحتكاك ، لأن الله تعالى الذي أبدع خلقه هيأ لها جميع الأسباب التي تيسر لها تحركاتها ونشاطاتها ، كيف ؟

1 ـ جلود الدلافين تساعد على تخفيف قوة الاحتكاك :

جلود الدلافين وبنية أجسامها خلقت بتصميم عجيب يخفف من قوة الاحتكاك إلى أدنى حد ، لنرى معاً هذا التصميم الرائع عن قرب ، الله تعالى زود الدلفين بجلد مطاطي خاص ، يا تُرى ما فائدته ؟ من جراء السباحة تتكون لديه طبقة مائية تسمى طبقة حد الاحتكاك ، هذه الطبقة تُقابل من قِبل هذه الجلود المطاطية بحركة معاكسة تقاوم الاحتكاك ، فينتج عن ذلك سباحة سريعة ومريحة جداً للدلفين ، هذا التصميم الإلهي للدلفين ألهم ودلّ أهل العلم على إنجاز هندسي كبير .
إن مهندسي الغواصات الألمان بعد أن درسوا هذا التصميم في جلد الدلفين أنجزوا بعد بحث دامت أربع سنوات صنعَ غطاء يتميز بخصائص قريبة من جلد الدلفين ، وضعت للغواصات طبقة بخصائص تشابه جلد الدلفين المطاطي ، والغواصات التي استخدمت مثل هذه التقنية اكتسبت سرعة قُدِّرت بضعفين ونصف ، معنى هذا خلق الله عز وجل ، كماله كمال مطلق ، وأنا أقول : أيّ تعديل للتصميم الإلهي نحو الأسوأ ، أيّ تعديل ، ومن خصائص آخر الزمان قوله تعالى : 

﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾

( سورة النساء)

لذلك الأمراض تنتشر وتتفاقم بسبب أن طعامنا على غير ما صممه الله ، طعامنا وشرابنا ، وسكنانا وعلاقاتنا ، تلوث البيئة ، استخدام الأسمدة الكيماوية ، استخدام الهرمونات للدجاج ، هذه كلها تسبب أمراضًا خبيثة وبيلة ، وقد ارتفعت هذه النسب إلى عشرة أضعاف .

2 ـ هذا خلْقُ الله :

قطعاً تصميم جلد الدلفين تصميم رائع كهذا يدل هذا الجلد على هذه الروعة ، ويدل على عظمة الخالق الذي وضع تصميماً في أحد مخلوقاته ، فكانت حقيقة علمية جديدة أبدعها الخالق من ملايين السنين ، واكتشفها الإنسان الآن .
إن هذا التصميم الذي رأيناه في الدلفين نموذج من خلق الرحمن الذي لا تفاوت فيه ، فكل كائن في الطبيعة جُهز بصفات مدهشة يراها الذين يتفكرون في خلق الله تعالى ، وفي صنعته الرائعة ، حيث قال تعالى : 

﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾

( سورة ق : 8)

أستاذ علاء ، الكون مائدة ، الكون معرض ، لذلك قالوا : الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي .
الأستاذ علاء : 

﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾

( سورة ق : 8)

خاتمة وتوديع :

كنا نتمنى أن نستمر في الحديث ، والوقت أدركنا ، لا يسعنا أعزائي المشاهدين إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، إن شاء الله نلتقي في الحلقة القادمة ، شكراً لك ، وسلام الله عليك ورحمته وبركاته . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور